تمهيد: ظهرت القصة القصيرة جدا في وقت مبكر في آداب أمريكا اللاتينية مع بدايات القرن العشرين، لتنتقل بعد ذلك إلى أوربا الغربية والعالم العربي. أما في المغرب، فلم ترهص القصة القصيرة جدا إلا في الثمانينيات مع جماعة الرواد أمثال: محمد إبراهيم بوعلو ومحمد زفزاف وأحمد زيادي وأحمد بوزفور وزهرة زيراوي وآخرين... لكن لن تعرف القصة القصيرة جدا بدايتها التجنيسية ومناحيها التجديدية والتجريبية إلا في بدايات الألفية الثالثة مع مجموعة من الشباب والشابات أمثال: جمال بوطيب ، وحسن برطال، وسعيد بوكرامي، وسعيد منتسب، وعبد الله المتقي، وعز الدين الماعزي،،ومصطفى لغتيري، والمهدي الودغيري، وعبد المجيد الهواس، وهشام بن الشاوي، ومصطفى جباري، وسعيد الفاضلي، ومحمد العتروس، وعبد العالي بركات، وتوفيق مصباح، ومحمد تنفو، وفاطمة بوزيان، وعائشة موقيظ. وسنحاول في هذه الدراسة أن نستقرىء تطور القصة القصيرة جدا في المغرب عبر مراحلها الفنية قصد معرفة ثوابتها الفنية والجمالية وقضاياها الدلالية ومقاصدها القريبة والبعيدة. 1- مرحلة التأسيس والترهيص: ساهم بعض الكتاب الرواد في تثبيت معالم القصة القصيرة جدا بالمغرب الأقصى منذ 1983، مع ظهور المجموعة القصصية لمحمد إبراهيم بوعلو تحت عنوان" خمسون أقصوصة في 50 دقيقة"، وهي بمثابة قصص قصيرة جدا،" ظل الكاتب ينشرها كل خميس ضمن صفحة ثقافية، كان يعدها في جريدة" المحرر" بتنسيق مع الأستاذ أحمد السطاتي الذي كان يكتب زاوية موفقة عنوانها" نقطة على الحروف"" ، لتعقبها أعمال كل من محمد زفزاف وأحمد زيادي وزهرة زيراوي وأحمد بوزفور. وإذا أخذنا قصة محمد إبراهيم بوعلو المسماة ب" تمثيلية" ، فسنجد الكاتب يسخر من الزعماء المناضلين الذين يضحكون على الشعب أولا وعلى أنفسهم ثانيا، وهؤلاء لاعلاقة لهم بالنضال والثورة والتوعية الوطنية، فهم لايخدمون سوى أغراضهم الشخصية، ويركبون السياسة من أجل تحقيق مآربهم الذاتية واستيفاء رغبات زوجاتهم. لذا، يبدو المناضل المزعوم في دوره النضالي المصطنع ممثلا مسرحيا فاشلا لايقنع نفسه بدوره التمثيلي وبالأحرى أن يقنع الآخرين. وهنا، ينتقد بوعلو التجارب السياسية المغربية التي فشلت في مشاريعها التوعوية والتنموية بسبب ترجيح زعمائها كفة المصالح الشخصية على حساب المصالح العامة: "رجاني أن أصاحبه إلى إحدى التجمعات التي أشرفوا على تهييئها له لإلقاء كلمته... كنت أعلم أنه غير مقنع بهذا الذي يقوم به ، ولكنهم دفعوه إلى ذلك دفعا، وهو ليس في استطاعته التملص من ذلك مادام يملك مركزا إداريا محترما يرضي به رغبات زوجته التي لاتنتهي.... ولكي يحافظ على المركز، وعلى رضا الزوجة، ها هو ذا أمام منصة الخطابة يلقي كلمته البليغة، ويشير بيديه، ويفتح ياقة قميصه، وبعبارة موجزة يمثل دور الزعيم... كنت أجلس مع السامعين الذين حضروا ، ولاشك، بالطريقة التي حضر بها مخاطبهم، وإن كانت الدوافع والزواجر تختلف، فهم الآخرون يمثلون دور المناضلين المخلصين الذين يستمعون لزعيمهم بإعجاب فائق...! والواضح أن الجميع ينتظر انتهاء التمثيلية بفارغ الصبر... وفي لحظة إقناع مستمعيه، بدا وكأن الآذان لاتسمع شيئا، وأنه وهو يفتح فمه بهذا النعيق الأجوف كأنه يتثاءب. فاشتد بي