من هم الفاعلون في مجال الإصلاح الديني؟ مادامت الظاهرة الدينية هي في قلب المجتمع، وما دامت معقدة إلى درجة حضورها المتعدد الأبعاد في الحياة الاجتماعية، فإن الفاعل في مجال الإصلاح الديني متعدد بتعدد المديات التي تحضر فيها المسألة الدينية. فقد تكون الظاهرة الدينية أشمل وأبعد مدى حتى من السياسة نفسها. لأن الجميع معنيّ من بعيد أو من قريب بما ينبغي أن يكون عليه الوعي الديني. فالدين يبلغ المديات التي لا يمكن أن تبلغها السياسة نفسها. فهو الهواء الذي نتنفسه بوعي وكثيراً ما نتنفسه بلا وعي. أفلا تكون ظاهرة كهذه بهذا الشمول والاتساع، أمراً إذا لم نمارسه بوعي مورس علينا تماماً كالسياسة أو أكثر؟! إنها ليست بالضرورة دعوة إلى الدين بل هي إشارة إلى أهمية وكثافة الحضور الديني في الاجتماع. إن المقاربة الويبرية هي أبلغ من أي مقاربة في توضيح هذا الأمر. وأعني تحديداً أن الدين حتى في المجتمع الغربي الذي استوعب منذ فجر تاريخه الحديث الفصل بين الدين والدولة، فإننا نجد أن الحضور الديني والصورة الغامضة التي لا تكاد تفهم فهماً حداثيًّا، يلف كل الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية الغربية. ربما الكثيرون لا يرون ذلك، لأنهم يطلبون رؤية هذا الحضور عارياً. ليس فقط من خلال المؤثرات غير المباشرة، حيث تبلغ الإنتاجية لدى الجزار في مجتمع بروتستانتي أضعاف ما تبلغه إنتاجية جزار في مجتمع كاثوليكي. وكذا يتضح الفرق في مجتمع يهودي وغيره. بل إن جزاراً في مجتمع أمريكي محافظ، سيضطر إلى حضور الكنيسة بانتظام للحفاظ على منسوب إنتاجيته. وقس ذلك على السياسة، فهي اليوم تدار بشكل ديني أجلى من ذي قبل، جعل الظاهرة الدينية تكاد تكون قسيماً بين البيت الأبيض وأفغانستان. وعليه، فإننا إن كنا نريد بالفاعلين في الإصلاح الديني شيئاً آخر غير الوسيط الممأسس، فإن المجتمع بكل مكوناته هو فاعل متفاعل. وتلك هي الخطورة. فالمجتمع الذي لم يحقق نهضته كيف ينتج إصلاحاً دينيًّا. هناك بنية تعيد إنتاج وعيها الديني، رغم حيوية النقاش الذي تثيره النخب حول هذا الموضوع. لكن جماع ما يؤول إليه الصراع الموضوعي في مجتمع حيوي، من شأنه أن يتقدم بالبنية نفسها في الاتجاه الذي تتكشف فيه عن مكتسبات حقيقية في هذا المجال. إن الفعل الإصلاحي هو فعل ليس إراديًّا فحسب، ولا هو قرار سياسي أو اختيار أيديولوجي. بل إنه جماع ما تكشف عنه حركة اجتماعية في أتون صراع وجدل حقيقي، يشكِّل عنصر التواصل والنقاش الحر والمسؤول صمام أمان له من العنف. إن العنف هو الظاهرة التي تسكن أحشاء المجتمعات، وهي تتربص بالاجتماع الإنساني وتشكل تهديداً له متى ما لم تنشأ ثقافة التواصل وأدواته، ومتى ما لم يحلَّ مناخ الحرية والديموقراطية، وهي المزيل الطبيعي والحتمي لخيارات العنف. إن ما يوفر للبنية حركتها الطبيعية في قلب الصراع الموضوعي المقيد بثقافة تواصلية وأدوات ديموقراطية، هو مناخ الحرية التي تتيحها دولة الحق والقانون. وهي ليست المناخ المثالي الذي تطلبه العملية، بل إن الحد الأدنى الممكن يكفي ابتداء مقدمةً ناجعة للتقدم بهذا السؤال إلى فضاءات أوسع. إن الحركة الاجتماعية التي هي شرط التقدم بسؤال الإصلاح الديني، تتوقف على استمرارية النقاش واتساعه في مناخات مشجعة ووسائل مانعة لطروِّ العنف بوصفه عاملاً مهدداً أو محرّفاً للنقاش الحر. ونعتقد أن الثقافة التواصلية لم تتحقق حتى اليوم بين أكثر الفاعلين المفترضين للإصلاح الديني. وهذا يتطلب أن نطل على موضوعنا من زاويتين هما بمثابة شرطين: 1- شرط التواصل وآلياته بين الفاعلين بما أننا سنحصر حديثنا في الفاعل النخبوي، أي منتج الثقافة والوعي في المجتمع، فسأقصر الكلام في الفاعل الإسلامي والفاعل العلماني، دون الوقوف عند تعدد المشارب التي تعيد تقسيم كل نخبة من هذه النخب إلى أطياف، هي بالنتيجة تنضوي تحت العنوان نفسه سواء أنزعت إلى اليمين أو إلى اليسار أو استقر بها النوى في الوسط. فمناط استشكالاتها يظل واحداً. كما سأتجنب الحديث عن الفاعل - السلطة، نظراً لأنها واقعة هي الأخرى وسط هذا التجاذب بين الاتجاهين، وهي لا تحرز موقفها إلا استقواء بهذا الفاعل أو ذاك. وأما تأثيرها المستقل خارج منطق التغليب، فهو عديم الثمرة وبلا جدوى في المنظور التاريخي البعيد. وقد أظهرت سلطة التغليب والتوظيف بؤسها فيما شهدناه اليوم تحت طائلة التحول في منظور الاستراتيجيا العالمية المربكة، التي جعلت حساباتها التكتيكية تبدو أكثر تردداً وتيهاً بمجرد انقطاعها عن حساب ومجرى الاستراتيجيا الكبرى، متى ما شقت هذه الأخيرة طريقاً جديداً أو انقلبت بالجملة في الاتجاه المضاد. لم يشهد العالمان العربي والإسلامي الحد الأدنى من التوافق بين النخب الفاعلة. وهي ظاهرة ما فتئت تتطور بشكل دراماتيكي منذ وفاة محمد عبده، باعتباره آخر كبار المصلحين التوافقيين. وقد تفجر الموقف بشكل حاسم بعد قيام الثورة، الذي جرف معه كل مكتسبات النهضة العربية وأسئلتها، وأيضاً روح التوافق التي حكمت حركة الإصلاح والنهضة. بعد ذلك، بدأت المسارات تتجه وجهة متناقضة، وطغى لون من التخندق في خطابات قسّمت الشارع العربي والإسلامي إلى فسطاطين أيديولوجيين. حينئذ نشأت خطابات أكثر وضوحاً في نزعتها النقيضة. كان لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين قد عبَّروا عن دحر هذا التوافق مؤكدين على لا جدوائيته. لم ينحصر حديث سلامة موسى في: «هؤلاء علموني»، في الإشارة فقط إلى أهمية مكتسبات العلوم الاجتماعية الحديثة وأنه مدين لها، بل رافقتها دعوة لاقتطاع مصر من كل ما هو محلي أو تراثي، كما برز ذلك الموقف الصريح في الدعوة إلى الأوربة مع طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر». وظهرت معالم التخندق والفصام جلية في بعض فقرات «في الشعر الجاهلي» التي عبَّرت عن أنها غير معنية بالتوافق. ويعبر لويس عوض بصورة جلية عن هذا الفراق، من خلال الحملة القاسية التي قادها بأثر رجعي ضد السيد جمال الدين. كما نجد كاتباً مثل جلال العظم يصل بالتحدي في «نقد الفكر الديني» إلى إعلان الموقف الجذري ضد الفكر الديني. وقد حاول فك التوافق بين الفكر الديني والفكر العلمي بعد أن حاول إثباته أنصار التوفيق. وبذلك فعل في مجال العلم ما حاول