في عملية الإصلاح الديني في المغرب مدخل سوف يكون قبولي بعنوان الإصلاح الديني، من باب التسامح والمسايرة لعنوان ساد وعَمَّ في التداول العام حتى رسخ رسوخاً ما عاد ينفع معه سوى تصعيد التحليل إلى الحد الذي يغدو فيه العنوان إياه عديم المعنى. ذلك لأن واحدة من أهم الإيحاءات التي تثقل العنوان، أن ثمة جدلاً مشروخاً بين الدين وحامله، حيث ثمة فعل الحامل من جهة واحدة كما لو كان في حالة انعتاق من دين وجد لا لكي يؤدي وظيفة اجتماعية ما، بل كأنما هو قدر البشر، حيث يجب على الناس أن يتحلوا بالجهوزية الكاملة لمواجهة انتقام الآلهة من العمران البشري. مثل هذا الإيحاء المؤسطر للدين، يخفي أن ما تؤول إليه الأديان في لحظات تاريخية ما، هو منتج لعلاقة تفاعل بين الدين وحامله الجماعي، أي حصيلة خبرة دينية جماعية تفتقد في آنات الزمان التاريخي السيال جدواها مع كل انعطافة جديدة من تطور الإنسان. ومع ذلك لا أحد يملك أن ينفي هذا الحضور المكثف للدين، وبأشكال جلية وخفية تكاد تجعل حتى العلماني وهو يفكر في علمانيته مهما قست وشطَّت، يفعل ذلك وفق مقايسات دينية، كما لو كان في حفلة تنكرية، سيكتشف فيها الراقصون المتنكرون بأن ما كانوا يظنون أنهن خليلات، هن زوجاتهم متنكرات كما وصف شبنهاور محاولة كَانْت في القانون الأخلاقي. ثمة بلا شك طبقات في الوعي تفرض أن تخضع القراءة إلى ضرب من التراتبية، حيث للتحليل طبقات متفاوتة. وهكذا حينما نتحدث عن الدين في طبقة تحليلية أعمق، نجده الظاهرة الأعقد في الاجتماع الإنساني. فهو الظاهرة الأولى والأخيرة في حياة الإنسان. أمام تعقد الظاهرة الدينية وضرورتها سينفضح لا محالة أي تعاطٍ مسطح معها، إذ يفترض في أي قراءة للمسألة الدينية أن تكون أعمق قراءة على الإطلاق. ومن هنا أهمية الإسلاميات التطبيقية الأركونية، لولا سقوطها أيضاً في مأزق التحشيد المناهجي والاستهانة بخطر ترحيل المفاهيم دون تأهيلها وتحقيق اندماجها وفق خطة إبستمولوجية من أجل إعادة توليد المفاهيم ذاتها وفق شروط باراديغمية منسجمة مع الحقول المستقبلة لتلك المفاهيم وهي مهمة شاقة وتاريخية ولم تتحقق إلا في مظاهر لا تجبر كسر فوضى التحشيد المناهجي وفوضى انتقال المفاهيم وإيحاءاتها[1]. من هنا كان كل ما رأيناه من آراء في الإصلاح الديني كما تعكسه الاحتجاجات والصحف، لا يزال يتعاطى مع الظاهرة الدينية في مداها الشخصي والمتعلق بالقناعات والميول الشخصية، بوصفها مشكلة إيديولوجية. على هذا الأساس يمكننا القول بأن لا الديموقراطية ولا العلمانية ولا غيرها من العناوين تستطيع في أي وقت من الأوقات أن تحاصر زحف الظاهرة الدينية وكثافة حضورها -ولو مخاتلة-، في الفعل الاجتماعي بمدياته المختلفة. ولسنا ندري ماذا كان سيحل بالولايات المتحدةالأمريكية لولا وجود العامل الديني كثيف الحضور في المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي[2]. بل ماذا كان حال دول الاتحاد السوفياتي بعد سقوطه، لو أن الدين لم يكن حاضراً ومقاوماً من أجل استمراره، كي يستعيد دوره ووظيفته الاجتماعية، لتأمين الحد الأدنى من الاطمئنان والاستقرار والاستمرارية لمجتمعاته في ظروف مزرية. لقد أعقب حدث انهيار الاتحاد السوفياتي خلخلة في النسق السياسي والهيكل الاقتصادي، ما كان مؤشراً على انهيارات اقتصادية وإنسانية كان من الممكن أن تحوِّل الجمهوريات الفقيرة إلى مجالات منكوبة. مثل هذا أو قريب منه حصل بصورة من الصور، لكن ثمة عامل آخر ظل ناظماً لوحدة هذه المجتمعات اجتماعيًّا وثقافيًّا وإنسانيًّا، في الأمن والتضامن والتكافل، لعب فيه الدين وظيفة أساسية في إعادة هيكلة الدولة والاجتماع في دول الاتحاد السوفياتي المنهار. لقد استطاعت حركة الإصلاح الديني في أوروبا أن تخرج الدين من الباب، لكنه عاد من النافذة بأشكال تعبيرية لا تقاوم. هذا الرجوع الكبير للسؤال الديني في المشهد المحلي والدولي، لا يتجلى فقط في مداه السياسي والثقافي حتى نستطيع القول على حد تعبير جيل كيبل بأننا أمام حالة من «انتقام الآلهة». بل إنها العودة التي غيَّرت كل الحسابات الخاطئة لأولئك المهونين من الظاهرة الدينية وقدرتها على الوجود والاستمرار، وبوصفها الاحتياطي الرمزي الذي تعود إليه المجتمعات في الظروف الحرجة. كتلك التي جعلت دوبريه في النار المقدسة، يتحدث بغرائبية عن هذا الحضور المثير والإيجابي أيضاً، وإن كان من الناحية الشخصية يرى نفسه خارج دائرة الالتزام الديني. إن المسألة هي أعقد من كونها حالة اعتقاد فرداني، بل هي ظاهرة اجتماعية! على هذا الأساس لم يكن الدين في حد ذاته ليمثل مشكلة للمجتمعات، بقدر ما أن الموضوع يتصل بجملة الأفهام والأفكار التي تنتجها جماعة ما حول الدين والعالم. فما كان اليوم مشكلة في نظر المجتمع، كان بالأمس حلًّا جوهريًّا لمشكلات اجتماعية مضت. ومدار الصراع اليوم حول سلطة هذه الأفهام وجدوى بعض التعبيرات التي تقارع منطق التجدد، لتكريس خلودها العبثي. هذا في حين أن لا خلود للأفهام الدينية، لا سيما تلك التي لها جنبة ملاحظة الواقع وشروطه الاجتماعية والتاريخية. فتكون المهمة قاضية بإصلاح الفكر أو التفكير الديني. وهذا يتوقف على ضرورة إعادة فصل التعاليم عن الباراديغم المهيمن في لحظة ما حرجة من تاريخ الجماعة الدينية عن سلطة الأفهام التاريخية، لأجل إعادة بناء علاقة متجددة مع هذه التعاليم وفق باراديغم معاصر يكسب التعاليم معنى حضورها الحيوي، كظاهرة تملك حقيقتها الثابتة، لكن ضمن مسار تكامل الحقيقة في شروطها التاريخية، كما تملك مبرر حضورها كوظيفة اجتماعية، يجب أن تحافظ على جدوى وجودها والحاجة إلى ذلك الوجود. وحتى لا تصبح نوعاً من الظواهر غير النافعة أو ما يسميه بعض الاجتماعيين مقايسة على الظاهرة العضوية الحية، بالفضلات. وهي الظواهر الاجتماعية التي توجد دون أن تكون لها وظيفة؛ إما لأنها وجدت كظاهرة اجتماعية لا لكي تؤدي وظيفة ما رأساً أو لأنها فقدت جدواها ووظيفتها مع مرور الزمان، لكنها استمرت كظاهرة بقوة الحضور ورسوخ العوائد. ونظراً لخطورة الظاهرة الدينية خصوصاً والظاهرة الاجتماعية عموماً، ونظراً لأن مفهوم الظاهرة يؤثر من الناحية المفهومية في تحليلاتنا، لا بد أن نؤكد على بعض المقدمات الأساسية في استيعاب مفهوم الظاهرة الاجتماعية وبعض الجوانب المتعلقة بموضوعنا. حيث استحضارها يصبح ضرورة تحليلية: 1 علينا أن ندرك أن مفهوم الظاهرة الاجتماعية أسيء استعماله إلى حد الابتذال والتمييع، حتى غدا يطلق على كل حدث اجتماعي. مثل هذه الملاحظة أشار إليها دوركهايم، حيث دان بها في قواعد المنهج عموم الناس، لكنه في الانتحار دان بها حتى علماء الاجتماع أنفسهم في استعمالاتهم لمفهوم الظاهرة، التي يغلب عليها التسامح. 