إسرائيلي من أصول مغربية يتولى منصب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي    البطولة: نهضة بركان يقترب من تحقيق اللقب بانتصاره على تطوان وتعادل مثير في مباراة الوداد البيضاوي والفتح    تعليق الدراسة غدا الاثنين 10 مارس 2025 بعدد من أقاليم جهة طنجة تطوان الحسيمة    مقترح لمنع المهاجرين غير النظاميين المرحلين من العودة إلى أوروبا    تعيين أول سفير أمريكي في إفريقيا بالمغرب: خطوة استراتيجية تعكس دور المملكة المحوري في القارة والعالم    نهضة بركان تفوز بثنائية في تطوان    بطل في الملاكمة وبتدخله البطولي ينقذ امرأة من الموت المحقق … !    مباراة الوداد والفتح تنتهي بالتعادل    مبعوث أمريكي يدّعي أن حماس اقترحت هدنة من 5 إلى 10 أعوام بغزة    الشركة متعددة الخدمات الدار البيضاء سطات.. جهود مكثفة لتفادي تجمعات مياه الأمطار وتيسير حركة المرور    جثة امرأة تنتظر التشريح في سطات    الطقس يعلق الدراسة بشمال المغرب    إقليم الحسيمة.. تعبئة متواصلة لإزاحة الثلوج وإعادة فتح المحاور الطرقية    نجم إسبانيول يعرب عن رغبته في الانضمام إلى أسود الأطلس    إدانة مدير أكاديمية درعة تافيلالت الأسبق ومتهمين آخرين ب14.5 سنة سجنا في قضية اختلالات مالية    ندوة تبرز الإنجازات في الصحراء    النيابة العامة تفتح تحقيقا في واقعة سقوط طفلة بركان في بالوعة    وزير الطاقة الإسرائيلي يصدر أمرا بقطع إمدادات الكهرباء عن قطاع غزة    8 مارس ... تكريم حقيقي للمرأة أم مجرد شعارات زائفة؟    الكاف تعلن موعد جمعها العام الاستثنائي في القاهرة    تقرير أممي: المغرب يوفر آفاقًا جذابة للمستثمرين في السياحة    من هو ثاني أسرع لاعب في دوري أبطال أوروبا … !    جهاز الخدمة السرية الأمريكي يطلق النار على رجل مسلح قرب البيت الأبيض    التساقطات المطرية تساهم في الرفع من حقينة سدود المملكة    موظفو الأحياء الجامعية بالمغرب يضربون ويدعون للاحتجاج أمام مقر وزارة التعليم العالي    ارتفاع مثير للمنازل المهجورة في كوريا بسبب شيخوخة السكان    مغربي ضمن الفائزين بجائزة الامارات الدولية للقرآن الكريم    تأثيرات منخفض "جانا" على المغرب    الثلوج الكثيفة تغلق الطريق الوطنية رقم 2 في جبال الريف    انتقادات لنجاعة الرقم الأخضر للتبليغ عن تجاوزات السوق في ظل غياب تسقيف رسمي للأسعار    الغزياني تقود "نساء UMT" بسطات    نحو إدارة موانئ مستدامة    سوريا تحقق في "المجازر المروعة"    وداعًا نعيمة سميح...    نعيمة سميح .. من برامج اكتشاف المواهب إلى صوت المغرب الخالد    عمر أوشن يكتب: ليلة غنت نعيمة سميح للمعتقلين السياسيين "ياك أجرحي"    العملات الرقمية.. استخدام واسع للمغاربة ترافقه أحكام بالإدانة وترقب لصدور قانون مؤطر    القول الفصل فيما يقال في عقوبة الإعدام عقلا وشرعا    الأمازِيغ أخْوالٌ لأئِمّة أهْلِ البيْت    السمنة .. وباء عالمي    اتحاد طنجة يخطف تعادلا من العاصمة العلمية    ملاعب للقرب تفتح أبوابها للشباب بمقاطعة سيدي البرنوصي    عبد الوهاب الدكالي ل "أكورا": نعيمة سميح فنانة استثنائية-فيديو-    المغرب يستورد أزيد من 600 ألف طن من الزيوت النباتية من روسيا    حقيقة الأخبار المتداولة حول خطورة لحوم الأغنام على صحة المغاربة..    