من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. المحرر• كنا نتحدث في الحلقة السابقة عن القارئ السادس الذي يشارك في القراءات السبع وهو حمزة الكوفي. ورأينا حينها أن أشهر الرواة عن هذا القارئ اثنان؛ أولهما خلف الذي بسطنا القول فيه في الحلقة المذكورة. ثانيهما: خلاد هو خلاد بن خالد الشيباني الصيرفي الكوفي أبو عيسى وقيل أبومحمد الشيباني؛ إمام في القراءة، ثقة، عارف، محقق، أستاذ. أخذ القراءة عرضا عن شيوخ مرموقين كثر؛ أذكر منهم من تميز بوصف خاص. أولهم: سليم وهو من أضبط اأصحابه وأجلهم ثانيهم: القاسم بن زيد الوزان وهو من أنبل أصحابه. ثالثهم: محمد بن شاذان وهو من اضبط الشيوخ. رابعهم: محمد بن العيثم، قاضي عكبرا وهو أجل أصحابه نبلا. يمتاز خلاد ببعض الأشياء في قراءته؛ وروى مثلا إدغام التاء في الذال من قوله تعالى: «فالملقيات ذكرا» (سورة المرسلات، الآية 5) وكذا: «المغيرات صبحا» (سورة العاديات، الآية 3). لكن الشيوخ اختلفوا في هذا؛ يظهر لنا ذلك مما نقله لنا الإمام الداني يقول: إنه يقرأهما بالإدغام نقلا عن أبي الفتح فارس بن أحمد بن موسى بن عمران ويقرأهما بالإظهار نقلا عن أبي الحسن أحمد بن عثمان. كذلك الشأن في هاء «ويتقه» (سورة النور، الآية 52) التي يقرأها خلف بكسر القاف والهاء مع الإشباع في حين يقرأها خلاد بوجهين؛ الوجه الأول بكسر القاف وإسكان الهاء والوجه الثاني بكسر القاف والهاء مع الإشباع كخلف. وتردد خلاد عكس خلف في إدغام «بل طبع» (النساء، آية 155)؛ إنه، هو، يدغمها بخلف عنه في حين يفكها خلف. سابعا: أما القارئ السابع الذي يشارك في القراءات السبع المتواترة فهو الكسائي. اسمه الكامل الذي يعرف به عند القراء هو: علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي؛ من أولاد الفرس من سواد العراق، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات. آخذ القراءة عرضا عن الإمام حمزة أربع مرات وعليه اعتماده كما أخذ الحروف عن الراوي الأول لعاصم أبي بكر بن عياش وعن غيرهما. يقول البعض: «إنه أخذ القراءة عن الإمام نافع». وهذا، في نظري، لايصح لأنهما لم يلتقيا. وحين رحل الى البصرة أخذ اللغة عن الخليل. أخذ عنه القراءة الجم الغفير من الناس، أذكر منم على الخصوص: الليث بن خالد وحفص بن عمر الدوري (سأتحدث عنهما فيما بعد بصفتهما راوياه) وخلف بن هشام البزار راوي حمزة (سبق الحديث عنه في الحلقة السابقة). وأبو عبيد القاسم بن سلام. أخبرنا الإمام الداني رحمه الله، أن عبد الله بن ذكوان الراوي الثاني لابن عامر الشامي سمع منه الحروف حين قدم دمشق. قال ابن ذكوان: «أقمت على الكسائي أربعة أشهر وقرأت عليه القرآن مرة». وروى عنه من الأئمة أيضا غير من تقدم أحمد بن حنبل ويحيى بن معين الذي قال: «مارأيت بعيني هاتين أصدق لهجة من الكسائي». وقال الشافعي رحمه الله: «من أراد أن يتبحَّر في النحو فهو عيال على الكسائي». وقال أبو عبيد في كتاب القراءات: «كان الكسائي يتخير القراءات؛ فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا». وقال ابن مجاهد: «اختار الكسائي من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن آثار ما تقدم من الأئمة». وقال أبو بكر الأنباري: «اجتمعت في الكسائي أمور، كان أعلم الناس بالنحو وأوحدهم في الغريب وكان أوحد الناس في القرآن». اختلف الناس في تسميته بالكسائي؛ يروى عنه أنه سئل عن ذلك فقال: «لأني أحرمت في كساء». ألف «كتاب النوادر الكبير» و «كتاب النوادر الأوسط» و «كتاب النوادر الأصغر». كما ألف «كتاب العدد واختلافهم فيه» و «كتاب الحروف» و «كتاب الهاءات». اختلف الناس في تاريخ موته، والذي عليه الجم الغفير منهم أنه توفي سنة تسع وثمانين ومائة وله سبعون سنة. أشهر الرواة عن قارئ الكوفة أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي هذا، اثنان؛ هما: أولا: الليث الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي؛ ثقة معروف، حاذق، ضابط عرض على الكسائي وهو من أجل أصحابه وروى الحروف عن حمزة بن قاسم الأحول وعن اليزيدي وروى القراءة عنه خلق كثير سنذكرهم في مكانهم بحول الله مات سنة أربعين ومائتين. تصل الطرق التي تقرأ بها روايته الى الأربعين؛ جل الناس ومنهم المغاربة