كل شئ مختلف في الصويرة، حتى نوارسها. فعلى مدى ليلتين، بقاعة الرياضات المغطاة، غير بعيد عن كنيسة المدينة وعن شطها الطويل، برماله النظيفة جدا، كان سقف القاعة، التي تصيخ السمع بجماهيرها الغفيرة (وهذا أمر نادر مغربيا في حفلات جماهيرية عمومية) لعزف الجوق السمفوني المغربي المحترف الباهر، يعزف لحنا آخر للنوارس بأقدامها وهي تخمش في السقف ما يشبه الرقص تفاعلا مع جمالية الموسيقى الرفيعة الضاجة بالمكان. وكان عزف مروان بنعبد الله القتال على البيانو، أو عزف باسكال أميول على ذات الآلة المجنون، أو العزف العارف السيد على ذات البيانو الأسود النظيف للموسيقار المغربي عبد الرحمان الباشا، يخلق لدى النوارس تجاوبا مبهرا، جعلنا نستمع لحفلين لا حفل واحد. حفل الموسيقيين الكبار، وحفل النوارس الفنانة الفرحة بالجمال. كان ذلك "رقصة البجع" المغربية الصويرية، في ليلتي الجمعة والسبت 26 و 27 أبريل 2013. وإذا كان ذلك حال النوارس، فكيف بالبشر؟. نحن هنا، ضيوف على سادة العزف الموسيقي الرفيع، بالدورة 13 ل "ربيع الموسيقى الكلاسيكية" (ليزاليزي) بالصويرة التي تنظمها "جمعية الصويرة موكادور"، ويرعاها رجل من حظ المدينة أنه ابن وفي لها، ولذاكرة الجمال بها، أندري أزولاي (مستشار جلالة الملك). كانت دار الصويري، فضاء للحظات بهاء فني صعب أن تخلص الكلمات في نقل سمو جمالها الرباني، خاصة حين تتأمل أنامل بشرية يصدر عنها كل ذلك الإبداع الرفيع، وتجد نفسك تتساءل مثلما تساءل مرة الشاعر المغربي حسن نجمي في إحدى قصائده: "أحقا من نطفة فقط، هذا الجدع الفاتن"، مع تحوير بسيط يسمح لنا بالتساؤل: "أحقا من نطفة هذا الكائن الذي يرسم الجمال بالموسيقى والوتر؟". بل، إنه في لحظات ما، والناس جلوس مسافرون في دنيا الجمال الفني المعزوف، وأغلب العيون مغمضة، أو شاخصة في مدى بعيد، واليد ملتفة على اليد، والأذرع نازلة رخوة تتركك تستشعر كم الحاضرون غارقون في لج بهي من الراحة النفسية.. في لحظات ما، تتحول دار الصويري إلى ما يشبه قطعة مقتضمة من الوقت الضاج باللامعنى، كي تنسج لحظة للجمال ممكنة جدا مغربيا، وأساسا بأنامل مغربية. حينها كما لو يكون الزمن (زمن الإبداع) غير باقي الزمن الفائض في الجوار. ألسنا هنا، أمام لحظة للتجلي الفعلي للمقولة الشهيرة للناقد والباحث الفرنسي الراحل ميشال بوتور "الخيال يغرب". نعم في دار الصويري، غربنا الفن الرفيع عن ساعة الوقت الصعبة بكل مشاكلها وهمومها وشغبها وانتظاراتها، وأخد الحضور إلى لحظة لغسل الدواخل من أدران تعب الطريق، طريق الحياة. أعرف أنه صعب الثقة في منطق المفاضلة بين حفلات مهرجان "ربيع الموسيقى الكلاسيكية" بالصويرة، لأنه لا مجال. لكن، رغم ذلك، سيسمح الخاطر لنفسه، أن يعتبر صبيحة العازفين الفتية والشباب مبهرة بكل المقاييس، سواء على مستوى النوطة أو الصوت، وأساسا حضور الشخصية القوية، التي تجعل الواحد يقول لذاته في مكان ما، هؤلاء مغاربة، هؤلاء أبنائي (بالإنتماء الإنساني والوطني) الذين كم يفخر المغربي أنه منهم، وأنهم منه. معهم، يحس المرء، أن للمغربية كهوية وانتماء، معنى آخر للجمال والإبداعية، ويكاد يصرخ أنهم عنوان لما يمكن وصفه ب "الممكن المغربي". هم وجه آخر له. لقد جعلوا من صبيحة الجمعة 26 أبريل، بدار الصويري، صبيحة ألق لا حدود لطراوته، هم القادمون من فاس والرباط والدارالبيضاء، الذين طوعوا آلة البيانو، وآلة الكمان، وآلة الشيلو، وجعلوا الحيطان تصطك لأدائهم الغنائي، وجعلت الحائط القديم بتويجه الدائري يرتعش