يظل شعيب حليفي، باحثا وناقدا ومبدعا، من الأسماء التي تؤثث المشهد الثقافي والأكاديمي المغربي ، وتصر على مشاكسة الأسئلة الراهنة التي تتجدد في علاقتها اليومية بالجسد الثقافي، وتكبر من خلال احتكاكها الدائم مع العناصر التي تشكل المحيط. وهو من الكتاب القلائل الذين لا يستطيعون ترويض مارد الإبداع لديهم، لأنه ببساطة يجد نفسه في كل شيء، ويرى قدراته العلمية والإبداعية أكثر من أن تحتجز في خندق واحد، أو تحبس في مجال معين، فظل يصيب بسهم وافر من النجاح حيثما اتجه في كتاباته، وبات يخلخل السؤال تلو السؤال في زحمة الانشغالات، إبداعا ونقدا وبحثا. وحينما يطلب منا أن نقرأ كتابه «الرحلة في الأدب العربي» بصيغة من الصيغ، أو نستنطق جانبا من جوانبه المتعددة، نلمس بوضوح هذا الإحساس القلق للوجود، غير المهادن إطلاقا للحظة الكتابة، وكأنه يصارعها في أن تكون ذاتها متعددة، مخاتلة، تتأبى على الحصر، وتستحيل على القبض، لأن الكاتب كلما توغل في بحر الكتابة وقارع القضايا التي يعالجها إلا ويجد نفسه محاصرا بفائض من الأسئلة القلقة التي تتناسل من رحم السؤال المركزي الذي بات يؤرقه. ومن هنا تنجلي صعوبة حصر مجال القراءة، وتظهر سياقات أهمية الكتاب. فمن خلال هذا العنوان تتحدد الدائرة التي سيتحرك فيها موضوع البحث، ويتعلق الأمر بالرحلة في علاقتها بالأدب العربي. إن الأمر هنا لا يتعلق بمقاربة سطحية، تخوض في تيمة محددة، بل المسألة تصبح أكبر من ذلك بكثير، حينما يراهن البحث على الانطلاق من نصوص رحلية لتأسيس نسق متكامل يُنَظر لهذا الجنس ويضعه في إطاره العام الذي يبلور منه سياقا نصيا له حدوده وجغرافيته وأفق تميزه عما يحوطه من أجناس تتعالق وتشترك معه في بنى وخصائص جوهرية متقاربة، بهكذا تموضع يصر الباحث على أن يلج هذا الغمار مسلحا بسعة اطلاعه على النصوص الرحلية العربية المتنوعة، ودقة تمثله لمناهج البحث الجديدة، خاصة منها تلك التي تستطيع مقاربة النصوص التراثية التي يشكل السرد أفقا من آفاق امتدادها. وسعة استيعابه لطرق اشتغال النص الرحلي شكلا ومضمونا. ولعل وعي الكاتب الكبير بأهمية ما راهن عليه في هذا البحث، جعله يكون حريصا على توسيع آفاق اشتغاله، وفتح شرفات متعددة وواجهات مغايرة في التناول للنصوص الرحلية. إذ من خلال متراكماتها القرائية التي لا تنفصل عن خبرته الدقيقة بمجال السرد ونظرياته قديمها وحديثها، اتضح له أن النص الرحلي باعتباره نصا منفتحا، لا يعقل أن ينظر إليه من زوايا صورولوجية وإتنوغرافية ومقارنة وموضوعاتية، بل إن الجدير بالنقد تناوله من جانب انتمائه إلى جنس كبير هو السرد، كما لاحظ أن النص الرحلي في تشابكاته العلائقية يتخذ لنفسه نسقا مغايرا يتفاعل مع نماذج أجناسية كثيرة وينفتح على آفاق ثقافية أخرى تثريه، بالقدر الذي تجعل منه نصا يستعصي على القبض، نصا مخاتلا يستضمر عالما غريبا من المعارف والأشكال. غير أنه، مع ذلك، حقق من التراكم كميا ونوعيا، ما يتيح للباحث النظر إليه من زاوية تقبله لإمكانية صوغ نسقي مفترض ومتكامل. وبتتبع المشيرات الضمنية التي تقترحها مقدمة الكتاب نلحظ غياب طرح واضح لمنهج تناول النص الرحلي في هذا البحث، وهو إجراء تكتيكي ذكي من الباحث، يلمح إلى صعوبة تناول مثل هذه القضايا العامة التي تسعى إلى تأصيل نسق نصي وتأسيس خصائصه الجوهرية باعتباره جنسا يكاد يكون قائما بذاته، إن لم يكن هو الأب الشرعي لعدد من الأجناس الصغيرة التي تناسلت وستتناسل فيما بعد، فلم يكن من المستساغ تحديد منهج معين لاقتحام نص عصي مثل النص الرحلي الذي يستمد كينونته من هذا التعدد وهذا الانفتاح. إنه بتعدد مساراته وثراء معطياته وتغير موضوعاته وأشكاله، قد فرض على الباحث الذهاب والإياب بين مناهج شتى، واستعراض ثقافته وتجربته في اختراق النصوص السردية المتنوعة (السيرة، الخبر، الحكاية الشعبية، الحكاية العجيبة، الرسالة الصوفية، الرواية، القصة...)