هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء        الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    "دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب        أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من هو الروائي اليوم ؟
نشر في العلم يوم 17 - 01 - 2010

عادةً ما تُطرح كبرياتُ الأسئلة في حقل الأدب حين تطرأ مستجدّاتٌ تستوجب ذلك. هكذا أمكن لسؤال : «ما الأدب ؟» أن يفرض نفسه في أربعينيات القرن العشرين ليحث الأدباء في أوربا على التفكير في كيفية لأم جراح الحرب العالمية الثانية والإسهام في عملية انبثاق قيم جديدة و إنسان جديد من تحت الأنقاض. في المغرب و غيره، واجه الأدباء العرب سؤال : «ما هو دور الكاتب ؟» عندما احتدم الصراع الاجتماعي و الإيديولوجي بين قوى التغيير و قوى النكوص، على خلفية تتشابك فيها عوامل تاريخية خاصة (دسّ الوجود الإسرائيلي ضمن الكيان العربي و تبعاته التشريدية و الاستيطانية، استقلالات الأقطار العربية عن الوجود الاستعماري و ما استلزمته من ضرورة تحمّل الكتّاب و المثقفين لنصيبهم من مسؤولية البناء و التحديث و الدمقرطة، نكبة يونيو 1967 ...)، و عوامل تاريخية عامة (تشكّل وعي جماعي لدى مثقفي العالم الثالث بحتمية تضافر الجهود لأجل مواجهة المد الإمبريالي في العالم).
و ها هو سؤال : «ما جدوى الأدب اليوم ؟» يطرح نفسه في الأعوام الأخيرة عبر العالم أمام غول العولمة و هجمة الطاقات الرقمية و انحسار القراءة!
سؤال : من هو الروائي اليوم ؟. و بتعبير أوضح : ما الذي ينتظره القارئ اليوم من كتّاب الروايات ؟.
لأنّ القارئ اليوم غير قارئ الأمس، فإن أسئلته و احتياجاته و انتظاراته تتطلب أن تستجيب الرواية لها بطريقة مختلفة. و لعل ما يؤكد هذه الحقيقة هو ما استرعى انتباهي دائماً من عزوف عموم القراء عن قراءة النصوص الروائية، المغربية و المشرقية، المنتمية إجمالاً إلى الحساسية الجديدة. و لأجل التعرف على سبب هذا العزوف، تسلّيتُ منذ مدة باستجواب عدد منهم. و كانت الحصيلة، التي فاجأتني، هي أنهم ليسوا فقط ضد هذه النصوص، بل كذلك ضد النصوص ذات الصلة بالجمالية الواقعية التقليدية نفسها.
إزاء هذا الموقف المزدوج، ألا يحق لنا أن نتساءل : ما هي إذن جدوى نشر روايات ؟ لماذا يقضي بعض الأشخاص الليالي البيضاء مسوّدين أوراقاً تلو الأوراق، مؤمّلين أن يوجد من يقرأها من غير أن يجدوه ؟
يتذرع أولئك القراء بكون الحساسية الروائية الجديدة أفضت بالرواية جنساً أدبيّاً إلى أزمة حقيقية، لعل من أبرز مظاهرها، في تقديرهم، عدول النصوص عن سرد قصة أو مغامرة تطرأ فيها مفاجآت و انقلابات هي أساساً ما يبحثون عنه : فكل ما فيها تدفق هادر لصور و استيهامات بواسطة لغة هذيانية تكثر فيها الثقوب و البياضات. كما أنها، في نظرهم دائماً، نصوص ذات نزوع استكفائي إلى الاستقالة من الواقع و إلى الدوران العبثي المجّاني في حلقة مفرغة من التجريب الرامي إلى تدمير ما كرّسه السرد العربي المعياري من قوالب شكلية و قواعد تشخيصية. هذا إضافة إلى أن قراءتها تتطلب، نتيجة لما سبق، قدرات ذهنية وكفايات تأويلية خاصة هم يفتقرون إليها.