الدرك الموريتاني يحبط عملية تهريب مهاجرين بسيارة إسعاف قرب نواذيبو    نورة الولتيتي.. مسار فني متألق في السينما الأمازيغية    المرصد الجهوي للحق في المعلومة بجهة فاس مكناس يصدر تقريراً حول القانون رقم 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات    أمسية رمضانية أدبية احتفالا بإبداع الكاتب جمال الفقير    رحلت عنا مولات "جريت وجاريت"    المغرب وإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية والاقتصادية في إفريقيا    إيران ترفض دعوات أمريكية للتفاوض    تسجيل أزيد من 24 ألف إصابة بجدري القردة بإفريقيا منذ مطلع 2025    أفضل النصائح لخسارة الوزن    عمرو خالد: هذه ملامح استراتيجية نبوية ناجعة للتعامل مع تقلبات الحياة    اضطراب الشراهة عند تناول الطعام: المرض النفسي الذي يحوله تجار المكملات الغذائية إلى سوق استهلاكي    مقاصد الصيام.. من تحقيق التقوى إلى بناء التوازن الروحي والاجتماعي    خبير يدعو إلى ضرورة أخذ الفئات المستهدفة للتلقيح تجنبا لعودة "بوحمرون"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العصر الإلكتروني تقني وتجاري بامتياز ولا بد أن يضغط على الإنتاج الرمزي
مع الباحث والناقد الدكتور عبد الرحيم جيران
نشر في العلم يوم 11 - 03 - 2010

يصر الباحث والناقد الدكتور عبد الرحيم جيران على مفاجأتنا بملاحظاته العميقة، وبأسئلته الجديدة في مجال الأدب. منها تلك التي أثارها في اللقاء الذي نظمته بطنجة جمعية ملتقى المتخيل المتوسطي بتنسيق مع جمعية الشعر الإيبيرو مغربي لمناقشة (كتابه إدانة الأدب)؛ وعلى هامش هذا اللقاء كان لي معه الحوار الآتي. تناقشون في هذا اللقاء إشكالية الأدب والشرعية والتاريخ. كيف تقيمون هذه العلاقة على مستوى الوطن العربي؟
أحب أن أذكر أولا أن مشاركتي في هذا اللقاء كانت عبارة عن مداخلة في موضوع يشغلني. وكان هدفي من ذلك توسيع النقاش حول إشكالات الأدب والخروج بقضاياه من دائرة الأسئلة البسيطة إلى دائرة الأسئلة الأساس؛ حيث نرقى بالخطاب النقدي من حالته المزرية اليوم إلى مستوى أكاديمي يتصف بالمصداقية. وقولي هذا لا يخرج بدوره عن موضوع المداخلة. فمن يعطي اليوم الشرعية لمن يتكلم عن الأدب في الوطن العربي ويعمم الرؤية إليه نقدا وإنتاجا؟ سؤال ليس بالمحير إطلاقا إذا نحن فكرنا مليا في المجتمع النصي في علاقته بالتحولات التي حدثت في المجتمعات العربية والتحولات العالمية والتحولات في وسائل توصيل المعلومة اليوم. فالمجتمع النصي صار أقل ارتباطا بالفضاء الجامعي والأكاديمي وإنتاج المعرفة من داخل متاحه، بما يعنيه ذلك من ضمور للسلطة العلمية ذات المنحى الموضوعي القائم على الحجة المعرفية، بل صارت الفواعل الأكاديمية ذاتها ترتهن في وجودها وإنتاجها بفضاءات إعلامية بصرية ومكتوبة وبسلطها الدعائية غير الموضوعية القائمة على حجة التحريك العام. وبطبيعة الحال لا نفصل هذا التحول عن الجري وراء سراب النفع المادي والبحث عن المواقع المؤدية إلى الحظوة الرمزية الماثلة في التنصيب. كل ذلك له صلة بضمور السرديات الكبرى التي كانت تؤطر الفكر والفعل وتوجههما. فالشرعية اليوم في الأدب صارت تأتي من جماعات قرار لا يتعين مكانها الرمزي في الفضاء الأدبي الصرف والأكاديمي.. جماعات قرار ترتبط بالإعلام والميديا ولها صلة بمواقع الريع التي تنبهت إلى أهمية الحقل الثقافي والتحكم فيه. فالتنصيب والخلع في علاقتهما بالشرعية صارا محددين بمدى نفوذ هذه الجماعات والعلاقات التي تنسجها في ما بينها في الوطن العربي للحفاظ على هيمنتها الرمزية.