، إذ وجد الباحث نفسه وهو يسعى إلى القبض على عناد النص وترويضه، مطالبا بالتحليل تارة، وبالتأويل تارة أخرى، وباستعمال مناهج متعددة وأساليب تختلف تبعا للفصول ووفقا لغايات التناول المتعددة التي ارتأى الباحث الخوض فيها، والملفت للنظر أن هذا التعدد والتنوع على مستوى جهات التناول، وزوايا الاختراق، وترسانة المفاهيم والمكونات الإجرائية، لم يخلق عائقا أمام تطور البحث وفق المسار الذي تغياه المؤلف، بل اتضح الانسجام القوي بين كل عناصر التناول وأساليب تفكيك النصوص بحثا عن أفق تحولها واشتغالها نسقيا، في كونها تصب كلها في خانة تحديد هوية النص الرحلي التي لا تخرج عن كونه نصا سرديا يستجيب لآليات التحليل السردي بكافة مناحيه، غير أنه يتميز عن غيره من النصوص بكونه يقبل مقاربات أخرى، قد يصعب، في ظلها، تطويع نصوص سردية من طينة مختلفة. لقد نزع الباحث نحو الإحاطة بدراسة النص الرحلي العربي من زاوية الشمولية التي ترى في هذا المنجز المتفرد أرضية أدبية منفتحة على الأنواع والأشكال والمضامين، وهو الأمر الذي يجعله يتقبل مناهج متعددة، ودراسات ومقاربات متنوعة تحيد به عن الرؤية الأحادية، والاشتغال النمطي، وكان الوعي بهذا الأمر هو الموجه العام للتعدد المنهجي والموضوعاتي الذي اختاره الأستاذ شعيب حليفي مدارج يرتقيها من أجل معانقة مبتغاه البحثي، يقول في المقدمة: «إن هذا الانفتاح على النص الرحلي العربي من خلال مقاربة النص والخطاب أو مساءلته من منظور الصورولوجيا تحقيقا في صور الهوية والغيرية أو من منظور مقارن أو غير ذلك، لا يعفي النقد الأدبي من مواصلة التنقيب والتفكيك في هذا الجزء من التراث السردي العربي، في التجنيس وفي الأشكال وفي الأنواع ثم في البعد الفني للمرجع الديني والسياسي والثقافي والجمالي كمحدد أساسي في فهم البعد التاريخي للنص الرحلي». لقد تبدى للباحث، من خلال عملية مسح للدراسات التي سبقته إلى تناول النص الرحلي، أن هذه الأخيرة تنصرف، من خلال مقاربتها للمنجز النصي الرحلي العربي، إلى تمثل صورة الذات في علاقتها بالآخر، وكذا الكشف عن الجوانب الإثنوغرافية والأنتروبولوجية التي يستضمرها المتن المدروس؛ دونما رؤية للجوانب الجمالية والسردية والأدبية، معتبرا، في الآن ذاته، هذا الأمر إجحافا في حق المنجز الرحلي وخصائصه الأدبية والاستيتيقية. لذلك فقد سعى جاهدا من خلال هذه المقاربات إلى تناول متون رحلية أنجزت عبر ثمانية قرون، من القرن العاشر إلى القرن الثامن عشر الميلاديين، منتقيا منها نصوصا لكل من أبي دلف، ابن فضلان، الغرناطي، ابن جبير، ابن بطوطة، ابن الحاج النميري، العبدري، ابن الجيعان، ابن قنفذ، أفوقاي، ابن أبي محلي والنابلسي وغيرها من النصوص التي أوردها لتعزيز الاستشهاد. وقد زاوج الباحث في هذه المقاربات بين الطرح النظري الذي استقاه من خلال تراكماته القرائية والمعرفية عن المفاهيم السردية والمناهج التي تناولت النص السردي عامة، وكل المجالات التي تتقاطع معها. وقد ساعد اهتمامُ الباحث بمجاليِْ الشعريات العامة والسرديات، وانكبابه، بالموازاة، على الكتابة الروائية على نجاح الباحث في اقتحام هذا النسق وخلخلة مفاهيمه، وذلك من خلال تعامله معه بوصفه نصا سرديا لا يبتعد كثيرا عن النصوص السردية المعروفة، وإن