قليلا فرحا لصوت فتى تينور، كم كان وجلا وهو يصدح بأدائه، لكنه كان سامقا مثل الصفصاف وهو يردد مقاطع لاتينية غربية كونية إنسانية عن الجمال الذي زرعته السماء في الأرض وفي الأنفس والأفئدة والناس. حينها استشعرت، جديا، كما لو أن فضاء دار الصويري، قد ضاق بمن حضر، ليس فقط نحن الجالسون بشكل دائري نصيخ السمع للإبداع المغربي، لأجساد لا تزال غضة، ولا يزال حليب الأمهات لزجا في أفواههم، بل استشعرت أن أناسا آخرين قادمين من أزمنة بعيدة قد نزلوا إلى تلك الدار كي يفرحوا بأحفاد لهم في الحياة. لقد تخيل الخاطر وهو يتأمل أثر ذلك الجمال الموسيقي، والإحترافية العالية في العزف وفي الأداء السوبرانو (رهيب ذلك الشاب المغربي الرباطي المقيم بألمانيا، التينور عبد الله العسري، الذي كان يجعل أطراف الأمكنة تصطك رعشة ورهبة وافتتانا بالقوة التي وهبه الله في صوته)، أن الصويرة كانت ملأى بأبنائها القدامى، من حرفيين وصنايعية وتجار وموسيقيين وعبيد وصيادين، القادمون من باب دكالة وباب مراكش وباب السبع وباب المشور، ثم النازلون من الأبراج والصقالات (برج البرميل وبرج باب مراكش، وبرج مولاي امحمد. وصقالة المرسى وصقالة القصبة ... إلخ)، الذين جاؤوا ليفرحوا بحقهم في الجمال المغربي الذي يبدعه جيل آخر من الأحفاد. وكما لو رأيتهم يصطفون واقفين في الجوار، مثل التاجر مايير موقنين اليهودي المغربي الشهير، الذي كان تاجر السلاطين ومندوبهم في بريطانيا وجبل طارق ومارسيليا لعقود طويلة، والذي مات ودفن في مراكش. أو مثل أولئك التجار الفينيقيين القدامى، الذين نزلوا بها أول ما نزلوا وأقاموا أول ميناء تجاري بالأطلسي المغربي، مباشرة بعد بناء ميناء قرطاج بتونس، كما يحكي ذلك المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت. أو المهندس الفرنسي، الذي استدعاه السلطان المغربي سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث)، ليعيد هندسة المدينة بالشكل المنظم الحديث الذي لا تزال عليه إلى اليوم، تيودور كورني، ويقف إلى جانبه المهندس الذي عوضه أحمد لعلج، وغير بعيد يقف الباشا القديم ابن عمران. وفي مكان ظليل، كان يقف فقهاء المدينة وصوفيتها ملتفين حول سادتهم الكبار، سيدي مجدول وسيدي بوسبع ومولاي امحمد. ثم صف طويل، كان يسبقهم رنين السلاسل التي بأرجلهم، من عبيد إفريقيا السوداء، من غانا وتمبكتو، التي منها خرجت موسيقى كناوة المغربية الباهرة، حيث كانوا هم أيضا واقفين ينصتون والدمع يملأ مآقيهم فرحا بمنجز الإنسان وكانوا أحرارا في فرحهم منتصرين على قيودهم. ثم أبطال فيلم "واترلو" وقائدهم أوسكار وايلد.. وغيرهم كثير.. من أقوى لحظات المهرجان، تقديم العازف المغربي الفنان على آلة الكمان، فريد بنسعيد، لأول مرة، وصلة مشتركة مع ابنته دينا بنسعيد العازفة الماهرة على آلة البيانو (هي التي ظلت تقدم فقرات المهرجان بما يليق بذلك من تمكن في اللغة وفي تقنيات التواصل الإحترافية، وكان ذلك إظافتها النوعية الخاصة). ولقد وقف لهما الحضور طويلا تقديرا للأب وابنته، تقديرا للفنان والفنانة، تقديرا لمعنى مغربي، لعائلة تنتصر لأجل الفن والجمال والأخلاق. فيما كان مروان بنعبد الله، العازف المبهر على آلة البيانو، الذي سبقته أخباره، وكيف وقفت له كبريات المسارح الأمريكية تقديرا لعلو كعبه الفني، كان مروان هو ذات مروان، السادر في تواضعه الإنساني الرفيع، والذي حين يناجي آلته يحاروها بلغة العاشق الولهان. فيما كان باسكال أميول، اكتشافا حقيقيا لهذه الدروة، كون الرجل