يقرأون روايته عن طريق محمد بن يحيى وقلة من الناس ومنهم البغداديون يقرأون روايته عن طريق سلمة بن عاصم. نقرأ الآن، نحن في المغرب، رواية الليث عن طريقين رئيسيين، الأولى هي طريق محمد بن يحيى وبها يقرأ الناس القرآن ومنهم المغاربة. تتفرع هذه الطريق؛ طريق ابن يحيى الى إحدى وثلاثين طريقا، نعمل، جادين مع إخوان لنا متخصصين في الموضوع على إحياء القراءة بأشهر هذه الطرق؛ نرجو منه سبحانه أن يكلل مسعانا بالتوفيق؛ إنه جل وعلا ولي ذلك وقادر عليه. الثانية طريق سلمة بن عاصم؛ هذه الطريق الرئيسية تتفرع هي أيضا الى تسع طرق؛ سنتعرض لها في وقت لاحق إن شاء الله. أما محمد بن يحيى صاحب الطريق الأولى عن الليث فتوفي سنة ثمان وثمانين ومائتين وكان شيخا كبيرا، مقرئا، متصدرا محققا، جليلا. قال الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني: «هو أجل أصحاب أبي الحارث». وأما سلمة بن عاصم صاحب الطريق الثاني عن الليث فتوفى بعد السبعين ومائتين. كان، رحمه الله حافظا لتأدية ما في الكتب. يعد كتابه في «معاني القرآن» أجود من كتاب ابن الأنباري في الموضوع، لأن سلمه كان، كما أكد لنا ذلك ثعلب، عالما وكان يراجع الفراء فيما عليه ويرجع عنه. ثانيا: الدوري الدوري نسبة الى (الدور) موضع ببغداد ومحلة بالجانب الشرقي. هذا هو الذي رأيناه يروي عن أبي عمر والبصري، (ينظر هناك). لا يقرأ الآن، بكل أسف، برواية الدوري عن الكسائي (نشير الى هذه الرواية عادة ب «دوري علي») في العالم الإسلامي أحد، عدا ما نراه في المراكز الإقرائية العتيقة مثل معهد القراءات بعاصمة تشاد انجمينة وهو معهد يسير بفضل أريحية محسنين من هنا وهناك ولا سيما من المملكة العربية السعودية. كما نجد هذه الرواية تقرأ من طرف بعض أساتذة مدرسة سيدي ازوين قرب مراكش ومن بعض أساتذة دار ازهيرو بطنجة ومن بعض أساتذة مدرسة أكنون القدامى. كما تقرأ كل يوم الاثنين ابتداء من الساعة الثالثة الى الساعة السادسة مساء من طرف طلبة كرسي القراءات القرآنية بمسجد الحسن الثاني بالدارالبيضاء. «يكرر»، كما نقول نحن في المغرب، أي «يتلو» طلبة هذا المسجد الكبير ربعا من هذه الرواية يوزع عليهم من طرف أستاذ كرسي القراءات هناك؛ يوزعه عليهم مضبوطا ضبطا علميا دقيقا، خاضعا للعد المناسب له، وهو العد الكوفي. كانت هذه الرواية، من سنوات خلت تقرأ بانتظام من بعض شيوخ افتقدناهم. كان الشيخ سيدي ابن كيران، رحمه الله، يداوم على قراءتها مع طلبته في مدينة فاس وكان الشيخ سيدي إبراهيم الهلالي مداوما على قراءتها كل يوم جمعة في المسجد الكبير بمكناس في مكان فيه يعرف ب «المعزة». اعتقد أن هذا الدرس الإقرائي بمسجد الكبير بمكناس سيتواصل بحول الله وقوته الى ما لانهاية له إن شاء الله لأن محسنين رحمهم الله ورضي عنهم أوقفوا عليه بساتين تدر عليه، في هذه السنوات ما يكفي الشيوخ والطلبة. نقرأ الآن رواية دوري علي عن طريقين رئيسيين، الأولى هي طريق جعفر بن محمد النصيبي وبها يقرأ الناس القرآن ومنهم المغاربة المتخصصون في القراءات القرآنية. تتفرع هذه الطريق؛ طريق جعفر النصيبي إلى ست طرق، نعمل، كل ما في وسعنا مع إخوان لنا متخصصين في الموضوع على إحياء القراءة بأشهر هذه الطرق. الثانية طريق أبي عثمان سعيد بن عبدالرحيم البغدادي الضرير؛ هذه الطريق الرئيسية تتفرع هي أيضا الى ثمان عشرة طريقا؛ نطلب الله تبارك وتعالى أن ييسر لنا الأمر لإحياء بعضها. أما جعفر بن محمد بن أسد أبو الفضل الضرير النصيبي صاحب الطريق الأولى عن دوري علي فكان يعرف بابن الحمامي. كان، رحمه الله حاذقا ضابطا، شيخ نصيبين والجزيرة؛ قرأ على الدوري وهو من جلة أصحابه، قرأ عليه محمد بن علي الجلندا ومحمد بن علي بن حسن العطوفي وعرض عليه القرآن شيوخ كثيرون. توفي، رحمه الله، بعد سنة سبع وثلاثمائة فيما قاله الذهبي. وأما أبو عثمان سعيد بن عبدالرحيم البغدادي الضرير صاحب الطريق الثاني عن دوري علي فهو مقرئ حاذق ضابط عرض على الدوري وهو من كبار أصحابه. عرض عليه أبو الفتح أحمد بن عبدالعزيز بن بدهن وأحمد بن عبد الرحمن بن الفضل وغيرهم كثير إلا أن عبد الواحد بن أبي هاشم لم يعرض عليه القرآن كله بل وصل الى التغابن وانقطع العرض. توفي أبو عثمان سعيد بن عبدالرحمن بعد السبعين ومائتين.