إبراهيم أزوغ* لا أحد يجادل اليوم في أن النقد الأدبي بالمغرب حقق تراكما نصيا، كما أنه ليس في مكن الباحث في حقل الأدب والثقافة بالمغرب أن ينكر نضج خطاب النقد الأدبي بالمغرب، وهو ما جعل الحاجة إلى متابعته مطلبا مشروعا، لغاية فهم علاقته بشروط تكونه وتحديد مميزاته في ضوء المحددات والضوابط التي سطرتها نصوصه. إن متابعة النقد الأدبي بالمغرب- في حسبان هذا التصور- ومسايرة مستجداته ليس وليد رغبة ،وإنما استجابة لتحول معرفي ونتيجة معرفة قائمة لا إعادة إنتاج لها بصيغ مختلفة ومتباينة، وسيل قلم الناقد المغربي مازال متجددا ومجددا لرؤاه وقراءاته ومواصلا لمسيرته الإنتاجية بنصوص مختلفة في تصوراتها وبنينتها. مرايا بعيون الناقد في هذا الإطار يأتي كتاب آخر في نقد السرد للروائي والناقد شعيب حليفي حاملا لعنوان "مرايا التأويل، تفكير في كيفيات تجاور الضوء والعتمة". يفتتح الباحث كتابه النقدي بمدخل يحدد من خلاله تصوره لبنية النص الإبداعي عموما، في اعتبارها بناء معقدا لخطابات مختلفة متلاقحة ومتفاعلة ومتحاورة فيما بينها، والرواية على وجه التحديد في كونها "نص لغوي تخيلي مركب من مرجعيات وتيارات" (ص 8) ،تتطور وتستمر بعلاقاتها المفتوحة مع كل ما هو لغوي ورمزي، مما يجعل الرواية في تعريف حليفي" بحث عن فهم كلي وسعي إلى التعبير عن شتات الواقع وتشظيه" (ص9 )،مما يجعلها تؤسس للأفق المغاير تجاوزا للحدود وكسرا للقيود بحثا عن هوية كونية. في ضوء هذا التأطير النقدي ،يمفصل حليفي "مرايا التأويل" إلى ثلاثة فصول، يقدم الفصل الأول منها الموسوم بصور التاريخ في النسيان مبحثين الأول حول : المتخيل والمرجع : سيرورة الخطابات، يناقش تحث عنوان التاريخ والرومانيسك.. علاقة نص التاريخ بالنص الروائي معتبرا نص التاريخ نتاجا ثقافيا وأيديولوجيا قابلا للقراءة والتأويل كغيره من الخطابات الأخرى، ولأن الرواية منحدرة من التاريخ في عرف النقد فإن الناقد يعمق البحث في علاقات الروائي بالتاريخي انطلاقا من سؤالين هما : - كيف تتشكل وتتفاعل الرواية باعتبارها النص الأول الداعي والفاعل مع النص الثانيٍٍ؟. - ما هي الميكانيزمات المتحكمة في هذه العلاقة والتي تحقق في النهاية نصا روائيا؟. إن عودة الروائي إلى التاريخ في رأي الناقد يكون محكوما بثلاثة مبادئ هي : مبدأ الاختيار، والتحويل، ثم مبدأ التأويل. فالأول يجيب عن سؤال كيف تلقى الروائي هذا التاريخ، فيما ينشغل الثاني بالإجابة عن سؤال الكيفية التي فهم بها الروائي هذا التاريخ، ويهتم المبدأ الأخير بالكيفية التي كتب بها (أو أعاد إنتاج) هذا التاريخ. ولمقاربة العلاقة أكثر، استدعى الباحث نص-رواية "بين صوتين" للمؤرخ محمد زنيبر للبحث في حدود العلاقة بين الروائي والتاريخي، منتهيا من هذا المبحث إلى أن" التاريخ مهما كان قصصيا والسرد مهما كان مشدودا إلى استلهام التاريخ فإن الرؤية تبقى ذات خصوصية في كل مجال"(ص35). أما المبحث الثاني فقد عنونه الباحث ببلاغة الصورة في السرد، معتبرا أن إدراك الصور في المتن الروائي هو إدراك لطبقات متعددة من القول، إذ البلاغة هي المهارة التي تمنح اللغة الخلود والتعدد، والمبدع- بحسب هذا التصور- هو الذي يسعى إلى إنتاج وخلق صور فنية في لغته الإبداعية. ولإبراز دور الصورة في السرد التجأ الباحث إلى المتن الروائي العربي ممثلا في روايات سليم بركات ورواية طائر الخراب لعبد الرب سروري وحلق الريح لصالح السنوسي والمشروع الروائي للغيطاني. ضمن هذا المبحث يقارب الباحث رواية صلاح الدين بوجاه : سبع صبايا مركزا على دور النسيان باعتباره بلاغة في بناء وتشييد معالم هذا النص الروائي، منتهيا إلى أن النسيان في سبع صبايا هو " الدينامية المحركة لعملية التخييل"(ص59)، مما يجعل منه بلاغة قائمة بذاتها، كما أفرد حليفي تقنية الحلم باعتبارها بناء لغويا لصور مجازية تتمثل حالة يتم استثمارها بقصد" تكثيف البنية الجمالية وتوسيع الأبعاد المعرفية وتجسير خطاب الشعور بخطاب اللاشعور"(ص70)، وأهمية هذه التقنية في بناء النص الروائي مبينا ذلك من خلال دورها في بناء رواية خيري شلبي" منامات أحمد السماك". أنساب الرواية والنقد في الفصل الثاني يتمم الناقد بحثه في سيرورة التخييل ممهدا للفصل بالحديث عن الأدب المغربي