تكتسي ضرورة العلاقة الممكنة بين الأجناس الأدبية والفنية، أهمية قسوى، لما لها من تأثيرات متبادلة على مستوى الإبداع، وبما أن هذه الأهمية تجلت منذ القدم في بعض الأجناس الإبداعية كالشعر والتشكيل، فإن الأدب والموسيقى كذلك لهما نصيب من هذه العلاقة، فجاء هذا الملف ليثري النقاش حول حضور الأدب في الموسيقى والعكس صحيح، تبعا لتجارب موضوعية لبعض المبدعين من الأدباء والموسيقيين، الذين راهنوا في تجاربهم على هذه العلاقة، كمتنفس لاستنباط الأفكار وتجديدها عبر ألوان مغايرة لمسارهم الإبداعي، في محاولة للوقوف على مكامن القوة والخيال في ضفاف أخرى، لضمان صيرورتهم وامتدادهم، ولخلق توازنات جعلت من هذا الانفتاح عتبة للاكتشاف والتنوع والتعدد، وبما أننا قد فقدنا مؤخرا أحد المبدعين المغاربة من العازفين الكبار الذين ساهموا بشكل واسع وإشعاعي في إغناء الرصيد الموسيقي المغربي والعربي والعالمي، وهو الراحل «سعيد الشرايبي» فإننا عملنا على طرح أسئلة خاصة بالتواشجات الممكنة بين الأدب والموسيقى من خلال آراء بعض المبدعين، احتراما وتقديرا وتكريما لهذا الفنان الكبير. الجسور الفنية بين الأدب والموسيقى يختص الإبداع عموما بسمة قد لا تظهر بوضوح شديد في مختلف أنشطة الإنسان، وهي التنوع والاختلاف. فإذا كانت العادات الغذائية وتقاليد الملبس والزواج وغيرها من الأفعال الحيوية متباينة حسب أصول المجتمعات ومكتسباتها الثقافية، فإن الظاهرة الإبداعية، خاصة المرتبطة بالفن والأدب، تسعى دائما لدى المبدعين نحو التميز والفرادة. ولعل هذا المطلب الذي لا يُخرج المبدع عن التنويع داخل دائرة الجنس الأدبي أو الفني الذي يبدع داخله، هو نفسه الذي يدعوه إلى خلق تصاديات وتجاورات مع الأنواع الفنية والأجناس الأدبية التي يراها ملائمة لتطعيم منجزه الإبداعي. يؤكد الناقد جوزيف شتريلكا في كتابه «مناهج علم الأدب» على أن هذا التفاعل المتبادل بين مختلف أنواع الإبداع الفني مهما بلغ مداه لا يُنقص من استقلال كل نوع استقلالا ذاتيا. والبحث في أمور هذا التواصل المدروس بعناية من طرف المبدعين، لا يزال معاني ملقاة في طريق المعرفة تحتاج إلى من يلتقطها ويُخرجها إلى دائرة الضوء، أي لا يزال البحث العلمي في عالمنا العربي على وجه الخصوص يحتاج إلى جهود جبارة لدراسة تلك التواشجات الموجودة بين الفنون والآداب، وبين الفنون بعضها ببعض، وبين الأجناس الأدبية. أبحاث تبتعد عن المقارنات السطحية للسمات الشكلية، وتعتمد المنحى التطبيقي الذي يغوص في أعمال المبدعين، فيستنطق الفن النابض في جسد الأدب، أو يكشف عن لألاء الصور الأدبية المكنونة في الفنون.يحتاج الباحث العربي في مجالات الأدب والفن اليوم إلى تجديد أسلحته المعرفية والمنهجية للارتحال نحو هذه المناحي البكر، التي تعيد استنطاق الرصيد الهائل من الأدب العربي. فتقدم لنا معرفة جديدة عن نصوصه ومتونه، على غرار تلك الدراسات العميقة التي تزخر بها المجلات الأكاديمية العلمية الغربية أمثال Poétique، وLittérature، وغيرهما، حيث يمكن أن تعثر على بحوث تثير شهية المعرفة، وتحفز لذة القراءة، لأنها ابتعدت عن التكرار ولوْك الموضوعات المستهلكة في البحث العلمي. هكذا، وفي مثل تلك المنابر يمكن أن تقرأ عن علاقة الموسيقى بفن التصوير Peinture، وعن علاقة هذا الفن بالأجناس السردية كالرواية، وعن علاقة الموسيقى بالقصة، وعلاقات المعمار بالسرد، وعلاقات التشكيل عموما بالشعر، وعلاقات الأدب بالرقص، وحضور الفوتوغرافيا في الرواية، وغيرها من العلاقات البيفنيةInter artistique ، دون إغفال ملتقى الفنون والآداب: المسرح الذي يتشعب في الفنون ويمتد في الآداب لبسط جمالياته وتعبيريته. وقد عرفت العقود الأخيرة في المغرب والعالم العربي، عموما، بداية تستحق التنويه لهذا النوع من الدراسات الرائدة، التي تؤسس لمفهوم القراءة الجمالية للأدب من منظورات مختلفة عن المألوف في اصطناع المناهج، فبالإضافة إلى مبحث الشعر والتشكيل، الذي لقي صدى واسعا في النقد الأدبي، خاض الباحثون والنقاد في تلك العلاقات المتشابكة بين الفنون والأدب، مثل دراسة «مسرحة الرواية» التي قدمها الدكتور حسن المنيعي في كتابه «قراءة في الرواية»، حيث تتبع نشوء هذه «المسرواية» في الأدب العربي الحديث، ليقف طويلا عند الشكل الرائد للتمسرح الروائي العربي، الذي ظل في حيازة الأديب السوري حنا مينة، خاصة في روايته «النجوم تحاكم القمر». ثم البحث في تجليات المعرفة البصرية والثقافة التشكيلية في روايتي «الضوء الهارب» لمحمد برادة، ورواية «جيرترود» لحسن نجمي، وهما الدراستان اللتان أنجزهما الباحث وناقد الفن بنيونس عميروش. وبالنسبة للموسيقى، فإن الجسور التي تمتد بينها وبين الأدب، تتشعب حسب الاختصاص، فقد تكون الموسيقى مدخلا فنيا لرسم معالم منهجية دراسة الأدب، هذا مثلا ما تمثله لنا بوضوح وبكثير من العلمية دراسة تييري مرانThierry Marin الموسومة ب»نحو سرد موسيقي»Pour une narration musicale، والمنشورة في أحد أعداد مجلة Poétique. وقد استطاع أن يقدم من خلالها تفكيكا لقصة «بينغ» Bing لصمويل بيكيت، حيث يخلص إلى أن السرد في هذه القصة تم إنجازه على غرار طريقة الفن الموسيقي. وقد بين الباحث كيف أن النص السردي أصبح جهازا خاضعا لمجموعة من التحولات المعتمدة على التكرار والتنويع بين المتواليات السردية والموتيفات، والتي استطاعت أن تخلق في النص بنية زمنية رنانة، أنصت إليها الباحث جيدا، وتمكن من وضع مقابلاتها على شكل نوطات موسيقية، ليؤكد على أن قصة «بينغ» تنمو وتتطور بنفس الكيفية التي تنمو بها قطعة موسيقية تماما. ومن المعلوم أن فن الموسيقى حظي بتمجيد الأدباء، واعتباره منهلا روحانيا يصب في الوجدان تراتيل الإبداع، ويحرك انفعالات المبدع. فالموسيقى تقوم منذ مراحل الطفولة ببناء الوعي الفني والذوق الجمالي، وتأسيس ذائقة فنية تكون من أسباب انطلاق شرارة الإبداع. ثم تظل دائما لدى المبدع، فنانا وأديبا، ذلك المقدس الذي يرقى فوق كل صناعة إبداعية. لقد صرّح بالزاك بأن «الموسيقى وحدها لها القدرة على أن تتغلغل في أعماقنا، أما بقية الفنون فلا تقدم لنا سوى مسرّات عابرة»، وربما أدرك هذا الأديب