كما يتعلّلون بحدوث تغير عميق في أفق توقع القراءة الروائية في الأعوام الأخيرة، أصبح في رأيهم يتطلب من الكتّاب أن يضعوا تمرسهم بالرواية موضع مراجعة و إعادة نظر جذريتين، انسجاماً مع ما استجد في أرض الواقع من متغيرات. لذلك، لم يعودوا يجدون ضالتهم في تلك الروايات الواقعية النهرية التي تبالغ في تصوير الواقع بجميع ما يمور في سطحه و عمقه من نوازع و مصالح و توترات بين الناس، مبررةً إياها بعوامل ذات صلة بالصراع الاجتماعي أو السياسي في لحظة تاريخية ما. و أضحوا يوثرون عليها محكيات مركزة تبئر اهتمامها خاصة على أصداء ذلك الواقع في الذات الشخصية للفرد. بالفعل لقد استفحلت منذ سنوات مظاهر التفاوت الطبقي الفاحش و ازداد غلاء المعيشة ارتفاعاً و تفاقمت نسبة البطالة لدى الشباب، فأصبح المستقبل في أعينهم أسود قاتماً، الأمر الذي جعلهم يتطلعون إلى ما وراء البحر، مخاطرين بأنفسهم في رحلة مشكوك في مآلها، بحثاً عن جنّات عدن لا وجود لها إلا في أحلامهم. هو ذا بالنسبة إليهم الواقع الحق، الذي يتعين إذن على كتّاب الروايات أن يتخذوه موضوعاً حصريّاً لنصوصهم، أوّلاً ليتحملوا مسؤوليتهم بوضوح في الفضح و التنديد، و ثانياً ليجد كل قارئ على حدة ذاته الفردية في ذاتية بطل يواجه مصيره المحتوم، فيزيده ذلك وعياً بوضعه المأساوي. و لأجل ذلك، لابد للرواية، هنا و الآن، من أن تقول الأشياء كما هي، أي في نيوءتها و مباشريتها، لا أن تُغرقها في حمأة خيالات و هلوسات مَرَضية كما تفعل روايات الحساسية الجديدة، و لا أن تطمُسها خلف لوحات بانورامية تروم التقاط الواقع في شموليته ? إذن في لا خصوصيته ? كما تفعل روايات الحساسية الواقعية القديمة.
هذا بأمانة موجز تركيبي لِمَا أمكن لي استخلاصه من آراء القرّاء المستجوبين حول ما ينتظرونه اليوم من كتّاب الروايات في المغرب و العالم العربي.
لكن ... هناك قرّاء و هناك قارئ ! و هذا القارئ ? وهو نموذجي في اصطلاح Eco Umberto ? لا يعتقد بان الكتابات الجديدة دليل على تخبط الرواية العربية في أزمة ما. إنها فقط دليل على أن هذه الرواية تزاول تأملاً في ذاتها بهدف أن تتطور. صحيح أنها تبدو بمثابة رفض لمعيار فني تقليدي، من سماته المهيمنة : رؤية سردية خلفية، طغيان أفعال الماضي، استعمال ضمير الغائب، التسلسل الكرونولوجي للأحداث، حُبكات متنامية نحو نهاية مقررة سلفاً ... غير أن هذا الرفض لا يعني إلغاءً للإرث بقدر ما يعني تطويراً له.
كما يرى هذا القارئ بأن من المغالطة و المخاتلة الادعاءَ بان هذه الكتابات الجديدة مستقيلة من الواقع. إن ما يميزها هو بالأحرى رفضها لرؤية سردية رعناء ذات معرفة كلية بهذا الواقع تدّعي حيازتها ليقينيّات أخلاقية و سيكولوجية و إيديولوجية حول الإنسان و العالم. هذا دون أن ننسى أن كل رفض و تطوير في حقول الأدب يتمّان دائماً باسم الواقع و الواقعية. فحين يفقد شكل روائي ما حيويته و طاقته الأصليتين، فيصبح مجرد وصفة مبتذلة يجترّها مقلدون من غير أن يتساءلوا عن ضرورتها، فإن الواقعية بالذات هي ما يملي على الروائي حتمية التمردِ على هذا الشكل و تَصوّرِ شكل آخر جديد. فلا يمكن الاستمرار في استكشاف الواقع بقوالب و أساليب قديمة استنفدت ضرورتها و علة وجودها. إلاّ إذا اعتبرنا أن هذا الاستكشاف قد بلغ غايته و مداه، و في هذه الحالة يتعين على الروائي أن يستقيل لا من الواقع فحسب، بل من الكتابة أيضاً !