2 ميزة الظواهر الاجتماعية أنها تمارس قهراً أجنبيًّا على ضمائر الأفراد. 3 ليست الظواهر الاجتماعية وليدة للضمائر الفردية، فهي تمارس قهرها الخارجي على الفرد، وهذا ما يضع حدًّا فاصلاً بين النفس والاجتماع. 4 لا يعني عمومية الظاهرة الاجتماعية أنها مشتركة بين جميع الأفراد استغراقاً. ولكن حضورها في كل أجزاء الكل، ليس بالمعنى الآريثماتيكي، حيث وجودها في الكل هو محصلة وجودها في كل الأجزاء، بل إنها متغلغلة في كل الأجزاء لأنها توجد في المركب الكلي الناشئ عن كيفية ما في اتحاد هذه الأجزاء. 5 ليست الوظيفة التي تؤديها الظاهرة الاجتماعية هي سبب وجودها، بل قد تكون هناك أسباب أخرى تساهم في وجودها وأيضاً بقائها، وهذا ما يفسر استمرار بقاء بعض الظواهر حتى مع تغير وظائفها. وهذا أيضاً يعزز فكرة استقلال العضو عن الوظيفة في علم الأحياء كعلم الاجتماع.. فتعدم بذلك فكرة السببية بمدلولها الخطي واللزومي في مجال دراسة الظواهر الاجتماعية، ما يجعلها أحياناً شديدة التعقيد. هذه مجرد مقدمات استفدناها من دوركهايم، وهي تفيد كثيراً في تحليل الظاهرة الدينية، بوصفها ظاهرة دينية، تنطبق عليها المقدمات السابقة[3]. فهي ظاهرة اجتماعية من حيث قدرتها على ممارسة نوع من القهر الخارجي على الضمائر. وهو القهر الذي يجعلها ظاهرة متولدة خارج هذه الضمائر. هذا يؤكد على بعد خارجانية الظاهرة الدينية، وبأنها أبعد مدى من أن تكون ظاهرة نفسية محض. ما يؤكد على حقيقتها المستقلة في نفس الأمر. كذلك فإن كونها ظاهرة اجتماعية عامة لا يعني أن كل الأفراد يدينون بها على قدر سواء. إنها عامة لأنها مرتبطة بالمركب الكلي. فتغلغلها في حياة الأفراد هو بسبب وجودها في هذا المركب الكلي وليس العكس بالضرورة. كذلك، فإن الظاهرة الدينية ليست مرتبطة بوظيفة اجتماعية محددة حتى نستطيع الحديث عن عدم جدواها وعدم جدوى بقائها. إن التغيرات التي تطرأ على الوظيفة الاجتماعية للظاهرة الدينية لا يحدد مصيرها في الوجود. بل من الممكن أن تتغير الوظائف وربما تنشأ وظائف جديدة أخرى، حيث الظاهرة الدينية وفق ما سبق مفصولة عن وظيفتها ومفصولة عن أسبابها الاجتماعية الأولى. المقدمات السابقة تؤكد على تعقد الظاهرة الدينية وتشعبها وكثافة حضورها واستحالة التنبؤ بزوالها، بل إنها أقدم الظواهر الاجتماعية وآخرها. وهذا كافٍ ليجعل الدارس لهذه الظاهرة يدرك حجم حضورها وأهميتها وقدرتها على تجديد وظائفها، ولذا كان الدين وسيكون. غير أن المطلوب هو كيف نصوغ علاقتنا مع الدين؟! المفكر فيه واللامفكر فيه في عملية الإصلاح الديني في المغرب ليس سؤال الإصلاح الديني أمراً جديداً على المغرب، فلقد عرف هذا الأخير عبر تاريخه نماذج إصلاحية، ما كاد يخلو منها زمان من أزمنة المغرب الوسيط والحديث والمعاصر. سؤال أيضاً لم يعدم أهميةً ولا عمقاً عن كل الأسئلة التي طرحت بالتناسب مع المرحلة، في بلدان المشرق العربي والإسلامي. ويكاد يكون التراث الفكري والسياسي المغربي، تراثاً مسكوناً منذ قرون خلت بهاجس الإصلاح والتغيير. مثل هذه الخصائص تبدو جلية على مجمل هذا التراث. فالرشدية هي مشروع فلسفي يحمل طموح الإصلاح الديني من خلال التركيز على سؤال العلاقة بين الشريعة والحكمة وردوده على الغزالي في موقفه السلبي من الفلسفة وهجائه الفلاسفة وأيضاً من خلال الفكر السياسي الرشدي وموقفه من المرأة. وأيضاً ابن خلدون من خلال آرائه التجديدية وإن احتفظت بمواقفها الرجعية على صعيد الإصلاح الديني. وكذلك الشاطبي من خلال تطويره للفكر المقاصدي في محاولة لإصلاح أصول الاستنباط والاجتهاد الشرعي... في العصر الحديث برزت محاولات على قدر كبير من الأهمية، ويمكننا هنا الحديث عن مرحلة الحماية وما بُعيدها، حيث نشطت حركة إصلاحية أثارت من أسئلة التحديث والإصلاح في الشأن الديني وعموم الشأن الاجتماعي المغربي ما لا يقل أهمية عما طرح مع رواد النهضة والإصلاح في مصر والشام. لقد عرف المغرب نماذج إصلاحية وأعلاماً إصلاحيين أمثال ابن المواز والحجوي الثعالبي وأضرابهما ممن تصدوا لعملية الإصلاح والتجديد. ويظل السؤال المطروح بإلحاح: لماذا لم ينتشر خبر هذه الحركة الإصلاحية في بلاد المشرق التي احتفلت أيما احتفال بنماذج تكاد تكون محصورة ومنمطة كما لو أن ما عدا المجال المشرقي وتحديداً المصري وبلاد الشام لم تشهد المغارب نظير تلك الحركة؟ ثمة جواب أبعد من أن مصر والشام تعرضتا لصدمة الحداثة في زمن أبكر. وهو بالتأكيد أبعد من أن يكون التفسير الوحيد لذلك العامل الخارجي ممثلاً بالاستعمار الفرنسي المبكر لمصر. هناك الخاصية التاريخية للمغرب، كونه ظل دائماً تابعاً بشكل من الأشكال للمشرق العربي. لم يكن المغرب في الجملة فاعلاً أساسيًّا في المشرق العربي، بل كان كغيره من البلاد الاسلامية البعيدة عن المراكز الكبرى كبغداد ودمشق والقاهرة، منفعلاً ومتفاعلاً إلى حدٍّ كبير مع التيارات الفكرية التي استوطنت هذه المراكز. فكان أكثر المصلحين وأهل العلم يتجهون مشرقاً لينهلوا من العلم والأفكار. والرحلة إلى المشرق كانت ديدنهم. حتى ابن عربي الذي مثَّل قمة من قمم الفكر الإسلامي، لم يكن ليستغني عن هذه الرحلة. لقد شكلت الأندلس استثناءً غربياً في العالم الإسلامي. وهي مع ذلك ثمرة هذا التفاعل مع الموروث المشرقي -وتحديداً الشامي منه- الذي حلَّ سياسيًّا وثقافيًّا في الأندلس. ولو كان لابد من الحديث عن النبوغ المغربي على طريقة المرحوم عبد الله كنون، فلا يسعنا إلا أن نقول بأن خاصية هذا النبوغ أنه تفاعلي وانفعالي قوامه إعادة الإبداع في شروط أكثر نضجاً وحيوية. فليس ابن طفيل إلَّا صورة أخرى متطورة عن ابن سينا، وليس ابن حزم سوى صورة متطورة عن داوود الظاهري، وليس ابن رشد سوى صورة متطورة عن المشائية كما قدمها الفارابي وابن سينا المشرقيان. وليس ابن خلدون سوى ثمرة لكل هذا التراث الإسلامي المشرقي في صورته التركيبية المتقدمة. ولا أتفق هنا مع ما ذهب إليه د. محمود إسماعيل بأن ابن خلدون كان