الفرنسي الكبير أن الموسيقى تمس جميع المشاعر المتناقضة أو المنسجمة بداخل النفس الإنسانية. أما الإبداع الأدبي فهو رهين الشعور الخاص الذي تبثه القصة أو القصيدة أو غيرهما. وربما لهذا السبب حاول بعض الأدباء العالميين ركوب مغامرة الإبداع الموسيقي عزفا وتلحينا، مثلما فعل الشاعر الإسباني المعروف فيديريكو غارسيا لوركا، الذي «تعاون مع الموسيقي الإسباني المعروف مانويل دي فايا، في البحث عن جذور الموسيقى الأندلسية. وكان لوركا موسيقيا موهوبا، يجيد العزف على البيانو، وله مؤلفات موسيقية هي بين مقطوعات مؤلفة لآلة البيانو، وأغان تؤدى بمصاحبة البيانو، وأغاني المجموعة (أو الجوقة)، وغير ذلك (…) ومواهبه الموسيقية كانت واعدة جدا وتؤهله لأن يُصبح في عداد الموسيقيين اللامعين في وطنه والعالم، من أمثال مانويل دي فايا، وألبينيز» (من كتاب علي الشوك «أسرار الموسيقى»). تتمثل قوة الموسيقى، التي تسحر ألباب الشعراء والأدباء عموما، في التجرد التام من الموضوع. لقد كان العديد من الأدباء يغبطون الموسيقار العالمي بيتهوفن لأنه يستطيع أن يقدم إبداعا ثوريا، ويفلت من الرقابة بيسر شديد. أما الكلمة، فهي «فاضحة» وكاشفة، ولعل أول ما تكشفه هو نفسية المبدع وتركيبة شخصيته، وقد سعى الكثير من المبدعين إلى وضع جملهم الشعرية أو السردية في قوالب ومقامات موسيقية، لتعبر عما يضطرب في أغوار الوجدان، فحتى قبل أن تؤدي الفنانة الكبيرة السيدة فيروز بجمالية نغمية عالية رائعة جبران خليل جبران «أعطني الناي وغن»، فإن هذا النص الشعري في أصله معزوفة قوية، ذات مركبات صوتية ترسم ظلال الحزن الذي يرافقنا ونحن ننشُد البحث عن سر الوجود، أو عن سر الخلود. علاقة الزجل المغربي بالموسيقى لقد ظهر فن الزجل في الأندلس كما شاع في مصر والعراق والشام إلى جانب أنواع شعرية أخرى هناك كالموال والقوما والكان كان.. لكن تأسيسه الفعلي كان في المغرب الأقصى بحكم أن الأندلس انتهت كحكم عربي أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وعلى اعتبار أن المغرب الأقصى عرف أكبر هجرة للموريسكيين، سواء المسلمين أو اليهود، وعلى اعتبار أن الأندلس والمغرب الأقصى شكلا عدوتين يسرتا الانتقال والتبادل الثقافيين.ويمكن القول إنه إذا كانت التجارب الشعرية المشرقية غير المعربة قد أخذت مكانا إلى جانب القصيدة التقليدية الفصيحة في التوثيق الكتابي، فإننا في ديوان الشعر المغربي لا نجد إلا غلبة شعر الزجل بينما لا نجد إلا أشعارا قليلة من ناحية الكم لشعراء القصيدة التقليدية الفصيحة التي تشير كتابات بعض المؤرخين إلى وجود شذرات منها متفرقة في كتب مختلفة، في الوقت الذي نجد أنه وصلنا كم هائل من الأشكال الزجلية المغربية، سواء المدينية أو القروية (ملحون، رْباعي، الشّْجِيَّة، لَعْروبي..) ليس الغرض في هذا الباب تتبع تاريخ الزجل في المغرب ولا حتى تحديد أنواعه، فهناك كتابات كثيرة قد تفي بهذا الغرض بقدر ما أن الغرض تأكيد أن الزجل المغربي لعب دوارا كبيرة في إغناء الحقل الموسيقي المغربي. ففي اعتقادي أن النص الزجلي كان يكتب موقعا توقيعا موسيقيا من طرف صاحبه بغاية الإنشاد والغناء إلى درجة أن «السَّرَّابة»، وهي مقدمة موسيقية غنائية قي قصيدة الملحون، تكون معدة سلفا ولا تنتمي إلى نفس القصيدة ونفس الشاعر رغم علاقتها بالموضوع، وهي تؤدى في بداية غناء نص الملحون بإيقاع سريع يتم الانتقال بعدها إلى نص القصيدة على إيقاع بطيء يتماشى والإنشاد. ولقد لعبت الطرقية والزوايا الصوفية في المغرب دورا كبيرا في ظهور كم هائل من الأغاني الدينية القائمة على نصوص زجلية، سواء تلك التي تغنى نشاديا بالتصفيق أو بالتوقيع على إحدى الركبتين أو تلك التي ترافق بالنقر على آلات إيقاعية (بندير، طعريجة، نْواقص، دف..) أو تلك التي تعزف فيها آلات نفخ أو آلات وترية (عود، وتار، سنتير..). إن ما يعزز فرضية أن النص الزجلي كان يكتبه صاحبه وهو يترنم به ضابطا إيقاعه الموسيقي الذي سيصاحبه هو أن نص الأغنية في هذا المجال ذو طبيعة جينيالوجية كما هو الأمر في العيطة. فقد تضاف عبر الزمن إلى الأغنية مقاطع جديدة تكتب لتنضاف إلى نصها خاضعة للميزان اللحني لهذه الأخيرة، متسمة بنفس الوزن الشعري الذي سارت عليه أبيات الأغنية، والتي احْتُفِظ بها وبأسماء منشديها ولم يحتفظ بأسماء أصحابها. وهذا معناه أن التجربة الزجلية في غناء مثل الحمدوشي أو الجيلالي أو العيساوي أو الكناوي مكرسة للغناء في المقام الأول. إن هذه الأولوية الموسيقية لوظيفة النص الزجلي في هذه الأنماط الغنائية الصوفية تكمن وراء التطوير الهائل لطرق الغناء في الفنون الكناوية مثلا، والتي يبدو فيها الصوت البشري وكأنه امتداد للجملة الموسيقية، سواء صوت المعلم (مايسترو الفرقة) أو أصوات الكورال (لَقْراقْبِيَّه). هذا الكورال الذي يوظف بشكل أوركسترالي رائع، لا يؤدي دور التكرار الببغاوي الرتيب للازمة بقدر ما أن تدخله أساسي، والدليل على ذلك أن المعلم الكناوي لا يمكنه أن يؤدي الأغنية الكناوية إلا مصحوبا بباقي أعضاء الفرقة. إن الأمثلة على علاقة الشعر في شخص الزجل المغربي بالموسيقى كثيرة ويمكن أن نقتصر أخيرا على مثال النص الزجلي الذي اعتمدته أغاني المجموعات الغيوانية السبعينية الثلاث (الغيوان، لمشاهب وجيلالة) وأقصد الأغاني التي كتبها زجالو هذه المجموعات وليس تلك التي ألفوها انطلاقا من التصرف في بعض نصوص الملحون أو رباعيات المجذوب كما في أغنية «غِير خُدوني» لناس الغيوان مثلا. إن المتأمل في نصوص محمد باطما أو محمد السُّوسْدي أو مبارك الشادلي سيكتشف أنها من ناحية البناء الإيقاعي، تنقسم إلى مقطعين أو ثلاثة، يكتبها الزجال بوعي موسيقي قبلي يتمثل في أنه يترنم بها وهو يكتبها متصورا حتى المقام اللحني وقت الكتابة لكل مقطع، وهو ما يفسر تكون الأغنية المشاهبية من قسمين أو ثلاثة حسب عدد المقاطع تختلف من حيث الإيقاع والمقام والغناء. إن علاقة الأدب بالموسيقى، كما أسلفت، متشعبة جدا، وقد اقتصرت على ارتباط الشعر العربي عموما والموشح خصوصا والزجل المغربي على الأخص بالموسيقى من باب التمثيل فقط على أساس العودة إلى الموضوع لاحقا من خلال بحث مستفيض