لذلك، فإن قارئنا النموذجي ينتظر من الروائي أن يدمن دون انقطاع توظيف جميع الإمكانيات التقنية التي ما تزال بكراً غير مستثمرة، بحثاً عن أشكال حكائية جديدة قادرة على التعبير عن علاقات مختلفة بين الإنسان و الواقع. فلا يعقل أن يداوم الروائي اليوم على قول العالم كما قاله نجيب محفوظ أو عبد الكريم غلاب مثلاً و هذا العالم نفسه يتعرض يوميّاً لهزّات عميقة تجعله يتبدل بسرعة من وضع إلى آخر.
بهذا الإدمان، تكون الرواية الجديدة ضد الرواية و قبل الرواية : فهي ضد الرواية لأنها تنزاح عن معيار. و هي قبل الرواية لأنها ببساطة لا تريد أن تكون ... آخر رواية ! إنها باستمرارٍ الروايةُ ما قبل الأخيرة لأنها دوماً مَفْتُوحَةٌ على المجهول و مفتونة بعدم الاكتمال. و من ثم، فعلى كل روائي أن يتقبل بزهو و كبرياء ميقاته الشخصي : فنجيب محفوظ كان يكتب الرواية الجديدة في 1945 («القاهرة الجديدة»)، و عبد الكريم غلاب كان يكتب الرواية الجديدة في 1966 («دفنّا الماضي»)، و صنع الله إبراهيم كان يكتب الرواية الجديدة في 1966 («تلك الرائحة»)، مثلما كان محمد خير الدين يكتبها في 1967 («Agadir»)، و عبد الله العروي يكتبها في 1971 («الغربة»)، و الميلودي شغموم يكتبها في 1980 («الضلع و الجزيرة»)، و أحمد المديني يكتبها في 1982 («وردة للوقت المغربي») و محمد عز الدين التازي يكتبها في 1983 («رحيل البحر») و مبارك ربيع يكتبها في 1984 («بدر زمانه») و محمد برادة يكتبها في 1987 («لعبة النسيان») إلخ.
فلا عجب إذن في أن يكون الحيز الأثير للرواية هو ذلك الفضاء الخام الأبيض حيث لا شيء يكون نهائيّاً و لا كاملاً، سواء أ كان شكلاً أم أسلوباً أم فكرة ... فوحدهما المؤقتُ و غيرُ الناجزِ ما يُعَرِّفُ الرواية بحق.
على هذا الأساس، لا يملك قارئنا النموذجي سوى استغراب أن يظل بعض الروائيين مدى الحياة أي مدى الكتابة، أوفياء بتقنية ما، و كأنهم يريدون أن يختصوا بها لتكون دمغة دالة عليهم في الإصطبل الأدبي، و هو ما يعني حتماً العقم و الإفلاس. والحال أن قوة الروائي و أصالته تكمنان بالذات في مراودته، رواية بعد أخرى، تقنياتٍ حكائيةً دوماً متجددة.