مجرد ناقل وصاحب سرقات. إن الرجوع إلى تلك المصادر المزعومة كرسائل إخوان الصفا أو غيرها من صنوف التراث لا يكفي للنيل من الجدة التركيبية -وحيث إن الجزء الأهم من الفكر هو تركيبي- عن فلسفة العمران بشامتها الخلدونية. أعتقد أن ابن خلدون في ممارسة التأريخ -وليس في التنظير للكتابة التاريخية- وكذا في كثير من مواقفه الكلامية والسياسية كان رجعيًّا. والرجعية هنا لها مدلول سياسي وإيديولوجي لا يحجب الذكاء الوقاد والقوة الفكرية التي تمتع بها هذا الأخير[4]. أما في العصر الحديث فلقد سقط بعض من هؤلاء الإصلاحيين في اختيارات سياسية خاطئة. كالموقف من الحماية وبعض المواقف غير الوطنية، ومثل هذا كان كفيلاً بتهميشهم وعدم الاحتفال بأفكارهم، إذ لا مشروع يعلو يومها على العمل الوطني والاستقلال. وبالتأكيد لم يكن هؤلاء يملكون تصوراً مستقبليًّا بالمعنى الذي يروج اليوم حتى نقول إن اختيارات بعضهم غير الوطنية كانت تؤشر إلى نظرة استباقية. نتحدث هنا عن موقف الحجوي وابن المواز و الكتاني من الحماية. بل إن بعضهم اتهم بالتآمر على الملك الراحل محمد الخامس وساهم في التآمر في سياق نفيه إلى مدغشقر من قبل الاحتلال الفرنسي. وحيث البعض حاول أن يبرر هذه المواقف من خلال أن بعضاً من هؤلاء المتورطين في التعامل مع سلطات الحماية ضد الملك، كان يملك رؤية مستقبلية لحماية البلد، فإن مثل هذا الرأي هو اجتهاد ظني، لا سيما في تلك الحقبة الاستعمارية بالذات، حيث الإجماع على المقاومة، ومصلحة الوطن فوق الحزازات الشخصية والعوائلية كما لا يخفى. هذا بالنسبة إلى الشيخ الكتاني، أما بالنسبة إلى كل من الحجوي وابن المواز، فلقد كانت لهما آراء في الإصلاح الديني على قدر كبير من الأهمية. هذا بخلاف حركة الإصلاح والنهضة بالمشرق كما قادها الأفغاني ومن بعده عبده كانوا في طليعة العمل الوطني. لكن هذا لا ينفي أهمية ما كان قد قدمه هؤلاء الأعلام من آراء في الإصلاح الديني والتعليم والفكر السياسي والمرأة. وإذا ما استثنينا بعض الآراء لابن المواز التي يشير فيها للسلطان بأن يكف عن بناء الطرقات للفصل بين الأرياف والمدن درءاً للسيبة، فإننا نجد نصوصاً أخرى لهذا الأخير يشيد فيها بالمكننة والتحديث تفوق انطباع رفاعة الطهطاوي بروائع التحديث. يتحدث ابن المواز المغربي صاحب كتاب «حجة المنذرين على تنطع المنكرين - مخطوط في الخزانة العامة بالرباط - عن أهمية دخول الآلة في الحياة الاجتماعية: «ومن الحوادث المشكورة في المدينة تيسير طحن الأقوات في المكينة لأن مصيبة الرحويين أشابت الغربان وتناقلت أناشيدها الركبان، فلذلك رفع الله كيدهم بالمكينة وجعلت لهم عقوبة مهينة فهم أكثر الخائنين غشًّا». بناءً عليه، يتعين القول بأن سؤال الإصلاح ليس جديداً على المجال المغربي. هذا ناهيك عن الأدوار التي قامت بها الدول المتعاقبة في المغرب على صعيد الإصلاح، وليس غريباً أن ينتج المغرب من ملوكه مفكرين وأهل اجتهاد أمثال المهدي بن تومرت، صاحب آراء مهمة في الفقهين الأكبر والأصغر. وفي العصر الحديث ومع التحولات الكبرى التي اجتاحت بلداً يقيم على تخوم أوروبا ويشاركها الكثير من الرهانات، كان التحدي كبيراً، لا سيما بعد الاستقلال. لقد استطاع المغرب أن يبني له دولته الحديثة على طريقته ووفق مقومات وخصوصيات، كادت تجعل منه نموذجاً فريداً في العالم الإسلامي. لكن الأوضاع السياسية التي أعقبت الاستقلال حتى راهننا، كان لها الأثر الكبير على عملية الإصلاح عموماً، بوصفها مرحلة موسومة بالصراع السياسي حول السلطة، كان قد أفقد المغرب الكثير من الفرص للتطور؛ حيث باتت الأسئلة المطروحة اليوم بإلحاح، ليست سوى تلك الأسئلة نفسها التي كان يجب أو على الأقل يمكن طرحها في تلك الحقبة. من يحدد المفكر فيه واللامفكر فيه؟ بين المفكر فيه واللامفكر فيه يثوي سؤال الإمكان. ومن سؤال الإمكان ينطلق سؤال الإصلاح الديني بوصفه حاجة ملحة وغير ممتنعة في ذاتها إلا امتناعاً عرضيًّا طارئاً بفعل السلط. وليس هناك بالتأكيد سلطة واحدة هي المسؤولة عن هامشية اللامفكر فيه في الإصلاح الديني. بل هناك تداخل وتركب سلط مختلفة، سوف نتعرف عليها في محلها من هذه الورقة. الجدل الموضوعي لهذه السلط هو من يحدد الأحياز الممكنة وغير الممكنة للتفكير. كأن المفكر فيه هو نفسه غدا موضوعاً للتوافق. وآية ذلك أننا في المغرب لا زلنا نفكر بالعمومات. فالتفصيل وتحقيق ما كان بالجملة عبر تحليل ما في الجملة، لا يزال في حيز اللامفكر فيه. يحصل أحياناً ضرب من التواطؤ بين هذه السلط لتكريس أحياز معينة من اللامفكر فيه. يحتاج الإصلاح الديني إلى مناورات في التفكير، وسير بحذر شديد فوق حقول ألغام، وأحياناً لا ندري متى يجب أن نفكر ومتى يجب ألَّا نفكر! هل المفكر فيه كله مرفوض واللامفكر فيه كله مطلوب؟ المفكر فيه اليوم هو أوسع مما في يد الفواعل الأساسية للإصلاح الديني في المغرب. وهو بلا شك أوسع مما تمت أجرأته أو يجري بحثه في إطار المسلسل التوافقي، والذي استطاع بالكاد أن ينتزع مشروع قانون الأسرة. ولا أحد يشك في القيمة التاريخية لهذا التطور، ولا في كونه يشكل خطوة من شأنها أن تستتبع خطوات أخرى في موضوعات شتى لا يزال بعضها عالقاً حتى اليوم. ففي جملة ما يواجه فواعل الإصلاح الديني في المغرب، جدل بين المفكر فيه واللامفكر فيه. فهناك أجندات مختلفة وأسئلة متنوعة يجود بها المشهد وتقودها أطراف وحساسيات وطنية. والواقع أن من بين المعروض المفكر فيه ما لا جدوى منه، وأحياناً فيه من التعتيم على المطلب الحقيقي والجذري للإصلاح. منها على سبيل المثال ما كفانا التطور الاجتماعي والثقافي، وجملة الإكراهات الاقتصادية على تجاوزه بغض النظر عن مدى مشروعيته، كمسألة تعدد الزوجات، حيث ثمة من القضايا الأكثر إلحاحاً في واقع تعاني فيه المرأة الكثير من صور الحيف واللامساواة في الحقوق، غير مسألة التعدد التي تكاد تنعدم في الواقع ولا تشكل نسبة معتبرة. وكان أحرى ألَّا ينسينا الدخول في نفق مناقشة قضية لا موضوع لها، تناول القضايا الأساسية والتي هي محل اتفاق كل القوى والأطراف المعنية بتطوير ملف المرأة. كما أن في اللامفكر فيه من التساؤلات ما لا فائدة منه، سوى التشويش على حركة الإصلاح، حيث هي حركة بطيئة لكنها هادفة وفاعلة. فالإصلاح الديني لا يأتي بغتة وبفعل ثورات عارمة، بل هو فعل بطيء ومتأنٍ كما لا