أرجوه قريبا . أهمية ارتباط الشعر بالموسيقى ربما لا يتسع المجال هنا للحديث مطولا عن علاقة الموسيقى بالأدب نظرا لشساعة هذا الموضوع وتعدد جوانبه وما يرافق تناوله من تساؤلات وتصورات ونظريات. فمجال الأدب غني متنوع يختلف باختلاف الزمن والجغرافيا مثل الموسيقى التي لا تبتعد عن هذا النعت، رغم بعض المستجدات التي فرضها العصر الذي نعيشه. فنقاط الالتقاء والتقاطع بين الموسيقى والأدب عديدة ومتنوعة، فهما ينتميان إلى النشاطات الروحية على أن وجودهما مرهون بعوامل حسية تمثلها الأصوات والألحان في الإبداع الموسيقي، كما تمثلها الكلمات المنطوقة والمكتوبة في الإبداع الأدبي. فمن منطلق الاعتماد على قاعدة للمقارنة المبدئية، يبقى التعبير الجمالي هو الذي يجمع بين الأدب والموسيقى، بما أن هذا البعد الجمالي يعد الأساس الذي ينبني عليه كل إبداع. فعلاقة الموسيقى بالأدب تبقى وثيقة جدا لأن الأدب نافدة للتعبير الموسيقي ودليل يسهل إيجاد عوالم التعبير الفني. يشهد التاريخ على العديد من الأدباء، الذين اهتموا بالموسيقى وأحبوا وكتبوا عنها كالشاعر شارل بودلير، الذي يقول إن «الموسيقى لتحملني كما يحملني البحر»، والأديب رومان رولان، الذي يقول: «إذا كانت الموسيقى بالنسبة لنا شيئا غاليا، فلأنها كلمة الروح الأكثر عمقا». أما الأديب الفرنسي فكتور هيغو فيعتبر أن «الموسيقى تعبر عما لا يمكنك قوله ولا تستطيع السكوت عنه». ونحن هنا نتحدث عن أدباء كتبوا عن الموسيقى، ومنهم طه حسين وفؤاد زكريا، وفي القديم ابن سينا والفارابي وأبو حامد الغزالي وغيرهم. ولا ننسى أن الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد كان عازفا بارعا لآلة البيانو، وكان يستعمل مصطلحات الفن الموسيقي في الدراسات الأدبية، ويعتبر الموسيقى فنا إبداعيا يحفز الإبداع الأدبي. وترتبط الموسيقى بالشعر أكثر من غيره من الكتابات الأدبية، نظرا لما يحققه هذا الجنس الأدبي من فنيات جمالية على مستوى القافية والخيال والتركيب مما يتناسب مع الصوت البشري للترنم والإنشاد، لذا كانت أغلب النصوص المغناة تزاوج بين الموسيقى وتتفاعل مع الكلمة والنغمة لتولد الأغنية. فالظاهرة الغنائية لدى كل شعوب العالم قديمة تعتمد النص الشعري الموزون لخلق الأهزوجة والطقطوقة والمونولوغ والأوبيريت وباقي الأجناس الموسيقيّة دون أن ننسى الأدب الشعبي بكل مكوناته. ففن الملحون بقصائده الرائعة وشعرائه المبدعين يؤكد ما ذكرت، مما يجعل علاقة الشعر بالموسيقى وطيدة وحميمية. وفي هذا السياق يمكن للناقد الموسيقي التمييز بين ما هو موفق جميل في التعامل مع النص الشعري وما هو رديء وسطحي، فالنص الموسيقي يجب أن يكون انعكاسا صادقا ووفيا للنص الشعري، لأنه قراءة موسيقية له بكل الحمولات الدلالية والفكرية والثقافية التي ترافق المبدع الموسيقي الذي يجب عليه أن يعيش في فضاءات النص الشعري لأجل إيجاد الصيغة الموسيقية الملائمة للتلحين. هناك بعض الخصوصيات بالنسبة للموسيقى مقارنة بالأدب أو الشعر وهي تخص التطور الذي عرفته الحركة الموسيقية لدى أغلب دول العالم. فالأدب في تطوره يمكن أن تتنوع مشاربه الإبداعية والأسلوبية دون أن يتغير جوهره الفني والجمالي لأن دينامية الكتابة تظل على منوالها مهما حاول المبدع التمرد على الأشكال والأنماط والاقتباس من أدباء آخرين، ذلك أن اللغة عند الأديب والشاعر تظل هي هي ولا يمكنه إقحام لغات أخرى على لغته، فيبقى أسلوبه في الكتابة هو لغته التي يتميز بها لتكون المقياس لنجاحه، في حين أن لغة الموسيقى لا متناهية وعوالمها تحتمل كل إمكانيات العبث بالأشكال والأساليب والأنماط الجاهزة والمستحدثة. وفي هذا السياق أود أن أشير إلى ما يحدث الآن بالنسبة للذوق الموسيقي وللإنتاج الموسيقي الذي أصبح يدعو إلى القلق أكثر من أي وقت مضى بعدما استبيحت كلمة الشعر الصادقة والجميلة وحل معها صخب مبتذل. والسبب في اعتقادي يعود إلى ما يعرفه العالم من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية صادمة أحيانا، علاوة على دخول الموسيقى إلى عالم المقاولة بشكل قوي ليصبح هذا الفن خاضعا لمنطق العرض والطلب، وأصبحت الأغاني تعرف انحرافا كبيرا عن النسق الغنائي الطبيعي، الذي يجب أن يعكس علاقة النص الشعري بالنص الموسيقي (الراب مثلا) وإنتاج نصوص لا علاقة لها بالشعر ولا بالزجل ولا بالفن أو الإبداع كموسيقى هجينة لا رائحة لها. الشاعر والموسيقي.. روحان يعزفان بين القصيدة والموسيقى خيطٌ رفيع الجنون والدّهشة الفنّية، لا يمتلكه سوى مجنون متمرّد على الموجود المُتجاوز، هذا الموجود الذي يُكرّس استلاب الإنسان ويُعلّبه في ذوق لا يرقى به للجميل فيه، لهذا فمهمة الإبداع هي جعل هذا الإنسان في ثورة متواصلة ضدّ الرداءة المحيطة به وتحريضه على السؤال الجمالي الذي به يكتشف حقيقته وماهية الوجود، به يتصالح مع الكائن والممكن والمُحال، حسب الشاعر أحمد المجاطي في قصيدته «السقوط». إن مهمة المُبدع هي جعل هذا القرد إنسانا، أن يُحرّضه على التّمرّد ضدّه، ضدّ العادي البديهي، ضدّ المؤسّسة الإديولوجيّة التي تريده أن يكون مُستهلكا لثقافتها التّدجينيّة دون أن يكون مُنتجاً لقيم تهدّدُها في الصّميم، أن يسترجع ذاكرته الفنيّة ويعود إلى أصوله الأولى، كإنسان يُفكّر بوعي نقدي تكون الموسيقى والقصيدة من أعمدتها الأساسيّة. بهذه الفلسفة أعلاه أتعامل مع القصيدة التي أعشقها كعاشق متيّم بها، كالحبيبة التي أصاب سهم غرامها قلبي لتوقظَ في دواخلي ألحانها النّائمة. كلّما كنت في رحلة موسيقيّة مع قصيدة استطاعت أن تورّطني فيها وتنتزع منّي روحي لتكون ملكاً لها، نُسافرُ معاً صوب ضوء بعيد، هو الأغنية المنشود تغريدها، التي نسعى معاً إليها بشوق المغروم في وصال حبيبته، الحب شرط أساسي في الإبداع، وكلّ مبدع لا يعزف سوى ليلاه ولا يكتب سوى عشقه الغائب… هذه القصيدة/المعشوقة التي تمنحني شرف عذريتها وحق امتلاكها موسيقيّاً، نتسلّق معاً المقام العالي في ملكوت اللحن السّاحر، يحملنا على بساط وتر أنيق النّقرات، يُترجم صدقاً ما اختزنته الرُّوح من حسّ موسيقيّ رفيع..