إذا كان «فن القصة القصيرة» كما يرى جابر عصفور فنا صعباً «لا يبرع فيه سوى الأكفاء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة،وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه»1. كما أنه «ليس ألذ في أحاديث الناس من قصة، وليس أمتع فيما يقرأ الناس من قصة، والعقول قد تخمد من تعب، ويكاد يغلبها النوم، حتى إذا قلت قصة ذهب النوم، واستيقظت العقول، وأرهفت الآذان ...»كما قال الدكتور أحمد زكي 2. فإن المتصفح للمجموعة القصصية “ظلال حارقة” للقاص إدريس الواغيش يشعر بأهمية المنجز القصصي في حياة الإنسان القارئ، المثقف ،لما لها من دور في تحديث الرؤى وبلورتها من خلال ما تثيره القصة القصيرة من أسئلة مقلقة تساهم في خلق إجابات متعددة، تتعدد بتعدد المواقف والأيديولوجيات وبتعدد القراءات واختلاف أوجه الرؤى. فعند تصفح هذه المجموعة القصصية يصدمنا العنوان بجرسه الموسيقي ومفارقاته اللغوية ، فجملة "ظلال حارقة" تحيل ذهن القارئ إلى دلالات متعددة مشحونة بمعان تروم التضاد أكثر مما تهدف إلى التجانس، وخاصة كلمة "ظلال" الخبر الذي حذف مبتدؤه،نظرا لأهمية الخبر في البناء اللغوي الملفوظ، وكذلك ارتباط لفظة ظلال بكلمة "حارقة" الصفة التي لاتلائم الموصوف ،لكن شعرية اللغة القصصية أعطت للعنوان انزياحات متعددة، الغرض منها صدمة القارئ وتحضيره لتلقي باقي الصدمات المؤلمة، التي تخللت المجموعة القصصية التي تحكي الواقع بكل تجلياته بأدبية وحرفية القاص المتمرس. والقاص لم يقم بتبئير العنوان ووضعه تحت المجهر لتسليط الضوء عليه فقط، بل أكثر من ذلك فقد اهتم بالفضاء العام الذي يحيط بالعنوان، حيث إن اختيار اللون الأحمر كعلامة سميائية للتعبير عن الاحتراق،في فضاء عتبة الغلاف والمحاط باللون الأسود المعبر دلاليا وسميائيا عن الظلال، كان اختيارا مقصودا من أجل التعبير عن فساحة هذا الفضاء ورحابته وسعة صدر صاحبه، رغم ما سطره من حرقة ومعاناة وتجربة في الحياة، تلك التجربة التي يمر بها كل إنسان يعيش واقعا متأزما، فيحلم كما يحلم الجميع ويتألم كما يتألم كثير من الناس، على اعتبار أن المجموعة القصصية هي في الأول و الأخير مجموعة من الآمال والآلام التي أحسن القاص تطريزها باستقائها من المخيال الفردي و الجماعي، إيمانا منه بأن الابداع مرآة تعكس التغيرات الجوانية للنفس الإنسانية، وتحكي هموم المتلقي بلسان الكاتب، حيث تلتقي المصالح المشتركة بين المبدع و القارئ، وهي الوصول إلى النرفانا القرائية عند المتلقي والنرفانا الكتابية عند المبدع إن صح هذا التعبير. واقع القصة أم قصة الواقع في "ظلال حارقة" من بين مهام اللغة نقل الواقع بآلية معينة يفهمها الأديب فقط دون غيره من عامة الناس،و القاص هنا نقل الواقع المحزن بلغة محددة سلفا ميزها عن كافة الكتابات الأخرى الاجتماعية والأيديولوجية.إن القاص إدريس الواغيش يعكس بأسلوب أدبي ما آل إليه المجتمع من إهمال ومعاناة المواطن الضعيف،نظرا لتردي أحوال الناس وانحطاط المجتمع وكثرة الصفقات الوهمية التي ينتفع منها المنتفعون في هذا البلد ويكون الشعب الدافع للضرائب ضحية لهذه الخروقات و الاهمالات. فالقاص في هذه المجموعة القصصية ينطلق من الواقع في اتجاه الفكر،ليعود مرة أخرى إلى الواقع مستغلا في ذلك تقنية اللغة القصصية التي توظف الكلمات المناسبة لخدمة التعابير و الجمل القصصية المؤثثة لفضاء هذه الأعمال القصصية ،هذه اللغة التي من طبيعتها الأدبية أن تكون ممزوجة بالتصورات الخيالية و التعابير الإيهامية. وبالرغم من اهتمام القاص بالأساليب الفنية و الجمالية،وقدرته على توليد اللغة،وامتلاكه أساليب السرد المختلفة،تبقى المجموعة القصصية مرتبطة بشكل واضح وفاضح للواقع المزري،ومرتبطة كذلك بالحالة السوسيونفسية للأصوات المتحاورة داخل فضاءات "ظلال حارقة" وكان للقاص مقصدية نقل الواقع بلغة تجمع بين التصريح و التلميح، حيث تنحرف فيها الدلالة من معناها الحقيقي إلى معاني أخرى تفهم في سياقها وفي إطار المنظومة التي قيلت فيها.