من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. بقلم: الدكتور التهامي الراجي الهاشمي "1" أعتقد أنه يحسن، قبل الشروع في بسط هذا الموضوع، أن نقدم تحديدا ، ولو مقتضبا، للأجزاء الثلاثة المكونة لعنوان هذا البحث وهي: أولا: «المتعبد به» ثانيا: «التواتر». سأعرف بهذين الجزأين باختصار شديد. ثالثا: القراءات، وهو الجزء الذي سنقف عنده طويلا لأنه هو قطب الرحى في موضوعنا، يقصد إذن ب: 1) القرآن المتعبد به:: الروايات القرآنية غير الشاذة، وهي كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف ولو احتمالا وصح سندها. 2) المتواترة: الروايات القرآنية المتواترة هي التي نقلتها جماعة عن جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا. 3) القراءات: القراءات التي سأتحدث عنها بالدرجة الأولى هي القراءات السبع ثم أعرج بعدها تارة على القراءات الثلاث المتممة للعشر وأخرى على القراءات الأربع فوق العشر. ومعلوم أن القراءات الأربع هي التي يشارك فيها كل: *أولا من إمام المدينةالمنورة أبي رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي الذي تلقى القراءة عن سبعين من التابعين منهم أبو جعفر يزيد بن القعقاع والقاضي شيبة بن نصاح ومسلم بن جندب الهذلي وغيرهم. لقد حظي هذا القارئ عند المغاربة بالرتبة الأولى. لذا تراه مذكورا عندهم في الصدارة. التحق، رحمه الله، بالرفيق الأعلى بالمدينةالمنورة سنة 199 ه . أشهر الرواة عن قارئ المدينة هذا اثنان؛ هما: الأول: قالون الذي لايقرأ بروايته الآن في العالم الإسلامي إلا إخواننا في تونس وليبيا. وبسبب مواظبتهما للتعبد بهذه الرواية، طبعاها جزاهما الله خيرا وأعادا طباعتها مرارا وبأحجام مختلفة. وأحسن طبعة وأتقنها بالنسبة لتونس هي التي صدرت في 8 رمضان 1397 ه . يحسن ، بهذه المناسبة، أن أشير الى أن تونس طبعت ونشرت بين المسلمين، جزاها الله خيرا، مصحفا فريدا برواية حفص لم يعرف مثله العالم الإسلامي أبدا. لقد وضع ناسخه في كل صفحة حزبا كاملا (أي نصف الجزء كما يقول إخواننا هناك في الشرق). جاء إذن هذا المصحف الفريد الذي أعتز به أشد الاعتزاز في ستين صفحة واضحة ومقروءة بسهولة. أما بالنسبة لليبيا فأحسن طبعة وأجودها هي التي ظهرت في 20 رمضان 1399. اسم هذا الراوي الكامل هو: عيسى بن مينا بن وردان بن عيسى بن عبد الصمد و (قالون) لقب لقبه به شيخه نافع. كان هذا الراوي، رحمه الله، أصم شديد الصمم، كان لا يسمع البرق ولا حتى صوت الرعد، لكن إذا قرئ عليه القرآن سمعه. توفي بالمدينةالمنورة سنة 220 في عهد الخليفة المأمون عندما أقول: لايقرأ بهذه الرواية الآن في العالم الإسلامي إلا إخواننا في تونس وليبيا لاأقصد أنهم يقرأون برواية قالون ذاتها؛ لأن الرواية «كمية» وليست «واحدة» فكيف يستطيع القارئ أن يقرأ بكمية (أي بمجموعة من الصيغ تختلف هنا وهناك)، إنه لايستطيع أن يقرأ إلا بواحدة (أي بصيغة واحدة). يسمي أئمتنا «الوحدة» من الرواية التي يقرأ بها إخواننا المذكورون ب (الطريق) والطريق التي تقرأ بها الآن رواية قالون في تونس وليبيا هي طريق أبي نشيط. الثاني: ورش الذي لايقرأ بروايته الآن في العالم الإسلامي إلا أهل المغرب وموريتانيا والجزائر وبعض أهالي بلدان افريقيا المجاورة للمغرب والجزائر. أما المغرب فقد طبع هذه الرواية مرارا وتكرارا؛ وأحسن طبعة لها توجد في السوق الآن هي الطبعة المعروفة ب «مصحف الحسن الثاني» وهي طبعة محلاة بألوان زاهية و بخط مغربي رفيع وبإطار مزخرف بفن يختلف شكله كل سبعة أحزاب (أي كل ثلاثة أجزاء ونصف الجزء كما يقول إخواننا المشارقة). صدرت هذه الرواية في المغرب بأحجام صغيرة ومتوسطة وكبيرة.