، أقتحم القصيدة المتمنّعة بمفتاح سحري لا يمتلكه سوى مُبدع يرى ما لا يراه الناس بحدسه الثاقب المُسافر إلى أبعد نُقطة في السؤال، يلبسني جنونها والمعنى العميق الذي يجذبني للأعماق، لأبحر فيها كقرصان ماهر في اصطياد النغمات، كالسندباد المغامر في عواصف القصيدة.. نهيم معاً، حرفاً حرفاً، أواصلها بالوتر، ليكتمل وصالنا ونفوز برعشة الموسيقى الخالدة.. لا أملك من أمري في هذه الورطة الجميلة سوى العزف المتمرّد في حضرة قصيدة تختصرني أنا، أنا وجهها الآخر، لأكون أنا الشاعر المتيّم بها عوض الشاعر الذي أبدعها حرفاً جميلا، وهنا انتهت مهمّته لتبدأ مغامرتي الموسيقيّة. بهذه الثنائيّة المتكاملة أُبدعَت الكثير من التحف الغنائيّة، وهنا أستحضر تجارب خالدة في أغنيتنا العربيّة من المحيط إلى الخليج. بالمغرب نستحضر ثنائيّة الموسيقار عبد السلام عامر والشاعر عبد الرفيع الجواهري، التي خلّدت أروع الأغاني، التي لم يتجاوز سقفها الكثير من الضجيج المنظّم، لتكون هي المرجع الأصيل لكلّ قفزة غنائيّة ببلادنا.. ثنائيّة الرحابنة وفيروز التي أعطت الخالدات من الأغاني الرائعة.. ثنائيّة محمود درويش ومارسيل خليفة\الثلاثي جبران أعطتنا بدورها روائع ساحرة.. ثنائيّة أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وما تركته من موروث غنائي لن يجرفه النسيان لأنه لصيق بهموم الناس وأسئلتهم الجارحة. وأتوّج هذه الثنائيّة بروائع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مع أمير الشعراء وما أفرزته من روائع أطربت أجيالا عدة. من هذه الثنائيّة نكتشف أن الموسيقى والقصيدة توأمان ووجهان لفن واحد، هو الأغنيّة، فالشاعر يكتب قصيدته وهي حبلى بموسيقاها، تحمل بين تفاصيل صورها الشعريّة لحنها الموسيقي، ليأتي شاعرها الآخر، وهو الفنان الموسيقي، يكتبها لحنا يليق بها ويجعلها تصل إلى وجدان النّاس بسلاسة لا غبار عليها. تنقلب الأدوار بين الشاعر والموسيقي ليلعب كلّ منهما دور الآخر بصدق وفنيّة عالية الإبداع: الشاعر يكتب بموسيقاه الداخليّة التي تسكنه، والموسيقي يُلحّن بشاعره الذي يسكنه حتى النخاع..الشاعر يُغنّي بالحرف قصيدته، والموسيقي يكتب موسيقاه بالقصيدة التي امتلكته. في مسيرتي الإبداعيّة تعاملتُ مع شعراء جمعتني بهم نفسُ الرؤية الفلسفيّة للوجود، نفس الرّوح التي كتبوا بها قصائدهم وكأنني كتبتها قبل اكتشافهم، يُوحّدنا نفسُ الهواء الذي أستنشقه في ملكوت موسيقايْ.. من هنا بدأت مسيرتي مع الشاعر صلاح الوديع، التي أثمرَت شريطاً غنائيّاً صدر في بداية التسعينيات من القرن الماضي بعنوان «واصل معي»، ومنها انتقلت في التعامل مع تجارب أكثر نُضجاً وإبداعاً كأبي الطيب المتنبي، هذا الشاعر الذي اكتشفت في شعره كنزاً موسيقيّاً لم يتم استثماره، بكلّ أسف، بشكل أرقى وأجمل، فشعره موسيقى تحتاج لعزف عبقريّ يستطيع أن يُسافر في عوالم المتنبي ويُلبسها موسيقاها التي تليق بها كنصوص حيّة لا تموت أبداً. كما تعاملت مع الشاعر الروسي الكبير بوشكين في قصيدة مترجمة بعنوان «سراج النّهار»، أهديتها لروح الموسيقار عبد السلام عامر، الذي كان حاضراً برؤيته الفنيّة حينما اشتغلت على هذا النص الشعري، إضافة إلى شعراء آخرين كأدونيس وأحمد المجاطي والشاعر التونسي أولاد احمد بن الصغير.. تعاملت مع هؤلاء كشعراء يربطهم خيط رفيع وهو الإنسان وكتابة روح الإنسان بجمالية تُعطيك المساحة الموسيقيّة الأنيقة، التي تُلهمك جملاً موسيقيّة شاعريّة. فالنص الغنائي المتميّز فنّياً كالسّهم الذي لا يُخطئ هدفه الأسمى، وهو عمق الرّوح الإنسانيّة، فليس كل فنان موسيقي مؤهّل لهذه المغامرة التي تجعلك ملكاً في الهامش وسيّداً يمتلكُ حرّيته داخل مجتمع لا يُغنِّي سوى عبوديته. وأعود للحديث عن العلاقة بين الموسيقى والأدب في تاريخ موسيقانا المعاصر لنجد أن ما أنتجته الساحة الفنية والأدبية في مصر مع محمد عبد الوهاب وأحمد شوقي وأحمد رامي والقصبجي وزكريا أحمد وغيرهم، وفي لبنان مع تجربة الرحابنة في التنويع الإبداعي بين المسرح والشعر والزجل والموسيقى، جدير بالتنويه. فالعلاقة داخل هذه الساحة الفنية تزداد عمقا بين ما هو أدبي وما هو فني موسيقي. وهنا يكمن دور المبدع الموسيقي الذي لا يجب أن ينحصر دوره في إطار الموسيقى فقط، إذ لا بد أن ينفتح على الأدب لإغناء تجربته الموسيقية، ولا بد أن يكون مثقفا عارفا بخبايا الإبداع الأدبي حتى يكون موفقا في التعامل معه. فكم من قصيدة لم تكن لتشيع وتتذوق لولا تلحينها وارتباطها بملحن أو مغن مقتدر لتنجح على شكل أغنية، حيث إن قصائد الشاعر محمود درويش ونزار قباني وعلي محمود طه وأحمد شوقي ذاعت وانتشرت أكثر، حتى مع جمهور لم يتعود على قراءة واقتناء دواوين الشعر، مع مبدعين موسيقيين كبار كمحمد عبد الوهاب ومحمد سلطان ومرسيل خليفة… الموسيقى: شهوة الروح.. انخطاف الجسد كانت الموسيقى الهندية أول ما داعب أسماعي واستقر في القلب… كنت بالناضور أذهب إلى سينما الرويو، رحمها الله، وكانت تعرض أفلاما هندية طيلة السنة… كنت تدخل على الساعة الثالثة ولا تغادر قاعة العرض إلا في منتصف الليل… وربما كانت هذه حالة استثنائية… المهم الأفلام كلها ذات طابع رومانسي… حافلة بالموسيقى… والنتيجة أنك تستمع إلى الأغنية نفسها ثلاث أو أربع مرات لأنك تشاهد الفيلم نفسه ثلاث أو أربع مرات… وكان ثمة عباقرة يضعون موسيقى تلك الأفلام… وعلى رأسهم كالياندجي أناندجي ولاكسميكانت بياريلال… والأغاني باستمرار بصوتي الكبيرين محمد رفيع وأشا بهوسلي… تلك الموسيقى وتلك الأصوات كانت تزلزل كياناتنا المراهقة… وكان يصل الأمر ببعضنا أن نحفظ الأغنية عن ظهر قلب ونغنيها كأصحابها بالشارع… ولأننا كنا على كثير من كلف بتلك الأغاني فإننا كنا- فضلا عن حفظها- نسعى إلى فهمها… وكانت حينئذ ترجمة شركة أنيس عبيد تتيح لنا ذلك… وهذا أمر كان يسمح لنا بالتحليق أكثر عبر معاني الأغاني… وكنا نستعمل عبارات مما نحفظ عن ظهر قلب في رسائلنا العشقية… كان لكل هذا أثر -لا شك بعيد- في ممارستي الشعرية… وهو أثر لم أقصد إليه… لقد كان عفويا وتلقاء خاطر لا تمحل فيه ولا تصنع… أما المرحلة الحاسمة في تأثري بالموسيقى فكانت يوم استمعت إلى أغنية «مرسول الحب» للأستاذ عبد الوهاب الدكالي وكلمات