فعله طه حسين في مجال الشعر الجاهلي. من الجبهة الأخرى، ظهرت أعمال تؤكد القطيعة مع كل مكتسبات الإنسان. فإذا كان سلامة موسى تحدث بإعجاب وانبهار بالغين بالحضارة الغربية الحديثة في: «هؤلاء علموني»، فإن محمد قطب سوف يتحدث بازدراء عن هذه الحضارة معلناً إفلاسها وانحطاطها وجاهليتها في: «جاهلية القرن العشرين». وسيكتب المودودي سنة 1941 مقالة تحت عنوان: «انتحار الحضارة الغربية». وفي لجة هذا الصراع ونشدان التخندق والفصام، تبلوت ثقافة استئصالية كانت ولا زالت تستنجد بسحر الأيديولوجيا وعنف الخطاب. تراها تستقوي تارة بالشارع وتارة بالسلطة. وقد غاب خطاب العقل التوافقي من مجال المعرفة، فلم نعد نحظى حتى بذلك النزر القليل من التنازلات. بعد أن أهملت النخبة العلمانية إهمالاً شبه تام الظاهرة الدينية وتعاطت معها باستخفاف، كما أهملت طبقة رجال الدين والإسلاميين إكراهات التقدم الإنساني وتعاطت مع العلوم الاجتماعية باستخفاف. وقد انبثق عن هذا الفصام تراكم الصورة النمطية المتبادلة بين الاتجاهين، مما فوَّت على كل من الطرفين فرصة النظر في طبيعة وجدوى استشكالات الآخر. فكان الحوار طرشاني حتى اليوم، وبلغت أزمة التواصل نهايتها القصوى. وظلت علاقة الفرقاء أسيرة رؤية نمطية لا زالت آثارها حاضرة على الرغم من كل التحولات التي شهدها كل فريق ورغم حصيلة التنازلات التي قدَّمها هؤلاء. يمكننا الإشارة إلى عينة من التوصيفات النمطية التي أنتجها مناخ القطيعة: أ - يتهم العلمانيون الإسلاميين ب: - القوى الرجعية والظلامية حملة الفكر الديني الخرافي. - الأداة الأيديولوجية للإقطاع. - عملاء الإمبريالية والطابور الخامس للولايات المتحدةالأمريكية. - لا يحملون بديلاً ولا يملكون برنامجاً سياسيًّا واجتماعيًّا. - التعصب والعنف و الإرهاب. - أعداء العلم والحرية والديموقراطية - ضد حقوق المرأة وضد الحداثة. - استغلال الدين لأغراض سياسية - ............................................ تنميط شخصي ونموذجي نظير رموز دينية متداولة في الخطاب العلماني بصورة نمطية، كنماذج لإشاعة الفكر الظلامي والتحريض: الشعراوي كراعٍ لتيار الأسلمة في مصر، سيد قطب ككاهن للتطرف الديني، طالبان بوصفها نموذجا مثاليًّا للإسلاميين على خلفية حجب التعبيرات الإسلامية المتنوعة. اصطلاحات متداولة للتنميط خوانجية - متأسلمون - مهربون دينيون - نظام ملالي - الزنادقة - المتطرفون - الأصوليون... ب- يتهم الإسلاميون العلمانيين ب: - حملة الفكر الإلحادي. - أدواة الاستعمار الجديد. - خونة للقضايا المحلية. - التبعية للغرب والاستلاب في ثقافته. - الفصل بين الدين والدولة بين الدين والمجتمع. تنميط شخصي ونموذجي نظير رموز علمانية متداولة في الخطاب الإسلامي بصورة نمطية كنماذج للتغريب والإلحاد: طه حسين في الشعر الجاهلي، نجيب محفوظ في رواياته، حسن حنفي في مشروع التراث والتجديد، محمد أركون في إسلامياته التطبيقية، نصر حامد أبو زيد في مقارباته التأويلية للنص الديني... سياسيًّا، مثاله: تبشيع وتجريم جمال عبد الناصر والثورة الناصرية باعتبارها ثورة ضد الإسلام والمسلمين[6][11]. لقد ظل الفريقان أسرى لهذه الصورة النمطية المتبادلة، والتي تنتج الفصام وتعيق التقارب والتواصل والحوار. وقد ظهر أن حالة الانزواء كان ضررها على صعيد الإصلاح الديني كبيراً. فكل فريق انطوى على أحكام القيمة التي أنتجها في لجة الحجاج والتغالب الأيديولوجي على صدق دعواه مسبقاً. ولا شك، كما أظهرت الأحداث، أن الإسلاميين يطورون خطابهم باستمرار، كلما تحملوا مسؤوليات سياسية واستوعبتهم الديموقراطية، ويزدادون تطرفاً وانزواء كلما فرض عليهم الانزواء ولفظتهم العملية الديموقراطية. وفي ظرف الانزواء المفروض تتضخم ذهنية الريبة وعقلية المؤامرة وثقافة التخوين. فلا زلنا نسمع من هذا الفريق أو ذاك نماذج من التشكيك في وطنية ونزاهة وكفاءة الآخر. ومن هنا تعيَّن تجاوز مرحلة القطيعة والانزواء، والدخول في دورة النقاش والحوار والثقافة التواصلية لتخفيف هذه الصورة النمطية المتبادلة، ولفتح كوة إن لم نقل نافذة لمعرفة ماذا يريد الآخر قوله، قبل الانجرار إلى أسلوب التهمة على أفهام هي حصيلة تصرف في الخطاب والتأويل، وخارج باراديغم المغالبة بمدلولها السياسوي. وهذا أمر ممكن التحقق. بل إن تحققه ضرورة في طريق الإصلاح الديني، ولضمان حد أدنى من التوافق بين الفاعلين في الإصلاح الديني. انطلاقاً من مفهوم تصالح الإمكان الحداثي مع الإمكان الإسلامي، نستطيع القول: إن ما بين أيدي النخب، سواء أكانت إسلامية أو علمانية نحو من الفهم والتأويل، قابل لمزيد من القراءة. على أساس أن داخل هذا الخطاب أو ذاك، توجد صور تشاركية ممكنة تمثل جانب الإمكان في كلا الخطابين. فمدار التوافق هو فيما يتيحه الفرقاء من إمكان، حيث عالم الإمكان أوسع من عالم الواجب المتحقق. وهذه العملية هي حصيلة نقاش حر وجدل تواصلي تتوقف على البحث عن باراديغم جديد يؤطر العملية التواصلية ويرسم هدفاً للحوار الوطني يجعل الحوار بنَّاءً في الاتجاه الذي يبني مجتمعاً وييسر له سبل النهوض والتقدم. ونعتقد أن الباراديغم السائد كان ولا يزال سياسيًّا. ولذا تفجرت حروب المواقع بين الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية الوطنية وأحياناً بينها وبين النظم السياسية، وأخرى أيضاً بينها والمجتمع. وقد نتوصل عبر عملية الاستقراء، إلى أنه متى كان الباراديغم أوسع وأشمل وأعمق، كان التوافق مطروحاً بإلحاح. وليس ثمة باراديغم بهذه المواصفات غير شعار النهضة والنموذج الحضاري، الذي يساعد الفاعلين على تخطي المعارك الأيديولوجية المزيفة والصغيرة والمحدودة لصالح برنامج نهضوي يفتح الفاعلين على ضرورات الواقع وإلحاحاته والمستقبل ورهاناته. فأما خطر الاستعمار وخطر الاستبداد وخطر التخلف والانحطاط، لا يوجد أمام النخب الفاعلة إلا التوافق والالتفاف حول مطالب تاريخية كبرى. وآلية ذلك هي التواصل وما يفرضه من إحلال فلسفة السماع والإنصات لما يقوله هذا الفريق أو ذاك. واستيعاب اللحظة التاريخية لهذا الجدل. إن حواراً إسلاميًّا - علمانيًّا في مجالنا العربي والإسلامي هو ممكن، وإن بدا صعباً. كما أمكن جريان حوار قومي - إسلامي. إن مراكمة النقاش بهذا