الضحك إذ تخيلته وهو يحرك ذراعيه في الهواء وفمه المفتوح من التثاؤب أنه قام لتوه من نومه، وأن كل شيء مما قاله إنما حدث في حلم طويل انتهى باستيقاظه وتثاؤبه... خفت أن ألفت الأنظار بضحكاتي المقهقهة، فغادرت المكان وأنا ألوم نفسي على حضور هذه التمثيلية، فمن عاداتي أنني لا أشاهد إلا التمثيليات التي أؤدي ثمن تذكرتها.." ويعالج محمد زفزاف في أقصوصته " الذبابة والثور" ذات الطابع الرمزي والتخريفي موضوع اللاجئين بطريقة رمزية فانطاستيكية، فقد اتخذ الكاتب من الذبابة رمزا ذهنيا للاجئة تطرد من كل مكان تنتقل إليه. يطرد قدور ذو الوجه المتشقق الكالح الذبابة من كأس الشاي ، و عندما تلسع وجه الطفلة تلوح عليها بكفها، وتتجه إلى الثور لتؤلمه في ظهره المجروح، بيد أنه لم يسمح لها إلا أن تعيش فوق قرنه الذي حمل الكرة الأرضية مدة بلايين السنين. ويتقمص أحمد زيادي صورة عصفور بريء مغرم بالطيران واللهو والعشق، يطير في عنان السماء عبر تجليات الفصول الأربعة ، يشيد عشه الجميل ليسعد أولاده الفراخ حتى يبلغوا ويكبروا. ولكن لما تفقد العصفور/ الإنسان ريشه لم يجد سوى ريشة واحدة هي التي تسعفه على استرجاع أحلامه واسكناه ذاكرته. ويعني هذا أن الكاتب يسترجع طفولته البريئة التي فقدها مع كبره والتي حنطتها الماديات والقيم الزائفة، وتطبع هذه القصة القصيرة جدا خاصية الترميز واستخدام تقنيات الحذف والإضمار ومراعاة مقومات الفن الجديد. وبذلك ، يكون أحمد زيادي من السباقين إلى تأسيس القصة القصيرة جدا تمكينا وتثبيتا وترهيصا في المغرب إلى جانب محمد إبراهيم بوعلو. يقول أحمد زيادي في قصته" أحلام العصافير":" كنت عصفورا بكل مايتطلبه العصفور من مقومات الطيران والشدو والحب. طرت بعيدا في سماء خضراء ووردية، واجتزت غابات بألوان الفصول، واتخذت شرائط ألوان الطيف أوسمة، وحلقت عاليا فوق الربى والجبال والبحيرات والبحار... وأحببت ... أجل أحببت، وبنينا عشنا الوثير قشة قشة، وأثثناه بيضا بهيا، وتعهدنا الفراخ حتى درجت، وشدت، وطارت وأحبت... بيد أني في غمرة انتشائي تفقدت ريشي ... لم تبق منه ريشة واحدة تسعف ذاكرتي المثقلة بأحلام العصافير". وتصور زهرة زيراوي في قصتها" جسد رشيق" شخصا مكلفا بتغيير الصور الإشهارية ، سيقع في شرك حب حسناء الصورة التي تعلو واجهة شارع المدينة الكبرى، والتي ستدفعه ليتحسس جهازه التناسلي الذي لم يحظ بامرأة لمدة شهر كامل. وقد فورت فيه هذه الجميلة الممتدة بجسدها الممدود مشاعره الجنسية الدفينة، ولم تخمد شهوته المنتشية إلا بانتزاع الصورة من الكادر المخصص لتعليق الصور الإشهارية:" نظر إليها وابتسم،رأى جسدها الممتد كالشمع قبالته، كل هذه الطراوة يمتلكها الآن. مر شهر لم يحظ فيه بامرأة، أية امرأة . كلما حاول أن يقوم بعمله يغريه نهدها المطل من فتحة"الروب دي شامبر"، فيغرق في النهر الممتد ما بين النهدين، وينسى عمله للحظات. عندما كان يمرر كفه على الفاكهة الممنوحة له هذا الصباح، كان شارع عبد المومن الذي يفصل كزابلانكا الجديدة إلى نصفين، غربي وشرقي، يكتظ بالسائرين إلى الإدارات العمومية والشركات.