المرحوم حسن المفتي… بالفعل وقع لي انخطاف غريب استمر معي إلى اليوم… الشيء الذي يمكن إرجاعه إلى كون موضوع القصيدة قريب إلى روح مراهق لا يعرف وصلا ولا لقاء في معزل عن الرسائل الغرامية… في الفترة نفسها اكتشفت فريد الأطرش ولم أحبه كثيرا… ربما لأنه كان كثير الشكوى… وكنا ننفر من هذا لأنه ربما يضيف حزنا -في لا وعينا- إلى الحزن الساكن فينا أصلا… ومع ذلك أحببت كثيرا عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وعبدالهادي بلخياط. وأما الزلزال الذي سيغمرني ويستأصل كل جذوري الحزينة – عندئذ – فكان صوت فيروز… التي بسببها صرت- بعد وعي نسبي – أشتغل وفق إيقاع أظنني استوحيته من أغنيتها التي تقول فيها يا طير الوروار… والتي سميتها في كثير من شعري الانهيار الجميل… والقصد ذلك السقوط البديع بعد تشرب موسيقي طافح… وهو يشبه سقوطا في حالة عشق… الموسيقى بالنسبة إلي يقتضيها عملي الشعري ويستلزمها… ولا أتصور نفسي وأنا أهيئ قصيدة في معدى عن الموسيقى… وأفهم جيدا لماذا يفضل أكثر المنظرين للجمال الموسيقي على غيرها من الفنون… وأفهم أيضا لماذا يتحدث الكل عن الإيقاع في التشكيل والعمارة والشعر… قد تكون الموسيقى بهذا المعنى أب الفنون… لا المسرح… علاقة الأدباء بالموسيقى مرت علاقتي بالموسيقى بست مراحل: 1 مرحلة الصبا والطفولة، وقد عشت عقدها الأول في القرية، وهي مرحلة الاستماع الاضطراري أو العادي للشائع من الموسيقى المحلية في المناسبات الأسرية والاجتماعية والدينية، أو من الموسيقى التي كانت تبث على الأثير، وأغلبها قصائد الملحون والطرب الأندلسي. ويغلب على علاقتي بالموسيقى في هذه المرحلة التلقي الأسري والعائلي، وكذلك التلقي الجماعي الذي من تجلياته فرجة فرق عيساوة السنوية للقرى لغايات روحية وعلاجا لبعض الأمراض النفسية والعصبية التي كان يعاني منها بعض النساء والرجال، وفرق موسيقى العيطة وعبيدات الرمى في مواسم زيارة الأضرحة، والاحتفاء بانتهاء موسم الحصاد وجني الغلال، ولم يكن ذلك يخلو من تحقق بعض الأهداف التعلمية المؤهلة للاندماج في الوسط الاجتماعي، واكتساب الضروري من معارفه، وأسرار ثقافته، وقد تخللت هذه المرحلة محاولات تقليد الرعاة في إبداع واستعمال آلات موسيقية بدائية من النباتات وغيرها من الأشياء المتاحة آنذاك، ولكنها محاولات لم تنبئ بموهبة موسيقية واعدة. 2 مرحلة اليفاعة وما بعدها، وقد صادفت انتقالي إلى الدارالبيضاء قصد التمدرس في أولى سنوات الاستقلال، وإن جو الأناشيد والأغاني الوطنية، التي كانت تتردد بحماسة في الساحات والأزقة، وسعة انتشار أغاني أكبر المطربين المغاربة والشرقيين بفضل وفرة آلات المذياع في المدينة، كل ذلك أحيا في نفسي حبي للموسيقى، فسعيت إلى الانخراط في المعهد الموسيقي البلدي صحبة صديق عزيز، رحمه الله، وشرعنا في تعلم السولفيج، وما لبثنا أن بدأنا نتساءل عن الآلة الموسيقية التي سنتخصص فيها، وذهبنا في ذلك مذاهب اختلفنا فيها، مما أدى بنا إلى الانقطاع عن التردد على المعهد، واكتفينا بملء أوقات فراغنا بالاستماع الحي المباشر إذ لم يكن لدينا آنذاك مذياع خاص في البيت لبعض زملائنا التلاميذ الموهوبين في تقليد محمد عبد الوهاب أو غيره من مشاهير المطربين، أو الأصدقاء الماهرين في العزف على بعض الآلات الموسيقية مثل الناي. 3 في أوائل الستينيات وفقت في أن أصبح من مراسلي البرنامج الإذاعي «اخترت لكم»، الذي كان يعده ويقدمه الطيب الإدريسي، وهو برنامج كانت مادته خواطر رومانسية تتخللها مقاطع غنائية مناسبة. وهكذا انبعث في نفسي من جديد حسي الموسيقي، وصرت مطالبا بتتبع الأغاني وجرد موضوعاتها، وتوثيق أسماء أصحابها، إغناء لزاد مختاراتي، وتنويعا لأساليبي، وتجديدا لموضوعات خواطري، وبذلك أتيح لي، طيلة قرابة أربع سنوات، أن أتعرف على أشهر الأغاني المغربية والشرقية، خاصة ما كان منها مناسبا لروح البرنامج. 4 في بداية السبعينيات تعرفت على الصديق القاص أحمد الرضاوني الذي تعلمت منه أشياء جميلة، أخص منها هنا ما يتعلق بالموسيقى، فقد فتح أمامي بابا واسعا لترقية ذوقي الموسيقي، وإثرائه بثقافة علمية عالمية لا تكتفي بمجرد الاستماع والترداد، بل بالإحساس والتذوق والمعرفة التاريخية والفنية والاصطلاحية. ففي بيته كان يناقشني وهو يسمعني، بجهاز حاك فني متطور، روائع الموسيقى العالمية، التي أذكر منها: ضوء القمر، والسيمفونيات المتعددة لبيتهوفن سيمفونيات موزار شهرزاد لريمسكي كورساكوف بحيرة البجع، وكسارة البندق لتشايكوفسكي الفصول الأربعة لفيفالدي سبرينغ سيمفونية كارمينا بورانا لكارل أورف….الخ 5 بعد ذلك توسع اهتمامي بألوان من الموسيقى المغربية والمشرقية والغربية، وموسيقى الشعوب طيلة سنوات. 6 ولكن حنيني الغامر ظل يشدني إلى واحات الموسيقى الأندلسية الخالدة، والموسيقى الكلاسيكية العربية الأصيلة لدى أكبر أقطابها الأفذاذ خلال القرن العشرين، وأشهر أيقوناتها في مختلف الأقطار العربية، والموسيقى السيمفونية العالمية، والموسيقى الصامتة الحديثة، فهي التي وجدت أنها تغمر روحي بأحاسيس الجمال والتذوق الفني والمتعة، وتغني مشاعري بفيض من المعاني تعجز عن التعبير عنه الكلمات المعجمية، وتحرر خيالي من ربقة الواقع الكائن والممكن، فيحلق في عوالم لا حدود لها، وتُمد حلمي بأجنحة تطول المسافات والفضاءات، وتريح أعصابي من صخب طاغ يحول دون أن تسمع ما ينتظم الكون من حولنا من موسيقى خفية رائعة، ويعوض النفس ما لم تتمكن من تحقيقه من هوايات ومهارات عبر مراحل أطوارها المختلفة. موسى بيدج: ونحن نُتَرْجِم لا نُريدُ أن ننقُلَ جسدَ القصيدة وإنما روحها قال إن العربية ليست لغة دخيلة وإنَّما لغة ضليعَة في اللغة الفارسية. موسى بيدج، شاعر إيراني من جيل السبعينيات، عايَشَ "الثورة الإيرانية"، ورغم ما جرَّتْه هذه الثورة وراءها من مَيْل إلى الماضي، ومن رغبة في التَّأصيل، والنُّزوع المذهبي الماضوي، في الثَّقافة كما في المجتمع، وما ذهب إليه الكثير من الشُّعراء للكتابة وفق النمط الثقليدي، فموسى، الذي بدأ تقليدياً، وكتب غزلياتٍ تقليدية، في أوَّل أمره، خرج من هذا الماضي، ليكتُب بصورة مُغايِرَة، فيها رغبة كبيرة في تحديث