المعنى، يمكنها أن تضيف إلى كل فريق معطيات وآراء من شأنها التخفيف من أكثر الموانع والشبهات التي تعيق التواصل وبالتالي تحول دون تحقق التوافق الممكن. من الممكن أن يجد الإسلامي في العلمانية الكثير من الحقائق التي هي مطلب ديني أيضاً. سيجد فيها النزعة إلى التحرر من الاستبداد الديني. فماذا يضير الإسلامي من هذا الموقف التاريخي، ولماذا ينحاز إلى موقف الإكليروس وقد كانت من أولويات الإسلام منذ ظهوره أول مرة أن يحطم الصنمية بكل أشكالها مادية ورمزية، يوم نعت الطاعة العمياء للأحبار بأنها ضرب من العبودية: «فشرعوا لهم فاتبعوهم فتلك عبوديتهم إياهم». وحينئذ سيفهم العلماني أن الإسلام من حيث شموليته ليس دخيلاً على السياسة بل هو ضامن من خلال شريعته، لحياة اجتماعية يتحرر فيها الناس من مظاهر الاستبداد، حيث أي تشريع بشري في عصر العبودية والإقطاع لن يحرر الإنسان من تأليه وتأله البشر. وقد عبر عن ذلك صاحب العقد الاجتماعي أجمل تعبير، حيث ثمة نزعة للتحرر من سلطان البشر تكمن في ذهن دعاة فكرة الحاكمية الإلهية. كما سيكتشف العلماني علمانية الإسلام، التي تكمن في حضوره السياسي لا في استقالته. أي بتعبير آخر سيكتشف الإسلامي علمانيته من خلال العلمانية كما سيكتشف العلماني تدينه من خلال الإسلام. نستطيع حينئذ التخفيف من التضخم الغيبوي والتضخم العلموي معاً لصالح تصالح بين ما أسميه الحد المعقول من الحضور الغيبي والعلمي. فعصور الإيمان لم تخل من مظاهر العلم كما أن عصور العقل أو العلم لم تخل من مظاهر الإيمان. وحينما يقرأ الإسلامي، مستقبل الثقافة في مصر أو في الشعر الجاهلي لطه حسين، فسيدرك أن القلق الذي كان يشغل بال طه حسين هو الانفتاح على قواعد التفكير العلمي الجديدة، وعلى قيم الحرية التي تضمن شرف الكائن وتتيح للفكر مديات أوسع. فلو كان يدعو حقًّا للأوربة في مستقبل الثقافة في مصر، لما كان يتحدث عن مصر بكثير من الخصوصية والاعتزاز. ولو كان يريد التشكيك في القرآن في الشعر الجاهلي لما اعتبر القرآن هو المصدر الأساسي والمعتبر في معرفة الشعر الجاهلي. وسيدرك حينها العلماني أن سيد قطب لم يكن كاهناً للعنف الديني لأنه داعية سلام عالمي، من خلال «السلام العالمي في الإسلام». ولا كان داعية تزمُّت ونابذ حداثة كما في «الإسلام في مواجهة الرأسمالية»، حيث انتقد التحجر الديني والتقيد بالمظاهر السطحية والأعراف. ولا يجده من ناحية أخرى عديم ذوق للجمال والفن من خلال «في النقد الأدبي» أو «التصوير الفني في القرآن»، سنقف على الوجه الآخر. ونقرأ طه حسين في الأيام قراءتنا لسيد قطب في طفل في القرية أو أشواك. سنتعرف على مصر ومن ثمة العالم العربي وما كان يعتمل فيه من ظروف انتهت إلى إعلان القطيعة، بعدما لم يعد من جامع. وحيث لم يعد سؤال النهضة ملحًّا بعد كل النكسات والاندحارات، كان فراغ المشهد من أسئلة كبرى باعثاً على هذا الشرخ والفصام النكد. الكل استبد به منطق الأقصاء. 2- شرط تحقق الكفاية اللازمة المتولي لعملية الإصلاح، المتصدي لرسالة التجديد ليس متحرراً من القيود التي تفرضها شرائط المباردة الصحيحة والتصدي الحسن. وليس مفاد هذا الاشتراط وضع قيود على الناقد أو المجدد نظير تأطيره بسقوف للنظر وخطوط تمنعه من اختيار زاوية النظر أو أدوات النقد. وعلينا حينئذ أن نميز بين ما هو حق في النقد وما هو شرط فيه. وليس كل عملية نقدية هي إصلاحية تجديدية، حيث لا وجود لرابط منطقي يلزمنا بالانتقال من الإقرار بحق النقد العام إلى الإقرار بجدوى النقد الخاص في الإصلاح والتجديد. نعم، العملية الإصلاحية والتجديدية بالجملة تستلزم إطلاق حركة النقد. لكنها في نهاية المطاف، لا تحقق لثمرات الإصلاح والتجديد إلا بما هو مستوعب لتلك الشرائط. فيكون الحق في النقد شرطاً في العملية الإصلاحية والتجديدية بالجملة وإن كانت بمثابة الثمرة المرتجاة بلحاظ ذلك القيد، هي شرط في العملية الإصلاحية في الجملة. أي بتعبير أوضح، إن الحق في النقد بالجملة شرط في الوجود، والحق في النقد في الجملة شرط في الصحة. من هنا نجد أن حرية النقد هي حق تنحصر أهميته في حيثيته كحق مجرد. على أن العملية الإصلاحية والتجديدية في نهاية المطاف لا تنتفع بهذه الحيثية إن كانت غير محفوفة بالقيد الاشتراطي للنظر، ما دام أن حيثية هذا الأخير هي الواجب لا الحق. فالناقد المرتكز على الحق المجرد في النقد من قيد الاشتراط العلمي هو مختار، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. لكن المرتكز على الحق المحفوف بالقيد الاشتراطي العلمي ليس مختاراً، بل وجب عليه التصدي وإظهار العلم. من هنا كانت حرية النقد معتبرة من حيثية الحق، حتى لو كان هذا النقد معاقراً لواقع لم يُقْصَد أو لمقصود لم يقع. فإن مجرد تحقق حق التعبير فيه مصلحة لحفظ الاجتماع واستمرارية التواصل كما لا يخفى. وإذا كان الجميع لا يرى خلافاً في أن المعتبر في المقام هو النقد البناء الذي يتحقق معه المراد، فإن الحديث هنا يتوجه إلى شرائط هذا النقد حتى نخرج حق النقد من حالة اللامسؤولية في القول استناداً إلى «حق» النقد بالجملة إلى حالة النضج والرشد في القول استنادا إلى «واجب» النقد في الجملة. من هنا، نجد الحديث حيثما اتجه نحو «الواجب» في النقد تكاثرت القيود وثقل وزن الشرائط. وحيثما اتجهت نحو «الحق» في النقد، قلَّت القيود وخفَّ وزن الشرائط. فليس غريباً أن تجد من النقد ما عانق خطلاً من الرأي مائعاً، ومن النقد ما عاقر صائباً من الرأي مستحكماً. فمقتضى العملية النقدية القائمة على نضج القول وحيثية الواجب هو المضايقة، في حين أن مقتضى العملية النقدية القائمة على عدم رشد القول وحيثية «الحق» هو المواسعة. إذا اعتبرنا النقد مفتوحاً بموجب الحق في القول بالجملة، وبأن هذا لا نفع فيه إلا لوجود شكل آخر من النقد المقيد بشرائط النظر الأقوم بموجب الواجب في القول في الجملة، لزم ذكر ماهية الشرائط التي من شأن النقد المقيد أن يحترز بها عن مجمل النقد العام لتحقيق المراد: 1- هل إن الناظر في إصلاح الفكر الديني، المتصدي لعملية التجديد، قد حدد الإطار المعرفي والأيديولوجي الذي يرى من خلاله مشكلات واقعه؟ 2- هل إن الناظر في إصلاح الفكر الديني، المتصدي لعملية التجديد، قد استوعب ما تراكم من فعل الإصلاح والتجديد، حتى يكون نظره مستحضراً لجماع النظر الإصلاحي؟ 3- هل إن الناظر في إصلاح الفكر الديني، المتصدي لعملية التجديد، قد أَنِسَ أدوات التفكير وآليات النظر، التي تتيحهما النماذج المعرفية المتكاثرة؟ 4- هل إن الناظر في إصلاح الفكر الديني، المتصدي لعملية التجديد، قد تفنن بما يكفي فيما يعتمل إقباسه من تراث الآباء أو فيما يعتمل اقتباسه من تراث الآخر، إلى حد الاقتدار على تركيب ما يستقل به من نظر في الآن والمآل؟ السؤال الأول يؤسس لشرط التمنظر والانتماء. والثاني يؤسس لشرط التراكم والاستحضار. والثالث لشرط المؤانسة والاستيعاب. والرابع يؤسس لشرط المجاوزة والترقي بالنظر. على أن للنقد مراتب ثلاثاً لا نفع إلا بثالثتها. فلا إصلاح إلا بقيام نقد ذاتي. ولا نفع في نقد ذاتي إذا لم ينضم إليه كيفٌ جديد كي يصبح نقداً ذاتيًّا جذريًّا. ولا نفع أكبر يرتجى من ذلك أيضاً ما لم ينضم إليهما كيف ثالث فيصير نقداً ذاتيًّا جذريًّا بناء. ذلك حيث أن ليس كل نقد ذاتي هو جذري بالضرورة. وليس كل نقد ذاتي جذري هو بناء بالضرورة أيضاً. فلكلٍّ كيفٌ هاهنا نصيبه من الإضافة، وجماع الكيوف تركيب عبقري قمين بتحقيق المراد. وكما أن النقد ليس دعوة عامة بل دعوة خاصة، أيضاً آن الأوان أن نقول: إن النقد ليس دعوة فردية بل هو حركة وحالة جماعية. فلا شك أن لدينا أناساً كتبوا في النقد الذاتي، لكن ليس لنا حالة جماعية تقبل بمواجهة ذاتها الجماعية على أسس جادة وحقيقية وعلمية. أي أن المطلوب حالة نقدية جماعية واعية وليس حالة فردية يتيمة محكومة بتعويضات الانجراح وحيل الفشل اللاواعية، بوصفها نوعاً من الهروب إلى الأمام دفعاً لمطلب الاعتراف. فليس كونه نقداً ذاتيًّا أن المتولي له فردي، بل هو ذاتي، أي بحسب الاجتماع هو الذات الجماعية لا الذات الفردية. فالنقد الذاتي الجذري البنَّاء، وحده من ينقذ العملية الإصلاحية من آفات النقد بمدلوله العام حتى لو تقدم فكان ذاتيًّا، وحتى لو تقدم فكان نقداً ذاتيًّا جذريًّا. ذلك لأن المطلوب من النقد أن يتحقق معه مكتسبات ثلاثة: - القبض على الجرح وتشخيصه. - تضميد الجرح وعلاجه. - نسيان الجرح وتجاوز آثاره النفسية. تلك هي مقومات النقد؛ أي النقد الذاتي الجذري البنَّاء. وحاصله أن ذلك هو الحد الأدنى من شروط الكفاية التي يتعين توافرها في الفاعل الحقيقي في دورة الإصلاح عموماً والإصلاح الديني خصوصاً. والحال أنها شرائط تكاد تعدم في المتولي لعملية الإصلاح الديني، وهي نادرة التحقق في الفاعلين ندرة الكبريت الأحمر. مجالات الإصلاح فيما يتعلق بمجالات الإصلاح، تواجهنا مشكلة الدور المنطقي من حيث إن الناظر إزاء مظاهر التخلف والانحطاط المتشعبة والمنتشرة؛ لا يكاد يستقر اختياره في مقام تزاحم الأولويات على المختار الحقيقي، الذي يتنزل منزلة أصل الداء وسبب الانحطاط. ولذا تراه هائماً لا أمارة توقفه على فصل مطمئن به يميز السبب من مسببه، ولا أوله من آخره. وهو التحدي الذي تطرحه أزمة الواقع الذي تنقلب فيه الحقائق انقلاباً يبدو فيه ما كان سبباً، مسبباً، والعكس يصح. وكذلك هو التحدي نفسه الذي تطرحه أزمة في التصور تجعل الناظر في مشاكل الاجتماع يسحب عليها تصوراً ميكانيكيًّا لعلاقة العلة بالمعلول آنس به في استقراء خلل الطبائع الجامدة في عالم الأشياء القريبة. فإذا به يهيم هياماً، وهو يستقرئ الأعطاب ويحصي مداخل الأزمة إحصاءً مهما بلغ وسع الناظر فيه، لن ينفعه في ضبط الأسباب، والقدرة على الإجابة عن سؤال: أين الخلل؟ فالمشكلات في الاجتماع حتى لو بدت على نحو التراتب الضروري بين العلة والمعلول، فإنها بمجرد تحقق الخلل، تكفّ عن أن تصبح علة. بل إن البنى متى ما اجتاحها الفساد، أصبح الخلل بنيويًّا، وتعيَّن الإغضاء عن مداخل الخلل والبحث عن مخارج الخلل في هذا التركب البنيوي للأزمة. إننا نعتقد أن سؤال: أين الخلل، سؤال غير منطقي برسم الاجتماع، ما دام أن الخلل حتى لو أدركنا مداخله ابتداءً لن ينفعنا في إدراك المخارج انتهاء. فالبنية التي تتعرض للخلل، هي نفسها من يرشح مداخل الأزمة. ولعل ما يبدو مداخل للأزمة ليس مداخل ضعيفة أو مختلة، بل هي المداخل الأكثر حيوية لاستقبال الأزمة وتصريفها داخل البنية المأزومة دفعاً لخطر انهيار البنى انهياراً تامًّا. والحاصل هنا أن البنية مثلما تفرز عند تراجعها التاريخي مدخلاً مناسباً للأزمة، فإنها تفرز كذلك عند تخارجها التاريخي مدخلاً مناسباً للحل. فالمطلوب حينئذ العمل ومراكمة الفعل، وبذل الوسع في زحزحة البنية لتحقيق تخارجها التاريخي الذي تكشف فيه هي عن مداخل الحل ومخارج الأزمة. ليس في وسعنا أن نحدد للبنية المأزومة مداخل ميكانيكية للحل، بل المطلوب هو الحراك الجماعي ومراكمة الفعل، كل من موقعه وكل بحسبه. فليست الأولويات وحساباتها هنا سوى ما يقتضيه الفعل والإنجاز التكتيكي على المدى القريب. فإذا كان الحل هو فعل يتحدد بحركة البنى باتجاه تخارجها التاريخي، فإن العملية الإصلاحية تصبح بهذا اللحاظ حصيلة فعل واعٍ ولا واعٍ.. اختيار وحتمية.. بنيوي وتاريخي.. لكن بما أن المطلوب هو رصد الأولويات وتحديد مجالات العمل على المدى القريب، فإن الأولوية هنا تتيحها خصوصية الظرف الاجتماعي والتاريخي الخاص، وأيضاً تفاعل الظرف الخاص المحلي مع الظرف الخاص الدولي. لعل عدم وجود موضوع لهذه الأولوية هو ما يجعل الأولوية هنا سرعان ما يجرفها الجدل القائم بين المجالات والقطاعات، وتأثير كل منها في البعض الآخر تأثيراً جدليًّا. فيصبح للإصلاح السياسي أثر في الإصلاح الديني، وللإصلاح الديني أثر في الإصلاح السياسي وهكذا دواليك. والمطلوب هو انطلاقة متوازية يتقدم بها هذا الجدل وتتقدم به، وهو أمر ممكن إذا ما تحدد الباراديغم النهضوي الذي يرعى نظريًّا وسلوكيًّا هذا الرهان. ولذا فلنقل إنها مستويات ومجالات في الإصلاح بدل القول إنها أولويات في الإصلاح. حيث كل فعل في أي قطاع هو برسم النهضة أولوي بما له من أثر أولوي ممكن على جماع الحراك البنيوي. فما هي إذن، مجالات الإصلاح الديني أو أولوياته الممكنة؟ إصلاح التفكير الديني والمنظور إلى الدين كظاهرة تطرح هنا إشكاليتان: الأولى تتصل بطبيعة المنظور الذي يتخلل نظرة أهل الدين إلى جملة الموضوعات الخارجية. وهنا تحل قضية فهم الدين ومناهج فهم الدين، وفلسفة الدين... والثانية تتعلق بالمنظور الذي يستند إليه الدارس للظاهرة الدينية، بوصفها ظاهرة اجتماعية أو ظاهرة في المجتمع. وتصحيح المنظورين معاً وارد في المقام. ونحب البدء بالثاني، نظراً لتنزله منزلة المقدمة الضرورية لإصلاح التفكير الديني بالمعنى الأول: - المنظور الخارجي للدين لا شك في أن موضوع الظاهرة الدينية هو من الخطورة والأهمية ما يقتضي استرسالاً شديداً في معالجته الكرة تلو الأخرى، وعدم الاكتفاء بأحكام القيمة. لا سيما بعد أن تبيَّن اضمحلال كل الأحكام التي نظرت إلى الفكر الديني كما لو كان في نزعه الأخير، أو على أهبة المغادرة بلا رجعة. فمنذ كانط ونقده الجذري للدليل الانطلوجي والمسألة الدينية في تراجع في الفكر الحديث إلى أن جاء نيتشه ليعلنها صراحا: لقد مات الإله! والحق أن نيتشه لم يفعل أكثر من أن عبر صراحة عن محتوى القانون الأخلاقي الكانطي في محاولته الفاشلة تلك، حيث أصبح موضوع الإله، موضوعاً للفهم والُمتخيَّل. وسوف يتطلب الأمر مرور ثلاثة قرون قبل أن يعلنها صراحة الفيلسوف اللاهوتي الجرماني سايفرت رائد الفينومينولوجيا الواقعية الجديدة؛ بأن إلهاً لا يعيش إلا في حدود الخيال، لهو حقًّا إله ميت! وكم كان يسيراً على فيلسوف علموي نظير رايشينباخ أن يتحدث بازدراء منقطع النظير عن بؤس التفكير الديني والغيبي، مبرزاً الدور الحاسم للعلم في مدلوله المادي. تأكيداً على وضعانية أوجيست كونت، ومفهوم الفكر الإيجابي الذي احتل المرحلة الأوج في قانون الحالات الثلاث، والذي يشكِّل قطيعة حاسمة لعصر العلم عن عصور الخرافة والميتافيزيقا. وبات الاعتقاد الديني أمراً غير ذي جدوى في اهتمام أنصار العلم. إذ في أوج تنازلهم وقفوا، فقالوا باختيار الإيمان، كما دل عليه «إرادة الاعتقاد» لوليام جيمس. لكن ثورة العلم نفسها حادت عن هذه النزعة التمامية لتجعل العلم ينزع نزعة توفيقية كبرى تجعل الإيمان والعلم جناحين تطير بهما حضارة الإنسان. لاسيما بعد أن تبيَّن أن الغيب داخل في صميم العملية العلمية، يتخللها ويعايشها على مستوى الفرضية والاحتمال. لكننا اليوم وبعد هذه الأحكام التي قزمت الظاهرة الدينية إلى أقصى الحدود رغم حضورها المحايث لحركة العقل، نشاهد انقلاباً واضحاً في المنظور. فالعالم بدا يحيا على إيقاع ما أسماه كيبل بانتقام الآلهة. لقد طفت الظاهرة الدينية على الواجهة وأصبحت محدداً للنمط الحضاري الراهن. لقد عاد الدين مرة أخرى إلى واجهة الأحداث! لكن ما معنى الظاهرة الدينية؟ وما معنى أن تكون الظاهرة الدينية ظاهرة اجتماعية؟ بل ما معنى الظاهرة الاجتماعية ابتداء؟ لا أحد يزعم أن ثمة حسماً حقيقيًّا في إطلاقات الباحثين في الظاهرة الدينية، لمفهوم الظاهرة. بل أكثر الاستعمالات لمفهوم الظاهرة يغلب عليه التسامح. إن دوركهيام يؤكد هذه المسألة تأكيداً، لا يقتصر على عموم الناس فقط كما قرَّر في قواعد المنهج في علم الاجتماع، بل تعدى بها إلى دائرة العلماء الاجتماعيين أنفسهم من أهل الاختصاص أيضاً كما قرر في «الانتحار». وعليه كان من إفرازات هذا التعميم للظاهرة الاجتماعية أن أصبح كل حادث إنساني هو ظاهرة اجتماعية. الأمر الذي لا يفي بالغرض. فالظاهرة الاجتماعية حسب عالم الاجتماع، هي كل سلوك أيًّا كان هذا السلوك ثابتاً أو غير ثابت يمارس قهراً خارجيًّا على الأفراد. على أن ثمة فصلاً بين الظاهرة الاجتماعية والوظيفة التي تؤديها. حيث ليس بالضرورة أن تكون الحاجة هي ما يسبب وجود الظاهرة، بل إنها تدين لها لأسباب أخرى. وهذا تؤكده بعض الظواهر التي تغيَّرت وظائفها ولكنها ظلَّت موجودة. وقد قدَّموا على ذلك أمثلة كثيرة. فوجود الظاهرة الاجتماعية شيء ووجود الوظائف التي تؤديها شيء آخر. وهذا المنظور لا شك في أنه يجعل المنظور الخارجاني للدين مطالباً بتحقيق النظر في وجود ووظيفة الظاهرة الدينية في المجتمع، وبيان الصلة بين الوجود والوظيفة، بياناً موضوعيًّا لا يرتب وجود الظاهرة الدينية دائماً على وجود وظائف تؤديها في الجملة. وحيث لا يمكننا الحديث عن الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية دخلت دور الجمود الذي يحولها إلى ظواهر فضلات -بتعبير دوركهايم- ما دام أن رجوع الظاهرة الدينية اليوم إلى واجهة الأحداث، يجعلها الظاهرة الحيوية الأقدم والأحدث من بين كل الظاهرات الاجتماعية. فهي ظاهرة اجتماعية وأيضاً ظاهرة في المجتمع، بشقيه: المجتمع المحلي المؤلف من الجماعة الإنسانية في مجال سوسيو - ثقافي وتاريخي وجغرافي محدد. والمجتمع الدولي الذي بات اشتغاله على المسألة الدينية وتحولها إلى باراديغم أساسي في تفسير الأحداث الدولية إلى جانب الكثير من الباراديغمات الأخرى السياسية والاقتصادية. إن الوظيفة التي يمكن للظاهرة الدينية تقديمها اليوم أو غداً هي مختلفة تماماً عنها في المجتمعات التقليدية. فالمجتمع يعيد باستمرار إنشاء علاقات معقدة مع الظاهرة الدينية لصالح وظائف كثيرة ومحتملة. وسيكون من الأجدر أن نعتبر الدين ظاهرة إنسانية، أشمل من كونها ظاهرة اجتماعية، لأنها تشكِّل حاجة إنسانية حتى في النطاق الفردي. بمعنى آخر، هي تخضع لمنطق قهر خارج الدينامية الاجتماعية، حيث يمكن أن ينبعث هذا القهر من الأنفس أو الآفاق. وقد كانت حكاية حي بن يقظان التي أبدع فيها ابن سينا وأعاد إخراجها ابن طفيل، مثالاً فلسفيًّا مهمًّا لتفسير هذا القهر الأنفسي لاستشعار الحاجة إلى الدين. وحتى لما حاول كانط أن يجعل الأخلاق بديلاً عن الدين، فإنه لم يفعل أكثر من محاولة التخفي بقناع في حفل تنكري سرعان ما سيكتشف المتنكران أن أحدهما زوج للآخر كما مثَّل بذلك شوبنهاور. إن الظاهرة الدينية تطرح من جهة أخرى إشكالية موضوعية، وإشكالية منهجية. فأما من ناحية الموضوع، فإن ما يقتضيه المنهج الظواهري هاهنا غير ممكن البتة. إذ كيف نحرز الموضوعية في دراسة ظاهرة تلف الذات والموضوع ولا تسمح بتجرد المنظور من شوائب الذاتي مهما خفي ذلك. بل هذا هو عين ما تطرحه الإسلاميات التطبيقية الأركونية لحل ازدواجية الدارس للظاهرة الدينية في استقالة عن الإيمان. كيف نكون دارسين خارج نطاق التأثير الذي يحتمه الإيمان. لكن مثل هذا الأمر يأخذ الظاهرة الدينية بوصفها موضوعاً أصم وجامداً ومستقلاً. وأيضاً بوصفها ظاهرة اجتماعية مدروسة خارج نطاق الحقائق المعرفية والجدل العلمي الذي يشكل أساساً للإيمان. فهل بإمكان الدارس للظاهرة الدينية فينومينولوجيًّا أن ينجح في التجرد الكامل برسم الاختزالية الظواهرية للوقوف أمام المعطى بذات عارية عن كل شيء. ومن يضمن تحقق ونجاح مثل هذا التجرد. كيف تكون مؤمناً ودارساً للظاهرة الدينية في آن، تلك هي المشكلة؟ هذا بالإضافة إلى الإشكالية المنهجية، حول إذا ما كان المطلوب وحدة منهجية لفهم الدين أم تعدد مناهجي لفهم الدين. وأعتقد أن المسألة هي أوسع من ذلك، ولم يعد هناك من شك في ضرورة الاستناد إلى تعدد المناهج في فهم الظاهرة الدينية.نظراً لتشعبها واستيعابها كل النشاط الإنساني وتجليها في كل مظاهره. إلا أن هذا التعدد تارة يكون أشتاتاً وبلا شرط أو منهجاً فوقيًّا يؤطر تداخل وتجادل المناهج، كما هو مطروح في الإسلاميات التطبيقية التي تؤكد هذا النوع من الحشوية المناهجية في دراسة الظاهرة الدينية دون البحث في الإشكال الإبستيمولوجي الذي قد تحدثه فوضى المناهج. وتارة يكون تعدداً بيتخصصيًّا كما يؤكد الباحث الإيراني د. قراملكي في مجال الدراسات الدينية. وكيف تتحقق هذه البيتخصصية هل بالتلفيق والاستدماج الواعي أم بعفوية الاستئناس اللاواعي بمختلف المناهج، ما يجعلها مكسباً عفويًّا مقصوراً على الآحاد، وتجود به العبقرية في حالات الاستثناء النادرة؟. وهل للدين الحق في أن يدخل في جدل مع المناهج الأخرى ويفرض منهجه الخاص باعتباره يملك رؤية ومنهجاً في فهم الدين أيضاً، أم مطلوب منه الصمت وعدم النطق حيث تتحدث عنه الآراء الأخرى بالوكالة وبكثير من التصرف؟! إصلاح التفكير الديني إن ما يبدو تنازلات من الفكر الديني وتخريجات فقهية، ليس سوى ضريبة ما أسميناه بحتمية التكييفانية الخلَّاقة[7][12]. وهو إشارة إلى الحيوية التي تتمتع بها الظاهرة الدينية، حيث تكشف بين قطيعة وأخرى عن مرونة عز أن يتمتع بها غيرها. ليس ثمة ما يؤكد وجود قطيعة في صميم الدين، بل كل ما هنالك قطائع مع فهم أو تفكير ديني ما. حتى العلم يولد ويموت ويصبح في حكم الخرافة، إلا الدين فإنه يتجدد ويتطور ويسجل حضوره الكبير في تاريخ البشر. وربما لأن الأسطورة والعلم أحياناً يقدمان حقائق صارمة ولا يتركان منطقة فراغ أو مساحات للإمكان والاحتمال كما يتيحه الفكر الديني، رغم ما قد يتشبث به المتدينون من آراء نهائية. وكما كان الإنسان ينشئ مع الأشياء ومع العلوم في كل أطوار التاريخ علاقة تتعدى بالمعنى إلى ما أسماه بيكون المعاني المبتذلة. وهذا -كما يؤكد دوركهايم- يشكل المرحلة الأولى لبناء العلوم. والدين ليس استثناء في ذلك. ففي كل الحقب يشكل الإنسان علاقة محكومة بالشروط الثقافية والاجتماعية والعلمية لمجاله، حيث لكل مجال تعبيره وفهمه للدين. فإذا عز أن تستقرئ هذا من التاريخ، أمكنك مشاهدته عياناً في اختلاف التعبيرات الثقافية والاجتماعية للدين، بين بلد وآخر. فالإسلام، تعبيراً وطقوساً ومظاهر، يختلف بين المجال الحضري والمجال القروي في البلد الواحد، كما يختلف من بلد لآخر: بين تركيا وزنجبار.. بين المغرب وأندونيسيا. .بين ألبانيا واليمن... وعليه فإننا نعتقد أن ما يهمنا من الإصلاح الديني، النظر في جملة التحديات الخاصة التي تواجه التفكير الديني بوصفها أسئلة حرجة. وليس حينئذ من الضروري أن نحاول الإجابة عن هذه الاسئلة كما اتفق، خارج ما يفرضه منطق الجواب الإسلامي القائم على مبدأ التكييفانية الخلَّاقة. وأعني بذلك أن تجيب أجوبة محددة عن أسئلة محددة. ولكن ضمن باراديغم يشكل الوجهة التاريخية للمجال الذي يتحرك فيه الجواب الديني. وهذا ما يتيحه مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري الذي سنعرضه باختصار في الآتي: - ننطلق من قاعدة ترى أن الأفكار لا قيمة لها إلا بما تحققه من كشوفات داخل النموذج المعرفي والحضاري لا خارجه. وأعني بذلك أن مدار استشكالاتنا ليس في أن يوجد التفكير، بل المسألة أين يقع التفكير. إنه سؤال المحل. لم يكن القدماء أقل تفكيراً من الحدثاء. وليست المسألة مسألة عبقرية بل كما قال أنشتاين قبيل وفاته: إنها مسألة فضول. فالأفكار لا قيمة لها مهما حلَّقت ما لم تنطلق وترسوا في نسق معتبر ممضى من قبل نموذج معرفي وحضاري يتمتع بالحيوية والراهنية وقوة الحضور. وماذا يفيدنا نقاش يستند إلى النسق القروسطوي مهما حلَّق في الفضاء ما لم يُجب عن أسئلة حقيقية يطرحها الواقع ويطلب لها جواباً في الواقع. فاستحضار القطائع على صعيد النموذج المعرفي والحضاري أمر بالغ الأهمية في استنطاق التعاليم التي يفترض فينا تحريرها من النسق المعرفي والحضاري المتجاوز. أي إخراجها من حال الأشياء إلى حال المعاني، لننشئ معها علاقة جديدة في ضوء ما يتيحه النموذج المعرفي والحضاري الحديث. وهذا ما يجعل قليلاً من القيم الدينية في تكييفانيتها الخلَّاقة مع النسق الحديث تثمر ما لا يمكن لقيم كثيرة تحقيقه خارج النسق. المشكلة أن المسلمين اليوم يستقوون بالحِجاج وقوة الحقائق المجردة وحيوية الأفكار، في حين أن الآخر يستقوي عليهم بصمود النسق وحداثته وديناميته. وقد يكون من باب الاقتصاد في عملية الإصلاح الديني، تحديد النموذج المعرفي والحضاري الناجع. وليس في وسعهم فعل ذلك إذا لم يحرروا التعاليم ويحولوها إلى هيولى قابلة للصور. وأيضاً ليس في وسعهم بلوغ النموذج المعرفي والحضاري الناجع إلا بتحقيق التكييفانية الخلَّاقة مع الموجود لا البحث في المثال المنفصل. أي من داخل شروط النموذج المذكور نبحث عن إمكانات جديدة لإعادة إنتاج -لا أقول النموذج نفسه- الذات نموذجيًّا. - التبني الحضاري والتجديد الجذري يتيح مسألتين فمن جهة التبني الحضاري، سنميز لا محالة بين ما هو مطلوب برسم التكليف الشخصي. أي بما يتحقق به معذرية الفرد ويتحصل به اطمئنانه الشخصي. ومثل هذا أمر موجود ولا يكلف أكثر من أن يتحقق اطمئنان المكلف بالحكم. فهو كافٍ لعامة الناس أفراداً وجماعات، غير مكلفة برسم المعذرية بأكثر من ذلك، حيث كما يقول أبو حامد الغزالي: إن الدين هنا كالماء الذي يشرب منه الكبير والصغير.. وكأدلة الدين التي شبهها في مقاصد الفلاسفة بالطعام الذي قد ينفع العالم ويضر العامي. إن هذا المقدار من تحقق المعذرية والمنجزية التكليفية