واصل اتحاد كتاب المغرب- فرع مدينة سلا أنشطته الثقافية التي تندرج ضمن فعاليات "مهرجان رمضان مدينة سلا الأول" التي أعلنت عنه الجماعة الحضرية لمدينة سلا، إلى جانب أنشطة أخرى موازية فنية، وأوراش تربوية...في مختلف فضاءات المدينة العتيقة والأحياء الجديدة. وقد كان النشاط المقرر ليومه الخميس ثالث سبتمبر الحالي - بفضاء نادي الكتاب سعيد حجي- يحمل عنوانا كبيرا وهاما، وهو "شهادات وتجارب في الرواية المغربية" بمشاركة القاص والروائي محمد غرناط والروائي أحمد الكبيري، والناقد الأدبي محمد معتصم في تأطير وتسيير الجلسة. في البداية اقترح الناقد الأدبي محمد معتصم ورقة ذات بعدين محفزة المتدخلين للدخول مباشرة في معالجة قضية إشكالية ترتبط بالبداية الحقيقية للروية كجنس أدبي ذي أبعاد جمالية محددة المعالم، قبل تقديم شهادة عن تجربة كل منهما الشخصية. قرأ محمد معتصم ما يلي:«يؤكد كثير من الدارسين، أن نشوء الرواية في الغرب، بدأ مع "الواقعية"، وهم يريدون بذلك الفصل بين الأنواع السردية التقليدية التي سادت عند اليونان، حتى القرن الثامن عشر، أو الفصل بين خصائص النوع الأدبي التي ميز النقاد فيها بين مكونات نمط سردي اعتبروه نابعا ومعبرا عن "مثالية شعرية" تضمنت عددا من العناصر التي لا تتصل مباشرة بالنمط السردي المستحدث الذي يمثل "الحقيقة الإنسانية". يكمن الفرق في هذه المنطقة بالذات؛ أي الانتقال في السرد من إنشاء سرود من الخيال المحض كما في الملاحم والأساطير والحكايات العجيبة والغريبة إلى إنشاء سرود مبعثها الحياة الحقيقية كما هي في الواقع المعيش. إلا أن هذا التيار اتخذ مسارا آخر أعمق، فاعتبره بعض النقاد إغراقا في وصف الحالات والمواقف الوضيعة واللا أخلاقية في المجتمع، كما يقول "إيان واط". ويقول أيضا معرفا الواقعية" فلو كانت الرواية واقعية لمجرد أنها نظرت إلى الحياة من جانبها الأسوأ، إنها ليست حينئذ إلا رومانسا مقلوبا؛ لكنها حاولت في الحقيقة أن تصور كل تنوعات التجربة الإنسانية، ولا تلك الملائمة لمنظور أدبي واحد محدد وحسب، وواقعية الرواية لا تكمن في نوعية الحياة التي ترصدها، وإنما في الطريقة التي تعرضها من خلالها.» ص (13) . في العالم العربي عموما والمغرب خصوصا، تكاد الرواية تعلن عن ذاتها وخصوصياتها النوعية كجنس أدبي مختلف عن السرود السابقة المتوارثة مع الواقعية. لقد حدد النقاد بداية الرواية العربية مع التأثر بالتيار الطبيعي والواقعي في الغرب، وقد أتاح ذلك الفرصة للتخلص من التأثيرات السردية التقليدية كالسيرة والحكاية الشعبية، والمقامة والمقالة، والأخبار والقصص. ومن هنا تأتي أهمية روايات "نجيب محفوظ" لأنه انتقل بالسرد من "المثالية الشعرية" إلى «الحقيقة الإنسانية»، فقد أثار اهتمام القارئ من خلال تضييق المسافة بينه وبين العمل الأدبي. أي أن القارئ وجد نفسه أمام المرآة، بل أكثر من ذلك فقد منح الفئات البسيطة والمستضعفة في الأرض لسانا، تعبر منه إلى مستوى أرقى وأبقى: إنه عالم الكتابة». ثم قدم الناقد الأدبي المحاضرين قائلا: «بيننا اليوم القاص والروائي المغربي محمد غرناط، صاحب الأعمال القصصية: سفر في أودية ملغومة، الصابة والجراد، داء الذئب، الحزام الكبير، هدنة غير معلنة والروائية: متاع الأبكم، دوائر الساحل، ثم حلم بين جبلين. وهو قاص وروائي من جيل سبعينيات القرن الماضي، المعروف بجيل القنطرة، الذي حمل المسؤولية الكبرى إلى الأجيال القادمة. ما يميز القاص والروائي محمد غرناط التزامه بالواقعية كتيار جمالي. تمثلت واقعيته في الفضاء الروائي الذي يشتغل عليه، واختاره مسرحا لتنامي الأحداث، ومسرحا