الوعي، وتحديث الشِّعر في إيران ما بعد الثورة. التَّرْجَمة، والانفتاح على لُغاتِ وثقافات الآخرين كانا بمثابة الشُّرْفة التي وضعَتْ موسى، وبعض مُجايِليه، أمام هذا الأفق التحديثي الجديد، رغم أنَّ النمط الكلاسيكي ألْقَى بثقله على الثقافة وعلى المجتمع. فأنْ تصبح "قصيدة النثر" ذات انتشار واسع، في الشِّعر الإيراني المعاصر، فهذا لا يعني أنَّها جاءتْ من الغرب، أو كان الغرب هو السبب المُباشر في وُجودها، فموسى يعود بها إلى التراث الصُّوفي الذي هو تراث كُتِب شعرياً بالنثر، أو ب "قصيدة النثر"، ولعلَّ في ما كتبه البسطامي، وجلال الدين الرُّومي، وغيرهما، ما يُشير إلى أنَّ ما جاء من الغرب والعالم العربي كانت له جذور في التراث الصُّوفي الإيراني. موسى بيدج مُتَرْجِم أيضاً، وقد ترجم عدداً هائلاً من الشُّعراء والكُتَّاب العرب، وله أنطولوجيا ترجم فيها لعدد من الشُّعراء المغاربة المعاصرين، وهو يرى في الترجمة أفقا للاكتشاف، والحوار والمعرفة، والانتقال بالشِّعر من وضع إلى آخر. – تعرَّفْتُ عليك من ترجمتك لبعض الشِّعر المغربي، ومن خلال الأنطولوجيا التي كنتُ واحِداً من بين شُعرائِها، هل الترجمة مُجرَّد نقل نص من لغة إلى لغة، أم هي نوع من الحوار الثقافي مع ثقافات أخرى، مع رُؤَى، ومع شُرفاتٍ أخرى، تنفتح على ثقافتك أنت في إيران، وتنقل ثقافتك أنت للآخرين؟.. سؤالُك يحمل الجواب في قلبه أيضاً. أكيد أنَّ عملية التَّرجمة، خاصَّةً الشِّعرية، ليست مُجرَّد نقل كلماتٍ أو معانٍ، بل نقل روح، الروح التي هي ظمْآنَةٌ لِلْوُصول إلى روح أخرى. على هذا الأساس أقوم بالترجمة، أوَّلاً عند اختياري القصيدة، لا أُفَكِّرُ في ترجمتها، بل أُفَكِّرُ في جماليتها. القصيدة عندي تَحْمِل فكرة، وصُورَة، وأداء، ودَهْشَة، إذا كانت تتوفَّر هذه العناصر في قصيدة سأسْتَسيغُها، سأُحِبُّها، وبعد أن أقرأها، مراراً، إذا وَجَدْتُ فيها شيئاً يصلُح للترجمة، أترجمها دون تردُّد. يمكن أن تحمل القصيدة كُلّ هذه العناوين، ولكنها لا تصلُح للتَّرجَمَة. توجَد أشياء أخرى في الترجمة، لأنّنا، ونحن نُتَرْجِم، لا نُريدُ أن ننقُلَ جسدَ القصيدة، وإنما ننقُل روحها. روح القصيدة كيف تنتقل بسلاسَة، وبِيُسْر. المُتَرْجِم، أوَّلاً، يجب أن يكون شاعراً، ما عدا هذا فهي لا تنتقل، الكَلِمات هي التي تنتقل، فتكون القصيدة في كل هذه الحالة تابُوتاً، فهي تكون مُفْرَغَةً من الرُّوح، ومن الجَوْهَر. كثير من القصائد نقرأها اليوم، انْتَقَلَتْ جسدياً، ولم تنتقل رُوحِياً. رغم كُل هذا، فأنا أحاوِل في كل ما أُتَرْجِمُه. التَقَيْتُ عدداً هائلاً من الشُّعراء الكبار، الذين وَجَدْتُ قصائدهم لا تنتقل، ولا تقبل الترجمة، هُم كبارٌ في لغتهم، ولكن الكبير، اليوم، ليس في لُغَتِه فقط، وإنَّما الكبير هو مَنْ يعبُر، من يجتاز الحُدُود، والقصائد التي أنْتَ رأيتَها، أكيد دَخَلَتْ إلى ثقافتنا من هذا الباب. لكن تبقى، مع الأسف، قليلة جدّاً، ولا تُواكِب الحدث. – باعتبارك شاعراً، تكتُب باللغة الإيرانية الحديثة، ما الأُفُق الذي تفتُحُه لك الترجمة، في علاقتك بتجربتك، ولقائك بباقي الثّقافات واللُّغات الأخرى، ثم فعل الترجمة في ذاته، هل تُراعِي فيه السِّياق الفكري للنص، أم السِّياق الجمالي الذي أشَرْتَ إليه، لكن، هل هذا السِّياق داخِلٌ في تجربتك أنت، مِمَّا يعني أنَّ الترجمة فيها شيء من ذاتِك رُبَّما؟. هذا صحيح. بالنسبة للترجمة، هل تأخُذ أم تعطي؟ هي تأخُذ وتعطي. كيف؟ الترجمة تُضيف، فهناك مقولة عندنا تقول: الذي يُجِيد لُغَتَيْن هو شخصان وليس شخصاً واحِداً، وطبعاً، هذا الذي يحمل في ذاته البُعْدَيْن، أو الشَّخْصَيْن، ستكون فِكْرَتُه أوْسَع، ورؤيتُه أوسع. فالترجمة، هُنا، تخدم الشَّخص، فهو يتعرَّف على الشخص الآخر الذي يُتَرْجِمُه، في ثقافة أخرى، في لغة أخرى، وفي حضارة أخرى، وهذا، حَتْماً، سينعكس على قصائد وأعمال المُتَرْجِم. كُلّ الذين أعْرِفُهُم ممن يُجيدون لغة أخرى، قصائدهم مُتَميِّزَة. لا أقول هذا تَبَجُّحاً، فالكثير من النُّقَّاد، قالوا لي إنَّ قصائدَك تختلف، وهذا يعني أنَّ ما أكتُبُه فيه علاقة بالترجمة، وفيه استفادة من الترجمة. هذا بالنسبة للشِّقّ الأول من السؤال، أمَّا الشق الثاني: هل المترجم يعطي من ذاته للقصيدة أم لا؟ أكيد يجب أن يعطي من ذاته، فعملية الترجمة ليست نقلاً فقط، وإنما هي عملية خلق، تختلف عن المقالة، وعن كثير من الموضوعات التي ليس فيها خلق. القصيدة يجب أن تُخْلَق في لغة أخرى، وعلى هذا الأساس. أكيد أن الفكرة يجب أن تكون في صُلْب الموضوع، وأكيد سنُضيف إليها الجمالية. الجمالية هي التي تعطي اللغة عُمْقَها. فأنا، مثلاً، إذا ترجمتُ قصيدة لصلاح بوسريف، فأنا أراها بعيون قارئ إيراني. كيف سيراها هذا القارئ؟ من الممكن أن أُغَيِّر بعض الأشياء، ليس في صُلْب الفكرة، طبعاً، وإنَّما لِمُراعاة السِّياق الإيراني، وللحِفاظ على الرؤية الجمالية عند هذا القارئ، أو اللغة المَنْقُول إليها. – باعتبارك شاعِراً إيرانياً، وباعتبارك ذلك الجِسْر الذي يَصِل بين الثقافة الإيرانية الحديثة، وبين ما يجري في العالم العربي، ما الذي تتميز به الشِّعرية الإيرانية الحديثة، حسب رأيك، في سياق العلاقة بالشِّعرية العربية الحديثة أو المعاصرة؟ طبعاً، هذا يحتاج إلى جواب مُسْهَب، لأنَّ لدينا علاقة تاريخية طويلة جِدّاً، والشِّعر ليس وليد اليوم، هو وليد التاريخ، ووليد الجغرفيا، العالم الكوني يجب أن يكون في القصيدة. الإيرانيون اسْتفادوا كثيراً، في جُل تاريخهم وإلى اليوم، من الأدب العربي، والشِّعرية العربية، والقصيدة العربية. لكن اليوم هناك «قطيعة»، لأننا توجَّهْنا إلى الغرب، كما توجَّهْتُم، أنتُم، إلى الغرب، وطلبنا الصِّناعات الثقيلة والخفيفة، وغفلنا عن بعضنا البعض، وطبعاً دخلت عناصر وعوامل جديدة، لا أريد أن أتحدث عنها هُنا. هذه القطيعة أصْبَحَتْ عائقاً، أو نَقَصَت من فُرَص اللِّقاء بين الشِّعر العربي، والشِّعر الإيراني. ولكن، رغم هذا، هُناك وشائج وروابط خفيَّة، هي ما قد يربط الاثنين معاً. في لغتنا تُوجَد أكثر من خمسين بالمائة من المفردات العربية، لا نستطيع أن نُزِيلَها عن لغتنا. إذن، العربية، كما كَتبْتُ في دراسةٍ لي، ليست لغة دخيلة، وإنَّما لغة ضليعَة في اللغة الفارسية. على هذا الأساس، عندما يكتُب الإيراني يكون لديه خزين من الكلمات العربية التي يستخدمها في قصيدته الفارسية. وطبعاً، إذا أردْتُ أن أتحدَّث عن الفكرة الإيرانية، والخيالات والرُّؤَى الإيرانية في القصيدة العربية، فأنتَ أستاذ بها، وعارف بكثير من تفاصيلها، يجب أن أعود إلى القصيدة العربية القديمة الكلاسيكية، وإلى الشُّعراء العرب الذين هُم أساطين في اللغة العربية. – هُنا، أعود معك إلى التراث الصُّوفي الفارسي، هذا التراث له اليوم تأثير كبير في العالم العربي، وفي العالم، وأسْتَحْضِر معك، جلال الدين الرُّومي، سَعْدِي الشِّيرازي، وحافظ الشِّيرازي، وأستحضر معك كثيرا من الأسماء التي تُرْجِمَت إلى لُغاتٍ كثيرة، خُصوصاً جلال الدِّين الرُّومي الذي كُتُبِت عنه روايات، وأعمال فكرية وأدبية كثيرة. ما تأثير هذه التجربة عليك أنتَ أوَّلاً كشاعِر، وعلى الشِّعرية الإيرانية المُعاصرة، فتأثيرها، في ما يبدو مُمْتَدّ، في العالَم العربي، وفي العالم عُموماً؟. اليوم، تُوجَد حركة جديدة، خاصَّةً في الغرب، للتَّعَرُّف على جلال الدين الرُّومي خاصَّةً، وعلى الحركة الصُّوفية في الأدب الإيراني. أنا شخصياً، قصيدتي هي قصيدة اليوم، صحيح لَدَيَّ دَعْم كبير من الثقافة الصُّوفية التي قرأْتُها، ونحن نقرأ قصائد جلال الدِّين الرُّومي، وهي على الرَّفّ إلى جانب سعدي الشِّيرازي وحافظ الشِّيرازي والقرآن الكريم. هذه الكُتُب موجودة في أكثر البيوت الإيرانية. ولكن اليوم، العودة إلى هذه النَّكْهَة الصُّوفية في الشِّعر تأتي في سياق بحث الناس عن حياة رُوحية هادئة، تجري خارج هذا الصَّخَب الذي باتَ يملأ حياتَهُم المادية الاستهلاكية اليومية، المليئة بالضَّوضاء المدنية، وبالصِّناعات. على هذا الأساس، هناك عودة لتنقية الرُّوح، ولتشذيبها من هذه الزوائد الحضارية التي تُخَرِّب الفكر والرُّوح معاً. – لكن، وأنا هُنا، سأسمح لنفسي بادِّعاء معرفة دقيقة بتراث جلال الدِّين الرُّومي، الذي أشتغل عليه منذ أكثر من عشر سنوات بشكل متواصل، فالبُعد الشِّعري والجمالي، في تجربته، وجُرْأته، في الابتداع،لا يمكن أن نُلغيها، ونتجاهلُها، خصوصاً النصوص القوية التي كتبها عن شمس التبريزي، الذي افْتَقَدَه، والذي شكَّل بالنسبة له صدمةً في حياته، نقَلَتْه من وضع إلى آخر، هذا المعلم العابِر الذي قَلَبَ حياة الرُّومي كامِلَةً. هل هذا الأفق حاضر في التأثير على الشِّعريات الأخرى، أم الجانب الرُّوحي هو المهم هُنا؟. طبعاً الجانب الرُّوحي هو المهم والمُلْهِم، وجلال الدين الرُّومي، كما أشَرْتَ، اسْتَمدَّ طاقَتَه من شمس التبريزي، حتَّى أنَّه كتب قصائد الديوان الكبير باسم «شمس تبريز»، فالشُّعراء من هذه الطينة، في نهاية قصائدهم كانوا يذكرون أسماءهُم، ولكن جلال الدِّين الرومي يأتي باسم شمس تبريز، وهذا ما يجعل الرومي مُخْتَلِفاً عن غيره. الشيء الآخر في الرومي أنَّه يأتي بالجديد، وكانت عندَه جُرْأة، حتَّى أنه قبل سبعمائة سنة كان يَنْبُذُ الأوزان، إذ لم يكن عنده شيء اسمُه «الشِّعر الحُرّ» أو «قصيدة النثر»، لكنه يقول: «قَتَلَتْنِي هذه الأوْزَان، لأَخْرُجَ منها»، في قصيدة هي موزونة. هذا ما يجعل الرُّومي يمشي مع شعرائنا اليوم، أو هو يتقدَّمُهُم. بقية الشُّعراء يتبعونَه. هو لم يكُن يكتُب، بل كان ينشُد القصيدة وهو في حالة من الانخطاف، ولديهم هذه الرَّقْصَة الصُّوفية التي هي تعبير عن هذا الانخطاف. هذا ما جعله يختلف. كل الشُّعراء يَتَمنَّوْن بُلوغَ مرتبة ولو قليلة على سُلَّم الرُّومي، وليس الوصول إلى الرُّومي. – أعود إلى تجربتك أنتَ كشاعر، في سياق ما يجري اليوم في إيران، وأنت تنتمي إلى جيل السبعينيات، جاءتْ بعدكم أجيال أخرى، كيف تنظر، إلى علاقة جيلكم بالأجيال الجديدة؟ هل ثمَّة حوار؟ هل ثمَّة نوع من اللِّقاء، أم هُناك قطيعة، ومُشاحَنات، وتوتُّر، كما هو حادِث عندنا في المغرب، أو في العالم العربي، وكما تعلم، فكُل جيل يُحاول أن يُثْبِتَ حضورَه على حساب الجيل الآخر، مهما كانت الوسائل؟. هذا صحيح. ليس فقط على حساب من سبقوهم، وإنَّما أن يضعوا قَدَماً، وأن يتقدَّموا بقدمٍ أخرى، وهذا هو التَّوَالُف بين الأجيال، وطبعاً، كما سمعنا كثيراً، فالابن يقتُل الأب، وهذا موجود لديْنا في الشِّعر الإيراني، لكن أنا شخصياً، أحاول أن ألتقي بالكثيرين من هذه الأجيال، لأنني أعتبر نفسي همزة وصْل بين الأجيال، عدا أنني شاعر، فأنا أكتب بثلاث لُغات، الكردية، وهي لغةُ الأم، والفارسية، وهي اللغة الوطنية، والعربية، وهي اللغة القلبية. ولكني أحاول أن أكون أميناً عندما أرى الأجيال القادمة تأتي بشيء جديد. أكيد سأشير إليها، وأقول إنَّها مهمة وجيِّدَة. هناك اختلاف في الرُّؤَى وفي الموقف، بيني كشاعر سبعيني، وبين شاعر ثمانيني، أو تسعيني أيضاً، فهذا شيء لا مَفرَّ منه، وكما ذَكَرْتَ أنتَ، فهذا موجود في اللغة العربية، وفي اللُّغات الأخرى أيضاً. – الأجيال التي أتَتْ بعد السبعينيات في إيران، ما الذي أضافَتْه إلى المشهد الشِّعري، باعتبارك أحد المُتابِعِين لِما يجري أمامك؟ وهل يمكن أن نعتبر الأجيال الجديدة امتدادا لكم، أم هناك قطيعة، أو تَجْمَع بين الاثنيْن؟. كما قلتُ لك، هي ليستْ قطيعة، وليست صورة طِبْق الأصل، مثلاً، وإنَّما تُحاوِل أن تُضيفَ شيئاً عن السَّابق. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كما تعرف، في أواخر السبعينيات حَدَثَتْ ثورة، والثورة جاءتْ بأشياء جديدة، ونبذَتْ أشياء جديدة أيضاً، وعادَتْ إلى القديم. مثلاً حدثَتْ لنا ثورة على القصيدة الجديدة التي هي «قصيدة النثر»، والتي تُعْتَبَر سيدة الموقف في ذلك الزَّمَن، وخلال هذه الفترة برز شُعراء يميلون إلى النمط الكلاسيكي في كتابة القصيدة، فبما أنّ الثورة كانت مُحافِظَة، وتذهبُ إلى الدِّين، وإلى الأصول، فقد برزتْ على هذا الأساس فئة كبيرة من الشُّعراء تكتُب القصيدة الكلاسيكية، وإن كانتْ بلغة اليوم، يعني هي قصيدة تختلف عن سابقتها، لأنَّ المُسْتجدَّات التي جَرَتْ في المجتمع هي التي تطرحُها، لكن على الطريقة الكلاسيكية. 