يخفى. من هنا كانت الضرورة قاضية بنوع من الاقتصاد في التفكير. الاقتصاد في المفكر فيه واللامفكر فيه. وليس لذلك من طريق سوى انتزاع أجندة الإصلاح من الحسابات السياسوية، وبرفع إيقاع الجدل بين الفواعل إلى أقصاه. الفواعل الثلاثة في الإصلاح الديني بالمغرب ثمة فواعل ثلاثة في عملية الإصلاح الديني في المغرب. وهي بناءً عليه، تشكل معالم مشاريع تحمل أجندات مختلفة متمحورة حول نسق من المصالح والرهانات، تتوافق حيناً وتتصادم أحياناً. وليس المغرب استثناء في ثلاثية الفواعل التي سيأتي ذكرها، بل هي عامة في العالم الإسلامي، وليس للمغرب سوى ما يختص به مجاله وما يميز حضور هذه الفواعل وكيفية اشتغالها في المجال. وهذه الفواعل تشكل في المحصلة النهائية مشهداً لإسلامات أو مشاريع إسلامية ليس بينها من مشترك سوى الإسلام في عموماته. لكن الإسلام من حيث وظيفته الاجتماعية والسياسية والثقافية، فهي تمثل عوالم مختلفة. وهذا التقسيم ليس كلاميًّا أو عقديًّا بل هو تقسيم وظيفي اجتماعي. ليس التمييز هنا بالمعنى الذي يفيده الخلاف الكلامي، كأن هذا الوسيط أو ذاك بينهما نحو خلاف عقدي. بل على فرض التشاكل في المواقف الكلامية والعقدية والفروعية والسلوكية، تجد خلافاً في مستوى الرهانات والحسابات والحساسيات، التي تفرضها الوظيفة الدينية الاجتماعية، والتي تعبر من خلالها كل طبقة اجتماعية أو فئوية عن مصالح محددة . إن علم الكلام القديم لم يتطرق إلى أحياز أخرى غير معرفية بحتة، كالتناقضات والخلافات التي تبرزها المواقف والمصالح والحساسيات الاجتماعية؛ حيث ليس الخلاف دائماً كلاميًّا معرفيًّا، بل أحياناً ما يكون مصالحيًّا واجتماعيًّا، ما يفرض على علم الكلام الجديد أن يدخل في حساباته العامل الاجتماعي في مقاربة ظواهر الخلاف. وهذه الفواعل هي: الفاعل أو الإسلام الدولاني -etatique-: يمثل هذا الفاعل الدولة بمؤسساتها ورهاناتها. وهو ما يسميه البعض بالإسلام الرسمي. ففي كل البلاد العربية والإسلامية بما في ذلك الدول الأكثر نزوعاً إلى العلمانية مثل تركيا، هناك عناية سياسية بالشأن الديني. يعكس هذا الاهتمام الكبير بالشأن الديني قوة الحضور الديني في النسيج الاجتماعي الثقافي، وبالتالي تأثيره على الواقع السياسي. التأثير الديني في السياسة ليس فقط مسألة اختيار إيديولوجي في المجتمع الإسلامي، بل هو واقع مؤثر حتى في الاختيارات السياسية في الدول الإسلامية العلمانية نفسها. وإذا كانت الدول الإسلامية تختلف في أنسقتها السياسية الحديثة بحسب بعدها أو اقترابها من الدين، فإننا نستطيع أن نتحدث عن ثلاثة أشكال من الدول الإسلامية اليوم: - دولة شبه علمانية -pseudo-laique- من حيث طبيعة نسقها السياسي، ومن حيث مضمونها الدستوري حتى لو ظل للدين فاعليته غير المباشرة في التوازنات السياسية والاجتماعية لهذه البلدان، حيث فصل الدين عن المجتمع أمر ممتنع جدًّا في البلاد الغربية فمن باب أولى في البلاد الإسلامية. ومرة أخرى يتعين التمييز بين دولة دينية وأخرى شبه دينية. بمعنى أن العامل الديني هو أداة للضبط الاجتماعي وحماية النسق السياسي. هذا ناهيك عن أن الدولة الدينية بمفهومها الثيوقراطي وما يتضمنه هذا المفهوم لا تنسجم حتى مع التصور السياسي الإسلامي التقليدي. إن الإسلام نفسه مارس هذا التمييز بين ما هو بين العبد وخالقه وبين ما هو فعل سياسي واجتماعي لتدبير المدينة وحفظ النظام العام. بهذا المعنى لا يحتاج الإسلام إلى علمانية تفرض عليه هذا التمييز من الخارج، بل هو نفسه يحتوي على هذا الميكانيزم، أي بوصفه نفسه ديناً علمانيًّا، بين السياسة والدين فيه نحو اتفاق ونحو افتراق في الوظيفة الدينية والسياسية. تارة تستقوي فيه السياسة بالدين وتارة يستقوي فيه الدين بالسياسة، في عملية تبادل وظيفي. فعلى الرغم من أن الإسلام لم يميز بين حدود السياسة والدين في الوجدان المسلم، إلا أن الواقع الإسلامي ميز بين حدودهما وظيفيًّا. ففي الدولة الإسلامية هناك سياسيون متدينون ودينيون مسيسون، وهناك دينيون غير مسيسين، ولهم حساسية من السياسة، ويشتغلون على الشأن الديني بعيداً عن السياسة وحساباتها. ومثل هذا لا يمكن أن يوجد في نمط ثيوقراطي بالمعنى المذكور. دول دينية أو شبه دينية أيضاً -pseudo-theocratique-، يلعب فيها الدين دوراً أساسيًّا مقوِّماً للنسق السياسي، مثل السعودية وإيران والمغرب مع الفارق دائماً بطبيعة الحال. على أن تَقَوُّم النسق السياسي بالدين لهذه البلدان لا يعني أن الدين يعدم تأثيراً في البلاد الأخرى ذات النسق السياسي العلماني. ولا يعني ذلك أن الدين لا يحضر في اجتماعها حضوره في اجتماع الأخرى. إذا كان بالإمكان إدراج المغرب من حيث النسق السياسي الديني في خانة الدول الدينية، إلا أن ثمة فرادة تجعل من المغرب بلداً حاول أن يوفِّق بين المقوِّم الديني الوظيفي للدولة، وبين الرهانات الحداثية، ليس على صعيد التحديث بمعناه الاستهلاكي، بل بمدلوله الهيكلي والمؤسساتي. هذه الفرادة تجعل من موضوع الإصلاح الديني في المغرب أمراً معقداً. إنك تجد في المغرب تقاليد أعرق مما في الدول الدينية، كما تجد فيه من صور الحداثة ما هو مفقود في الأخرى. زواج يكاد يكون متطرفاً بين أقصى القديم وأقصى الحديث. وتلك هي مفارقة مشهد، يتعين معالجته بمنطق فرادته نفسها. وقد يحار المرء أمام فرادة النسق السياسي المغربي في انشطار بنيته بين النزعة التقليدية والنزعة التحديثية، ما يستدعي ثقافتين سياسيتين: الثقافة السياسية التقليدية التي تستند إلى القاعدة السوسيو-ثقافية المغربية، ونموذجها الإرشادي، الإسلام الشعبي. والثقافة السياسية الحديثة التي تستند إلى قاعدة المكتسبات التي نهضت بها القوى التقدمية وتمثلها النخب. وهذه البنية المنشطرة على نفسها، التي توحي بأننا إزاء بنية تناقضية، بل تؤكد على تبادل وظيفي، لعله مظهر من مظاهر التوازن السياسي المطلوب الذي حتمته تاريخية النسق السياسي المغربي، الذي يستمد شرعيته الأساسية من الشرعية الدينية التاريخية. وتفرض هذه الفرادة أحياناً تحدِّياً آخر: هل الدولة المغربية دولة دينية أم دولة علمانية؟ بالنظر إلى الشرعية الدينية التاريخية، وحضور المعامل الديني كمقوم للنسق السياسي المغربي والوظيفة الدينية والسياسية لشخص الملك بوصفه المسؤول دستوريًّا عن حماية الملة والدين على أساس الوظيفة الدينية التي تخولها سلطة إمارة المؤمنين، توحي بأننا إزاء شكل من أشكال الدولة الدينية. في حين قد يرى البعض أن هذا لا يخلو أن يكون نوعاً من التوظيف السياسي للدين، يجعل المغرب بلداً علمانيًّا، يخضع الدين للسياسة وليس العكس. استعملنا هذا المفهوم، لقناعتنا بأن العلمانية لا تحضر بشمولها وثقل فلسفتها في كل الدول العربية والإسلامية بما في ذلك تركيا . فالمجال العربي والإسلامي لا يمكن أن تنجح فيه العلمانية بمعناها الشمولي أو التمامي، وحيث مثل ذلك إن حدث فسيوقف المسلسل التوافقي، وسيدخل البلاد في تناقضات وصراعات حادة، حتماً لن تقوم معها ديموقراطية ولا تنمية . الفاعل السياسي أو الحزبي: تمثله الحركات الإسلامية، لا سيما المنخرطة منها في العملية السياسية وذات التوجه الإصلاحي. ظهرت أولى ملامح هذا الفاعل في المنتصف الأول من القرن العشرين. وفي المغرب نتحدث عن نكسة حزيران، التي يؤرخ بها لنشوء الحركة الإسلامية في المغرب. الفاعل الإنتلجونسي: الإنتلجونسيا الدينية هنا -تسامحاً- ممثلة بجملة العلماء والمفكرين والمثقفين الدينيين. ظهرت أولى ملامح هذه النخبة الإصلاحية في البلاد العربية خلال القرن التاسع عشر، واتسعت فعاليتها بصورة لافتة بلغت أوجها في نهاية القرن التاسع عشر. في المغرب نتحدث عن نهاية القرن التاسع عشر أيضاً وبداية القرن العشرين، بوصفه تاريخاً لبروز بعض النماذج العلمائية، تزامن ذلك مع الحماية وبعد الاستقلال، يمثل علال الفاسي نموذجاً متأخراً لهذه الإنتلجونسيا الدينية بمدلولها الإصلاحي والسياسي. الفواعل وتعدد الباراديغمات قلنا سابقاً: إن الخلاف في منظور الفواعل الثلاثة باعتباراها وسائط الإصلاح الديني، خلاف في الجملة لا بالجملة. أي اختلاف الحسابات والرهانات والوظائف، وليس اختلاف القناعات في الدين بلا شرط الوظيفة الاجتماعية. هكذا تجد الاعتقاد نفسه لا يكفي لرفع الخلاف بين وسيطين اجتماعيين مختلفين. تختلف الرؤية الوسائطية للدين بحسب الغايات والوظائف والآليات؛ أي ثمة باراديغمات محددة للصورة التي يدين بها هذا الوسيط أو ذاك. على هذا الأساس يمكننا الحديث عن ثلاث باراديغمات متحكمة في فواعل الإصلاح الديني، وهي التي تحدد آفاق الإصلاح وممكناته وميكانيزماته وغاياته. الباراديغم الدولاني (paradigme etatique): إن للدولة حسابات في الإصلاح الديني غير حسابات الفواعل الأخرى. فهي غير معنية بالإصلاح الديني في ذاته إلا من حيث هو تجدد حتمي يفرض تحولات في ميكانيزم الوظيفة الاجتماعية للدين. أي بما هو تجدد مطلوب في عملية التكييف المستدام للمقوم الديني داخل نسق سياسي تاريخي معطى. إن الباراديغم الدولاني هو باراديغم الضبط الممنهج والهيكلة وإعادة الهيكلة للحقل الديني بموجب استراتيجيا حماية النسق السياسي. وآليتها السلطة والإرادة السياسية، التي تعبر عن نفسها عند الضرورة والاقتضاء. ويمكننا القول إن ما يمكن أن نسميه بالجهاز السياسي أو الدولاني هو المحدد الرئيس أو لنقل «الحتمية المفرطة» surdetermination في ثلاثية التأثير الجدلي للفواعل الأخرى. حيث المحدد النهائي للتغيير هو الفاعل الدولني. فالإصلاح يأتي منه أو عبره، ولا يتم إلا به. الباراديغم الحزبي الحركي للحركة الإسلامية حساباتها ورهاناتها وميكانيزماتها في الإصلاح أيضاً. ويظل الباراديغم المهيمن على السياسة الإصلاحية الحركية الحزبية، هو الباراديغم الدعوي بمدلوله الإيديولوجي، حيث تراهن الحركات الإسلامية في المغرب على التوسع والنفوذ الذي يتيحه كونها منخرطة في العمل السياسي وما يقتضيه ذلك من تقيد بشروط العمل السياسي وحسابات اللعبة السياسية. آليتها في ذلك التعبئة والتحشيد والدعوة. الباراديغم الإنتلجونسي حسابات الإنتلجونسيا الدينية إصلاحية ونهضوية، يتنازعها نموذجان إرشاديان: المعرفة والإيديولوجيا. وإذا كانت الإنتلجونسيا الدينية تستند إلى المعرفة وتستعين بالنقد المعرفي، وهي خاصيتها التي لا يكاد يشاركها فيها أحد من الفواعل الأخرى، فإن سقوطها في المأزق الإيديولوجي هو سقوط ذو طبيعة وتكييف معرفي. أي الإيديولوجيا هنا تحضر ليس بمدلولها الوظيفي القطعي كما في خطاب الفاعل السياسي الحركي، بل هي تحضر بكل إمكاناتها الحجاجية وتقنياتها المعرفية ومقوماتها العلمية. وأحياناً بمدلولها التضليلي والتبريري. بل إنها تساهم أحياناً في مد الفاعل السياسي الحركي بمسوغات إيديولوجية، ويحصل بينهما أحياناً نحو من التواطؤ. جدل الفواعل الثلاثة هناك جدل مفتوح بين هذه الفواعل. يتحدد دورها بجملة الحسابات والرهانات والميكانيزمات المعتمدة. هذا الجدل متحرك في سياق تناوبي يجعل الدولني يتواطأ مرات كثيرة مع السياسي الحركي ضد الإنتلجونسي، وأحياناً يحصل التواطؤ بين الدولني والإنتلجونسي ضد الحركي وهكذا دواليك. إن المتغير في معادلة التحالفات المعلنة أو الضمنية هو طبيعة الحسابات والرهانات التي تحددها المرحلة. ما يعني أن الجدل المفتوح هو في النهاية سياسي محض. سياسي من حيث أن حساباته ما زالت تستبعد الأسئلة الكبرى في مدلولها النهضوي الشامل. حسابات الفاعل أو الإسلام الدولني هو الهيكلة والضبط. وميكانيزماته تستند إلى قهر السلطة وتتوقف على الإرادة السياسية. كما أن حسابات الإسلام السياسي الحركي هي النفوذ والتوسع، وآليته الدعوة والتعبئة. أما الحسابات -على الأقل المفترضة- للفاعل الإنتلجونسي، فهي معرفية نهضوية إصلاحية، وميكانيزماته نقدية علمية. ثلاث سلط -دولانية وحركية وثقافية- تتوزع خريطة الإصلاح الديني، وتساهم بدورها في خلق مساحات للمفكر فيه وأيضاً هوامش لللامفكر فيه في عملية الإصلاح الديني المفترض. يجد الإسلام الدولاني مبرراته في مسوغ الضبط والحق التاريخي للدولة في احتكار العنف وممارسة سلطة الأجرأة والرفض أو القبول عند الاقتضاء. وهي غير معنية إلا بالتوازنات ومراقبة التطور الطبيعي للمجتمع ومراقبة نشوء وتطور حساسياته. إنها بهذا المعنى ليس لها إلا الدور السلبي في تكييف الدين مع مجمل التحولات والتحديات حفاظاً على الحد الأدنى من التوازن السياسي والمجتمعي. الدور الوظيفي التاريخي للدولة لا يمكن إلا أن يكون دوراً سلبيًّا، أي دوراً منفعلاً، انفعالاً بطيئاً وبيروقراطياً، تحظر فيه كافة الحسابات والرهانات الإدارية والأمنية والاقتصادية والسياسية و.. و.. فليس من المتوقع من الدول أن تطرح أسئلة على المجتمع، إلا