فعلا، كما لو أن له أكثر من يد وهو يعزف على آلة البيانو، بل أكثر من ذلك، في فضاء دار الصويري قبل حفلة الأوركسترا للجوق السمفوني المغربي، كان له ذكاء مصاحبة الأداء الفني بمسرحة تشخيصية أسرت الحضور ونقلتهم إلى البعد الإنساني للقصة الموسيقية. فيما كان التينور المغربي عبد الله العسري فحلا، شامخا، هرما، وهو يزلزل الفضاءات والقاعات بطلعاته الصوتية، التي تجعل الخاطر يفخر أن المنجز المغربي ممكن في هذا الباب العالمي أيضا، وكانت إلى جواره السوبرانو الإيطالية سيلفيا دالا بينيتا، التي رغم وعكتها الصحية (التهاب في الحنجرة) أبهرت الحضور وهي تستند على كتف صوت الفنان المغربي العسري، كي يجعلا النوارس تطرب قبل البشر في تلك الليلة الباردة بالصويرة. أما الإكتشاف الآخر فهو ثلاثي عائلة ميترال (جوزيف، فيكتور وجوستين)، الذين كانوا حقا تنطبق عليهم المقولة "سبحان من خلق"، ليس فقط جمال محيا، بل أساسا جمال روح وجمال عزف على الشيلو والبيانو والكمان. وكعادته مع مدينة الصويرة، كان العازف على آلة الكمان ياير بوالنعيم، القادم من سماوات فيينا وباريس، أشبه بطفل عاد لحضن أمه، متوردا فرحا باللقاء ومبدعا مثل من يصلي في محراب الطفولة. لا يمكن، في هذه الرفقة للجمال الفني، التي وهبها للصويرة مهرجان "ربيع الموسيقى الكلاسيكية"، أن لا تنحني الأشجار ويدمع الحجر العتيق لعزف رجل شهم، جام التواضع، خجول جدا، صموت حد الإمحاء، المغربي الفنان الباهر الكبير، عبد الرحمان الباشا. مع هذا الرجل، يصبح البيانو تطريزا للتفاصيل الدقيقة للجمال والإبداعية. إنه مثل أي صنايعي، ينحني حرصا ودأبا، على قطعته من الفضة أو الذهب، كي يرسم التويجات الدقيقة، الغاية في الصغر، التي حين تتعاضد وتتواشج، تعطي معنى كاملا للإبهار والفتنة والجمال. ذلك هو عمل عبد الرحمان الباشا، الذي ترفع له القبعات وتنحني له الهامات، وتقف له قاعة مغطاة ضاقت بما رحبت من جمهور الصويرة (الجمهور الفنان الذي تربيته السلوكية مثالية عالية) كي تنخرط في تصفيق بلا نهايات له، وهو بذات خجله يكاد يقول: "هل أستحق؟".. هو أكثر من ذلك، عنوان اعتزاز أنه مغربي. لأنه مثل كل صف الفنانين المغاربة الذين شاركوا في الدورة 13 من مهرجان "ربيع الموسيقى الكلاسيكية" بالصويرة، إنما أكدوا لنا بالملموس أن "الممكن المغربي" أكيد، راسخ. وأن مقطوعات شومان وبتهوفن وموتزارت وستراوس وشوبيرت وبرامز ورافيل وفيردي وكريك وتشايكوفسكي وراشمانينوف وغيرهم، تسلس أيضا للأنامل المغربية. وكم ود الخاطر، لو أن تلفزاتنا العمومية الثلاث انتبهت لهذا "الممكن المغربي"، فهو أداة سامية للتربية الفنية وللذوق الرفيع جماليا، وأنه عنوان أن المغربي يبدع عالميا، بدلا من الكثير من زعاق مغني العلب الليلية. وهذا على كل حال موضوع آخر من العبث حتى طرحه هنا، حتى لا نشوش على السمو الفني للذي كان، في الصويرة، وللذي سيبقى. هؤلاء أبدعوا.. مها فخور، ليلىا عداد، نهال لوزكاني، نور عيادي، محمود علي، لينا برادة، عبد الرحمان الباشا، إيير بن النعيم، أدريان بلوم، كيوم بلوم، كميل الباشا، باسكال أميول، شارلوط جويلار، بولين بريتش، سارة شناف، جولييت سالمونا، جيروم بيرلو، سيلفيا بينيتا، عبد الله العسري، دينا بنسعيد، فريد بنسعيد، فيكتور ميترال، جوزيف ميترال، جوستين ميترال، جيروم ديكرو، جيروم بيرنو، رومان لولي، سيسيل أكاتور، سيسيل بايرول، صوفي كروزل، رونو كيو، يان ديبوست، مروان بنعبد الله، فاني أزورو، توماس شدال، فاني غالوا، بونوا لوفيسك.