ابتسم كمعتوه وهو يحدق في الجسد الرشيق الذي يفسد عليه ضجيج الشارع الآتي إليه، الاختلاء به كليا هذا الصباح. ضغط بأصابعه على ماتحت السرة، انتفضت عروق يده اليسرى، وهي تأخذ شكل محارة بحرية على عانتها. فجأة مرت حافلة ركاب نافثة دخانها في وجهه،كاد أن يسقط من أعلى السلم الذي كان يقف عليه ليغير صورة الإعلان الإشهاري. ودون أن ينظر إلى المارة ارتعشت يده وهو يخرج الصورة من الكادر المعد للدعاية ثم ينزل". تستند القصاصة في هذا النموذج السردي القصير إلى توظيف الخطاب البورنوغرافي وتصوير الجسد الأنثوي على غرار الكاتب عبد الله المتقي في مجموعته القصصية" الكرسي الأزرق". وتجسد هذه القصة خصوصيات الكتابة النسائية في المغرب من خلال التقابل بين الذكورة والأنوثة والتمركز على الذات والجسد، وتصوير المرأة في تموضعاتها الجنسية الماجنة التي تهدف إلى إغراء الرجل واستهوائه وانتشائه شعوريا ولاشعوريا. ويتبين لنا من خلال هذه النماذج القصصية، أن ترهيص القصة القصيرة وتثبيت مرتكزاتها بدأ مع بداية الثمانينيات من القرن العشرين مع إبراهيم بوعلو وأحمد زيادي وأحمد بوزفور وزهرة زيراوي..... وأن هذه التجربة التأسيسية الأولى تختلط بالقصة القصيرة تارة وبالأقصوصة تارة أخرى. ويلاحظ كذلك أن هذه التجارب تتخذ أبعادا سياسية واجتماعية وواقعية مع محمد إبراهيم بوعلو، وأبعادا تخريفية وفانطاستيكية مع محمد زفزاف، وأبعادا رمزية مع أحمد زيادي، وأبعادا جنسية ماجنة مع زهرة زيراوي. كما تطبعت البنية السردية بالقالب الكلاسيكي ومحاكاة الواقع وانتقاده بكل فظاظة وفظاعة، والتنديد بقيمه الزائفة والتطلع إلى القيم الأصيلة واستشراف مستقبل إنساني أفضل. وترد تلك النصوص القصصية في حجم يتأرجح بين الأقصوصة عند محمد إبراهيم بوعلو والقصة القصيرة عند محمد زفزاف والقصة القصيرة جدا عند أحمد زيادي. 2- مرحلة التجنيس الفني: لم تنطلق مرحلة تجنيس القصة القصيرة جدا في المغرب - على حد علمي - إلا في سنة 2001م مع المبدع المتميز جمال بوطيب في مجموعته القصصية" زخة... ويبتدئ الشتاء" ، وجماعة الدارالبيضاء كحسن برطال في مجموعته" أبراج" ، ومصطفى لغتيري في مجموعته" مظلة في قبر" ، وسعيد بوكرامي في مجموعته" الهنيهة الفقيرة" ... ويمكن أن نضيف إليهم مجموعة من الكتاب المغاربة المقتدرين كسعيد منتسب في مجموعته" جزيرة زرقاء" ، وعبد الله المتقي في مجموعته"الكرسي الأزرق" ، ورشيد البوشاري في مجموعته" أجساد...وقبرة" ، وهشام الشاوي في مجموعته" بيت لاتفتح نوافذه" ، ومصطفى جباري في مجموعته" زرقاء النهار" ، ومحمد العتروس في مجموعته" عناقيد الحزن" ، وعز الدين الماعزي في مجموعته" "حب على طريقة الكبار" ، بله عن كتاب آخرين مثل: عبد العالي بركات، وسعيد الفاضلي، والمهدي الودغيري ، وتوفيق مصباح، وعبد المجيد الهواس، ومحمد تنفو، وعائشة موقيظ، وفاطمة بوزيان... بيد أن مايلاحظ على هذه المرحلة، أن هناك مجموعة من الكتاب قد تخصصوا في كتابة القصة القصيرة جدا وخصصوا لها مجموعات قصصية مستقلة تندرج ضمن هذا الجنس السردي الجديد كما هو الشأن عند جمال بوطيب وعبد الله المتقي وسعيد منتسب وحسن برطال وعز الدين الماعزي ومصطفى لغتيري ... وهناك من جمع بين جنس القصة القصيرة وجنس القصة القصيرة جدا كما عند سعيد بوكرامي ورشيد البوشاري وهشام بن الشاوي... هذا، ويتكئ هذا الفن الجديد عند هؤلاء على الحجم القصير الذي يتراوح بين ثلاث جمل وصفحة واحدة أو صفحتين على الأكثر، واستعمال نقط الحذف والتنويع في علامات الترقيم بصريا ودلاليا، وتشغيل خطاب الإضمار والإيجاز والتلغيز من أجل تشويق القارئ وإثارة فضوله وتخييب أفق انتظاره. كما يلتجئ هذا الفن الجديد إلى تركيب جمل فعلية واسمية متراكبة وسريعة في الإيقاع ومتسقة من حيث الصياغة، ومتوازية من حيث التوارد التعبيري صوتيا وصرفيا ونحويا. وينبني فن القصة القصيرة جدا عند الكتاب المغاربة على شعرية الصورة البلاغية، والتركيب الشاعري والدرامي والسردي واستغلال بلاغة الانزياح، والتنويع في السجلات اللغوية بواسطة الانتقال من العامية إلى الفصحى، واختيار طريقة التهجين والباروديا والأسلبة اللغوية التي تنبع من الطابع البوليفوني الذي ترتكز عليه الرواية الحديثة. وتمتاز هذه القصة الجديدة بتشغيل التناص واستخدام الذاكرة ومخاطبة الذهن مع دغدغة العاطفة والوجدان. كما يتضمن هذا الفن الجديد ما يتضمنه الخطاب السردي بصفة عامة من أحداث وشخوص وفضاء ووصف ورؤية سردية وتنويع الأزمنة السردية والصياغات الأسلوبية واللغوية. بيد أن الوصف في هذا الفن الجديد يمتاز بالإيجاز والإيحاء والتلميح وقلة التشخيص وكثرة التكثيف، كما تتسم الأحداث بكونها وظائف رئيسة وأساسية، يستغني فيها الكاتب عن كل الأحداث الثانوية وغير المهمة، مستبدلا إياها بنقط الحذف التي تقول الكثير والكثير... وقد تحضر الشخصيات بمسمياتها العلمية لتنجز أدوارا مختصرة موحية، وقد تحضر بدون مسمياتها كرموز وأرقام ومعادلات مجهولة. وقد لايتحدد الفضاء سياقيا في هذا النوع الجديد من القصة، حيث لا يذكر الزمان والمكان، وقد يشير إليهما الكاتب في قصصه ويوظفهما جماليا وفنيا بطريقة موحية وبإشارات موجزة ومقتضبة. وتستفيد القصة القصيرة جدا من تقنيات المنظور السردي ورؤاه في نقل الأحداث ومن كل زوايا النظر المعروفة، كما يمكن لها أن تستفيد من التعاقب الزمني وانحرافاته وإيقاعه الذي يتأرجح بين البطء والسرعة كما وكيفا. وتتناول القصة القصيرة جدا نفس المواضيع التي تتناولها الرواية والقصة القصيرة وباقي الآداب و الفنون الجميلة، لكن تتميز القصة القصيرة جدا بالتدقيق في الموضوع والانتقال من التفصيل المعروف في الرواية والقصة القصيرة إلى التكثيف والاقتضاب والإيجاز والإيحاء الرمزي وتوظيف القالب الكلاسيكي على مستوى البناء والصياغة. ومن أهم القضايا الدلالية التي تطرقت إليها القصة القصيرة جدا ومازالت تتطرق إليها نذكر: القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والهموم المحلية والوطنية والقومية والإنسانية واستقراء الذاكرة الذهنية، وتناول الذات والجسد والكتابة النسائية وتصوير الجنس والطفولة والبراءة، وتجسيد تناقضات الواقع وتردي القيم الأخلاقية، والمقابلة بين البادية والمدينة، وتشخيص الفقر والبؤس الاجتماعي، والتعبير عن الصراع الاجتماعي والتفاوت الطبقي. ومن المواضيع التي تناولتها القصة القصيرة جدا موضوع الاغتصاب كما في قصة " القاتل" لتوفيق مصباح:" حدث كل شيء في رمشة العين. انتظرها عند ممر ضيق تعودت أن تسلكه كل ظهيرة أثناء انصرافها من الإعدادية. لمحته