و بالمقابل، فإننا لا يسعنا أيضاً إلا أن نستغرب أن يخفف صاحبنا من غلواء بعض وساوسه البنيوية، بل و أن نهنئه على ذلك، حيث أضحى تستهويه تلك الرواياتُ المتضمنةُ لا لمغامرةِ حكايةٍ فحسب، بل كذلك و بخاصة لحكاية مغامرة، تحويراُ لوصية Jean Ricardou الشهيرة بأن يكف الروائي عن حكاية مغامرة و أن يهتم حصريّاً بمغامرة الحكاية ! و لذلك، فهو يتفهم و يَعْذِرُ أولائك القراء الذين يشتكون من كون بعض الروايات الجديدة خاليةً خلوّاً تامّاً من أي أثر لمغامرة أو قصة ما. فهو الآن يحبّ مثلاُ أن تمنحه الرواية الإحساس باختراق عالمها، فينظر حواليه، و يلمس الجدران، و ينصت إلى الشخصيات تتحاور، و يصافح هذا، و يقرص مؤخرةَ هذه، و يعيش قلق البطل في مواجهة الوجود و العدم دونما تقمص نفسيّ رومانسي، و يَفرك هذا القلق و يعتصره، و ذلك على رغم يقينه الجازم بأن هذا العالم عالم نصيّ من افتراء الكاتب ! كما يريد للغة الرواية أن تتلاطم كلماتها أمام عينيه و أن تتطاير شراراتها في وجهه، و هو ما يعطيه الإحساس بأنها تقول عنف الواقع أحسن مما تقوله أي دراسة علمية أو روبورطاج صحفي.
عنف الواقع ؟ بالفعل، هناك «شيء» ما عنيف و معنِّف يضغط العالم المعاصر، مخلفاً شعوراً رهيباً باليأس و الضياع. هذا «الشيء» يدمّر المكان و الزمان، يفتك بالأجساد، يشيع الخراب في كافة مجالات النشاط الإنساني، نحس به في كل نقطة من العالم ملازماً لكل فعل و كل قرار و كل كلام. إنه سطوة الرقمنة التي تُعرّض النوع البشري إلى قحط عاطفي مرعب، و أكثر من هذا تُخضعه إلى تسوية بيوسياسية مدمرة تنتفي معها الهويات و الاختلافات. و هو ما يجعل كل واحد يبدو و كأنه يعيش كلَّ لحظة مواته ببطء. هو ذا الواقع الجديد الذي أصبح صاحبنا مقتنعاً بضرورة لا أن تحاكيه الرواية، بل أن تحاكمه، فتعرّيه و تفضحه، نظراً لعدم اقتدارها على تغييره، لأن أقصى ما تستطيعه هو شحذ مدارك القارئ لتجعله قادراً على الوعي بهذا الواقع و فهم القوى و الدوافع الديماسية المعتملة فيه.
و لا غرو من أن هذه الضرورة تزداد استعجاليتُها و حِدَّتُها اليومَ أمام التحدي الشرس للشاشات التي أصبحت تنافس الرواية في صميم اختصاصها، ألا و هو خلق عوالم ممكنة. ذلك أن على الرواية الآن، إن هي أرادت أن يكون لها بل أن يبقى لها أثرٌ ما، أن تتصدى لهذا التحدي بإمعانها في تخييل الواقع و أسلبته ليتسامى على واقعيته و يرتاد فضاء التوقع، أي فضاء الافتراض السحري. على هذا النحو، تكف الرواية عن كونها كتابة عن واقع جاهز لتكون كتابة له، أي خلقاً تدريجيّاً له في أثناء سيرورة الكتابة. ففي تصور هذا القارئ النموذجي ألاّ وجود للواقع بذاته قبل الشروع في الكتابة. فالروائي، حين يفكر في كتابة رواية، لا يشغل ذهنه أي شيء آخر عدا الكتابة التي تستحثه على التعجيل بأخذ القلم و الورق. وحدها حركات الكلمات و مشاريع الأشكال و تقنيات التخييل و أساليب التفضية و طرائق التشخيص هي ما يستحوذ على فكره، تماماً مثلما لا تحتل رأس الرسام سوى الخطوط و الألوان. أما الباقي، أي ما يقع في الرواية، فسيأتي لاحقاً من تلقاء نفسه.