في الحدود التي يفرض فيها التطور الاجتماعي والإكراهات الدولية مثل هذه المبادرات، والتي عادة ما تكون مؤقتة ومرتبطة بمسلسل كامل من الحسابات الاستراتيجية. من هنا حتماً سيكون هامش اللامفكر فيه واسعاً إلى حد النسيان والإبقاء على الأمور كما هي ما لم تتحرك الفواعل الأخرى، وتفرض أسئلتها على الفاعل الدولني. ويجد الإسلام الدولني معذريته في كونه ملتزماً بوظيفة الضبط والهيكلة. وفي هذا الإطار فهو يستند إلى احتياطي آخر، هو جملة الحلول ذات الطابع غير الديني، أي الانفتاح على التجارب العلمانية نفسها. تمثل إمارة المؤمنين وظيفة مقومة من مقومات النسق السياسي الحديث في المغرب. وهي تستمد مسوغاتها من الشرعية الدينية التاريخية، وهو ما يمنحها قدراً من النفوذ. وتستند في نفوذها على قاعدة سوسيولوجية تتحكم بها ثقافة سياسية ومخيال سياسي محدد. لاستعاب ذلك يتعين مقاربة أبعد من تاريخية سياسية، بل تصبح الحاجة ناجزة لاستدعاء مقاربة أنثروبولوجية دينية وسياسية للنسق السياسي المغربي. في ضوء ذلك ندرك المعقول خلف مظاهر اللامعقول. وحينها فقط ندرك كيف رأى المغاربة صورة الملك الراحل محمد الخامس (رحمه الله) في القمر، وكيف لعب المخيال السياسي يومها دوراً كبيراً في العمل الوطني. من جهة أخرى يجد الفاعل أو الإسلام السياسي مبرره في مسوغ الأسلمة، وحق التبليغ والدعوة. وهو بهذا المعنى -وأنا أتحدث عن المغرب- ليس له من الأسئلة ما يفوق مجرد الدعوة. لقد بدأت حركة الإخوان المسلمين كحركة دراويش صوفية ودعوية لكنها تطورت إلى حركة سياسية. لعب القمع السياسي دوراً كبيراً في لجم النوايا والأهداف الحقيقية التي كانت تشكل حلم الحركة الإسلامية في صيغتها الإخوانية. كانت ولا تزال الخلافة مطلباً أساسيًّا ونموذجيًّا لهذه الحركة. وإنْ تراجع بعض الشيء فهو يحتل قاع اللاوعي في هذا الخطاب. لا يخفى على المراقب لسير الحركة الإسلامية ما واجهته هذه الأخيرة من تحديات وعلى امتداد العالم الإسلامي، وإن خفَّف من هول تلك الإخفاقات ما كان من إنجازاتها هنا أو هناك، ما جعل بعضها يقفز في ظروف تاريخية محددة إلى مستوى النموذج، مع استلامه مقاليد السلطة، سواء عبر ثورات شعبية مثل ما حدث في إيران أو ثورات عسكرية كما حدث في السودان أو عبر توافقات ديموقراطية كما يحصل اليوم في العراق. هذا ما يمثل الوجه الآخر الذي يقابل جملة إخفاقات الحركة الإسلامية في مواقع ومواقف أخرى. في المقابل ندبت الحركة الإسلامية حظها العاثر في كل من الجزائر ومصر التي كانت هي البؤرة التاريخية التي تبلورت فيها أولى ملامح خطاب الحركة الإسلامية الحديث. ومع ذلك لم يكن حال النماذج الناجحة أقل ابتلاء من النماذج الفاشلة. لقد واجهت التجارب الإسلامية في الدول التي استلم فيها الإسلاميون السلطة بأي طريق كان، تحديات جعلت هذه الدول تنهض بما استقر في عهدة العالم الإسلامي من تراكمات هذا الفراغ التاريخ منذ سقوط الخلافة الإسلامية ونشوء الدولة الوطنية الذي برزت أولى ملامحه مع الدولة التركية المتخلِّية عن دورها الخلافاتي بعد أن غدت في أعين الأوروبيين المتحمسين للسيطرة على الشرق بمثابة الرجل المريض. فإذا كانت الحركة الإسلامية في مراحلها الأولى وحتى اليوم في البلاد التي لم تمارس فيه مسؤولية السلطة، تكتفي بمجرد شعارات وتنظيرات لا تقدم معها برامج مفصلة تكشف عن مشاريع حلول اجتماعية واقتصادية وسياسية... حيث كان من العبث الحديث حتى زمن سيد قطب عن أي نوع من التفصيل لسياسة الحكم وخصائص الحاكم الشرعي قبل الاستيلاء على الحكم، فإن الحركات الإسلامية التي استلمت السلطة أو شاركت فيها تجد نفسها أمام صدمة أخرى لعلها أكبر من صدمة الإخفاقات التي واجهت نظائرها في أماكن أخرى، أعني صدمة التراكم الأزماتي الناجم عن تراكم الفراغ التاريخي والتخلف الذي أحدق بأمة كانت ولا زالت ترفض مواجهة واقعها كما هو، بأساليب عقلانية ومقاصد مشخصة وواضحة وإرادة حرة. وبذلك تكون الحركة الإسلامية سواء في مستواها النموذجي الممارس للسلطة أو العامل على استلامها، قد راكمت من الأخطاء وواجهت من الانسدادات ما أصبح يستدعي لحظة تأمل قصوى ومستوى من النقد الذاتي رفيع، حيث ظل هذا الأخير هو الفريضة الغائبة وإن حاول البعض التخفيف من وطأة هذا الغياب النكد، باجتراح طرق في النقد الذاتي هي أقرب إلى تخريجات وتزويقات منها إلى نقد ذاتي جذري، يستوعب كل إشكالات الحركة الإسلامية بدءاً بنقذ الخطاب ومروراً بنقد الاستراتيجيا وانتهاء بنقد الوسائل. وهذا النقد تستدعيه جملة حيثيات أهمها واقع التعدد في الخطاب والاختلاف في التعبير والتنازع في مستوى الأهداف. لقد أثبتت الحركات الإسلامية أنها ليست ماءً واحداً ولا خطاباً متجانساً ولا حتى أنها حركات منسجمة ومتفقة على رؤية معينة واستراتيجية موحدة ومقاصد مشتركة. وقد كشف هذا الواقع المزري عن أن النزاع بين الحركة الإسلامية وارد، وقد يتطور بمقدار قرب الحركات الإسلامية من الفعل السياسي واختلاف القراءة وتناقض التشخيصات للواقع ومؤشراته. ونحن لا تهمنا التفاصيل الصغرى الخاصة بكل جسم على حدة بل ما يهمنا هو الرؤية الجوهرية التي تشترك فيها كافة هذه الحركات حتى ولو تنافرت برامجها وتناقضت مقاصدها واختلف مستوى خطابها. إننا نواجه تحدِّياً دوليًّا كبيراً بسبب ما كانت قد اقترفته جهات محسوبة على التيار الإسلامي، رفعت إيقاع المواجهة مع الغرب إلى مستوى الحرب العالمية، على خلفية حنين تاريخي: الحرب الصليبية. على أن هذا الاستخدام لا يكشف فقط عن حنين وتمثل كاشف بدوره عن فراغ في محتوى الوعي والمنظور التاريخي لما يجب أن يكون عليه الموقف الإسلامي في ضوء التحولات الكبرى التي مسَّت أنماط التفكير وجعلت العالم يتحرك بمشاريع مستقبلية ذات مرتكزات اقتصادية وثقافية مختلفة، كما جعلت العالم الإسلامي رغم تخلفه التاريخي يندمج مكرهاً في دورة تساؤلات حضارية جديدة كل الجدة، فرضت عليه الانخراط في جيل جديد من الأزمات والمشكلات، كالتقدم والتنمية وما يختزلانه من مطالب هذا العالم إلى الاستقواء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وامتلاك التكنولوجيا ووسائل للتنمية الشاملة والمستدامة وتحقيق التنمية السياسية اللازمة في سبيل تحقيق دولة القانون والحريات وحقوق الإنسان... إن سير الوقائع لا يسمح بمزيد من التسويف لجريان حد أدنى من النقد