المعاصر تحث عنوان تعبيرات مشبعة بالحياة، ومعتبرا هذا الأدب وارث لتراث مزدوج من الكناشات والتقيدات الأدبية في مجال الشعر والنثر ، وما أسماه أحواض من المتخيل المرفود بإرواءات لا محدودة من الانفتاح والتأويل(ص86) وهو التاريخ المدون والشفوي والمعاش، كمحطات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية كموروث ثان. بهذا الموروث، ومحكومة بظروفه وشروطه الذاتية والمجتمعية وسلطة المرجعية (الرواية العربية، والأوربية، والأمريكولاتينية) تشيدت الرواية المغربية. أسفل عنوان تحولات التخييل وأنساب شجرة الحكاية يتناول شعيب حليفي مقاربا وناقدا نصوصا روائية مغربية هي : زمن بين الولادة والحلم الذي عده الناقد نصا "يكيف الخطابات الاجتماعية والسياسية ويعيد إبداعها فنيا عبر فن محاورة الذات"(ص93)، ورواية المخدوعون التي تشكل- في رأيه- امتدادا لنسيج المتخيل العنيف الإنتقادي من جهة ،ومن أخرى امتدادا لتجربة المديني الروائية برصيدها المعرفي والفني، ورواية شغموم شجرة الخلاطة التي اعتبرها الكتاب سيرة فكرية وذاتية تجمع بين المتخيل والواقعي بحثا عن حقيقة ما.. تشغل فكر الميلودي في مبحث رابع ضمن هذا الفصل بعنوان تخييل الحقيقة ينطلق حليفي في مقاربة عدد من النصوص الروائية المغاربية من فكرة تقول : "أن هناك نزوعا كونيا إلى تخييل الواقع بتعدد حقائقه وتبدلاتها ...وتحويل الحياة إلى الحكاية"(ص113) وتخييل الواقع يقول الباحث محكوم بخيارات منها : 1- تأكيد نقل تلك الخطابات الإحالية ضمن شكل فني حكائي مقنع، وبذلك لا يضيف الروائي شيئا للحكاية. 2- نقض الرؤى السائدة المهيمنة والمتحكمة في توجيه الأفكار وتنميطها. ويستمد الخياران مشروعيتهما من كون التخييل إبداع وابتكار وخلق، ونقد أو تكييف للكائن عبر الحكي. وقد أبان الناقد عن مرجعية هذا الطرح النظري في منتخبات من الرواية المغاربية، فالخيار الأول مثل له برواية بخور السراب لبشير مفتي كاشفا عن تصويرها للواقع بتحليله، فيما مثل للخيار الثاني برواية امرأة النسيان لمحمد برادة التي اعتبرها رواية الثأر ، وكذلك رواية المخدوعون لأحمد المديني، وما بعد الخلية لغلاب ورواية حسونة مصباحي الآخرون، وروايات الأعرج نقدا للواقع والأفكار السائدة فيه. ينتهي الناقد شعيب حليفي من الفصل الثاني لدراسته النقدية إلى سؤال مركزي يضعه خلاصة للسابق ومقدمة لاستمرار البحث في هذا السياق يصوغه كما يلي : هل هو منعطف في الرواية المغاربية لمرحلة قادمة لم تتحدد معالمها الفنية بعد؟ أم شكل مستمر ما زال يبحث عن لغة روائية تقول في الآن نفسه الذات والواقع والتاريخ؟(ص128). سماد الحكايات يعنون الناقد الفصل الأخير للكتاب ب "سماد الحكاية" متتبعا في بدايته سيرة السرد العربي ومسار نموه وتطوره معتبرا أن للرواية مرجعيات هي كل التراث العربي بالإضافة إلى الترجمات، بل إن نص علي الدوعاجي "جولة بين حانات البحر المتوسط" ونص ابن المؤقت المراكشي "أصحاب السفينة" يشكلان-ضمن مجموع سردي واسع- تمهيدا للسرود ،على أن روايات البدايات جسدت اختلالا بين الشكل والأفق، وذلك راجع إلى عدم خلق تراكم إبداعي، وغياب النقاش النقدي؛ أي غياب التراكم والوعي النظري، ثم إن السرود العربية استطاعت استيعاب الخطاب الرحلي أساسا، وقد مثل لذلك بروايات سليم بركات ورحلة ابن فطومة لنجيب محفوظ. وفي سياق آخر يشير الناقد في هذا الفصل إلى أنه لازالت أمام الرواية إمكانات عديدة للتعامل مع التاريخ، كما أكد على أن النص النقدي يعد مرجعية مهمة للخطاب الروائي على أن تفاعل الروائي بهذه الخطابات وغيرها يجب أن يكون محكوما بالحفاظ على حدود المسافة بين الروائي وغيره . في منحى آخر تجب الإشارة إلى أن قارئ كتاب مرايا التأويل لابد أن ينتهي إلى جمالية لغة حليفي النقدية وميلها إلى كسر نمطية لغة النقد التقريرية المباشرة والواصفة، وذلك بكتابة مقاطع وفقرات نقدية بلغة أهم ما يميزها أنها أدبية، بحيث يعمل الناقد على تنزيل اللغة الإبداعية مقام اللغة النقدية وجعلها تؤدي وظيفتها، باعتماد الاستعارات والشبيهات وغيرها من الأساليب البلاغية مما يجعل لغة نصه النقدي رشيقة وجذابة آسرة لقارئها بدفعها رائحة الملل عنه التي قد تعرقل مسايرته النص.*باحث في الأدب والثقافة بالمغرب