سبقها في الزمن، وخالفها في الانفتاح على هويات نصية وثقافية أخرى وتقاطعه معها. وقد تميز التناول البحثي لدى الأستاذ حليفي للنص الرحلي العربي بميزات معينة أذكر منها: النمذجة: إذ درس الباحث الرحلات المكتوبة بالعربية بوصفها نصا متكاملا حقق تراكما يبعث على التصنيف والنمذجة، ويتيح التعاملَ معه كبنية لها خصوصيات تشكلها وخصيصات نوعية تميزها عن باقي النصوص. وهذه النصوص مهما اختلفت أو تقاربت تبقى مشيدة وفق مورفولوجيا موحدة. الانتقائية: لقد تعامل الباحث مع نصوص معينة يرى بأنها تتوفر على الشاهد، وتحقق الغرض بتضمنها للسمات التي تميز أكبر عدد من النصوص الرحلية العربية، مما يؤهلها لأن تكون نموذجا للدراسة يغني عما سواه باستضمار خصيصاته النوعية والمضمونية. الموضعة: يدرس الباحث النص الرحلي العربي من وجهة تموقعه ضمن نظرية الخطاب والشعريات العامة، منطلقا من وعي مسبق بكون النص الرحلة، منذ انطلاقه حتى الآن، حقق تراكما يتيح له مقعدا مهما ضمن الأجناس الأدبية الكبرى التي انبثقت عنها جنيسات صغرى. التخلل: مع أن الباحث درس النص الرحلي باعتباره نصا سرديا في درجة أولى، غير أنه لا ينفي عنه سمة تخلله من طرف أجناس أخرى تقترب أو تبتعد عن السرد: التاريخ، الجغرافيا، الأنساب، الأخبار العامة، التراجم، التصوف... التبيئة: لقد عمد الباحث في أحيان كثيرة إلى التصرف في المفاهيم لتلائم طبيعة النص المدروس. فهو يعي كون المفاهيم التي استدعاها من مجالات وعلوم أخرى وثقافات مغايرة نبتت في تربة مختلفة، وفي زمن متقدم بكثير عن وجود النص. لذا كانت استعارتها مشروطة بتبيئتها، ومنحها طابعا ثقافيا مخالفا قادرا على خلق انسجامها مع النص، استبعادا لأي نوع من التعسف في وضعها، أو تنافر في إقحامها. التحيين: لقد تناول الباحث بالدرس نصوصا قديمة في الزمن، غير أنه قرأها واشتغل بها وفق تصورات آنية، وتبعا لآليات وأدوات قرائية جديدة فرضتها روح العصر. وهي أدوات لم تفقد النص هويته، بل مددت حياته زمنيا، وخصبته برؤية التداول المفعمة بالجدة. فصارت –حقا- نصوصا معاصرة بفضل حركية البحث، وتجدد التلقي. إن حليفي يقرؤها –هذه النصوص- في استمرارها فينا ومعنا، وفي حضورها في ما يعقبها من نصوص وتجارب، وفي تناغمها مع الجهاز المفهومي الذي استحدثه آفاق التلقي والدرس. التأسيس: كانت تراود الباحث، وهو يستعرض خصيصات النص الرحلي النوعية، جملة من الأهداف، في مقدمتها حرصه على التأسيس من خلال النظر الكلي المسحي للنص الرحلي، وفرز متعالياته المشتركة أو ما يسمى بجوامع النص. لذلك فهو يقترح بإيجاز أفكارا تحتاج إلى كثير من التنقيب، وطرح أسئلة ظلت مفتوحة أمام الباحثين، وهو يدعو إلى ارتياد هذه الآفاق التي لمع بكتابه هذا كثيرا من جوانبها. وأهم ما يمكن تسجيله، والخلوص إليه، من خلال القراءة المتروية للكتاب، هو هذا الزخم من الإشكالات التي اقترحها الباحث، وهي تستدعي مجلدات، وعقودا من التأمل البحثي. وكأن الغاية الكبرى من وراء الإنتاج هو أشكلة النظر إلى النص الرحلي، بوصفه نصا تراثيا، وتجديد آليات اقتحامه، بعيدا عن الأحكام المسبقة التي تنطلق من الرؤية السطحية للتداول الزمني في علاقته بإنتاج النص، الذي يظل متعاليا عن سلطة المكان والزمان. إن كتابا، بهذا الزخم من الأسئلة، وبهذا التصور الشمولي للظاهرة النصية، وبهذه القدرة على طبخ المناهج وخلط الوصفات اللائقة بمشاكسة طبيعة النص، لا يمكن إلا أن يكون ثريا، وثراؤه هو المنفذ الذي يدعونا إلى عبوره من أجل تأسيس نظري شامل لظاهرة النص الرحلي في علاقته الوطيدة بالأدب العربي الذي أفرزه.