للفرد، من شأنه أن يجعل المسلم مسلماً حتى لو كان متخلفاً. فالتخلف برسم التكليف اللامشروط بالتبني الحضاري ليس رافعاً لصحة الإسلام. كما أن تقدم الجماعة المسلمة حضاريًّا بلحاظ المفهوم التكليفي الشخصي ليس شرطاً في تلك الصحة. إن الدين يأمرنا بالطهارة الشرعية ويرشدنا -ودائماً يرشدنا لما يمكن أن يصبح أمراً واجبيًّا برسم التبني الحضاري- إلى النظافة ندباً، لكن دخول أعرابي مغموس الملبس في الطين وملطخ بالمرق إلى محفل حديث، يعتبر أمراً مقززاً ويعتبر صاحبه نجساً حتى ولو كان في نظر الشرع لا يعتبر نجساً، وكان الآخرون واقعون فيما هو نجس في عين الشرع. ما يعني أن شروط التخلف ليست في محض الامتثال -لا بشرط- للتعاليم. بل هي نتيجة امتثال مشروط. ومن هنا فالمطلوب هو التبني الحضاري الذي يجعل براءة الذمة برسم التكليف الشخصي لا تحقق براءة الذمة برسم التبني الحضاري. إن مشكلتنا ليست في وارد جعل المسلمين مسلمين جعلاً بسيطاً، بل هي في وارد جعل المسلمين متقدمين جعلاً مركباً. فالمطلب -برسم التبني الحضاري- ليس الحق في الوجود، بل المطلب هو السبق في الوجود. وأما التجديد الجذري، فهو مطروح بإلحاح في طريق إصلاح الفكر الديني. أي مطلوب منا أن ننتقل بأسئلتنا إلى قلب الأسئلة نفسها. فالأسئلة المغشوشة أو لنقل مقايسة على ما سبق من قول بيكون، بالأسئلة المبتذلة، هي العائق النظري في طريق عملية الإصلاح. وفي مقدمة الأسئلة التي أتينا عليها قبل قليل، سؤال: أين الخلل. وهو التعبير الآخر عن السؤال الأرسلاني: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ والبديل أن نسأل: نحن متخلفون علينا أن نتقدم. ويكون السؤال المتفرع عنه: أين الخلل في الفعل؟ فثمة بون شاسع بين الصيغتين: حينما نهيم في استقراء ضروب الخلل، نكون وصفيين كبومة هيغل المولعة آناء الليل بوصف ما جرى أطراف النهار. لكنها لا تستطيع على أي حال أن تدرك كيف حدث ذلك نهاراً. سؤال لا ينفع وهو بخلاف الاقتصاد في طلب الإصلاح. علينا أن نسأل عن الخلل الذي يشل الإرادة اليوم وعن الخلل في الفعل المطلوب لا بشرط: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}. فنحن متأخرون لا يهم كيف تأخرنا لأن ذلك لا يفيد شيئاً في استئناف مسيرة التقدم. حيث المطلوب: انهض وانطلق من شروطك الآنية ومن إمكاناتك المتاحة. فهذا يحقق الفعل الإيجابي، ويحقق التحرر من سلطة الانجراح والتخلف وآثاره. أي الطريق الأخصر لبلوغ المراد بعيداً عن هواجس الوعي الشقي. وكما الأمر يتعلق بطبيعة السؤال، يتعلق أيضاً بمفاهيم أخرى مطروحة بوصفها باراديغمات للإصلاح الديني وبوصفها حلولاً وشرائط للنهضة. ضربنا على ذلك مثالين، بمفهوم الوسطية ومفهوم الثابت والمتحول[8][13]. ذكرنا في محله أن مقتضى الوسطية جدل بين طرفين لا تموقع بيني بين طرفين. فالمطلوب في الوسطية التموقع الأكبر في الجهة التي هي مقتضى العمل. تصبح الوسطية نتيجة تفاعل وتجادل وتكامل طرفين لا نتيجة تموقع في التخوم. ومثل هذا المفهوم من شأنه التأثير في همة الفاعل في النهضة، إذ المطلوب منه تصعيداً في النباهة وتصعيداً في الهمة لا يتيحهما المنظور التلفيقي للوسطية. وأما ثنائية الثابت والمتحول التي دخلت في الاعتمال النظري لبعض الإصلاحيين المسلمين، فإنها بمدلولها الثنوي لا تقدم ولا تؤخر. بل من شأنها أن تشغلنا بالوصف والتمييز بين الثابت والمتحول في غياب ضامن يحول دون الخلط الفاحش بينهما، تحت تأثير اختيارات غير معرفية. والحال أننا ذكرنا، أن لا شيء ثابت ما لم يبلغ الكمال. فاقترحنا إذاك مفهوم «الثابت المتحول» مع رفع واو العطف. إيماناً منا بالحركة الجوهرية والتعدي بها إلى المجال الاجتماعي. فالشيء ثابت في نفس أمر ماهيته المنحفظة في هذه الحركة التكاملية التي تجعل «أ» هي «أ» لكنها في النتيجة هي «أ» أكثر كمالاً ونضوجاً واشتداداً، نظير النور في شدته وتضعّفه ونظير الوجود في تراتبيته و تشكّكه. ليس ثمة ثابت مقابل لمتحول، بل ثمة ثابت متحرك على نحو من الحركة الجوهرية. وسيتأكد عند تطبيق هذه المفاهيم الجديدة الكثير مما سنضطر إلى تجاوزه بسبب السجون النظرية التي فرضتها علينا هذه المفاهيم، فتأمل! الإصلاح السياسي يمثل مشروع أسلمة الحقل السياسي هدفاً أساسيًّا للحركة الإسلامية، أو ما يسميه البعض بالإسلام السياسي. ولم يكن في مقدور التيار العلماني أن يثني هذه الحركات عن قناعتها بضرورة أسلمة الدولة وتحكيم الشريعة. لم تكن أدلة التيار العلماني كافية لفرض قناعة فصل الدين عن الدولة. وقد يكون من الصعب أن يقال: إن ذلك ناجم عن إصرار أو عدم استيعاب لشروط قيام الدولة الحديثة القائمة على التعاقد الاجتماعي، مادام هناك من المثقفين المحسوبين على التيار العلماني والحداثي مَنْ تحدث عن صعوبة تطبيق العلمانية في العالم العربي والإسلامي[9][14]. بل هناك من تراءت له هذه الأخيرة دعوة غير معقولة، نظراً لخصوصية الإسلام نفسه الذي شهد قيام دولة مدنية تستمد مشروعيتها من الأمة. وقد كان مطلب تطبيق الشريعة ولا يزال ملحًّا في جدول أعمال الحركات الإسلامية، وحيث إن بعضاً منها استطاعت حيازة السلطة وبناء الدولة الإسلامية على أساس تطبيق الشريعة[10][15]. وقد فرض هذا الواقع الجديد للدولة الإسلامية الحديثة تحديات حقيقية، لتكييف التشريع مع مجمل القضايا المستحدثة في إدارة الدولة الحديثة، وهو ما جعل مطلب الشريعة يفرض واقعية جديدة خففت من مثالية وفجاجة شعار: الإسلام هو الحل أو الشريعة هي الحل. فرضت واقعية الدولة الإسلامية تحدي الأسئلة الحرجة، بعد أن وجدت نفسها في وجه ترسانة من المواثيق الدولية وأمام مآزق فرضت عليها مرونة كبيرة، فضلاً عن أن تحديات اجتماعية واقتصادية وإدارية وقانونية فرضت اجتهاداً مضاعفاً على المعنيين بالنظام السياسي الإسلامي. فلم يعد في الوارد أن ينتظر الناس من خيار الدولة الإسلامية المنشودة، مجرد سلطة دينية توفر للناس مناخاً لممارسة الشعائر الدينية وإقامة الحدود، بل أصبح المنتظر من دولة الشريعة أن تكون قادرة على تحقيق مطالب اجتماعية حقيقية. فقبل الحديث عن الشريعة ما هو البرنامج الاجتماعي الذي تتوافر عليه. ويحتاج التفكير الديني الجديد أن يصحح منظوره للشريعة نفسها باعتبارها أحكاماً تدور مدار موضوعاتها