من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. بقلم: الدكتور التهامي الراجي الهاشمي هو عبد الله بن مسعود بن الحارث أبو عبد الرحمان الهذلي المكي، أحد السابقين والبدريين والعلماء الكبار من الصحابة؛ أسلم قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه القرآن الأسود وتميم بن حذلم والحارث بن قيس وزر بن حبيش وعبيد بن قيس وعبيد بن نضلة وعلقمة وعبيدة السلماني وعمرو بن شرحبيل وأبو عبد الرحمان السلمي وأبو عمرو الشيباني وزيد بن وهب ومسروق، وهو أول من أفشى القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان رضي الله عنه يقول: «حفظت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة وسبعين سورة. كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ويلزمه ويحمل نعله ويتولى فراشه ووساده وسواكه وطهوره. كان صلى الله عليه وسلم يطلعه على أسراره ونجواه. روى عبيدة السمعاني عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة. قال حذيفة: «ما أعلم أحدا أقرب سمتا ولا هديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد وهو الذي احترز رأس أبي جهل وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: «تمسكوا بعهد ابن أم عبد». وكان هو أيضا الإمام في تجويد القرآن وتحقيقه وترتيله مع حسن الصوت حتى قال صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة أم عبد». فقال أبو عثمان النهدي: «صلى بنا ابن مسعود المغرب ب«قُلْ هو الله أحد» ولوددْتُ أنه قرأ بسورة البقرة من حسن صوته وترتيله». قال ابن مسعود: «كنا نتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات فما نتعلم العشر التي بعدهن حتى نتعلم ما أنزل الله في هذه العشر من العمل». وقال: «والذي لا إله غيره لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تُبلغنيه الإبل لرحلتُ إليه». قال أبو موسى: «إليه تنتهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش. وفد من الكوفة إلى المدينة فمات بها آخر سنة اثنتين وثلاثين ودفن بالبقيع وله بضع وستون سنة. ولما جاء نعيه إلى أبي الدرداء، قال: «ما ترك بعده مثله». قرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 61 من سورة البقرة، وهي: «... فَادْعُ لنَا ربَّك يُخْرج لنا ممَّا تُنْبت الأرض من بقلِها وقِثائها وفومها وعدسها وبصلها...»؛ أقول قرأ: «وثُومِها» بالثاء. والعرب تقول: «الثّوم» و«الفُوم» بمعنى واحد، كقولهم: «جَدثَ» و«جدفَ». اندمج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة ابن عباس رضي الله عنهما. كما قرأ، رضي الله عنه، في الآية 106 من سورة البقرة، وهي: «ما نَنْسَخْ مِنْ آية أو نُنْسِها نأتِ بِخَيْرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير» قرأ «ما نُنْسِكَ من ءايَةٍ» على أن المنسي هو الله. وقد يقول الإنسان: ضرب زيد، وإن كان القائل لذلك هو الضارب، وهذا يدل على أن الغرض هنا: أن يعلم أنه مضروب وليس الغرض أن يعلم من ضربه ولذلك بني هذا الفعل للمفعول وألغي معه حديث الفاعل؛ فقام في ذلك مقامه ورفع رفعه؛ فهذه طريق ما لم يسم فاعله. ولعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كما نعلم، مصحف سجلت فيه بأمانة كثير من قراءاته؛ نذكر بعضها، بحول الله قبل أن نواصل البحث عن الحروف القرآنية التي قرأ بها. نشر مصحفه مع مصاحف أخرى للصحابة الكرام رضوان الله عليهم المستشرق الألماني ARTHUR JEFFRY تحت عنوان Materials for the history of the text of the Quran توجد هذه المصاحف التي قسمها هذا المستشرق إلى قسمين: القسم الأول سماه: Primary Codices وبه 15 مصحفا: مصحف ابن مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف علي ومصحف ابن عباس ومصحف أبي موسى ومصحف حفصة ومصحف أنس بن مالك ومصحف عمر ومصحف زيد بن ثابت ومصحف ابن الزبير ومصحف ابن عمر ومصحف عائشة ومصحف سالم ومصحف أم سلمة ومصحف عُبيد بن عمير. القسم الثاني سماه Secondary Codices وبه 17 مصحفا؛ للأسود ولعلقمة ولحطان ولسعيد ابن الصديق ولصالح بن كيسان وللحارث بن سويد. نشر هذا المستشرق هذه المصاحف كملاحق للكتاب الذي حققه وهو «كتاب المصاحف» للحافظ أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني. نقرأ في مصحف عبد الله بن مسعود الآية 127 من سورة البقرة هكذا: «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولون ربنا» بزيادة قوله تعالى: «ويقولون». كما نقرأ فيه أيضا الآية 93 من سورة الأنعام هكذا: «... إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم يقولون أخرجوا أنفسكم...» يزيد «يقولون» بين «أيديهم» و«آخرجوا» كما نقرأ فيه الآية 3 من سورة الزمر كما يلي: «والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم إلا لِيُقرِّبونا إلى الله زُلفى..» بزيادة قوله: «قالوا». يحلل أبو الفتح عثمان بن جني هذه الزيادة في الآيات الثلاثة فيقول: «في هذا دليل على صحة ما يذهب إليه أصحابنا من أن «القول» مراد مقدر في نحو هذه الأشياء، وأنه ليس كما يذهب إليه الكوفيون من أن الكلام محمول على معناه دون أن يكون القول مقدرا معه وذلك كقول الشاعر: رَجُلان مِنْ ضَبَّة أخبَرانا إنَّا رأيْنا رجُلاً عَرْيَانا فهو عندنا نحن على قالا: «إنا رأينا، وعلى قولهم لا إضمار «قول» هناك لكنه لما كان «أخبرانا» في معنى «قالا لنا» صار كأنه: «قالا لنا»؛ فأما على إضمار (قالا) فلا. نرى من تدبرنا لقراءة ابن مسعود الطريقة التي يظهر فيها ما نقدره من القول؛ فصار قاطعا على أنه مراد فيما يجري مجراه. ونقرأ كذلك الآية 23 من سورة الرعد هكذا: «والملائكة يدخلون عليهم مِنْ كُل باب يقولون سلام عليكم» إن «القول » ليحذف كثيرا من كلام العرب. ووردت الآية 127 من سورة البقرة في مصحفه، رضي الله عنه، هكذا: «فإن ءامنوا بما ءامنتُم به» وهي هكذا أيضا في مصحف أنس بن مالك. ويحكي لنا ابن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: «لا تقرأ: «فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به» فإن الله ليس له مثل، ولكن اقرأ: «فإن ءامنوا بما ءامنتم به». هذا الذي ذهب إليه ابن عباس حسن لكن ليس لأن القراءة المشهورة والمتواترة مردودة. وصحة ذلك أنه إنما يراد فإن ءامنوا بما ءامنتم به كما أراده ابن عباس وغيره؛ غير أن العرب قد تأتي ب(مثل) في نحو هذا توكيدا وتسديدا. يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: «مثلي لا يفعل هذا، أي: أنا لا أفعله، ومثلك إذا سئل أعطى، أي: أنت كذلك، وفي حديث سيف بن ذي يزن:«أيها الملك مثلك من سَرَّ وبَرَّ» أي: أنت كذلك. فكذلك قوله تعالى: «فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به»، أي: كانوا ممن يؤمن بالحق، هذا الجنس على سعته وانتشار جهاته، فقد اهتدوا». كما قرأ، رضي الله عنه الآية 158 من سورة البقرة هكذا: «إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جُنحَ عليه ألاَّ يطَوِّف بهما». ظهر من هذه القراءة التي قرأ بها عبد الله بن مسعود ومن قراءة من سنذكرهم بعد قليل أنه مفسوح له في ترك ذلك كما قد يفسح للإنسان في بعض المنصوص عليه المأمور به تخفيفا، كالقصر بالسفر وترك الصوم ونحو ذلك من الرخص المسموح بها. وقد يمكن أيضا أن تكون «لا» على هذه القراءة زائدة، وعليه يصير تأويل هذه القراءة وقراءة الجماعة التي سأشير إليها بعد قليل تأويلا واحدا؛ حتى كأنه قال: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما، وزاد «لا» كما زيدت في الآية 29 من سورة الحديد؛ قال سبحانه وتعالى فيها: «لِئلاَّ يعلم أهل الكِتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله؛ أي: ليعْلَم. اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة كل من علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس بخلاف عنه وسعيد بن جبير وأنس بن مالك ومحمد بن سيرين وأبي بن كعب وميمون بن مهران. أما قراءة الجماعة: «فلا جُنْح عليه أن يطوَّف بهما»، أي: فلا جناح عليه أن يطوف بهما تقربا بذلك إلى الله تعالى، لأنهما من شعائر الحج والعمرة؛ ولو لم يكونا من شعائرهما لكان التطوف بهما بدعة لأنه إيجاب أمر لم يتقدم إيجابه، وهذا بدعة، كما لو تطوف بالبصرة أو بالكوفة أو بغيرهما من الأماكن على وجه القربة والطاعة. كما قرأ، رضي الله عنه، في الآية 177 من سورة البقرة قوله: «ليس البرّ بأن تُولُّوا وجوهكم». قال ابن مجاهد: «فإذا كان هكذا لم يجز أن ينصب: «البر» يعلق ابن جني على تخريج ابن مجاهد فيقول: «الذي قاله ابن مجاهد هو الظاهر في هذا، لكن قد يجوز أن ينصب مع الباء؛ وهو أن تجعل الباء زائدة، كقولهم: «كفى بالله» أي: كفى الله، وكقوله تعالى في الآية 47 من سورة الأنبياء: «كَفَى بنا حَاسِبينَ» أي: كفينا. فكذلك: «ليس البر بأن تُولوا» بنصب البر كما هو عند بعض من السبعة. يعلق ابن جني كعادته على التخريج الذي خرَّجه هو نفسه فيقول: «فإن قلت: «إن (كفى) بالله شاذ قليل، فكيف قستَ عليه (ليس) ولم نعلم الباء زيدت في اسم (ليس) إنما زيدت في خبرها، نحو قوله في الآية 123 من سورة النساء: «لَيْس بِأمَانِيُّكُمْ»؟ قيل: لو لم يكن شاذاً لما جوزنا قياسا عليه ما جوزناه.