بطرف عين متربصا خلف سور أحد المنازل المتهدمة... تجاهلته... خطت سريعا كنعامة... تعرف أن المكان مقفر. ناداها... الشرر يتطاير من عينيه بركانا. قررت ألا تلتفت خلفها... وجهها خائف، قررت أن تص... صرخت... أمسكها من شعرها ولوى عنقها. برهة، حشرجت مثل ديك مذبوح. عيناها جاحظتان. شعرها منفوش. جسدها بارد... بارد جدا كقطعة ثلج..." كما يتحول العالم عند كتاب القصة القصيرة جدا إلى حفرة لعينة توقع بالإنسان وتسقطه في مدارك المهاوي والزلات وتحوله إلى إنسان بلا قلب ولاروح، يقول محمد العتروس:" يكتب الولد الصاعد شيئا ما، يكتب قصة لكنه حين ينظر إلى ما خطت يده في آخر الصفحة، لايجد غير حفرة، حفرة بحجم الحفرة...الشبر في الشبر حفرة. فيدرك في التو أن الولد الصاعد حفرة، وأن الشيء المكتوب حفرة، وأن القصة حفرة، وأن الشعر حفرة، وأن العالم، كل العالم حفرة، فيمزق أشلاء، ويغرق، يغرق في الحفرة." ويدين الكاتب ظلم الإنسان لأخيه الإنسان كما في قصة" ظلي":" ابن لوني ودمي يطأ على ظلي بالقدم. قلت له: - معذرة سيدي، ومن في مثل حالي لا يعتذر، لكن ظلي يؤلمني... ثم نحيت قدمه ومسحت رأسي في الظل، نفضت من عليه أثر موطئ القدم وتابعت سيري إلى حيث أدري. لكن ظل ابن لوني ودمي تابعني بتكشيرة ووطأني بالقدم." وتظهر مضامين المجموعات القصصية التي قرأناها أن جمال بوطيب في عالمه القصصي يبدو كاتبا باروديا ساخرا، بينما يتزيى حسن برطال بوشاح شعبي يعانق عبره هموم طبقات المجتمع المهضومة الحقوق في أبعادها المحلية و الوطنية والقومية والإنسانية، في حين يبدو مصطفى لغتيري كاتبا مثقفا ذهنيا عميق الفكر والمنطق. وإذا كان عبد الله المتقي كاتبا ماجنا بورنوغرافيا يذكرنا بمحمد شكري وزهرة زيراوي، فإن عز الدين الماعزي كاتبا طفوليا يتغنى بالطبيعة والبراءة و جمال البيئة، بينما يظهر سعيد بوكرامي كاتبا شاعريا تجريديا. 3- مرحلة التجريب: التجأ بعض الكتاب الذين ساهموا في تجنيس فن القصة القصيرة جدا في المرحلة الكلاسيكية إلى التجريب وتطعيم نصوصهم السردية بمجموعة من التقنيات الجمالية والفنية التي استعملت في الرواية الجديدة ورواية تيار الوعي والرواية الحداثية الجديدة. ويعني هذا أن الكتاب الذين روجوا لفن القصة القصيرة جدا في المرحلة الأولى هم الذين انتقلوا إلى تجريب طرائق سردية جديدة تنزاح عن المعايير الكلاسيكية المعهودة في بناء القصة القصيرة جدا نحو الاستفادة من الكتابة الحداثية الغربيةالجديدة على مستوى التحبيك والتخطيب والأسلبة والتفضية وتشغيل الكادر السينمائي والمنظور السردي مع الانفتاح على الأجناس الأدبية الأخرى وصهرها في بوتقة أجناسية واحدة . وهكذا، نجد محمد تنفو يوظف خطاب التقرير الصحفي والريبورتاج التسجيلي في صياغة قصصه، ويشغل الخطاب الجسدي الذي يوحي بالشبقية الفانطاستيكية ، حيث تتحول القاعة السينمائية في قصته" كيف تسلل وحيد القرن؟"،إلى ماخور للاستمناء وإفراغ العقد المكبوتة بعد مشاهدة فيلم هندي إباحي مثير:" في الآن نفسه، أخذت معدة القاعة المظلمة في الازدراء بشراهة حيوانية، وشرع جسد الراقصة الهندية في عرض تضاريسه الفائضة لإفراغ ما في جعبته على الجمهور الساخن جدا. فجأة، وقع ما يلي: 1. انفتحت فجوة شاسعة في الشاشة الكبيرة. 