» Mentir vrai « (‘أن تكذب بصدق») قال Louis Aragon ذات مرة في تحديده لمهمة الرواية. و هو ما يحلو لصاحبنا أن يحوّره ليصبح » Dire vrai en mentant « («أن تَصْدُقَ بكذب»)، أي أن تقول الروية الواقعَ كما تفتقت عنه مخيلةُ الكاتبِ و استيهاماتُه. و هو ما ليس من غير أن يذكّرنا طبعاً بالقول العربيّ المأثور : «إنّ أصدق الشعر أكذبه» ! هذه حاجة يبدو أن القارئ أصبح اليوم، و أكثر من الماضي، ينتظر من الرواية تلبيتها و إشباعها. دليلي على هذا أن بعض الباحثين الأمريكيين (1)، اقتنعوا بأن بإمكان الأفراد تنمية هويات افتراضية تكون بمثابة عوامل تنفيسية تخفف عنهم وطأة الشاشات في الحياة المعاصرة و ما يترتب عنها من استلاب قاهر. و تبتدئ هذه العوامل بأحلام اليقظة لتنتهي بمواجهة الواقع، مروراً بإسقاطات الذات و مشاريع الحياة، حيث يسعى كل واحد إلى تجريب نُتَفِ سيناريوهاتٍ لأجل بناء هويات جديدة تُنسيهم عنف الواقع. هذا فيما يبدو هو الهم الجديد للإنسان المعاصر الذي يتطلب وقوداً. و لا شيء سوى المتخيلات يستطيع توفير هذا الوقود، و خاصة منها المتخيل الروائي، لأن المتخيل السينمائي أو التلفزي يُعفي من بذل مجهودِ التماهي و متعته بسبب ضياع الإنسان في الصورة و الصوت. أما متخيل الرواية، فيسمح بإعادة بناء العالم استعاريّاً من خلال حكاية مغامرة تعويضية، باعتبار هذه فضاءً تُرَاعَى فيه الحدودُ بين الانغمار في عالم متخيل و نسيان الذات بما هي شخص عينيّ.
يظهر إذن أن بإمكان المتخيل الروائي أن يؤدي دوراً مجتمعيّاً أساساً. بل «إن حاجة المجتمع إلى متخيلات روائية هي أكثر من حاجته إلى الحديد و الإسمنت» يقول عالم الاجتماع الفرنسي Jean-Claude Kaufmann» (2)، و ذلك على رغم أن هذا الظمأ إلى المغامرة لا يخلو من تناقض بسبب كونه في آن واحد مواساةً و إعادةَ تبئيرٍ على الذات. فإذا أراد المرء أن يبتكر نفسه ذاتاً، فإن عليه أن يبتكرها مختلفة بتشغيله لمتخيل شخصي و لأحلام يقظة تتيح تنميات ممكنة لشخصيته. هنا تبرز أهمية المتخيل الروائي الذي يستطيع أن يكون أداة للاشتغال على الذات و آلية لإحداث القطيعة لأجل ابتداع واقع جديد. و من ثم، فإن قراءة رواية يمكن لها، في المدى الأمثل، أن تغير الإنسان عبر تماهيه مع ذات «البطل» و اكتشاف ذوات أخرى ممكنة، قبل أن تستعيده الرتابة الأصلية لحياته اليومية. إنها بامتياز لحظةُ لاتركيزٍ أساسيةٌ تنسي الإنسانَ مآسي الواقع المعاصر و مفارقاته وفظاعاته.
ترى كيف يستطيع كاتب الرواية أن يتخلص من ورطة هذا الإحراج : كتابة نصوص تستجيب لانتظارات كل من القارئ العادي غير الخبير و القارئ النموذجي المتمرس ؟ هل يمكن له أن يستهدف حصريّاً قارئاً على حساب قارئ آخر ؟ هل يكون الحل الأمثل هو تصور نصوص مابينية تقع على تخوم الواقعي و الافتراضي ؟ أ ليس هذا هو رهان كل كتابة روائية حقة بصرف النظر عن كونها تقليدية أو كونها حداثية ؟ و قبل هذه الأسئلة، هل أكون كنتُ أتحدث عن نفسي و أنا أرسم صورة ذلك القارئ النموذجي ؟
الإحالات
* نص المداخلة التي شاركت بها في ندوة (الرواية المغربية اليوم؛ أسئلة الذات و المجتمع) المنعقدة يومي 25 و26 يونيو 2008 بقاعة المكتبة الوطنية بالرباط.
(1) عن الملحق الثقافي لجريدة Le Monde الفرنسية، عدد الجمعة 23 ماي
2008، ص.8.
(2) نفسه، ص. 8.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.