أما الجزائر فقد أصدرت وزارتها في الشؤون الدينية هذه الرواية، رواية ورش عن نافع سنة 1405 ه وهي رواية دقيقة خالية من الخطأ لكن بأوراق متواضعة بكل أسف وبأطر بسيطة للغاية. الاسم الكامل لورش هو: عثمان بن سعيد بن عبد الله المصري؛ ورش لقب له، لقبه به الإمام نافع نفسه لشدة بياضه. كان جيد القراءة، حسن الصوت، انتهت إليه رئاسة الإقراء بمصر في زمانه؛ توفي، رحمه الله سنة سبع ومائة عن سبع وثمانين سنة. * ثانيا من إمام مكةالمكرمة ابن كثير المكي؛ هو عبد الله بن كثير بن عمر بن عبد الله بن زادان بن فيروز بن هرمز. ولد هذا الإمام بمكةالمكرمة سنة 45 ه وتوفي بها رحمه الله سنة 120 ه. تلقى هذا الإمام القراءة عن أبي السائب الذي تلقاها عن أبي بن كعب الذي قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأ على درباس الذي تلقى بدوره القراءة على عبد الله بن عباس الذي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقراءته إذن متواترة (وسأبين إن شاء الله معنى «متواترة») فيما بعد. أشهر الرواة عن قارئ مكةالمكرمة هذا اثنان أيضا، هما: الأول: البزي، البزي هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة.. اسلم أبو بزة على يد السائب بن أبي السائب. ولد البزي بمكةالمكرمة سنة 170 ه وتوفي بها سنة 250 ه. أنا سعيد أن أبشر القراء الأعزاء بقرب صدور مصحف برواية البزي عن ابن كثير المكي؛ وهي رواية متواترة عن رسول الله صلى عليه وسلم؛ تأخرنا، لجهلنا وبلادتنا وبعدنا عن التعاليم السمحاء لديننا الحنيف، عن طبعها ونشرها والتقرب الى الله بتلاوتها. لأننا حين ندعي أننا نتقرب الى الله بالقرآن ونحن نتلوه برواية حفص أو نقرأه برواية ورش أو برواية قالون أو برواية الدوري عن البصري كما يفعل إخواننا بالسودان نكون، ولاشك، مجانبين للصواب لأننا حين نقرأه برواية من هذه الروايات لانتقرب اليه إلا بجزء من مراده؛ لأن مراده كاملا هو في كل ما أمر سبحانه نبيه بتبليغه إلى الناس؛ مراده في القرآن ككل لافي رواية واحدة منه. لذا أعتبر صدور مصحف كريم برواية البزي علاجا لهذا الفراغ المخيف الذي كان من الواجب علينا ملأه من زمان إذ لايعقل أن نبقى نتعبد، زمنا طويلا، بجزء فقط من مراد الله تعالى ويبقى علماؤنا الذين يشرحون كتابه الكريم للناس يقولون لهم، وهم بصدد تحليل الآية مرتلة من طرفهم برواية حفص أو بروايتي ورش وقالون «هذا مراد الله من كلامه »، في حين ليس ما يقدمونه لهم إلا جزءا من مراده سبحانه. هذه الرواية من القرآن التي أبشر القراء الأعزاء بقرب صدورها طبعت الآن والحمد لله برعاية «دار القراءات القرآنية» بألمانيا بعد أن سهرت أكثر من سنتين على نسخها بيد فنانين متخصصين ومراجعتها من طرف قراء متمكنين في رسم القرآن وضبطه وشكله. لقد توجت دار القراءات جهودها بعرض الرواية المذكورة على علماء الأزهر الشريف بمصر فحصلت من مجمع بحوثها الإسلامي على تزكية طبع مصحف البزي ونشره بين المسلمين. * الثاني: قنبل: هو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد المخزومي بالولاء؛ هو من قبيلة يقال لها «القنابلة» لذا سمي بقنبل. كان، رحمه الله، إماما كبيرا في القراءة انتهت إليه مشيخة الإقراء بالحجاز. توفي بمكة سنة 291 ه عن ست وتسعين سنة. رواية قنبل عن ابن كثير تطبع الآن من طرف «دار القراءات بألمانيا» في مطبعة:Bastian-Druck,Fohren,Rheinlandpfalz Deutschand وهي رواية صححت من طرف جماعة من علماء المغرب المتخصصين في قراءة القرآن ورسمه وضبطه، وزكتها لجنة مراجعة المصاحف التابعة لإدارة البحوث والتأليف والترجمة بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف. بهذا سيكون عندنا نحن في العالم الإسلامي سبع روايات مطبوعة هي: 1 رواية قالون عن نافع المدني. 