8- هل هذا يعني أنَّ «الثورة» والمؤسسة المُحافِظَة في الدولة الإيرانية ألْغَتا «قصيدة النثر»، أو تعامَلَتا معها بنوع من التهميش والإقصاء؟. النِّظام الجديد لم يتدخَّل في هذا الموضوع، وإنَّما التَّوجُّهات الجديدة في المجتمع هي التي فرضَتْ على الشَّاعر، داخِلياً، أن يعود إلى هذا النَّوْع. أنا لا أقول إنَّ القصيدة الجديدة، أو «الحُرَّة» انْتَهَتْ، لا، لكن لَدَيْنا هذه الطَّائِفَة التي كانت مَوْجَةً، فصارتْ نهراً. اليوم، إذا أعْدَدْنا الأنهار الموجودة، فأحد هذه الأنهار التي تكتب القصيدة الكلاسيكية، موجودة اليوم، وفيَّاضَة. ولكن لم يفرض عليها أحد شيئاً، فهي من تلقاء نفسِها انْجَذَبَتْ نحو التقليد والمُحافَظة والماضي. الشُّعراء الذين برزوا كانت لهم توجُّهات دينية مذهبية، وكانوا، خاصَّةً، مُتأثِّرِين بعلي شريعتي المفكر الإيراني، وأرادوا أن يعودوا إلى «الأصول»، وبما أنّ الثورة كانت مُحافِظَة، وتذهبُ إلى الدين، وإلى الأصول، فقد برزتْ على هذا الأساس فئة كبيرة من الشُّعراء تكتُب القصيدة الكلاسيكية، وإن كانتْ بلغة اليوم، فقد كان لكتابة القصيدة في صورتها الكلاسيكية دخل في هذا النوع من التَّوَجُّه الجديد في الثقافة والمجتمع الإيرانيين. – على ذكر التَّوجُّهات المذهبية، هل الشِّعر داخِلٌ في هذه التَّقاطُبات المذهبية، أم بقي في مَنْأًى عنها، خاصَّةً أنَّ هذا المَيْل إلى «الأصول»، في الشِّعر، هو تعبير عن هذا المَيْل المذهبي؟. هذا صحيح. كثير من القصائد تتكلَّم عن المذهب، عن الدِّيانَة، وعن العوامل والأسباب التي أدَّتْ إلى هذا النوع، أو العودة إلى هذه الأفكار والرُّؤَى التي هي مطروحة لَدَيْنا على طول التاريخ الإسلامي. هذا أكيد موجود، وتوجد قصائد وكتابات، نعتبرها قصائد مذهبية بحتة، وهي مقروءة لدى الكثير من الناس، حتَّى من جيل الشباب، يُحِبُّونَها، وينتمون إليها. الموضوعات المطروحة اليوم على ساحتنا، هي تقريباً بين الأصالة والمُعاصرة، أو الحداثة، وبينها يوجد تضادّ، وثَراء، أيضاً. – ما مكانتُكُم أنتم، وأنت بصورة خاصَّة، كشاعر حداثي، ينظر إلى الأمام، رغم أنَّ الماضي حاضر في وَعْيِك، داخل هذه الهيمنة الماضوية في الشِّعر والثقافة الإيرانيْين؟. أنا لستُ وحدي، فهُناك غيري من الشُّعراء الذين يسيرون في هذا الاتِّجاه. فالتَّوجُّه الكلاسيكي في الشِّعر موجود بقوة، لكن أمامه أيضاً توجُّه آخر ل «القصيدة الحُرَّة» التي تريد أن تتكلَّم عن اليوم، حتَّى وإن كانت أفكارها تنتمي إلى الأمس. أنا شخصياً، كنتُ أوَّل الأمر أكتُبُ القصيدة الكلاسيكية، ولديَّ غزليات كلاسيكية في اللغة الفارسية، ولكن عندما تعلَّمْتُ لغة أخرى، من خلال التَّحاوُر والاحتكاك بالعرب، أدبياً وفكرياً، أصبحْتُ من خلال قصائدي أتحدَّثُ مع الآخر، على هذا الأساس غيَّرْتُ أسلوبي في الكتابة. كنتُ أكتُب على النمط الكلاسيكي، ولكنني، منذ ثلاثة عقود أكتُب «قصيدة النثر»، التي تُحاور العالَم. «قصيدة النثر» هي سيِّدَة الموقف اليوم، لديَّ أنا، ولَدَى الكثير من الشُّعراء. إذا أرَدْتَ أن أُعْطيك بالأعداد، سأقول لك سبعين بالمائة من الشُّعراء الإيرانيين يكتبون «قصيدة النثر». – هل هذا بتأثير من الغرب، أم بتأثير من الشِّعر العربي المُعاصِر، أم هو انْجِراف وراء هذه الرغبة الكبيرة في التحديث، وفي الحداثة، وفي أُفُقٍ حُرّ، لا يرتبط بمعايير ماضوية جاهزة، وموجودة سَلَفاً؟. كُل هذا موجود. أنا بدأتُ الترجمة منذ ثلاثين عاماً، بدأْتُ أُتَرْجِم للأدباء العرب، ترْجَمّتُ مِائَتَيْ أديب عربي إلى الفارسية، منهم شُعراء، ومنهم كُتَّاب. ويوجد غيري ممن ترجموا، لكن ليس بالاندفاع الذي أنا فيه. هذا أعطاني فُرْصَةً لأطَّلِع على كثير من التَّجارب في الشِّعر العربي. وإذا كان من يذهب إلى أنَّ الأصل في قصيدة النثر هو الغرب، فنحن في إيران لا نعترف بهذا ولا نُقِرُّ به، فنحن عندنا خزين من الموروث الصُّوفي مليء بقصيدة النثر، مثلاً، أبو يزيد البسطامي يقول: «ذهبتُ إلى الصَّحْراء، كان العِشْقُ ماطِراً، وكانتْ أقدامِي تَغُوصُ في العِشْق». هذا قاله قبل ألف وكذا سنة. الموروث الصُّوفي لديْنا مليء بقصائد النثر التي يعتبرها الغَيْر أتَتْ من الغرب، هي كانت عندنا، كما لديْنا الواقعية السِّحرية في القصة، التي يُقال إنَّها أتَتْ من أمريكا اللاتينية، لكن جدَّاتنا هن اللواتي كُنَّا يسردن لنا هذه القصص. لا أريد أن أغلق هذا الباب، فهذه القصيدة أتَتْ مُجدَّداً من الغرب، وحتَّى أبو الشِّعر الإيراني نيما يوشيج الذي حطَّم الأوزان والقوافي، وكتب بلغة جديدة، ونكهة جديدة، ورُؤَى جديدة، وبتفصيل جديد، كان يُجيد اللغة الفرنسية، والعربية أيضاً. هذه إحْدَى الشُّرفات كما تَفَضَّلْتَ أنْتَ وسَمَّيْتَها. الشُّرفة الأخرى كانت هي الترجمة الغربية، وأيضاً الترجمة العربية. التَّوجُّه العام في هذا النوع من الشِّعر هو رغبة الناس في اجتياز الحدود، والتَّحاوُر مع الآخر، هذا هو التَّوجُّه العام في كتابة الشِّعر، وليس الهروب من النمطية الكلاسيكية. فالشَّاعر الإيراني سَعَى بهذا إلى فتح حوار مع الشِّعر الآخر، غير الإيراني، وهو لم يكترث بالحدود الموضوعة بين اللُّغات، وبين البلدان، وعلى هذا الأساس أتَتْ هذه الكتابات الجديدة. كما أنَّ هذه الرغبة في التّجديد ليست هروباً من نمطية الأوزان والقوافي، بل إنَّ قصيدة النثر لها، هي أيضاً ضوابطها، والأكيد أن الكثير من الشُّعراء الذين يكتبون بالطريقة الكلاسيكية لا يستطيعون كتابة قصيدة النثر، ولا يعرفون متى يتكلَّمُون، ومتى يصمتون. – وهل ترى أنَّ «قصيدة النثر»، اليوم، أسهل الطُّرُق إلى الشِّعر؟. ليست كُلّ «قصيدة نثر» شعرا، خاصَّةً في يومنا هذا، خصوصاً مع هيمنة شبكات التواصُل الاجتماعي، التي خرَّبَتْ الكثير من هذا الشِّعر. لديْنا طُرْفَة: كتب أحد الأدباء، وهو ناقد، قال، إنَّ أخي، منذ ثلاثة أيام خرج من البيت، ولأنَّه لم يُصْدِر ديوانَ شِعْر بعد، فنحنُ قَلِقُون عليه. فالكُل صاروا شُعراء، وكُلّ واحد يكتب على هواه، وكما يُريد، وهو مَنْ يُسَمِّي كلامَه كما يُريد ويرغب..