2. أصيب الجميع بسعار الشبق ونضوا عنهم ثيابهم. 3. تسابقوا كقطيع من وحيد القرن في محاولة للتسلل. عبر شارع طويل. كانت الراقصة قد أطلقت مذعورة سيقانها للريح، تجنبا لما لا يحمد عقباه!" ويستعمل عبد العالي بركات في صياغة قصته القصيرة جدا (؟!؟!!) قالبا شعريا سرديا مكتوبا بطريقة القصيدة النثرية التي تتكئ على تنوع الأسطر والجمل السردية/الشعرية، وتعبر القصة ، بالتالي، عن حادث مجهول مفاجئ: " لاشيء يبعث على الاطمئنان الهاتف يرن القطة لا تريد أن تشرب الحليب الغسيل في السطح مر عليه أكثر من أسبوع دون أن يجف النافذة تستعصي على الإغلاق هل تعرفون ماذا حدث هذا الصباح فقط؟ طرق الباب أحد عمال النظافة وهو يسأل: - أين القمامة؟ - إنها أمام البيت كالعادة؟ - آسف سيدي...إننا لم نجدها!". ويعتبر سعيد بوكرامي من أهم كتاب القصة القصيرة جدا الذين نحوا منحى تجديديا ، وذلك بتخريب النسق السردي الكلاسيكي وتشغيل خاصية الاستعارة والتشخيص البلاغي. ويعمد الكاتب بعد ذلك إلى استخدام التجريد بكثرة من خلال تشغيل الرموز الموحية واللغة الشعرية الزئبقية التي تنفلت من كل مواضعات الاصطلاح، حتى إن نصوص الكاتب تتحول إلى لوحات تشكيلية بصرية مجردة تختلط فيها الألوان الباردة مع الألوان الحارة. ومن هنا، يبدو الكاتب في مجموعته المتميزة الرائعة" الهنيهة الفقيرة" شاعرا مبدعا وقصاصا محنكا ورساما متمكنا من أدواته الفنية والجمالية. يحسن التعبير والتشخيص والتلوين وتكثيف الانفعالات وتجسيدها بجمل وصفية مقتضبة موحية مقتصدة في لسعاتها التعبيرية ولدغاتها الفنية. ويعني هذا، أن الكاتب يتكئ في مجموعته القصصية على الشاعرية البيانية والكتابة الإنشائية وأدب الخواطر، وتتحول قصصه السردية إلى نصوص شعرية نثرية تفتقد الحبكة السردية المعهودة في القصص الكلاسيكية، وتتخذ شكل خواطر رمزية تحمل في طياتها طاقات توليد الانفعال وتفتيت الوظيفة التعبيرية وتشغيل القدرة البلاغية الجمالية. وقد شحن الكاتب نصوصه القصصية بشحنة البلاغة والانزياح وتخييب أفق انتظار القارئ وتخييب توقعاته الجمالية والتجنيسية. كما حمّل لغته شحنات المجاز وطاقة الترميز والتكثيف الاستعاري والانتقال من الأساليب الخبرية إلى الأساليب الإنشائية، ومن الجمل الفعلية الحركية إلى الجمل الاسمية المثبتة. وتستند مجموعة سعيد بوكرامي القصصية إلى صور قصصية ملغمة بإيقاع متموج بالأزمات، ومتوهج بالعقد المتنافرة التي تنتظر الانفراج والانبثاق النهائي. كما تطفح هذه الصور بالإضمار والحذف وكثرة الألغاز السردية المحبكة بإتقان شديد، وكل هذا من أجل خلق شعرية متوترة ومتشققة بشظايا التلميح والتعريض والنقد لتعرية الذات والمجتمع والعالم الإنساني. ومن النماذج التي تجسد مدى غموض الكتابة عند سعيد بوكرامي والتباس علاماته السردية وتوغلها في التجريد والرمزية الموحية المنفتحة على عوالم نصية ممكنة من الصعب الإحاطة بها وتطويقها دلاليا ومقصديا:" كانوا ثلاثة ورابعهم النحل تحدثوا عن البحر عن الهجرة وعن الصمت قطرات صغيرة تلتقي في الليل لأن الربيع مات ولأن الأزهار ماتت جاء النحل إلى دخان المقاهي إلى طاولات الموت يحدق فيها بيأس، يختار عنق الزجاجة وينتحر." وهكذا نلاحظ أن مرحلة التجريب في القصة القصيرة جدا تعتمد على خلخلة النسق السردي الكلاسيكي التقليدي ، وتنتقل من الإيقاع الكرونولوجي التعاقبي نحو كتابة شعرية رمزية إيحائية تجمع بين المزج بين الأجناس الأدبية وتوظيف الانزياح السردي الحداثي. 