الذاتي الذي تخرج به الحركات الإسلامية من أسر الخطاب المتمأزق على أجندة من المشاريع التي لا تنتمي للكون الحديث. الخطابات التي من شأنها زرع الكراهية واقتياد المؤمنين بها تحت ضغط الوعي الشقي إلى الانتحار الجماعي. في السياق نفسه يواجه المراقب لمسار الحركة الإسلامية المغربية جملة من الآفات التي تسم فعاليتها، وتحتل مكان اللازمة لكافة مشاريعها، مما يكشف عن أنها تعدت كونها آفات عارضة، لتصبح آفات بنيوية تمس جوهر النسق الفكري والأخلاقي للحركة الإسلامية بالمغرب. وهي إذا ما نظرنا إليها نظرة إجرائية انقسمت إلى قسمين: آفة تصورية وآفة أخلاقية. وبما أن المجال لا يسعنا للتذكير بأن طرو الآفة على البنية التصورية هو كافٍ للحكم على قسيمها في المقام بالفساد، لجهة ضرورة التعدي اللزومي للآفات من مستوى التصور إلى مستوى السلوك ومن النظر إلى العمل، فإننا سنرتب حديثنا على وفق التقسيم المذكور، فيكون حديثنا عن التصور مستدعياً للحديث عن الخطاب، وحديثنا عن الأخلاق مستدعياً للحديث عن الوسائل والأهداف. ففي إطار القسمين المذكورين، تجري قسمة أخرى ترصد مشكلة الحركة الإسلامية من خلال ثلاثية النقد: نقد الخطاب، نقد الأهداف - الاستراتيجيا، نقد الوسائل، وهو ما يستدعي قراءة مفصلة ليس هاهنا مقامها. نقصد بالآفة التصورية، ما يواجه الحركة الإسلامية من مشكلات معرفية وثقافية، تعيق تشكيل رؤيتها الإيجابية للعالم وللآخر وللحظة التاريخية المرتهنة لها. أو بتعبير آخر عجزها عن تكوين فلسفة حقيقية تمكنها من تأويل التعاليم والخروج بها من ارتهاناتها التاريخية وسلطة المورد الأول إلى فضاء الواجب الراهن أو الممكن الآتي. فهي إذن مصابة في وعيها بالعالم، ما يستدعي نقداً جذريًّا، يعيدها إلى منطق الفعل التاريخي ويدرجها ضمن سنن الأزمنة ومنطق تطورها. لقد ظلت الحركة الإسلامية في مجملها تعاني من آفة الإشباع بما كان وفَّره المورد الأول من تعاليم منزلة تنزيلاً على خلفية «استنزال ما» في «مورد ما». وشعورها بالإشباع التصوري لما كان وما سيكون، جعلها تستغني صراحاً أو ضمناً عن تاريخ المعرفة الإنسانية وما تراكم من خبرات العقل البشري، ليس فقط على مستوى العلوم البحتة، بل وأيضاً على مستوى العلوم الإنسانية وفلسفة الأخلاق. على إيقاع هذا الشبع المعرفي الخادع، صدم العالم الإسلامي أكثر من مرة -لأنني أعتقد بأن العالم الإسلامي صدم أكثر من مرة وليس فقط صدمة الحداثة إثر الغزو النابوليوني لمصر، صدم أمام وهج الحداثة التي لم ترعبه بكمية البارود وتقنية الغزو فقط، بقدر ما صدمته بأسلوبها المدني وتنظيمها الاجتماعي وذوقها الرفيع، إذ لم يكن من بالغ الصدف أن يكون أول ناقل منبهر ومتفنن لهذه المظاهر المدنية والحضارية، هو رجل دين، لم يكن له دور في البعثة العلمية المصرية سوى الرعاية الدينية وإمامة الصلاة. لقد كان من الظواهر التي قلما تأملتها الحركة الإسلامية في رحلة رفاعة الطهطاوي وهو الشيخ الأزهري، أنه كان أكثر حماسة وانبهاراً بمكتسبات المدنية الحديثة، من منطلقاته الدينية والأخلاقية، وبنظرته الإيجابية التي لم ترَ في كل ما رآه استعماراً وتآمراً، هو الذي رحل إلى الضفة الأخرى بعد أن حمل في وجدانه كل آثار وأحاسيس المستعمرات. لقد نجحت القراءة الطهطاوية لهذا المشهد الحضاري في الفصل بين الموقف السياسي المحكوم بظروفه التاريخية، وبين الموقف المعرفي المأخوذ من ناصيته إلى حيث الاعتراف بقوة العلم والتنظيم الاجتماعي والاقتدار الحضاري. فإذا كان مستساغاً القول إن الحداثة انتهت باستعمار مصر، وهو منعطف تاريخي للحداثة في طورها الإمبريالي غدا أمراً لا أخلاقيًّا مستفظعاً ومستنكراً ومرفوضاً بالشرعة الدولية، فإن ما اختفى من مفهوم وراء منطوق المتن الطهطاوي، أن التخلف والتوحش هو بطبعه مغرٍ، ومستفز للقوي، لا سيما إذا كان القوي قد سقط في ازدواجية الموقف اللاأخلاقي، وهذا ما حدث بالفعل. أجل، إن جملة الصدمات التي واجهت الحركة الإسلامية أثناء سباتها وطمأنينتها الخادعة بفعل التشبع الكاذب، ما زال يشكل مظهراً مقلقاً، وعاملاً يتهدد هذه الحركة بالنهاية السيئة. وقد زاد هذا الإحساس الخادع رسوخاً، بعد أن حجب عنها الفراغ الإيديولوجي والسياسي ومظاهر التعبئة والتحشيد وغفلة الحامل الواعي لمضامين التفكير الإسلامي الحضاري، هذه الحقيقة، ظانة أنها كسبت الرهان السياسي وأجابت عن كل تساؤلات المجتمع وقدمت الحلول الشافية على طريق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. إن الإحساس بالتشبع الخادع والاكتفاء بالمورد الأول لتعاليم تحولت إلى أحناط في انتظار المستنطق الحي، وليس المستنطق الميت - إذ غياب شرط القارئ الحي هو غياب للمشروط: فالمشروط عدم عند عدم شرطه، هو آفة الحركة الإسلامية، حيث غاب عنها أن الاستمرار على هذا الانسداد التعاليمي برسم المورد الأول من شأنه أن يمنح السلطة للنمط السوسيو-تاريخي كله الذي عبرت فيه تلك التعاليم عن نفسها. ومن هنا فإن الحركة الإسلامية جاءت لتكرس أكبر منعطف منع الفكر الإسلامي من الانخراط في الدورة التاريخية للمعرفة، لما أخذت بمنطق الفسر لا بمنطق التأويل، لتؤكد بذلك على أنها تتبنى هزيمة العقل العربي والإسلامي التاريخي، وفشله في الخروج من منطق الفسر إلى منطق التأويل. ومن منطق المورد الأول إلى منطق الموارد الممكنة. ومن منطق الاستذكار إلى منطق الاستنطاق. ومن مستوى التمركز إلى فضاء التجلي. هذا العجز التاريخي هو نفسه يستعاد برسم الصحوة الإسلامية التي تركز خطابها على الوجدان والعاطفة والانفعال... وطبعاً إن وسيلتها لتركيز هذا الخطاب لم تكن برهانية واعية عقلانية وعقلائية، بل لقد تمثلت منطق الإيديولوجيا التضليلية نفسها في أسوأ حالاتها، تلك التي تستند إلى روح العصبية والخداع وتزييف الواقع والأسئلة الحقيقية، ومنطق الإقناع الرخيص. ولذلك، يكون مآلها مآل الإيديولوجيات الرثة، بما تؤدي إليه من حالات الوعي الشقي والانتحار بلوغاً إلى مرحلة الوقاحة الإيديولوجية. لعله من مظاهر التوهيم والتزييف الذي تمارسه الحركة الإسلامية المغربية اليوم، أنها لا ترى نفسها على خلاف مع أحد. ومن هنا لا تبالي مثل هذه الحركات التي يكشف سلوكها عن الكراهية فيما تبصم نظريًّا على كل مشاريع وبرامج غيرها. وربما بفعل سكر التعبئة والإحساس بالأمان الذي يوفره الناخب، تكتفي بأكذوبات