ربما يندرج في هذا السياق اعتراضكم على كتاب تودوروف «الأدب في خطر» من خلال كتابكم الأخير «إدانة الأدب». فالمثقف أصبح يراد له دور آخر غير الدور الذي أداه تاريخيا.
ربما كان ذلك أحد الأسباب من ضمن أخرى غير معلنة. فكتاب تودوروف «الأدب مهدد» لم يناقش مسألة المثقف، بل كان مدار السجال فيه يدور حول الكيفية التي يجب أن يدرس بها الأدب وتعاطي قراءته. وحين ألفت كتابي «إدانة الأدب» كان نصب عينيَّ رد مغالطات شتى معرفية ومنهجية وردت في كتاب تودوروف. لكن السؤال المؤرق لي كان الآتي: لماذا تصدر بالضبط هذا الصرخة المصطنعة والواردة في غير محلها من قبل ناقد محترف وملم بأسرار الأدب؟ ثم كيف سوف تخدم وضعا ثقافيا مترديا في العالم العربي يقوده اليوم مجموعة من دعاة التبسيط ومُعَاِدي الثقافة الرصينة العالمة والأكاديمية، وهم كثر تراهم في كل معبر لا يهدأ لهم نفير؟ مما
لا شك فيه أن تحولا ما يبدو في الأفق نتيجة هيمنة الميديا وثقافة الإلكترون. والناس استشعروا هذا التحول، وبدأوا يهيئون أنفسهم ليجدوا لهم موقعا مريحا في الوضع الجديد. إن العصر الإلكتروني تقني وتجاري بامتياز ولا بد أن يضغط على الإنتاج الرمزي لكي يستجيب لشروطه وضوابطه التجارية وخاصيات استعمال وسائله. فهو قائم على الحرية والتعميم من دون قيود أخلاقية أو قيم استعمالية. إنه نقيض القيم التبادلية ولا يستسيغها. ومن ثمة لا بد من سيادة التبسيط فيه لضمان أكبر عدد من متصفحي صفحات الويب، ومن السماح للجميع بالتعبير عن نفسه من دون ارتهان بالاستجابة لحدود مرسومة في القول وأنماطه كان أدبا أو غير أدب. نعم سيوفر الفضاء الإلكتروني مكتبات هائلة للجميع، لكن بموازاة مع ذلك ما الذي يجعله خطابا مهيمنا يوميا ويسرق الوقت من الجميع؟ إن شركات الألعاب الإلكترونية تفكر في سرقة وقت أطفالنا أكثر مما نفكر فيه نحن. وهذه السرقة سوف تنشئ جيلا مرتبطا بإنتاجها حتى في الكبر.. اليوم هناك أمراض الإدمان الإلكتروني، وهي أمراض ناجمة عن ضرورة رفع أسهم الشركات صانعة الألعاب الإلكترونية. الأمر نفسه وارد اليوم في استهلاك الإنترنت وتكييف الثقافة لكي تستجيب للأسهم. وعلى الأدب وما يقال حوله أن يستجيبا لهذا التكييف. لقد قال (دريدا) في أحد حواراته في صدد مستقبل فكره ما مفاده: إما أنه سوف يندثر ذكره نهائيا خلال وقت وجيز، وإما أنه سوف يصير خالدا. ولم يقل ذلك جزافا. وإنما قاله لأنه كان يتوجس خيفة من التحولات الجارية في صناعة الثقافة اليوم، وبالتالي كان مبعث خوفه من اندثار فكره ماثلا في هيمنة الثقافة التبسيطية.
لا يقف اعتراضكم على (تودوروف) عند حدود دور المثقف بل الأصل فيه تصوركم الخاص لمفهومي الأدب والفلسفة، ودورهما في توفير سرديات كبرى ترشد الإنسان وتمنحه وعيه الخاص بالوجود والعالم.