وقد ساعد في ذلك حالة الشخصيات المشكلة لهذه المجموعة القصصية،إنها شخصيات محرومة، متأزمة تعيش التشرذم و التشظي تتجاذبها الأحداث وتطوح بها في أماكن مختلفة عبر فضاءات القصص الزمانية و المكانية.. إنها رؤى ثاقبة إلى العالم،رؤى تتقاطع عموديا وأفقيا مع الطرح العام لكافة المثقفين،وتعبر عن آلامهم و آمالهم بكل صدق وإحساس مرهف،ويكون لهذه الطريقة في الكتابة أثر كبير في نفسية المتلقي حيث إنه يصبح عنصرا مشاركا في عملية السرد القصصي.كما يصبح المتلقي هدفا عندما يستوعب المجموعة القصصية ويتذوق دلالاتها وحمولاتها الفكرية،ومن تم يتحول بدوره إلى عنصر مشارك متورط في عملية السرد،وذلك من خلال قراءة ماوراء السطور،فلا تلبث عيناه تزيغان عن القراءة حتى يجد نفسه منغمسا في جوهرو مواضيع المجموعة القصصية، فيتدخل في اقتراح مجموعة من الحلول الممكنة التي تعطي تفسيرا وتأويلا للأسئلة المطروحة،والإشكاليات التي تبقى معلقة وتحتاج إلى إجابات تقترب أو تبتعد من المشروع الفكري و المنهجي المخزون و المنقوش في ذاكرة القاص إدريس الواغيش. و هكذا تزداد المجموعة القصصية صعوبة وتمردا على القارئ/الناقد لما تحمله من أوجه و رؤى متباعدة ومختلفة باختلاف وجهات نظر صاحبها،مما ينتج عنه صعوبة في اختيار آليات قراءتها،فيشعر القارئ وهو يقلب صفحاتها أن القاص قد نفث شيئا من روحه في اختياراته التجريبية،وصب فيها رؤاه المتناقضة إلى العالم،انطلاقا من منظوره الخاص ومن زاوية قراءته للعالم،لكن هذه الرؤى المتناقضة المنطلق لها نفس الهدف ونفس التوجه،حيث يصبح الاختلاف و التناقض في خدمة المشهد الثقافي و السياسي و الاجتماعي... وتزداد الرؤية إلى العالم ضيقا إلى درجة التبئير"focalisation" وتحديد زاوية الرؤية من أجل وضع الظاهرة الاجتماعية بؤرة"focus" تحت المجهر، وتسليط الأضواء عليها ليراها المتلقي، وتكون هي الوسيلة الممكنة للتعبير عن همومه بلسان صاحب المجموعة القصصية،لأن ما يميز الإنسان العادي عن الكاتب هو الأسلوب، وكان القاص إدريس الواغيش خير معبر عن هموم القارئ وتطلعاته،وقد اعتمد على ضمير الغائب في أغلب القصص لتتبع المشاهد و الأحداث القصصية، لكي يزول صوت القاص أو يتأخر شيئا ما فاسحا المجال لصوت القارئ، الذي يساهم في ملء هذه الضمائر الغائبة بالضمائر المتكلمة،ويساهم كذلك في ملء الفراغات المنتشرة عبر بياض المجموعة القصصية. وما يميز "ظلال حارقة" هو ما سماء جاكبسون بالشعرية أي ما يجعل من كتابة ما كتابة أدبية ،فالمجموعة القصصية لم تكن مرآة تعكس الواقع بشكل آلي وإنما كانت ترفعه إلى عالم المتخيل الذي يمزج بين الواقع و الخيال،بأسلوب السهل الممتنع الذي ينقل معاناة المجتمع بجميع شرائحه و فوارقه الاجتماعية،كل واحد يفهم ظلال حارقة حسب مستواه الثقافي،وهكذا تتعدد القراءات بتعدد الرؤى و الزوايا النقدية.. وفي الأخير يمكن أن نقول بأن الأديب إدريس الواغيش عندما كان يسرد قصصه المشكلة ل"ظلال حارقة" كانت عينه على الواقع وقلمه على الصيغة التي يعكس بها هذا