لاختبار الشخصية. ولكي لا أطيل عليكم في هذه الورقة التقديمية أحدد بعض الملامح المميزة للسرد الروائي عند الكاتب. في رواية "دوائر الساحل" اختار الكاتب البادية لإبراز أنماط الحياة فيها، وكذلك في "حلم بين جبلين" مع فارق واضح في الموضوعات، وبعض طرائق بناء الحكاية. يعتبر محمد غرناط إلى جانب القاص بشير جمكار، ممن سنوا هذا النهج الذي أصبح اليوم تيارا يرسخ في السرد المغربي قيمة المحلية. وهذا جانب من الدعوة إلى العودة إلى الحكاية، والدعوة القائلة بأن العالمية تأتي عبر المحلية، وهي دعوة بادية في تنظيرات وقصص أحمد بوزفور. من معالم الواقعية عند محمد غرناط اهتمامه بوصف تفاصيل الشخصية الروائية، وإذا كانت الشخصية الروائية في "دوائر الساحل" تنتمي إلى "البطل المضاد" السالب الذي لا يمكنه أن يصبح نموذجا ومثالا من المثل العليا، كما يقول النص :"تضاءلت. أحسست أنني تافه فعلا" (46)، فإنها في "حلم بين جبلين" حافظت على كثير من الحالات المتشابهة، مثل صعوبة التغيير وقبول التحول في الطباع والسلوك. وتتميز الرواية عند محمد غرناط بالعدد الكبير للشخصيات الروائية، وهو ما يمنح الحكاية دينامية، ويساعد السرد على التطور بتواتر، ويسهم في بناء متواليات سردية مترابطة. إن هذه الميزات السردية تعبر بقوة على أهم عناصر بناء النص الروائي كما بينها جان ميشيل آدم مثل والمحددة في مبدأين هامين، هما: مبدأ الترابط ومبدأ التنامي. لا تخلو روايات محمد غرناط من الحكاية، وهي حكاية منسجمة ومترابطة، ومتنامية. لكن الزمن السردي فيها، وهنا عنصر الجدة، متعدد ومتنوع بين زمن سردي محايث لحاضر الحكاية، وزمن سردي مفارق يرتبط بالذاكرة عبر الاسترجاع والاستذكار. هذا التنوع منح الحكاية روحا ودينامية، وولد في الآن ذاته مفهوما جوهريا باديا في "دوائر الساحل" و"حلم بين جبلين"، وهو التكرار وإعادة الكتابة". حول التعليق عن الواقعية، قال محمد غرناط: إن الرواية العربية راوحت الواقعية الذاتية، أي أن البداية الحقيقية للرواية العربية واقعية مرتبطة بالذات (السيرة الذاتية). والواقعية تعني فيما تعنيه تناول الواقع ومعالجة أحداثه فحسب، بل هي شكل أدبي أي لديها آليات أدبية محددة ولها تقنيات أدبية. أوضح هذه المسالة من خلال الشخصية والسرد. فالرواية العربية لم تتخلص من الشخصية النمطية. أي أنها شخصية تعكس فئة أو طبقة اجتماعية، فمعالجة الكاتب لها تكون محكومة بشروط الطبقة وهو ما يلغي فرادة الشخصية. يعود السبب في بناء الشخصية النمطية واستمرارها في الرواية العربية لأن رؤية الكاتب ظلت على مستوى الإنجاز نمطية عكس التنظير، فلم تكسب فرادتها وتميزها واستقلاليتها. وأدعي أنني حريص في أعمالي قدر الإمكان على تجنب رسم الشخصية النمطية والخروج بها إلى الشخصية المستقلة والفردية، مما يدل على ذلك شخصية "ميرة" التي حثت السارد على تخليدها من خلال كتابة رواية، إيمانا منها ببقاء العمل الأدبي واستمراره، وكذلك موضوعة الحب لأنه أنقى وأبقى. ثم طرح محمد غرناط أخيرا سؤالا إشكاليا: لماذا لم نستطع كتابة شخصية منفردة ومستقلة في أعمالنا الروائية؟. وبخصوص المكون الثاني الأهم: السرد: تحدث القاص والروائي المغربي عن أهم المرجعيات التي تأثر بها وتتمثل في تجربة وآراء أصحاب "الرواية الجديدة" في فرنسا، وقد استفاد من اجتهاداتهم التي منحت السرد الروائي دينامية وجدة. وأن السرد ظل مرتبطا عنده بقلق سؤال ما جدوى الكتابة في المرحلة التي نحياها، حيث العزوف عن القراءة وعن حضور اللقاءات الثقافية. بعد ذلك حاول الناقد الأدبي محمد معتصم الإجابة بتركيز على السؤال الإشكالي: لماذا لا نجد في الأعمال الروائية العربية الشخصية الفردية؟ فبين بأن كتابة الشخصية الفردية لا يرتبط إلا المجتمعات المدنية الديمقراطية، التي تؤمن بالحقوق الشخصية والحق في الاختلاف. بينما المجتمعات المحافظة والتقليدية والمهيمنة لا يمكنها أن تقبل إلا بالشخصية النمطية التي تشكل نسخة من نموذج أعلى أو أمثل. أي أن الشخصية الفردية والمستقلة مرتبطة بالحرية وبالقدرة على قبول الأخر كما هو، لا كما نريده أن يكون، مطموس الملامح، فاقدا لخصوصيته ولميزاته الفردية. فازدهار الرواية مرتبط بشروط الحرية والديمقراطية والحق في الاختلاف ولا علاقة لازدهارها بالكم. كما أن ادعاء الرواية ديوان العرب اليوم يفتقد إلى العمق حسب التصور المقترح أعلاه، لأن الإقبال على قراءة الرواية النمطية مؤشر على استمراء القارئ لوضعيته التماثلية والمطموسة تحت كثافة النموذج. بعد ذلك قدم محمد معتصم الروائي أحمد الكبيري، الذي أصدر حتى الآن رواية «مصابيح مطفأة» ورواية «مقابر مشتعلة». وهو روائي منتظم يصدر رواية كل سنتين، ويؤمن بأن الرواية لا يمكنها أن تكون كتابة مبهمة مغرقة في التجريب، بل عليها أن تؤدي وظيفة في الحياة، وأن تقدم للمتلقي معرفة، وبالتالي عليها أن تنقل خبرة وتجربة الروائي ليكون بذلك فاعلا ومساهما في تنمية وتطوير وعي وطني وفني وجمالي، يهذب الأذواق ويسهم في بناء المجتمع المدني المؤمن بالحقوق الفردية والشخصية. ولعل مما أثرى كتابة أحمد الكبيري ليس فقط قراءاته للأعمال الإبداعية الكبرى المغربية والعربية والعالمية بل لأنه قادم من مرجعية ثقافية أخرى مختلفة وهي دراسة القانون، وعالم الأرقام والأموال. وفي مداخلته قال أحمد الكبيري بأن الكتابة بالنسبة له قدر وقضاء والتزام، ونحب نحن الكتاب أن نتقاسمه مع من يشعر بالالتزام. ليجيب بعد ذلك عن الإشكالات التي طرحتها الورقة التقديمية ومداخلة الروائي محمد غرناط، قال:« لقد جئت إلى الكتابة من مجال آخر بعيد عن الأدب، لكنني قارئ نهم للأعلام العربية الكبرى المغربية والعربية والعالمية، والكتب التي أقرأها تخضع لذائقتي، والكتابات التي لم أجد نفسي فيها أطويها دون رجعة". أما روايات وقصص محمد غرناط فتتميز بأنها كتابة واقعية ذات " لغة وأسلوب نقي، وبناء متسلسل الأحداث، وتتميز بإنسانية قوية، وخطاب مغلف بالكثير من الآراء والمواقف. فمحمد غرناط له موقف وهدف، ثم إن كتابات محمد غرناط حاملة لتجارب حياتية، وهو ما أقوم به، فأنا لا أكتب إلا عن تجارب حقيقية، وقضايا مستفزة في الكتابة والواقع». ويقول الكبيري:« أما كتابتي عن مدينتي "وزان" فهي بهدف إعادة الاعتبار لمدينتي خاصة، ومحاولة مني لفت الانتباه إلى مدن ومناطق كثيرة في المغرب عانت من التهميش على مستوى التأطير والبنيات التحتية لفترة طويلة" ويضيف الكبيري:" وهذا موقف واجب محتم على الكاتب». كالعادة كان للحضور كلمته حول الورقة التقديمية والمداخلات المحاضرين مما أثرى النقاش، وأضاف وجهات نظر مختلفة لكنها موضوعية تعبر عن روح المتابعة، ولعل مثل هذه اللقاءات الهادفة الهادئة ستسهم مستقبلا في بناء المجتمع المدني الذي يحلم به اليوم كل المكونات والفاعلين، وبالتالي بناء المجتمع الذي يؤمن بالحقوق الفردية والحق في الاختلاف من أجل بناء الإنسان بناء سليما، وبالتالي تعبيد الطريق نحو مجتمع مدني حقيقي. وقد تمت قراءة الفصل رقم (20) من رواية «حلم بين جبلين» لمحمد غرناط، قبل الختام والاستعداد لنشاط الغد الذي اختير له كعنوان مهم « نقد القصة القصيرة المغربية الجديدة» يحاول فيه المتدخلان مساءلة هذه التجربة التي لم تعد مطموسة الملامح.