ما هو الأدب؟ سؤال استشكالي.. ولن أجانب الصواب إذا قلت إن كل عصر يعيد صياغة إجابة لهذا السؤال تلائم الهيمنة الرمزية فيه بما يستجيب للتحولات الاقتصادية والاجتماعية ووسائل إنتاج الأدب من حيث هو بناء رمزي للعالم. لكن ما لا يمكن تلافيه في تحديد مفهوم الأدب هو تاريخيته؛ أي مراعاة زمن تأسيسه بوصفه مفصلة فكرية ورمزية تستند إلى انفصال تاريخي في مفهوم الإنسان والعالم وإنتاج التخييل والرمز، وعلاقته بالمعرفة والمجتمعات الحديثة، و مراعاة هدم أشكال تأويل العالم المنمدجة والمتعالية، وبناء هذا التأويل وفق الشكل وعدم استنفاذه. ولعل سؤال علاقة الأدب بالفلسفة يجد مبرره هنا. فهو يقول نقص العالم لا اكتماله، بمعنى أنه يقدم فهما ما لعالم في حالة شتات من خلال تخييل نسق ما للحدوث أو الأشياء. وما هذا النسق سوى عمليات التحبيك في السرد، أو تخيل ترابطات جديدة بين عناصر من العالم لا تقبل الالتئام عادة في الشعر. فالفلسفة تقدم هذا النسق على نحو تجريدي منسجم، بينما يقدمه الأدب على نحو تجسيمي. لكن الأدب يمتاز بكونه يضع نفسه موضوع تفكير في نفسه في الوقت الذي يكتب فيه، أي أنه يحول الكتابة إلى موضوع له إلى جانب مواضيعه الخاصة، ومن ثمة فهو يفكر فينا ويدعونا إلى أن نفكر معه لأن نسقه احتمالي يتضمن نقصا يؤول إليه من نقص وسائله، بينما الفلسفة تنطلق من امتلاء وثقة في وسائلها وتسعى إلى ملامسة اليقين. ومن ثمة فالفلسفة هي التي تقدم السرديات الكبرى لعنايتها بتفسير العالم لا بفهمه على أن نقصه احتمالي. والأدب يعنى بما تقدمه الفلسفة من سرديات كبرى، بيد أنه ينزع عن هذه السرديات طابعها اليقيني ويرى إليها من زاوية احتماليته؛ حيث تفرض أسئلة المتغير والخاص والفرداني نفسها بقوة.
اليوم يعيش العالم تيها حادا نتيجة ضمور السرديات وتراجع الفكر الفلسفي الرصين الذي بإمكانه أن يولد سردية مفسرة تمنح الإنسان دليل عمل لتجاوز مأزقه المعاصر ولا أخلاقية نظام اقتصادي وحشي لا يؤمن بالكرامة الإنسانية.. صحيح أن هناك أصواتا، وهي قليلة تشجب ما يحدث اليوم من هيمنة رأسمال جشع، لكن يجب أن نميز هنا بين الفكر والفلسفة. فالأول يعد كونه مجرد تحليل للقضايا واستخلاص نتائج معينة، والثانية تعنى ببناء أنساق مفسرة للعالم ومغيرة له. فهذا المنحى الفلسفي هو ما يكاد اليوم يخفت. ومن ثمة يظل الأدب وحده واجهة قوية لمد الإنسان بفهمٍ للعالم وتأويله وفق خصوصيته. والأدب لا يفعل ذلك كما تفعل الفلسفة أو الفكر. فهو لا يقدم نسقا مفسرا ولا يقدم أفكارا، وإنما يقدم أشكالا تخييلية موازية لشكل الحياة الواقعية تسمح للإنسان أن يرى الوجه الآخر الاحتمالي لصيرورة العالم. فكل ما هو استثنائي خارق للمنظومة الرمزية التي تهيكل الحياة الواقعية يعد شرط التخييل الأدبي. ومن ثمة لا بد لكل تفكير في دراسة الأدب وفهمه وتدريسه أن يؤسس نفسه في حضن هذه الخصوصية التي تحدد الأدب.
كثرالحديث اليوم عن أزمة النقد ومناهجه. فهل هناك أولا أزمة؟ وما هي مظاهرها؟ وهل نشهد نهاية المناهج؟ وهل ثمة مشاريع نقدية في العالم العربي حتى يمكن أن نتحدث عن أزمة نقدية؟
إذا أخذنا الأزمة بمفهوم ضمور الإنتاج النقدي، فإنني لا أتصور وجودا لأزمة من هذا القبيل في العالم الغربي. أما إذا أخذناها بمفهوم تعدد الاتجاهات النقدية والسجال بينها حول الأحقية في مقاربة النصوص، فهي موجودة بكل تأكيد. فالفكر النقدي توقف عند حدود ما أنتج في القرن العشرين من تصورات نقدية مختلفة، وحين أقول ذلك لا أعني غياب هذه التصورات، وإنما كفها عن الإضافة. ولربما كان التصور التفكيكي في الولايات المتحدة والتصور الهيرمونيطيقي اليوم وحدهما مستمرين في تجديد حضورهما معرفيا وإجرائيا. ولنلاحظ أن كليهما لا يقوم على ضرورة المنهج، كما أنهما يشتركان في كونهما توجهين يعتمدان في مقاربة النصوص على تصور استراتيجي.
