مرّ بأنامله وادعة ورشيقة على مفاتيح البيانو، ومال برأسه على الكتف الأيمن يستحثُّ الإلهام، ثم شخص بصره – كأنه يفقد الوعي – وتحرك حاجباه على الإيقاع صعودا وهبوطا، وامتدت أيدينا نحو الآلة الموسيقية تريد التجريب؛ ولكنه أبى، فحمل آلته في يده، ومضى موليا.. كان صاحبنا يعزف على آلة البيانو.. أعني.. كان يدندن بفمه. أما الآلة – وهي بالمناسبة في حجم اليد – فقد كانت معطلة.. وبلا بطارية أيضا !.. ولكنه – برغم ذلك - حدثٌ مثير في حينا، فقد سادت بيننا حالة من الشغف الظاهر بالعزف الموسيقي. وفينا من كان يرفع عقيرته بالغناء - سنحت الفرصة أو لم تسنح - فإذا غنى أكل الحروف والكلمات، ولم نسمع من أغنياته سوى لازمة مطربي الراي آنذاك: - وها رايي.. ودانداني دانا.. ! ثم تعلمنا صناعة العود على الطريقة المعروفة. فإذا حشرج في العزف زيّرنا عُقَد يده حتى تحتد الأوتار. ولم تكن شيئا آخر سوى أسلاك دقيقة. أما الآلات الإيقاعية فهي متاحة في كل بيت. وإن سطلا من سطول الحمام الكبيرة يفي بالغرض وأكثر!.. وهي – على كل حال - آلة الشجعان، لا الماهرين، الذين يعرفون كيف ينسلون بالسطل البلاستيكي في غفلة من رقابة الأم الصارمة. وإذا سألت عني وسط هذا الشغب الفني، فقد كنت منشغلا بتأليف كلمات الأغاني! وهذه مهمة يسيرة، كما ترى، لا تكلف صداع الرأس بحثاً عن القيثارات الحديدية ولا السطول البلاستيكية. حتى إذا آذن المغيب صعدت إلى سطح بيتنا أُشرِفُ على الشمس قبل أن تنزلق في الظلام، ثم أُسَتِّف كلماتي على إيقاع السجع كأنه زجل أو يشبه الزجل! وإني لأفرغ اللحن من كلماته، ثم أضع كلماتي. وكانت لعبة ممتعة، أذكرها بحنين جارف، ولكنني لا أستطيع – اليوم – إليها سبيلا. وحين أفكر مليا أجد هذا المعنى قريبا – مع اختلاف في السياقات طبعا – من مفهوم "القطعة الفنية الجاهزة مسبقا". وقد كان الفنان مارسيل دوشان يقول إن المشاهدين هم الذين "يصنعون" اللوحات الفنية. ولذلك كان يعمد إلى القطع جاهزة التصنيع، فيعرضها على أنها منجزات فنية.. وفي أحد أعماله قدم قفص عصافير. وفي القفص عشرات المكعبات الصغيرة من الرخام في حجم قطع السكر، وترمومتر وعظمة لسمكة الحبار.. وفقط! وذلك هو عين الإبداع عند هذه المدرسة. ودوشان، الذي توفي في العام 1968، أحد روادها الكبار؛ وهو توجه فني يرفض تذوق الفن على الطريقة السائدة، لا سيما بعد الرجات الفكرية التي أحدثتها الحرب العالمية الأولى وحجم الدمار الذي خلفته. وفي خضم ذلك.. أعاد المبدعون إثارة الأسئلة اللازمة حول وظيفة الفن في حياة الناس. هل هو تعبير عن الذات المتفردة للفنان؟ أم تراه انعكاس لأفكار الناس تفهم منجزه الإبداعي كيفما تشاء؟.. هل هو حالة إبداعية إلهامية متسامية؟ أم أن أي شيء متاح على الأرض يصلح أن يكون قطعة فنية جاهزة مسبقا؟ هذا كلام كبير.. أما الطفل الذي كتب هذه الكلمات، فقد رأى أصحابه المبدعين يصنعون قيثارة من صندوق حديدي وأسلاك رفيعة، كأي "قطعة فنية جاهزة التصنيع".. ثم سمع أحلى أغنيات حياته تخرج من تلك العلبة المهترئة.. إنه الفن "الطفولي".. جاهزا ومتفردا في آن!