صغيرة وتافهة لا يهمها موقف العقلاء ومساءلة الناس، إنها حركات لا تحترم الجمهور وتستغبيه. وحقًّا لها أن تستغبيه طالما أنه لا يسائلها مساءلته غيرها من المنافسين لها. اتصف خطاب الحركة الإسلامية المغربية على مدى عقود من الزمان بالتمامية والنزعة الشمولية، ما جعله خطاباً يعكس أنماط الخطاب السائدة حينئذ، والتي مثلتها بعض التيارات القومانية والشيوعية. وقد يبدو من الخطأ الحديث عن تيارات أصولية بالمعنى المتداول للعبارة في الإعلام الغربي، حيث إن القصد من الأصولية هو التقيد بمبادئ وأصول في التفكير. ومثل هذا لا تختص به الحركة الإسلامية وحدها. وحسناً فعل غارودي في حديثه عن الأصوليات، حيث أدرج أشكالها الأخرى، كالأصولية الستالينية أو العلموية أو باقي أشكال الأصوليات، التي وسمها غارودي بآفة العصر[5]. ليست المشكلة مشكلة الأسس التي ينهض عليها وعي الإسلاميين بالعالم والأشياء، بل المشكلة هي مشكلة علاقة فنية وذوقية مع هذه الأصول. ومن هنا كان الأولى الحديث عن نزعة شمولية وتمامية، تناهض منطق التسوية والاحتمال والحلول الوسطى وما شابه. ومن هنا يمكننا رفع صفة الأصولي عن موضوعها الوهمي، حيث لا وجود لشخصية أصولية بقدر ما هناك أفكار أصولية. فالصفة محمولة على موضوعات لا على أشخاص. ومستند هذا الرفع، أن الشخص أيًّا كان انشداده لهذه الأصول والمبادئ، فهو في معاقراته السياسية يحيد عنها عند الاقتضاء وتحت إكراهات شتى. فهو لا ينطلق دائماً في تصوراته وآرائه -لا سيما السياسية- من أصول، بقدر ما ينطلق من غايات ومصالح وقناعات. وعليه، فإن الحركة الإسلامية ليست أصولية بهذا المعنى إذا ما تأملنا مساراتها السياسية، وتحولاتها الفكرية والسياسية. فهي حركات عبرت ولا زالت تعبر عن أنها حركات تتغير، وبالتالي فهي ليست أصولية بالمعنى الإيديولوجي للعبارة. اقترنت جملة من التهم والسمات بخطاب الحركة الإسلامية بالمغرب. يمكننا الحديث هنا عن الموقف السلبي من المجتمع.. الموقف من الآخر.. العنف.. غياب النقد الذاتي.. الجهل بأحوال العالم.. الرؤية القاصرة لمفهوم الدولة.. مفهوم المواطنة.. الهوية.. ضبابية الموقف.. ضبابية المقاصد.. غياب برامج تخص المجتمع أو برامج لمواجهة تحديات العولمة.. آفة تصورية قوامها المجمودية والانسداد في اختيار الوسائل المناسبة والمنسجمة.. آفة أخلاقية قوامها شيوع نزعة الكراهية والاستهانة بقيم الآخر وحقه في الوجود ونزعتهم ضد قيم الحوار والعيش المشترك وبالتالي اختيارهم العنف كطريقة للتغيير.. الإغراق في نظرية المؤامرة.. والمقامرة.. الخلاصة، بلورة خطاب الأمة بوصفها رهينة لجماعة إسلامية لا بوصفها مجتمعاً إسلاميًّا. والحق يقال أن لا قيمة للإصلاح كما يبدو في معالجات الإنتلجونسيا الدينية إذا لم يجد طريقه إلى الحركة الإسلامية بوصفها الوسيط الأكثر فعالية وانتشاراً. إن تخلف الحركة الإسلامية ينعكس بصورة كبيرة على عملية الإصلاح الديني. ومن هنا كان إصلاح وضع الحركة الإسلامية ضرورة ومقدمة في الإصلاح الديني في المغرب تحديداً. لم تشتغل الحركة الإسلامية على موضوع الإصلاح الديني. فظلت مرتبطة بالعناوين الكبرى للأدبيات التقليدية للإخوان المسلمين أو الحركات المنبثقة عنها في أطوار نشأتها الأولى. ونعني بذلك أن موضوع الخلافة والحاكمية وأسلمة المجتمع أخذ المساحة الأكبر في برنامجها. لقد استلهمت الحركة الإسلامية المغربية مرجعيتها الفكرية من ذلك التيار الذي أنتج فكراً حصريًّا وانزوائيًّا وصراعيًّا ضد الآخر. تطرح الحركة الإسلامية المغربية نفسها كبدليل لكنها لا تتمتع بمقومات البديل، لأنها وبكل بساطة لا تحمل مشروعاً ولا برنامجاً سوى الأسلمة في مدلولها التبسيطي والوعظي، وهذا لا يكفي بل لا يؤمن لها الاستمرار على المدى المتوسط والبعيد، ما لم تُعِدْ بناء موقفها الفكري وتحديد اختياراتها الإيديولوجية. بهذا المعنى، تكون الحركة الاسلامية المغربية تعيش حالة نكوص حتى بالقياس إلى حركة الإصلاح والنهضة التي عرفتها المنطقة في القرنين السابقين. وعلى الرغم من أن هذه الحركات تتمثل عناوين كبرى توحي بنزعتها إلى التجديد والإصلاح والنهضة والتوجه الحضاري وفكرة الأمة، إلا أنها لا تحمل مضموناً حقيقيًّا ينهض بمشروعها. فهي بذلك تكرس ظاهرة تمييع العناوين الكبرى، وهو في تصورنا أخطر من الاستقالة نفسها. ليس ثمة من مفارقة أكثر تعبيراً من هذا الذي تعيشه اليوم الحركة الإسلامية في المغرب. ولنضرب مثالين فقط، من شأنهما وضعنا في صورة ما يجري وفي أي مستوى يجري: المثال الأول يتعلق بحدث تسونامي؛ وطبعاً نعني بذلك رجع الصدى لتسونامي في الصحافة المغربية ذات يوم. فبينما لا يزال البحث عن رفات ضحايا تسونامي فجَّر إعلام بعض الحركات الإسلامية موضوع تجريم ضحايا تسونامي والوعيد بمثله في المغرب. قد تكون مثل هذه الأفكار التبسيطية لها مدلولها المعقول حين يكون الحديث في سياق الوعظ والإرشاد بعيداً عن الحسابات والتوظيفات السياسية. لكن في مثل هذا المقام، تكون الحركة الإسلامية المغربية قد عبرت عن إفلاس كبير في الخطاب. وبأنها لا تحسن أن تطرح الموضوعات الكبرى. المثال الثاني يتعلق بحكاية «الرؤى والأحلام». وكأننا حقًّا بتنا في المغرب نعيش مناخاً لا يمكن تصوره إلا في مجتمع شبيه بمجتمع السندباد البحري. أصبح الحديث عن الرؤيا والحلم -بغض النظر إن كان ثمة مبالغة من هذا الطرف أو ذاك، لأن المعتبر في المقام هو الظاهرة كليًّا- يعوض الحديث عن مشكلات اجتماعية وحضارية راهنة وملحة. مثال التسونامي ومثال الرؤى يعكسان واقع الحركة الإسلامية في المغرب، ويجعلانها في وضع لا تحسد عليه، لن يخفف من وطأته فوز انتخابوي مرحلي هنا أو تموجات تعبوية هناك، حتماً سيحاسبها التاريخ يوماً على اختياراتها ومواقفها وتسطيح المواقف والخطاب والتنكر لخطاب النهضة والتجديد؛ المطلب التاريخي للحركة الإسلامية كما صاغتها في عموماتها الجامعة الإسلامية مع رواد الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر؛ النهضة التي لم تنجز بعد. من هنا فالحركة الإسلامية في المغرب هي نفسها أصبحت موضوعاً للإصلاح الديني، قبل أن تكون فاعلاً من فواعله. وهذا رهين بأن تكون حركة سياسية نهضوية إصلاحية وليست حركة سياسوية انتخابوية ذات حسابات سياسية محدودة. أنقر هنا لتتمة المقال http://hespress.com/?browser=view&EgyxpID=17900