نورسة الشِّعر قصيدة من ديوان "أغنيات الروح" نورسةٌ، جدلتْها الشمسُ غباراً وخيوطاً منْ غربهْ.. * شاعرةٌ، فتحتْ نافذةً، في الليلِ الطاغي كالبركانِ وأيقظتِ النّسْمهْ!.... * ويداكَ سماءانِ فَمَنْ أعطى هذا الوردَ، الباهي ليديكْ؟! مَنْ أعطاكَ الغبطةَ كي تزْرعها في روحي فأطير إليكْ؟! * عيناكَ فضاءانِ فَمَنْ أعْطى الحريّة، للغزلانِ الولْهى، كي تتقافزَ، منْ عينيكْ!؟ * وشفاهُكَ، أنْهارٌ من حُبٍّ، غاباتٌ من لوزٍ وفراشاتٍ تهْمي وتحومُ تحومُ عليكْ! * هل تأْتيني أنْفاسُكَ، عبر ضياءِ الكونِ وأحلامِ النورسةِ البيضاءْ!... * هل تأتيني أحلامُكَ، مثلَ طيورِ اللهْفةِ فلتتوقّفْ أطيارُكَ، في شجرِ الرْيحِ تُغنّي غاباتِ الأرقِ البشريّ الخضراءْ!... فأنا الشاعرة، الطالعةُ الآنَ، على فرسِ الغربةِ نحو سمائِكَ.. نحو صهيلٍ وضياءْ!! إباء إسماعيل شاعرة وكاتبة دؤوبة تقيم في ولاية مشيغن وتمضي يومها العبق بين الشعر وإدارة مجلة أقلام الثقافية الإلكترونية، وهي إلى هذا قد قدمت منجزها الإبداعي بهيئة دواوين شعرية مكرس بعضها للكبار والبعض الآخر للأطفال! إذن، ستكون الشاعرة السورية الجميلة إباء أسماعيل ضيفة حديقة الحوار الوردي حتى نقترب أكثر فأكثر من نوارسها الشعرية. * الشاعرة العزيزة إباء إسماعيل مرحبا بك في حديقة الحوار. الطفولة هذا السؤال البسيط الصعب المكرور والجديد معا، كيف تنظرين إليها أولا؟ وكيف استثمرت شحناتها ثانيا؟ ** أعيشُ مفردات الطفولة منذ الولادة ولا زلت. أعيشها حلماً يكبر كلما كبُرت وواقعاً مع أطفالي وأطفال العالم. هي ملجأي الآمِن من عثرات الشر التي تواجهني في حياتي.. براءة لا محدودة ألتمسها وعفوية بالغة التعقيد بحيويتها المدهشة، أتقمّصها في أحرف قصائدي للكبار وللأطفال معاً.. الطفولة ذاكرتي الغابرة وحاضري ومستقبلي ليس الخاص بل العام. لأنني أحصد ما زرعت منها وأزرع مما حصدته في أطفالي وفي أطفال لا أعرفهم ولكنهم يعرفوني.. بل أعرفهم لأنهم جزء من تجربتي الشعرية.. ولأنني حاورتهم على أوراق الكتابة وأوراق الحياة. دجلة: أنت أكملت دراسة الماجستير بجدارة عالية من جامعة إيسترن مشيغن. الأمريكية، E.M.Uكيف هي تجربتك الدراسية وهل عقدت العزيمة على إتمام مشوارك الأكاديمي نحو الدكتوراه؟ ** دراستي للماجستير في الأدب الانجليزي والأمريكي أخصبت تجربتي الشعرية. ومنحتني قدرةً على تنمية الحس النقدي لدي. كانت أشبه بعملية مسح لتجارب كل الكتّاب والشعراء الأمريكان والانجليز والحركات النقدية الحداثية وما بعد الحداثية التي ظهرت في العالم الغربي. كان لدي شغف وفضول معرفي وظمأ لنهل الأدب الانجليزي من منابعه الأصلية- بعد حصولي على الإجازة في الأدب الإنجليزي من جامعة تشرين السورية- وسفري إلى الولاياتالمتحدة باشرت بالدراسات العليا لألبي طموحي في تطوير الملَكة الأدبية والنقدية لدي، التي أستقي منها روح البحث الدائم. كانت كتابة حلقات البحث تتطلب النبش والاستقصاء من أمهات الكتب الأدبية والنقدية الأمريكية. كانت مهمة شاقّةً ولكنها غنية جداً. كنتُ أحياناً اُفاجأ ببعض الصفعات من بعض أساتذة الجامعة بين الحين والآخر وأنا أقرأ ملاحظاتهم القاسية– أو هكذا كان يُخيل إلي- على إحدى الأطروحات التي أقوم بتسليمها بعد طول عناء وتقصي وأيام من السهر الطويل.. وقادني هذا إلى الإحساس بهيبة الأدب بعد أن أعيد النظر بأخطائي وأتعلم وأتعلم وأتعلم، حتى تحوّلت هذه الحالة إلى إيقاع يشبه الشعر... أيقنتُ بأنني سأبقى تلميذة مهما كبرت. لقد رويت ظمأي المعرفي على الصعيد الأكاديمي. وحين كان يسألني أحد أساتذتي وماذا بعد الدراسة؟ لم أكن أستطيع تحديد أية إجابة. فالتدريس لا يستهويني كثيراً ودراسة الدكتوراة لم أفكر فيها على الإطلاق لأنها ستجبرني يوماً على التدريس. لقد حققتُ ما أطمح إليه على الصعيد الأكاديمي، لكن ظمأي المعرفي والإبداعي ورغبتي الحارة في البحث والتقصي عن كل ماهو جديد وأيضاً عن كل ما أجهله في عالم الأدب والشعر تحديداً، ما زال هاجسي الأجمل والأقوى لأنه سيقودني حتماً للوصول إلى اشتعالات القصيدة. -دجلة: يا لها من بنت كلبة هذه الغربة إذ تمنحنا حزنا شفيفا ومحبة! هكذا كان يقول مجوسي الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي! وغرباء يا عيني نموت وقطارنا أبدا يفوت! كيف تتعاملين مع الغربة؟ ** تغلغلت الغربة إلى شراييني وتبعثرت في دماء قصائدي... كالمرَض وكالشِّعر وكالحب وكالضوء، فرحَت معي وبَكت معي وتشاجرنا طويلاً.. أخذتني معها في حقيبة سفرها الطويل الطويل لتقول لي أنا قَدَرُكِ هيّا أحبِّيني كما تحبين أطفالك، أحبيني كأية قصيدة وكأي عاشق وكأي وطن... لتقول لي أنا هاجِسكِ الشيطاني والملائكي، وأنا أخذت نصف مساحة عمركِ وأكثر، وأنا لك ومنكِ أيتها الشاعرة وطناً ثانياً!! دجلة: هل بمقدور العربي مثلا أن يميز الغربة من الاغتراب؟ ** إذا عاد العربي إلى الفعلين المشتقَّين من الغربة والاغتراب يقول: غَرُبَ عن وطنه بمعنى ابتعد عنه. هذه من الغربة وعندما يقول: اغترب عن وطنه بمعنى نزح عنه. وهذه من الاغتراب. فقد تكون الغربة فعلاً إرادياً بالابتعاد عن الوطن، بينما الاغتراب قسرياً بالنزوح عنه بسبب مآسي الحروب وغيرها. دجلة: ما رأي إباء إسماعيل بقصيدة النثر العربية اليوم؟ ** قصيدة النثر العربية اليوم، أشبه بالمرأة العربية المُعاصِرة بكل المعاني تقريباً. تبحث عن الاختلاف، عن التجدُّد، عن كسر موازين القِوى بينها وبين الرجل الذي اعتاد أن يكون هو السيِّد والمهيمن في المجتمع الشرقي وما زال! وها هي قصيدة النثر تثبت وجودها أمام القصائد العمودية والتفعيلية. ومضت (قصيدة النثر العربية المُعاصِرة كما المرأة العربية المعاصِرة) بتشكيل حركة دائبة في التجدد والثورة الثقافية والإبداعية لتُفسِح لنفسها مكاناً لائقاً إلى جانب الجنس الآخَر!! تسعى إلى التحرر من القيود الموروثة مع وعيها بذلك المخزون من الميراث – أو هكذا يُفتَرَض. مع العلم أنّ الكثير من النساء المعاصِرات مهما حاولنَ التحرر بأفكارهنّ واستقلاليتهنّ وما إلى ذلك، يعترِفن بأهمية الرجل في حياتهن كسنّة الكون التي تفرض تواجد جنسين فيه. ويؤكدن أهمية الاحترام المتبادل بين الجنسين كأهم شرط لنجاح العلاقة بينهما. بيد أنَّ شعراء قصيدة النثر، منهم مَن يعترف بفضل موروثهم القديم ويمارسونه في كتاباتهم كما يمارسون حداثتهم.. بل إننا نرى العديد منهم يكتب قصيدة النثر والتفعيلة معاً بل والشعر العمودي في آن. هذا ليس خلطاً أو حالة ضياع، بل فيه نوعٌ من المُصالحة الأدبية والتواصُل ما بين القديم والجديد. وإبراز مهارات ومواهب متعددة الجوانب لشعراء الحداثة الذين تمكنوا بعددٍ لا