الواقع المتردي و المتشظي ، مجموعة قصصية تنقل الواقع بلغة أدبية جميلة، تميزت بقاموس خاص ميز كتابات إدريس الواغيش وسطرت له خطا بارزا في مجال الكتابة الأدبية ،كتابة تعبر عن كيفية فهم القاص المحترف طريقة نقل هذا الواقع دون الوقوع في خطابات أخرى غير أدبية، كتابة تملي عليه كيفية استخراج المعاني و الدلالات و المقاطع الفنية و المشاهد المعبرة ،مجموعة قصصية تحكي المكبوت في نفس البشر وتعبر عنه بلغة أدبية متزنة، لغة تمتزج فيها الأزمنة بالأمكنة وكأن الزمان والمكان و اللغة شئ واحد. "ظلال حارقة" عبارة عن مرآة تعكس حال العصر وتنقل واقع الحال بكل مستجداته ومتغيراته، غير أنها حقيقة لا تنقله بشكل حرفي، وإنما تنقله بطريقة أدبية وذلك بأن ترفع هذا الواقع من آليته وحرفيته إلى العالم المتخيل الذي يضفي على مستجدات الواقع و المحيط الاجتماعي ما يسمى بأدبية العمل الأدبي. إن البنية الفنية في "ظلال حارقة" بنية بسيطة لاتغرق في الترميز و الغموض الذي يفقد الكتابة الأدبية مصداقيتها ويبعدها عن الواقع الاجتماعي،فالألفاظ تتحرك بحرية من التركيب إلى التعبير لتصل أخيرا إلى مرحلة الدلالة لتتخذ الجمل القصصية بعدا فكريا وعمقا دلاليا. كما كان لبنية الأفعال دورا هاما في حركية القصص حيث اشتغل القاص إدريس الواغيش على الأفعال الماضية التي تستحضر المتخيل المتراكم في الذاكرة لتوظيفه داخل فضاء القصة، ومن الماضي ينهض ويتحرك في اتجاه المضارع الذي يزيد من وتيرة الحركية المفضية إلى المستقبل الملئ بالمفاجآت و الفاضح لمستجدات الواقع ومتغيراته . وفي قصص كثيرة من هذه المجموعة نلاحظ بأن القاص وكأنه يحمل كاميرا على كتفه ويتجول بها في الأزقة وداخل البيوت، وينقل بحرفية ما تلتقطه عدسة كاميراته من وقائع وأحداث اجتماعية. ويبعثر نص "السجين رقم 1228" الذات إلى مقاطع على مسرح الحياة في كل تماهياتها ابتداء من لغة آدمية البشر التي تدمر الأيام والحضارات في اللغة الجمعية ، وهنا تنقطع سبل النجاة بكل معانيها الروحية والمادية في إصلاح الفساد ونشر الحرية والجمال لأنها في استلاب أخر جمعي ينتظر لحظاته الأخيرة "على الحيطان تقرأ تفكير المساجين،أمنياتهم ،طموحاتهم ،وإحباطاتهم " ص39 فالواقع هنا يختلف عن الواقع الفيزيقي لأنه يمزج بين مادية الواقع وإحساس الأديب، لأن المنجزالأدبي يعتبر نتاجا حياً للفكر والإحساس ونتاجا لما يحس به الأديب من صدام بينه وبين الواقع ، ومن هنا ينبغي أن نميز بين الواقع كما هو قائم في العالم الموضوعي ، وبين الواقع كما يرتئيه الأديب. وتظهر قصص "ظلال حارقة" حرقة القارئ من خلال جاذبية النصوص التي تبين رفضه لواقعه من خلال تتبع حراك الشخوص في النص ورغبتها في التغيير و الابتعاد عن النمطية وكسر الحواجز في لغة الهروب واختيار لغة مقالية تناسب المقام. وهكذا تتحرك النصوص القصصية بلغة متباينة وبألوان مختلفة، لكنها بالرغم من ذلك فإنها تعزف سمفونية موحدة ذات رؤية شمولية بمقصدية واحدة. فالقاص يعمل من خلال الصور والأخيلة على ابتكار لغة خاصة تعبر بها الصوائت والصوامت، حيث يصبح للقصة لسان، تعبر به عن واقع الحال وعن حال الواقع، حيث إنها تتبع حركية الأشخاص داخل النسيج الجمعي والجماعي، تحكي الماضي السعيد/التعيس بما يحمل من متناقضات تساعد على إحياء الذكريات الأليمة الممزوجة بألم الأجداد،ألم ابن زيدون وولادة والبكاء على الطلل المجيد ،طلل قصر الحمراء ،كل هذه العوامل كانت سببا في ضياع ما/من نحب وقد ترك فينا أثرا لا ولن ينمحي" ليس وحده من مر من هنا،من هذا الدرب الملتهب،قبله احترق ابن زيدون بولادة فأنشد فيها شعرا ومضى لحزنه وقصائده...."