أما في ما يخص نهاية المناهج فهذا أمر مشكوك فيه. أولا لأن من يقول بعدم المنهج لا يمكنه أن يبني تصوره إلا في ضوء مضمرات نظرية وإجرائية. وهذه المضمرات تشتغل بوصفها معايير محددة. ومن ثمة فهي موجهة، ولا بد من مراعاتها في مقاربة النصوص.. وفي هذا الصدد أفضل الحديث عن النسقية أو عدمها بدلا من الحديث عن حضور المنهج أو عدمه. فكل من التفكيكية والهيرمونيطيقا لا ينطلقان من أنساق مبنية على نحو مسبق، لكنهما لا ينفلتان من المنهجية في بناء تصوراتهما النظرية والإجرائية. فهناك خطوات تجب مراعاتها أثناء المقاربة النصية في كل منهما.
وفي ما يتعلق بالمشاريع النقدية في العالم العربي وعلاقتها بالأزمة أظن أن هناك اجتهادات لا يمكن التقليل من شأنها، على الرغم من أنها لم ترق إلى مستوى المشاريع. وأنا هنا لا أتحدث عن المحاولات التي تستنسخ المشاريع الغربية أو تسطو على جهود الآخرين وتطمس آثار السطو، وإنما عن المشاريع التي نلمس فيها الجهد الخاص والقدرة على المساءلة والإضافة إلى المستفاد من النقد الغربي. وأظن أن من مواصفات المشروع أن يستولد جهازا نظريا وإجرائيا متكاملا، وأن يكون ذا خطوات محددة بكل دقة، ويستند إلى خلفيات ابستيمولوجية مضبوطة. ومثل هذا الأمر غير متوفر في ما أعلم. وأزمة النقد العربي غير متولدة عن المشاريع، بل عن التبعية الفكرية. فكلما جف المعين هناك في الغرب، وانعدم ما نقلده نصاب بالتيه، فيكون اختيارنا بين أمرين اثنين: إما الانتظارية واللجوء إلى ما هو انطباعي تأثري، وإما التحصن بأصولية ثقافية قائمة على الاستنجاد بالمنجز التراثي في النقد.
تطرحون في كتاب «النظرية السردية» تصورا نقديا جديدا أطلقتم عليه المنهج (التجديلي التضافري)، ما هي الخطوط العريضة لهذا التصور؟ ألم يكن من باب المغامرة وسم تصوركم بالمنهج في الوقت الذي أصبح فيه العداء مستشريا تجاه كل ما هو منهجي؟
لا يسمح حوار من هذا القبيل باستعراض الخطوط الكبرى للتصور النقدي الذي صغت أسسه تحت تسمية (التجديل التضافري). لكنني أستطيع القول على نحو مجمل إنه استئناف للتفكير في حضن السيميائيات الخاصة في جهاز نقدي بديل تكون له القدرة على تلافي المعضلات النظرية والإجرائية التي واجهتها السيميائيات العامة من حيث هي سعي إلى توليد جهاز نظري في الدلالة قادر على تفسير إنتاج كل الظواهر الرمزية. وقد قام هذا التصور على التفاعل بين البنية والفاعل، وبين العام القاعدي والخاص المتغير، وبين الدلالة من حيث هي مشترك من السنن في إنتاج المعنى والتعبير من حيث هو فرداني. واستندنا في ذلك إلى مبادئ نظرية تتكفل بتقنين هذا التفاعل وتتمثل في ثنائيات: (الضرورة والحرية) و(الوحدة والكثرة) و (التقدم والتقهقر) و (الانتظام والاضطراب) و(الانفتاح والانغلاق). كما كان علينا أن نفكر في كيفية نشوء الملفوظ السردي، وفي ضبط الكيفية التي تتعالق بها المستويات النصية في ما بينها. فلا يعقل أن نعد النص كلا متضامنا ونقتطع منه مجالا محددا نجعله محور توليد تصور منهجي لتحليل النص. وكان علينا أن نفكر أيضا في المسألة الإجناسية من منظورنا التجديلي التضافري، فلا نتركها محصورة في الأوفاق الشكلية، ونحاول أن نرى إلى أي حد يمكن أن تعالج على مستوى الدلالة. ولم يفتنا ونحن نهيء هذا المشروع المنهجي أن نتنبه إلى ذلك التصادي بين النظري والممارسة؛ حيث جعلنا من التصور هيكلا مفتوحا مؤسسا من عناوين استراتيجية موجهة من دون تقنين صارم تاركين الحرية للمحلل في التصرف في ضوء ما تمليه عليه النصوص من متغيرات. كما أننا لم نقم ما هو دلالي على محاكاة اللسانيات، بقدر ما فعلنا ذلك على أسس ما هو ثقافي ورمزي.