بأس به منهم أن يكونوا حَداثيين ومُجددين في تجاربهم الشعرية ليثبتوا أن شكل القصيدة العربية ليس كل شيء في تناول قضايا الحداثة. وعلى النقيض، نجد من الجيل الجديد بعضاً من الشعراء الشباب يكتبون قصيدة النثر فقط وبأسلوب تقليدي لا تجديد فيه ودون محاولة لتعلم الأوزان الشعرية سواءً البحور أو التفعيلة، بل ويحاربون وجودها. وهذا في النهاية سيُحْدِث غربة لديهم حين يدّعون المُعاصَرة بازدراء القديم والتقليل من أهميته إخفاءً لجهلهم بموروثهم الأدبي والثقافي العربي ليقفزوا بدون مقدمات إلى النظريات والتنظير حيث يعتقدون بأنهم وجدوا ضالتهم المنشودة بالارتماء في حضن أفكار رولان بارث وسوزان برنار وغيرهما والتوقف عند هذا الحد. هذا التأرجح خلق حالة فوضى غير صحية في نتاج قصيدة النثر العربية التي يجب أن لا تعتمد في دمائها على الخارج بموروثه الثقافي واللغوي المختلف جداً بشكلٍ مطلَق. المرأة العصرية المنفتحة على الثقافات مع وعي تام بإرثها الثقافي العربي الأصيل ستصنع جيلاً واعياً ناضجاً وواعِداً في ثقافته، بينما تلك التي تقلِّد بشكل أعمى وُتعنى بتدجين لغتها وحضارتها وثقافتها كتقليد أعمى للغرب، ستفقد هويتها واحترام المجتمع الثقافي والإنساني لها مهما فعلت طالما أنها لا تبحث عن ذاتها الحقيقية كامرأة عربية معاصرة مبدعة. وقصيدة النثر العربية المُعاصِرة ستصل إلى أوج نجاحها عندما ستلتزم بأصالتها لغةً وفكراً مع محافظتها على شبابها حين تكتسِب وتستفيد من الثقافات الغربية لتطوير ذاتها دون تقليد أعمى أو فقدان هويتها التي خلقت وعُرِفَت بها. الغريب في هذا التوازي ما بين قصيدة النثر العربية المعاصرة والمرأة العربية المعاصِرة جاء بشكل عفوي وتلقائي في سياق حديثي!! هل هي التاء المربوطة حقاً أم أنه شيئٌ آخر؟!!! دجلة: قصيدة النثر ما زلنا في رحابها فهل يمكننا القول إنها تتعثر؟ تعاني من تعصب نقاد التفعيلة؟ ** توقفتُ عند عبارة (تعصُّب نقّاد التفعيلة) لأؤكِّد أن حالة التعصُّب هي من القطبين كما لمستها من خلال قراءاتي للعديد من المقالات والكتب النقدية حول هذه المفاهيم. أقصد بأن هناك مَن يتعصّب لقصيدة النثر ويهجو كل ماهو موزون من شعر تفعيلة وعمودي والعكس بالعكس. أقول وبكل صراحة، كل مَن يكتب بهذه الروح "العصبية" ليس بناقِد حقيقي، هو شبه ناقِد يكتب على هواه في المجال الذي يستهويه. النقد يجب أن يكون موضوعياً. إن كان في الناقِد ميل لقصيدة التفعيلة وعلى الأغلب هو شاعر تفعيلة، لينقد قصائد التفعيلة إذن ولتبقى رؤيته محدودة وغير مكتملة عن الشعر الحديث. ومرة أخرى أقول العكس بالعكس، إن تعصّب أي ناقِد لقصيدة النثر لشدة ميله لها فهو فاقد لموضوعيته ونزاهته كناقِد أو لجهله بموروثه الثقافي العربي. الناقِد برأيي يشبه القاضي بمعنى من المعاني، وعليه أن يكون متفهِّماً ومُبحراً بالشعر وقضاياه من كافة جوابنه وأشكاله والحكم حينئذٍ يكون حول قضية الشعر الحقيقية وليس جنس القصيدة. وهذا يشبه التمييز العنصري برأيي أي تأييد قصيدة التفعيلة بشكل مطلق أو الوقوف إلى جانب قصيدة النثر بشكل مطلق لينفي أحدهما الآخر!!! هناك قصائد عمودية وتفعيلية أيضاً موزونة ولكنها رديئة وينقصها كل مقومات الشعر الأخرى حتى تنتفي شاعريتها وتسيئ إلى ميراث الشعر العربي. وهناك قصائد نثر تخطو بالقصيدة العربية نحو الازدهار والتألق بإبداعها وتميّزها بمواهب شعرائها الفذة. وبالمقابل نجد هلوسات نثرية لاعلاقة لها بالشعر أو بقصيدة النثر بصلة.. النماذج الشعرية السيئة مهما كان نوعها تلغي أصحابها الذين يدّعون بأنهم شعراء ولكنها لا تلغي الجنس الأدبي. دجلة: إن سفينة الشعر النثري في الخضم الأدبي هي الأوضح بين السفن! فكيف سترسو الشعرية العربية؟ على شاطئ التفعيلة أم شاطىء النثر؟ ** من وجهة نظري، حول المشهد الشعري العربي الحديث، أرى بأننا أمام ثلاثة أشكال من الشعر العربي المُعاصِر، تفرض ذاتها بقوة ووضوح: الشعر العمودي التقليدي، قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. والرابع الأقل وضوحاً الذي ربما في الجيل المقبل سيفرض وجوده هو ذلك الذي يطلق عليه "بالنصوص الخارجة عن التجنيس" أو النصوص الهجينة. طبعاً نحن نتحدث هنا عن الشعر الفصيح في مجال المقارنة وليس العامي الشعبي أو النبطي. أرى على المدى البعيد بأن هذه الأشكال الشعرية الثلاثة ستستمر بوضوح وقوة هكذا لربما إلى ما لا نهاية والله أعلم!!! أما ما يبشر أو يؤيد اعتقادي هذا، أنّ الكثير من الشعراء الشباب اليوم يثبتون وجودهم ويبدعون ضمن مجال الشعر العمودي والتفعيلي ويتحمّسون له مع تجدد دماء اللغة والمواضيع في تلك القصائد العمودية والتفعيلية التي يكتبونها. صحيح أن الكمّ الأكبر من الشعراء الشباب- وأؤكِّد على الجيل الشاب من الشعراء لأنهم سيصنعون مستقبل القصيدة العربية- يكتبون قصيدة النثر، بيد أنني أتحفّظ على عدد لا يُستهان به بالقول بأنهم يحاولون ركوب موجة هذا اللون من الشعر دون ثقافة وتعمُّق وأحياناً كثيرة دون موهبة، بحيث تنتشر آلاف النصوص الرديئة التي لم تصل بعد إلى درجة البلوغ أو النضوج. ونرى أيضاً تعثر بعض تلك النصوص على الصعيد اللغوي مما يفقدها مصداقيتها كقصائد نثر أو إبداعات حقيقية لشعراء حقيقيين. إنّ سهولة النشر على شبكة الانترنيت شكّلت هذه الحالة كالطفح الجلدي الشعري المريض، وجاء دور نقادنا العرب أن يأخذوا دورهم الريادي في وضع نقاط أفكارهم النقدية وخطوطهم الحمراء على كل ماهو رديء كي ننقذ قصيدة النثر العربية من ضحالة الكثير من الأقلام التي تستسهِل ركوب سفنها. دجلة: النقد يمر بمرحلة خدر وكسل واضحين في الساحة الأدبية، والناقد يختار القصيدة النثرية والقصة القصيرة؟ كيف تفسرين ذلك؟ ** السؤال الذي يطرح ذاته هو: مَن هم هؤلاء النقاد؟!! بل هل هم نقاّد حقاً أولئك الذين يقتصرون في مقالاتهم النقدية على الكتابة عن تلك القصيدة النثرية أو تلك القصة القصيرة؟ إنّ الأغلبية العظمى من الكتابات التي لربما تقع خطأً في خانة النقد والتي تنتشر في الصحف وعلى شبكة الانترنيت، هي مكتوبة بأقلام غير متخصصة. وهنا تلعب الصحافة ومواقع الانترنت هذا الدور وتسلط الأضواء على الكتب الجديدة من قصة وشعر وغيرها. الصحفي أو الكاتب غير المتخصص بفنون الشعر، في معظم الأحوال لا يهمه دراسة موسيقى القصائد وأوزانها وما إلى ذلك، بل يتناول جمالية القصائد أو موقفه من الكتب المنشورة بشكل عام أكثر من نقدها بشكل احترافي. ومعظم الكتّاب والشعراء يهمّهم الترويج لمؤلفاتهم عن طريق الصحافة وشبكة الانترنيت. ولو أن هذا لا يرضيهم تماماً مع تغيب فئة النقاد المحترِفين عن الساحة الأدبية التي ربما آلت إلى نفسها الغوص