4- مرحلة التأصيل: لم يكتف قصاصو الفن الجديد بالتجريب السردي الغربي استلهاما وتناصا، بل اتجهوا نحو التأصيل والإبداع الحداثي الحقيقي عن طريق توظيف التراث واستقراء الذاكرة السردية القديمة وتشغيل طرائقها في الكتابة والسرد . لذا، يلاحظ في نصوصهم القصصية الجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتجاذب بين الماضي والحاضر، والمزاوجة بين الكتابة الموروثة والصياغة الفنية الحديثة كما نجد ذلك في مجموعة من القصص ذات المنحى التراثي عند الكاتب المقتدر جمال بوطيب كما في " ياسين والوادي"، و" فتوى"، و"تلفزيون" و" عقم" و" بطون" و" عجزة". ويستلهم جمال بوطيب في مجموعته القصصية الرائدة" زخة... ويبتدئ الشتاء " تجربة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد صاحب المعلقة الدالية المشهورة مع مذيعة تلفزيونية معاصرة من خلال السفر من الماضي نحو الحاضر على غرار كتابات عبد الكريم برشيد الدرامية:" امرؤ القيس في باريس" و" ابن الرومي في مدن الصفيح"... يقول جمال بوطيب مؤسلبا هذه التجربة الإبداعية التراثية الرائعة" غضب " طرفة" لما قدمته منشطة البرنامج التلفزيوني مبتسمة بلقب " الشاعر الشاب". ندم كثيرا على قبوله دعوتها. كتم سخطه، واحترس من سورة غضبه. جهد نفسه ليجيب عن أسئلتها بما يكفي من الحلم واعتبر مستجوبته"جليس سوء" ينبغي أن يصبر عليها وأن يحتمل جهلها. ولم يسامح نفسه على ذنب حضوره الذي لايقوى على إصلاحه. مسح العرق المتصبب من جبهته بفعل تلك الشمس التي لم يرها قريبة منه مثل اليوم. تذكر تلك القاعة المليئة بالغواني اللائي أحطن به ضاحكات ومرددات كلاما بذيئا؛ بل إن أحداهن مسدت جبهته بطلاء غير سحنته، وكاد مقصها يلهو بلحيته لولا أنه حدق فيها بحنق فهمت مغزاه. كانت المستجوبة تسأله وهو يجيب معتبرا قوله:" إذا القوم قالوا من فتى؟" لولا أنه حدق فيها بحنق فهمت مغزاه. كانت المستجوبة تسأله وهو يجيب معتبرا قوله:" إذا القوم قالوا من فتى؟" هو السبب في هاته الوقاحة التي قدمته بها. صدمت المستجوبة سمعه حين أخبرته بأنه سيموت في الخامسة والعشرين من عمره بمتفجر يوضع له في جرابه. أكد لها شجاعته وقلبه واجل: - أنا لا أحفل متى قام عودي. ولما قالت له: تمنّ علينا قبل أن تموت. قال: - أتمنى أن أموت طفلا. فوحدهم الأطفال شعراء حقيقيون." ويعد مصطفى لغتيري أيضا من كتاب القصة القصيرة جدا المتفوقين في هذا الفن السردي الجديد تثقيفا وتجريبا وتحديثا، ويعتبر كذلك من الذين أغرموا بالكتابة التراثية التي تسلح بها الكاتب من أجل تأصيل القالب السردي لخلق حداثة عربية أصيلة متميزة كما في العديد من قصصه الواردة في مجموعته القصصية " مظلة في قبر" كقصة " بلقيس"، و" مالك الحزين"، و"الخطيئة"، و" المومياء" و" دخان أسود"، و" البهلوان". ويقول مصطفى لغتيري مستعرضا قصة أبي حيان التوحيدي مع حساده ورجال السلطة المستبدين الذين حولوه إلى بهلوان فكاهي ساخر ، وهذا ينطبق على كل المثقفين الذين تحولوا إلى أبواق للسلطة وأدوات للتسلية والترفيه:" حين انتهى التوحيدي من ذكر مالديه،خاطبه الوزير كعادته قائلا: -هات، يا أبا حيان، ملحة الوداع. فكر التوحيدي لحظة ثم قال: - في سالف العصر والأوان، كان ملك من بني ساسان، يستقدم حكيما يستنصحه، وحين يقضي منه حاجته، يأمره الإتيان بما يضحكه... كان يفعل ذلك، ليذكره، دوما، بأنه مهما عظم شأنه، فهو ليس سوى بهلوان... - ضحك الوزير- أضحك الله سنه- وغادر التوحيدي المكان." وعلى العموم، يستند منحى التأصيل عند جمال بوطيب ومصطفى لغتيري إلى استعمال تقنيات السرد القديم ، وتحوير القضايا التراثية بطريقة حوارية تناصية في قالب فني معتق بأريج الذاكرة التراثية الأصيلة مع تشغيل خطاب السخرية والتنكيت والباروديا والفكاهة الرمزية ، وتوظيف العبارات التراثية المسكوكة للإيحاء بأجواء التراث في ثوب معاصر. خاتمة: نستنتج، مما سبق ذكره، أن القصة القصيرة جدا في المغرب عرفت عدة مراحل فنية عبر مسيرتها الإبداعية، والتي تأثرت فيها بالكتابة السردية العربية قديما وحديثا وبالكتابة القصصية والروائية الغربية. ومن ثم، يمكن القول بأن القصة القصيرة جدا في المغرب عرفت في تعاقبها الجمالي والكرونولوجي( التسلسل التعاقبي) أربع مراحل فنية كبرى وهي: مرحلة التأسيس والترهيص، ومرحلة التجنيس، ومرحلة التجريب، ومرحلة التأصيل. ولا تعني هذه المراحل أنها تتعاقب بالترتيب المتسلسل،بل يتسم هذا التطور بالتداخل المتشابك والتقاطع المتجايل، أي إن هذه المراحل متداخلة فيما بينها، فكتاب المرحلة التجنيسية حاضرون كذلك بثقلهم في مرحلة التجريب والتأصيل، وهذا ينطبق كذلك على كتاب مرحلة الترهيص الذين مازالوا يكتبون ضمن توجهات هذه الرؤى الفنية المختلفة كأحمد بوزفور وأحمد زيادي مثلا. ويبدو أن القصة القصيرة جدا بالمغرب متأخرة في الظهور عن نظيرتها في العراق والشام. وعلى الرغم من ذلك ، فقد حققت القصة القصيرة المغربية جدا شهرة كبيرة ونضجا فنيا مشهودا لها في العالم العربي وخاصة مع مجموعة الدارالبيضاء المتميزة، ومع الكتاب المقتدرين الآخرين كجمال بوطيب وعبد الله المتقي وسعيد منتسب وعز الدين الماعزي ... أضف إلى ذلك، أن القصة المغربية القصيرة جدا قد تأثرت بنظيرتها( Microrrelatos) الإسبانية والأمريكية اللاتينية كما نجدها عند كل من رامون گوميث دي لاسيرنا Ramon Gomez de la Serna، وخوان رامون خيمينيث Juan Ramon Jiménez، وطوماس بورّاس Tomas Borras، وماكس أوب Max Aub، وألفونسو ساستري Alfonso Sastre، وأنا ماريا ماتوتي Ana Maria Matute، وأنطونيو فيرنانديز مولينا Antonio Fernandez Molina، وخوان بدرو أپاريثيو Juan Pedro Aparicio، وخوسي ماريا ميرينو José Maria Merino، ولويس ماتيو ذييز Luis Mateo Diez، وكريستينا فيرنانديز كوباس Cristina Fernandez Cubas، وميگيل دورس Miguel d'Ors، وفاروني Faroni، وبيدرو دي ميگيل Pedro de Miguel، ومانويل ريڤاس Manuel Rivas، وخوان گارسيا أرمينداريس Juan Garcia Armendariz، وناڤارّو Navarro، وخيسوس ألونسو Jésus Alonso، ونتاليا بيريز Natalia Pérez... دون أن ننسى تأثرها بالقصة القصيرة جدا سواء كانت عربية أم غربية.