المتجددة. وأن دعاة الشريعة أنى لهم الإقناع بجدواها وهم لم يحققوا في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، ولم يجتهدوا في إخراج الصورة الأكثر جدارة بالحلول محل البدائل التي تقدمها الخيارات الحديثة. فلا زال الفقه الإسلامي على عظمة وقيمة هذا التراث العظيم لم يتخلص من آثار النمط الاجتماعي والاقتصادي القديم. ولا زالت المدونات الفقهية تدرج بيع العبيد ضمن باب بيع الحيوان من الأغنام والأبقار لوحدة المناط والاشتراك في القصود. ولا زلنا نقرأ عن فقه الجزية والتفنن في أخذها بإذلال الذميين بأعنف العنف من أصحابها بشد اللحية والصفع على الخد وما شابه إمعاناً في الصغار. ولا زلنا نتحدث عن المقادير والأوزان الشرعية أشبه ما تكون بقطع أثرية، كالدرهم البغلي والأوساق والأرطال وما شابه. ولا زلنا نتحدث عن مكاسب محرمة لم تثبت ماليتها بالأمس في حين ماليتها بارزة اليوم بل تشكِّل عصب النظام الاقتصادي. ولا زلنا نتحدث عن فساد بيع الإكراه دون فحص وتحليل يميزه عن عقود الإذعان التي يقوم عليها النظام الاقتصادي اليوم، والتي لا تزال مهملة في أبحاث البيع والمتاجر من فقهنا التقليدي، وقس على ذلك باقي المعاملات. فهل سنبارز العالم بشريعة لم يطور أهلها النظر فيها ولم تفهرس حتى اليوم على نمط المدونات القانونية المعاصرة. بل لا زال الكثير من المسلمين يشككون في جدوى الاجتهاد، ومع ذلك يعتبرون الشريعة قد أجابت عن كل شيء. فبقدر ما نقترب من الواقع الاجتماعي وما يطرحه من أسئلة حرجة على الشريعة، ندرك خطورة التساهل في رفع شعار: تطبيق الشريعة كحل سحري لمجرد أن تحكم. فالشريعة ليست هي المسؤولة عن تقدم المجتمع، بل هي ذات وظيفة تكييفانية، أي ذات وظيفة سلبية، تعكس تقدم المجتمع وأنماطه الاجتماعية والاقتصادية. فهي تتطور بتطور موضوعاتها ومتعلقاتها وبتطور المكلفين بأحكامها. من هنا تطرح قضية فتح باب الاجتهاد، وتحرير عملية الاستنباط من أنماطها القديمة وفتحها على الموضوعات المطروحة بإلحاح على الاقتصاد والتجارة والإدارة والقانون الجنائي الحديث. تجديد في اللغة وفي المقاصد وفي آليات الاستنباط نفسها. بل الضرورة قاضية بإعادة بناء تصور إسلامي لمفهوم الشريعة ومقاصدها، ومفهوم الحاكمية وفلسفتها، مفهوم الشورى وعلاقتها بالديموقراطية، ومفهوم الأسلمة وحيثياتها وشروطها وإمكاناتها. أي باختصار إعادة النظر في الفكر السياسي الإسلامي، وإعادة إنتاجه وتكييفه مع متطلبات الاجتماع الحديث. --------------------------------------------- [6][1] سؤال بالجملة مفاده الموجبة الكلية، وسؤال في الجملة مفاده الموجبة الجزئية. [7][2] حصل هذا التحول الدراماتيكي بعد أن فشل هذا القيادي في مشروعه السياسي. وليس الفشل السياسي مشكلة إذا ما أردفت بحركة تصحيحية مباشرة وجلية، ومراجعة للحصيلة الحركية التي فسدت فيها بيوت وتركت وراءها جراحات وثقوب في الفكر والنفس. فالسائل يسأل هنا بموجب التبني الحضاري فيما القيادي يجيب بموجب التكليف الديني الشخصي. نفهم من ذلك أننا بالإمكان تعبئة طليعة متدينة برسم التبني الحضاري، لكن بإمكاننا أن نتنكر لسؤال التبني الحضاري والهروب منه بواسطة السؤال التكليفي الشخصي، والتحلل بموجب المعذرية والمنجزية في حدها الأدنى. [8][3] الكلمتان للإمام علي بن أبي طالب، غرر الحكم، ص55، حكمة 500، ص49، حكمة 315. [9][4] أصول الكافي للكليني، كتاب العقل والجهل، ص 64، ج 1، دار احياء التراث، ط 1، بيروت 2000م. [10][5] لمزيد من التفصيل، انظر: إدريس هاني، العرب والغرب، أي علاقة؟ أية رهان؟، دار الاتحاد، بيروت - 1998م. [11][6] هذا الموقف هو من إرث الفكر الإخواني نتيجة التوتر الذي حكم علاقة الإخوان بالنظام الناصري. وقد حملت الأدبيات الإخوانية هذا الموقف السلبي من التجربة الناصرية وأحياناً كثيرة عملت على تديين الموقف. ومادام أن تجربة الإخوان المسلمين كانت اللحظة المؤسسة للحركة الإسلامية في طورها المعاصر، ولا يزال تأثيرها في اللاوعي التربوي والسياسي والثقافي لكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة، فإن آثار هذا الموقف لا زالت حاضرة. لا يحجب ذلك أن موقف إسلاميين آخرين، أغلبهم شخوص وليسوا حركات لم يتبنوا الموقف المذكور -مثال الشعراوي والباقوري من مصر- وآخرون تجاوزوا الموقف مع مرور الزمن. [12][7] هذه الحتمية يفرضها الدين نفسه من حيث طبيعته المرنة وإمكانية التأويل، كما يفرضها كونه مفتوحاً على إكراهات الزمان والمكان. فالجمود اختيار يتحمله الدين كما أن التقدم اختيار يتحمله الدين. والمتغير هو الحامل الديني، أفراداً وجماعات. فإذا تغير العالم -بكسر اللام- تغير العالم -بفتحها-، وإذن تغير التفكير الديني. [13][8] لمزيد من الاطلاع انظر: إدريس هاني، مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري: الفكر الإسلامي المعاصر والأسئلة الحرجة، منشورات أوميغا للتواصل والنشر، الرباط - المغرب. [14][9] يلاحظ ذلك في موقف الجابري السلبي من فكرة العلمانية انطلاقاً من خصوصية الدين الإسلامي نفسه واختلافه عن المسيحية في طبيعة موقفه وتصوره للاجتماع والسياسة. فيما ينتقد أركون شكلاً متطرفاً من العلمانية لا سيما الفرنسية في موقف النظام التربوي المطلق من الدين، حتى لو تعلق الأمر بدراسة الأديان من منطلق علمي وظواهري. بعضهم يرفض الفكر العلماني في صيغته الغربية ويلحقه بكل أشكال العدوى الفكرية التي مآلها رهن المحلي للهيمنة الخارجية وتمكين الغرب من تدجين المحلي ومحو ثقافته، كما يذهب غريغوار مرشو. [15][10] يكفي أن نضع نصب أعيننا اختلاف النماذج الإسلامية المطبقة: السعودية، إيران، طالبان، السودان... لنقف على حقيقة أن في التفاصيل نقع على علاقة الإرث الحضاري والثقافي لكل بلد وانعكاسه على طبيعة تمثل الشريعة. وحتماً سنكون مغالطين إذا لم نقرأ الفوارق الجوهرية بين تجربة وأخرى. فالنموذج السعودي يختلف عن السوداني وكلاهما يختلفان عن الإيراني والكل يختلف عن النموذج الطالباني المتشدد. نستطيع أن نقرأ خارج تأثير المنظورات النمطية السياسية والأيديولوجية درجة القرب أو البعد عن قيم التقدم والانفتاح والإصلاح والثقافة بين النماذج المذكورة. [email protected] mailto:[email protected]