أما في ما يتعلق بلماذا أصر على أن أكون منهجيا في الوقت الذي يلوح فيه توجه نحو العداء اتجاهها فهو أمر غير مقلق بالنسبة إليَّ لأنني أظن- كما ألمحت إلى ذلك سابقا- أن من يدعي عدم المنهج لا يخرج قوله عما هو منهجي. ولن أكرر حججي في هذا الصدد. بيد أنني أريد أن أضيف شيئا هاما، وهو أن المنهج عندي اثنان: إما استنباطي أو استقرائي، ولا يوجد شيء نظري أو إجرائي ينفلت منهما، أما ما يسمى بالمناهج فهي بالنسبة إلي مقاربات. والمقاربات إما أن تكون نسقية أو غير نسقية.
يتهم تصوركم بنزوعه نحو التجريد وفصل النقد عن المتلقي ليكون ممارسة نخبوية منفصلة عن محيطها الاجتماعي.
نعم .. لقد قيل لي ذلك مرارا. وأنا أقول لنتحل بقليل من التواضع في قول الحقيقة. من يقرأ النقد وينشغل به؟ لا أظن العموم. حتى في الغرب يظل قراء النقد محصورين في المهتمين، وفي فضاءات التعلم، وبخاصة الجامعات. وأظن أن التغطية الصحافية لا تندرج في النقد ،فهي طريقة ما في توصيل الخبر الأدبي، وإشعار القراء به. وعلينا ألا نخلط بين الأمور. ولنقل الحقيقة المؤلمة بكل صراحة- وأنا لا أنال هنا من أحد لأنني أحترم اختيارات الناس- هناك اليوم حرب ضروس تخاض ضد ما هو أكاديمي ومعرفة أصيلة وفلسفة بحجة قارئ موسع وجماهيري موهوم، لكن هذه الحجة مصطنعة تخفي عجزا مهولا في الإنتاج الجيد والرصين، وجهلا ذريعا بالمستجدات في مجال المعرفة، وتوانيا ملحوظا في المواكبة.
كيف تنظرون إلى مستقبل الأدب والفلسفة في الوطن العربي في ظل الثورة المعلوماتية وطغيان ثقافة الميديا؟
لقد تحدثت عن تأثير الميديا، ونحن ما زلنا في بداية التحولات التي سوف تحدثها في مجال الأدب وإنتاجه، وفي باقي المعارف الأخرى. وأظن أن الفلسفة من حيث هي ممارسة نظرية مخصوصة لا تدعي أن تكون عامة ستظل محافظة على سمكها، لكن كيف يمكن أن تثبت جدارتها أمام ما هو تقني فهذا أمر موكول إلى مكر التاريخ. وأظن أن الأمر في العالم العربي لن يخرج عما يلحق العالم من تحولات. بيد أن المعرفة فيه يجب ألا تعزل عن السياق السياسي والاجتماعي. فلا بد أن تظل مرتهنة بقرارات علنية أو خفية تأتي من خارج حقل الأدب والفلسفة. فالحرية والديمقراطية يوفران للأدب والفلسفة الشروط المثلى للإبداع والابتكار الجيدين. والسؤال الذي يجب أن يطرح هو إلى أي حد يستطيع الأدب والفلسفة الحفاظ على قوتهما في علاقتهما بالميديا في أوساط تتسم بالتخلف والريع والاستبداد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.