ص54 السرد القصصي من الملقي إلى المتلقي يمكن اعتبار قصص "ظلال حارقة" سيرة ذاتية ممتدو في التخييل الذاتي تحكي تجارب القاص المختلفة و المتنوعة مع الواقع المعيش و المحيط الاجتماعي الذي ينقله من خلال المنجز القصصي،فاضحا مجموعة من السلوكيات الخاطئة التي تمارسها فئة عريضة من فئات المجتمع، ونلاحظ كذلك بأن القاص يتكلم في قصصه بضمير الغائب"على وجهه بقايا حزن سميك" ص75 ليختبئ وراء الشخصيات لكي يتمكن من تسييرها و حثها على تأدية أدوارها انطلاقا من منظوره الخاص، فنرى بأن القاص يشرك القارئ المتلقي في عملية السرد بل يورطه في أحايين كثيرة في تشكيل الرؤية إلى العالم انطلاقا مما يسمى بعملية التلقي و التأويل، بل أحيانا ينسحب القاص ليتدخل القارئ في بلورة هذه الرؤية وتحديدها،وهنا يمكن استحضار الصراع المحموم حول موت الكاتب،فالكاتب لا يموت باعتباره الشخصية الفاعلة وإنما يموت باعتباره الشخصية العاملة،بمعنى موته كعامل نحوي ليحيا بدله القارئ وينتج نصا يتماشى وذائقته أو لذته القرائية. هكذا يتحرك السارد وينهض في أشكال وأنماط شخصية مختلفة،نراه يتقمص دور البطولة ويجر معه الشخصيات المؤثثة لفضاء قصصه ،متوجها بها في الاتجاه الذي يريد،يتحرك بكامل الحرية في كل القصص عبر السرد و التفضيء الزمكاني،تشعر وكأن الكاتب يسلك أسلوبا واحدا في الكتابة يتقاطع فيه مع الرواية في أسلوب الحكي و مع المسرحية في الحوار و مع السينما في المشاهد الصادمة والمدهشة ومع السيناريو في التقطيع المشهدي، و يتقاطع مع الفنون التشكيلية في مزج الألوان المناسبة للوحات التشكيلية. وهذا النوع من الكتابة يحترم مخيال المتلقي وذائقته الأدبية،لأن النص القصصي يتحرك كرسالة من المرسل/الكاتب إلى المرسل إليه القارئ وفي هذه السيرورة/ الصيرورة ينتج هذا البياض السردي الذي يساهم في توريط القارئ أدبيا في إضفاء صفة الأدبية على العمل القصصي. ومن هنا يمكن أن نقول بأن البطل المتعدد في “ظلال حارقة”هو نفسه في القصص كلها بالرغم من اختلاف الأسماء و اختلاف الأحداث و الأزمنة ،إنه بطل حداثي من ورق ، يتمطط ويتمدد حسب سير الأحداث وحسب الفضاءات الزمنية و المكانية، بطل زئبقي يصعب تحديده وتموقعه في القصص،يتعايش بشكل إيجابي مع طبيعة السرود وطبيعة الأحداث وطبيعة الأزمنة و الأمكنة، بل قل إنه بطل يساهم في خلق هذه الفضاءات و تأثيثها بل تكييفها حسب الكيفية التي يريد أن تسير عليها القصص. ولهذا يمكن إدراج هذه المجموعة القصصية ضمن الرواية الحداثية التي يكون فيها البطل هو نفسه السارد في جميع القصص ، لا يتغير مسار خطه في سرد الأحداث، ونادرا ما تتغير نبرة صوته من أجل كسر رتابة السرد لكي لا يشعر القارئ بالملل أثناء تلقي الأحداث .كما أننا نجده يحاور نفسه، ومن خلال هذا الحوار يحاور الشخصيات المساعدة التي تتقمص الأحداث و تعبرعنها، وهو في نفس الآن يعمد إلى إشراك المتلقي في نسج خيوط القصة، وترتيب جوانبها بتقنية جديدة تعتمد على الهدم و البناء، هدم السرد وإعادة بنائه من جديد دون قطع حباله المسترسلة والمتماسكة.كما أنه هو نفسه الذي يقوم بأداء أدوار باقي الشخصيات. كما أن الزمن في المجموعة القصصية زمن واحد تتداخل فيه أزمنة الأحداث وأزمنة السرد، حيث إن القارئ لا يشعر بهذا الانقطاع في سير الأحداث عبر زمن القصة بل يشعر وكأنه يقرأ قصة واحدة ذات أبعاد مختلفة لكنها تحدث في زمن واحد.