2 رواية ورش عن نافع المدني 3 رواية البزي عن ابن كثير المكي 4 رواية قنبل عن ابن كثير المكي. 5 رواية الدوري عن البصري. 6 رواية شعبة عن عاصم 7 رواية حفص عن عاصم. أما الروايتان الأولى والثانية وهما روايتا المدينةالمنورة فلا يقرأ بهما الآن إلا مسلمو شمال الإفريقي وبعض من مسلمي البلدان المحاذية للجزائر والمغرب؛ وهما كما قلنا مطبوعتان متداولتان بين الناس. أما الروايتان الثالثة والرابعة وهما روايتا مكةالمكرمة فلا يقرأ بهما أحد الآن عدا، طبعا، أساتذة وطلبة مدارس القراءات القرآنية؛ مدارس أصبحت، بكل أسف، تقل شيئا فشيئا؛ والأمل في الله أن يقع الاهتمام بها سواء من الجمعيات الخيرية أومن الدوائر الرسمية. شيء واحد يثلج صدورنا في هذا المضمار هو تأسيس كرسي القراءات القرآنية بمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء الذي أمر المغفور له الحسن الثاني بإحداثه، وهو، والحمد لله، يقوم بما يفرضه عليه الواجب برعاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي لاتألو جهدا جزاها الله خيرا لتقدمه وتطويره، ساهرة، بكل جدية، على اختيار الطلبة الذين يتابعون دروسه. أما الرواية الخامسة؛ رواية الدوري عن البصري، فلا يقرأ بها الآن إلا أهل السودان وجزء من أهل التشاد لاسيما المناطق الشرقية منه وعلى الخصوص مدينة زبشي وهي العاصمة العلمية لهذه الأقاليم. طبعت هذه الرواية مرارا؛ أعتقد، والله أعلم، أن أولها كانت تعرف ب «مصحف الجنرال النميري» ثم طبعت في مدينة تريم حضر موت باليمن. وطبعت الرواية السادسة رواية شعبه عن عاصم بالسرم العثماني والضبط الملون تحت رعاية السلطان الحاج حسن البلقية سلطان بروني دار السلام في سنة 1427 ه موافق 2006 م. هي طبعة جيدة للغاية لاتوجد في أسواقنا المغربية لحد الآن بكل أسف. أما أنا فوصلتني نسخ منها أمدني بها، جزاه الله عني خيرا، الزميل الدكتور أشرف محمد فؤاد طلعت الذي يعمل هناك في بروني في ديوان جلالة السلطان الحاج حسن البلقيه. أما الرواية السابعة، رواية حفص عن عاصم فمطبوعة متداولة بكثرة وهي الرواية التي يقرأ بها القرآن الكريم جل المسلمين عدا شمال إفريقية والسودان وجزء من التشاد. آخر طبعة لهذه الرواية هي تلك التي أمر بطبعها بعد تصحيحها تصحيحا دقيقا من طرف علماء متخصصين الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم وقد طبع منها بأحجام مختلفة آلاف من النسخ وزعت مجانا على المساجد والمؤسسات العلمية. هذه هي الروايات المطبوعة من القرآن الكريم. أما الروايات الأخرى التي لم تطبع لحد الآن فهي: 1 رواية السوسي عن أبي عمرو البصري 2 رواية هشام عن ابن عامر الشامي 3 رواية ابن كوان عن ابن عامر الشامي 4 رواية خلف عن حمزة الزيات 5 رواية خلاد عن حمزة الزيات 6 رواية أبي الحارث عن الكسائي 7 رواية الدوري عن الكسائي. نلاحظ إذن أن سبعا من الروايات المتواترة فقط هي التي رأت النور حتى الآن أما السبع الأخرى المتممة للأربع عشر فتنتظر من يتفضل علينا فيمتع العالم الإسلامي بظهورها، مصححة مطبوعة لنتقرب الى ربنا بتلاوتها وأعتقد أن أول من سينال شرف طبعها ونشرها على الناس هي دار القراءات بألمانيا جزاها الله خيرا عنا وعن المسلمين أجمعين.