في كتابة مؤلفات "هامّة" حول إبداعات الكتّاب والشعراء "الكبار" كي تتآلف موازين القِوى ما بين هذا الكاتِب "الكبير" وهذا الناقِد "الكبير". وبالطبع لا يجوز لي هنا التعميم حول هذه الحالة ولكنها موجودة فعلاً بنسبة ما! وهذا يقودنا إلى إشكالية جديدة.. إشكالية عزوف العديد من النقاد الكبار عن تناول إبداعات الأدباء الشباب أو مَن يركبون موجات الحداثة التي تنتشر في ميادين القصة القصيرة وقصيدة النثر بشكل أكبر من غيرها من الأجناس الأدبية بالنقد. وأتساءل مرةً أخرى: هل لأنَّ الكتابة عن هؤلاء "الصغار" لا يضيف إلى رصيد النقاد "الكبار" شيئاً؟ هل لأنّ معظم النقّاد الكبار كلاسيكيون وغير معنيين بالتجارب الجديدة التي تحاول أن تدفع بعجلة الحداثة الأدبية إلى الأمام؟!!! أَلهذا وجدت كتابات "الصغار" مرتعاً خصباً لمن يكتبون عنها من الأقلام غير المتخصصة لتغطية هذا الفراغ والنقص النقدي الحاصل في الساحة الأدبية العربية؟!! دجلة: إن اللغة تؤول إلى الشيخوخة والذبول والفناء لولا أن الشعر يجدد شبابها؟ ضعي إضافة إلى هذا القول المتداول؟ ** ليس الشعر وحده هو الذي يحافظ على اللغة العربية ويغنيها بل وجود القرآن الكريم أيضاً بإعجازه وتجدد معانيه وصوَره وحضوره العالمي عبر العصور. كلاهما في أسمى تجليّاتهما قادرٌان على ترسيخ جذور اللغة العربية وإنعاشها من مخاطِر الفناء بل وتجديد وتطوير الفكر والثقافة والرؤى الفلسفية والتاريخية والإنسانية لدى الشعوب في العالم ومهما شابَ الزمن. دجلة: بعض النقاد يقول بأن التفكيكية تخرب النص؟ ما رأيك؟ ** إن المدرسة التفكيكية التي ابتدعها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا لها ما لها وعليها ما عليها. لستُ ضد معطياتها بشكلٍ مطلق ولستُ معها بشكلٍ مطلق أيضاً. وحول تطبيق نظرية التفكيكية على النصوص الإبداعية تحديداً، أجد بأنها تنضوي بحد ذاتها على حالة إبداع وغَرابة، بحيث يتحوّل الناقد للنص إلى مبدع آخَر للنص أيضاً حين يشارك الشاعر بتحليله وتفكيكه وتأويله بطرقٍ مختلفة قد تصل إلى درجة التناقض!! تستهويني حالات التعمُّق في كل شيء إلى درجة الدهشة، وحين أصل إلى القصيدة، أشعر بأن ناقِد الشعر يجب أن يُدهشنا هو الآخر بعمق ويوصل دلالات النص ليس اللغوية فحسب، بل الانفعالية التي لربما لم تستطِع لغة الشاعر لمسها... لربما براعة الناقد الحاذق توصله عبر تفكيك المعاني والصور والمفردات إلى أبعد مدى ممكن لم يستطع النص بحد ذاته وبمفرده الوصول إليه!! وأشاطر هنا الناقدة الأمريكية باربرا جونسون رأيها حول هذا الموضوع حيث تقول: “Reading is not the task of grasping the true single meaning of a text, but of grasping its multiple meanings, which are often unstable and contradictory.” " ليس مهمة القراءة التقاط معنىً واحد صحيح للنص، بل التقاط معانيه المتعددة التي قد تصل في كثير من الأحيان إلى درجة عدم الاستقرار أو التناقُض." ولا أجد حالة تفكيك النص تخريبية كما يراها البعض. بل أؤيد مرة أخرى قول جونسون: "إن تفكيك النص لا يعمل عبر شك عشوائي أو تشويش اعتباطي ولكن بالتأليب اللطيف لقوى الدلالة المتناحرة داخل النص." فالشعر برأيي في ظل النظرية التفكيكية تزداد أهميته، لأن هذه المدرسة النقدية تفجِّر طاقاته وتوسِّع أفقه بهدم الجدران النقدية المغلقة على نفسِها والتقليدية التي باتت مؤطَّرة بمعنى واحد لا يخدم النصوص الإبداعية الحداثية التي تتطلب تفكيك معانيها الظاهرة والباطِنة في حالاتها الواعية واللاواعية، المقصودة وغير المقصودة. ولكن تبقى عملية الحسم بشأن تقييم النص وأفقه الإبداعي غير واضحة المعالم في ظل هذا النقد!! دجلة: غربة الشعر أم اغتراب الشاعر مأزقنا الحالي فهل ثمة ضوء نهاية النفق؟ ** الشعر والشاعر كائنٌ واحِد غير مُجتزأ، بل متواصِل مع ذاته ومتفاعِل معها. ويبقى السؤال: إلى أي مدى استطاع الشاعر بما يحمل من مخزون إبداعي ومعرفي شعري وإنساني أن يتواصَل مع الذوات الخارجة عنه.. تلك التي لا يمكننا حصرها في الواقع. هي التي تُكوِّن نسيج المجتمع وثقافته والعالم من حوله- وهو ابن بيئته دون شك- وحتى موقعه الجغرافي وكينونة وجوده الزماني وعوامل أخرى كثيرة قد تشحن الشاعر بحالات إبداعية فذّة توصله إلى آفاق شعرية رائعة، حينها لا يكون هناك ثمة غربة بينه وبين العوالم الخارجية والعكس بالعكس. دجلة: هل ابتعد الشعر اليوم عن الواقع؟ بمعنى اقترابه من يوتوبيا الشعر؟ ** إنَّ كل شاعر حقيقي يُعتبر حالة متفرِّدة في تجربته الشعرية. من هذا المبدأ، لا يمكننا أن نضع الشعر والشعراء جميعهم في خانةٍ واحدة لكأنهم نسخٌ متكررة لنصوص لها معنىً واحِد: إمّا الواقعية أو اليوتوبية المثالية. بيد أنّ الشعراء ما كان لهم أن يكونوا شعراءً لولا التماسهم حالة التّوق والشغف للوصول بمجتمعاتهم إلى هذه الحالات من السموّ والمثالية. ذلك لأنّ الشعر له هذا الدور وهو الذي يرقى بالمجتمعات والإنسان، سعياً منه لإيصالهما إلى درجة الكمال الذي يعني الحضارة بأرقى معطياتها وصورها. هذه اليوتوبيا هي أفق الشعر، وهي التي ستعطي المعنى الأعمق لإنسانية الإنسان بأسمى وجوده. حينها، ستلمع عينا القارئ ويبدأ عملية البحث عن وجوده الأجمل والأكمل. سيسعى إلى أن يرقى بذاته. ولهذا، فإنَّ لليوتوبيا في مخزوني المعرفي والشعري بُعداً مختلِفاً عن هذا المعنى. هي ليست حالة البُعد عن الواقِع، بقدر ما هي الارتقاء وأخذ معطيات الواقع وعناصره إلى فوق مواجع الانسان وفوق الحروب والدماء لإيصاله إلى حالة تشبه الجنون العقلاني الشعري التخيلي للبحث عن وجود جديد يدخله الشاعر ضمن عالمه الشِّعري الخصب ليشحن القارئ شعرياً وإنسانياً بشكلٍ غير مباشر للبحث عن التغيير الإيجابي لهذا الواقِع. هناك الكثير من الشعراء العرب تبدو بوضوح مدى شعبيّة تجاربهم الشعرية لواقعيتها المباشَرة ولاقترابها من جمهور القراء وشحنهم بحسّ ثوري إنساني قائم على الفعل ورد الفعل. هنا يدنو الشعر من لهجته الخطابية بمفرداته وصراخه وواقعيته بالتأكيد لأنه مباشر. هذا النوع من الصراخ هو الآخَر يبحث عن تغيير للواقع المؤلم بألفاظ وتعابير مألوفة وأحياناً مبتذلة تبعث روح السخرية والسخط والنقمة والإمتاع لدى القارئ والسامع ولكن، هل تأخذ القصيدة في هذه الحالة بُعدها وأفقها وجوهرها الحقيقي؟!! دجلة: الصورة الشعرية كما يقول الجاحظ هي الشعر! هل أنت مع الجاحظ؟ ** يالعبقرية الجاحظ!! هذا الأديب والمفكِّر القديم المُعاصِر جداً برأيي. وهل يمكنني أن أقول شيئاً في حضرتِه إذا كنتُ تلميذةً قد نشأت وكتبه أمامي تجحظ بأحرفها أدباً وعلماً وفكراً وفلسفةً وعوالم طريفةً غير مألوفة منذ الطفولة؟! هذا الذي يرى الشعر "ضربٌ من النسيج وجنسٌ من التصوير بواسطته يستطيع الشاعر أن يعبِّر بانفعالاته الداخلية. وينقل إلينا تجاربه الشعرية ومُشاهداته الحسية وإلا كانت القصيدة عبارة عن مجموعة من الألفاظ المتراصة، والعناصر الجامدة، غير قادرة على استمالة المتلقي وإثارة الانفعال والمتعة في نفسه." ولن أزيد على هذا سوى ما تَنبض به قصائدي!! دجلة: ما أجمل القصائد الحبيبة إلى روحك وترددينها مع نفسك وتغنيها إلى نفسك؟ ** أقرب النصوص إلى قلبي على الاطلاق هي آيات القرآن الكريم. هذه وقعها أشد إلى نفسي في شحن طاقتي الروحية بزاد الإنسانية وزاد اللغة وزاد الشعر. دجلة: أجمل الكلمات يا حبيتي تلك التي لم نقلها بعد وأجمل البحار يا حبيتي ذلك الذي لم نرتده بعد وأجمل الأطفال يا حبيتي ذلك الذي لم يولد بعد هو ذا ناظم حكمت فأين هي إباء من عذابات القصيدة عند ناظم؟ كحقيقةِ النار التي طافتْ على وجهِ المياهِ، الكونُ صارْ والكونُ غارْ وَدمي مضيءٌ كالنهارْ!... * * * الشّوكُ يدمي مهجتي ويصيحُ بي: هيّا تَبَعْثَرْ ويصيحُ بي: هيّا تكسَّرْ والوردُ... أينَ الوردُ، وردٌ للجنونِ أصيحُ: يا يا شَوكُ لي وطنٌ مُسوَّرْ وجروحيَ اشتعلتْ قصائدَ، نارُها تبقى لتجعلَ من دمي وطناً مُشجّرْ! دجلة: لو قلت لك رتبي المفردات التالية حسب قربها وبعدها من نفسك فماذا ستفعلين؟ الغدر، الغربة، الغناء، الحب، البحر، السفر، الألوان، الصداقة، الخيانة، الأنانية، القصيدة... أقول أولاً: القصيدة وغناء الروح أقول ثانياً: الحب والبحر أقول ثالثاً: الصداقة والغربة أقول رابعاً: السفر بألوانه القزحية المدهشة أقول خامساً: لا مكان للغدر والخيانة والأنانية في قاموس وجداني الذي يرفض هذه الصفات الشيطانية إن وجدت في أي إنسان! دجلة: ما هي المهام المناطة بك؟ أنا رهن إشارة أي طفل يجتاحُني كبيراً كان أم صغيراً تحت وطأة أي ظرفٍ للوقوف إلى جانبه أنا رهن إشارة أية قصيدة تبدأني أو أبدأها أنا رهن إشارة أي وطن يقيم فيّ وأقيم فيه أنا رهن إشارة الله! دجلة: ما هي نصيحتك للشاعرات المغمورات؟ ** ونحن في عصر الإنترنيت، لا أعتقد بأن هناك شاعرات مغمورات!! أُراهِن على أن أية شاعرة– مهما كانت مغمورة- تكتب قصيدة أصيلة وجميلة وتشتغل على موهبتها بصدق ومعاناة حقيقية، ستصل شهرتها الآفاق بزمن قياسي يضاهي سرعة الصاروخ، شرط أن تستخدم ذكاءها وحكمتها في توظيف ونشر قصائدها في الأماكن والأزمنة الصحيحة! أريد أن أذهب إلى أبعد من ذلك. هناك من الشابات اللاتي هنّ محسوبات على الشعر ولسن بشاعرات ولكن تطفن كزبد البحر ويصفق لهن الكثيرون من أشباه النقاد وأشباه المثقفين لأسباب كثيرة آخرها الموهبة والإبداع. لا شك أن لديهن ذكاء من نوع خاص وانفلات من نوع خاص لا علاقة له بالموهبة أو بالشعر!! لكن هذه الحالات سرعان ما ستتلاشى مع مرور الزمن لأنه هو الذي سينحت في صخور المواهب الحقيقية التي ستصمد دون شك أمام حت رياح الناقد الأصدق وهو الزمن. دجلة: ما هي نصيحتك للشاعرات المبتدئات؟ ** لن آتي بجديد إذا قلت إن الموهبة وحدها لا تكفي. إتقان اللغة العربية والدخول إلى أسرار هذه اللغة بعمق لأنها سلاح الشاعر الذي يمتلك الموهبة. هذا بالإضافة إلى القراءات المعمّقة في مجال النقد الأدبي وسبر تجارب الشعراء المعاصرين والقدامى من عرب وأجانب. على الشاعرات المبتدئات أيضاً أن تحاولن التواصل مع أبناء وبنات جيلهن من الشعراء والشاعرات وكذلك جيل الشعراء والنقاد الذين سبقوهن. وهذا متوفر في بلادنا العربية. فما أكثر الأمسيات الشعرية والندوات والمهرجانات التي تعقد في المدن العربية والمراكز الثقافية والجامعات. لتحضرن تلك الأمسيات ولتشاركن ما سمحت لهن الظروف المتاحة. وأيضاً تقبُّل كل النصائح التي تقدمها عادةً لجان التحكيم برحابة صدر لتطوير مواهبهن ومهاراتهن بتواضع. هكذا كانت بداياتي في سوريا... وتعلمت منها الكثير.. كانت باختصار زادي وسلاحي في بلاد الاغتراب. منحتني حصانة وثقة للمثابرة والعمل على تطوير تجربتي الشعرية رغم ما لاقيته من إحباطات بسبب مرور سنوات طويلة جداً في الغربة قبل الوصول إلى عصر الانترنت. وبالتأكيد يجب على أية شاعرة أو شاعر مبتدئ أن تكون بدايته صحيحة. أي أن لا يكون جاهلاً بل مثقفاً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. ثقافة عامّة وثقافة تخصصية معمَّقة بعلوم اللغة وأسرارها وبالشعر العربي والعالمي وبحور الشعر أيضاً حتى وإن كان يكتب قصيدة النثر. قصيدة النثر هي فنّ جادّ وصعب وليس مُسَخّراً للشعراء الذين يهربون من كتابة الشعر الموزون لصعوبته مثلاً ولاقتفاء أثر ما هو أسهل! هي ليست للشعراء الكسالى، بل لأولئك الموهوبين الجادِّين الذين تعمقوا ودرسوا وتواصلوا مع الشعر والعالم علماً وأدباً وثقافةً ليختاروا بعدها الأسلوب الشعري الذي يجدون أنفسهم فيه. لا نريد الشعراء الشباب أن يكونوا جاهلين بأصول الشعر وأصول اللغة. نريدهم أقوياء متمكنين من تجاربهم الشعرية مثقفين ومجددين لحركة الشعر لأنهم سيمثلون ثقافة وإبداع شعوبهم في المستقبل. دجلة: كنت أمينة عامة مساعدة في منظمة أدباء بلا حدود ولكنها في ببليوغرافيتك غير مذكورة فماذا سيكون التأويل؟ ** هذه إشارة واضحة إلى أنني لا أقبل أن أكون حبراً على ورق أو اسماً دون فعل! دجلة: روائيك المفضل ** كثيرون وكثيرات!! أذكر على سبيل المثال لا الحصر: ج. ك. رولينغ ونجيب محفوظ دجلة: شاعرك المفضل ** كثيرون وكثيرات!! أذكر على سبيل المثال لا الحصر: ت.إس إليوت ، بابلو نيرودا ونازك الملائكة دجلة: عرابك الشعري ** ما زلتُ أبحث عنه، وما زال يبحث عني ولكننا لم نلتقِ على مائدة الشِّعْر بعد!! دجلة: الشعر الشعبي الشامي ** حارٌّ بعمق الحياة بعفويتها وبساطتها وبأقسى تجاربها، وأصدق أحاسيسها، وأطرف مواقفها ومفارقاتها الانسانية. دجلة: مشروعك الثقافي ** الشعر أولاً وأخيراً وما بينهما: العمل مع مجموعة من أدباء المهجر الأمريكي على تأسيس اتحاد الكتَّاب العرب الأمريكان. دجلة: إحباطات تفكرين في محوها ** أحب الحياة بلا رتوش رغم آلامها، لذلك لن أمحو شيئاً إلا إذا ارتأت ذاكرتي أن تنسى، لأنني أريد أن أنسى أحياناً. ولكنني أريد أكثر أن أكبُرَ بتجربتي مهما قست عليَّ الحياة بتياراتها ورياحها المجنونة. وبالمقابِل، أنا لن أمحو بل سأهدم كل جدار يقف في وجهي إن كان سيعيق حركتي الثقافية أو الإبداعية أو الإنسانية!! دجلة: شكرا للشاعرة المتألقة إباء إسماعيل ونوارسها المتميزة لإتاحة الفرصة للحوار معها في حديقة الحوار الوردي المتنقل في بساتين الشعر والنقد وحقا لقد كنت أكبر من الكلمات والنوارس التي تجول في حدائق المجموعة وشكرا لك مرة ثانية.