عز الدين الإدريسي شاعر مبدع..ومبدع شاعر تسكنه القصيدة وتمثل متنفسه اليومي..في رصيده عدد مهم من الدواوين الشعرية التي كتبها على ضوء معايشات وأحداث ووقائع ملأت وجدانه وشكلت مرجعه الأساسي في نظم وقول الشعر.. بمناسبة صدور ديوانه الشعري الجديد «صلاة الأشفار» (422 صفحة)، جالست الشاعر الإدريسي ببيته الكائن بمدينة الدارالبيضاء ودار بيننا اللقاء التالي: عتبات التجربة لكل ديوان مضمون خاص أحاول دائما من خلاله أن أعطي نظرة عن مجمل القصائد والنصوص التي يتضمنها. فالأغراض الشعرية التي دائما واكبت كتاباتي تتعلق أساسا بالطبيعة وجمالها والورد ومفاتنه، ثم المشاعر الوطنية إزاء الأمة العربية والمشاعر الدينية والمشاعر الروحية والإنسانية المتعلقة بالحب والعشق. بالنسبة لديوان «إشراقات»- 1985 (وضع لوحة غلافه الحروفي المغربي ابراهيم حنين)، كان باكورة أعمالي الشعرية الأولى وواكب الديوان الثاني انتفاضة أطفال الحجارة وأسميته ب»ولادة نجمة». طغى على هذا الديوان الصادر عام 1988 الجانب الوطني والقومي لانتفاضة الثورة الفلسطينية والشعوب العربية في صحوتها الجديدة وفي تحديها لواقعها المرير ولما تصبو إلى تحقيقه. ثم جاء ديوان «حبات الزهر»- 1990، وقد ضم حوالي 800 صفحة في نقلة جديدة للتغني بالطبيعة في روعتها وكل مجالات السحر والبهاء الناجمين عن هذه اللوحات الربانية البديعة، ليظهر عقب ذلك ديوان «نبض العشق»- 1995 وقد قدّم له الشاعر الصديق عبد الكريم الطبال ود. عباس الجراري في متابعات جمالية لحبات الزهر وكان الجانب الروحي والإنساني غالبا على نصوص هذا الديوان. وقد تلا ذلك ديوان «دم الورد»- 1998، وقد قصدت بعنوانه طبعا الدم الفلسطيني الذي سقى أرض فلسطين بسخاء في الانتفاضة البطولية الثانية بالقدس الشريف عندما هوجمت من طرف العدو الصهيوني. فجاء هذا الديوان مطبوعا بروح ثورية مسايرة لموجة وتدفق المشاعر الروحية إزاء فلسطين الحبيبة.. من بعد، جاء ديوان «لغة الملائكة»- 2004، وهو في جزأين من حوالي 1000 صفحة، وكان هذا الديوان عبارة عن مواقف ثابتة من الهجمة الإمبريالية والصهيونية على العراق العزيز وعلى فلسطين الغالية. وكان شعري منصبا أيضا حول الجوانب الروحية في هذا الديوان الذي قصدت بلغة الملائكة فيه شفوف وصفاء ونقاء الروح وطفرتها نحو أعالي المكارم والأخلاق والسمو.. تضمن الديوان سمفونيات أربع، عن سيف الدولة الحمداني وابن زيدون والمعتمد بن عباد والرابعة كانت سمفونية للبراءة، وهي مناقشة فلسفية عن الوجودية ومبادئ الحق والعقيدة على وجه الأرض.. بعد «لغة الملائكة»، جاء ديوان «لؤلؤ ومرجان»- 2007 وهو في الحقيقة استمرارية لكل الأغراض الشعرية السابقة التي تغنيت بها في أشعاري وشكلت العمود الفقري للبوح الذي حييت به في كل قصيدة قصيدة..وأخيرا أصدرت «صلاة الأشفار»، ولا شك أن عنوانه دال عليه. فطابعه صوفي في أغلب قصائده وشدو باكٍ حزين لجروح ومعاناة الأمة العربية في فلسطينها وعراقها وفي كل جزء منها يرزح تحت الحِجْر والذل والاستعباد.. بخصوص هذا الديوان، فإن مشاعري الشخصية كانت أكبر معين لقصائده. فجراحاتي النفسية جعلت منه لوحة باكية ألوانها قاتمة وخطوطها سوداء وكل ما فيها يرشح بالألم والحزن والسقم. وأذكر بأن الصديق والأديب الطاهر بنجلون قال بأن الإبداع الحقيقي وليد الألم الحقيقي. فالماء يتدفق من نبعه والشعر ينبع من ألمه ليكون مؤثرا وواصلا إلى المخاطب في شفافية كاملة وصدق وتلقائية..لغة الألم ليست ككل اللغات، لأنها تعبّر أكثر وتترجم أعماق الروح وخفقان القلب واختلاج الوجدان.. مصادر الاستلهام.. مصادر استلهامي كثيرة ومتعدد..فأشعاري تتدفق بداخلي لتعبّر عن الجروح والآلام والمعاناة. ومن حيث المشاعر الوطنية، فلا شك أن الأمة العربية مدعاة للكتابات المتأثرة الباكية والحزينة القاسية على القلب والروح. أما الطبيعة، فقد عشقتها منذ الصغر..عشقت جمالها وبهاءها، لأنني ولدت بمدينة الحاجب التي زرعت في قلبي خلال أول لحظة للحياة حب النسائم الصافية والجبال الأطلسية الشامخة والخضرة والورد.. منذ صغري وأنا أحب الورد والبنفسج والأقحوان والعنبر والمسك والرياحين التي تغنيت بها في أشعاري حتى لقبني أستاذي الكبير محمد بنشريفة بشاعر الورد في المقدمة التي كتبها لديوان «دم الورد». ومن شدة محبتي لمدينة الحاجب، فقد تعلقت أيضا بالشدو والغنى الروحي الذي يملأ فضاءات الأطلس بدون حدود. فنقاوة الشدو حاولت أن أنقلها شعرا في صفاء الكلمة وتبرج العبارة وجمالية النص وترقرق الشاعرية في تلقائية كاملة وبدون حدود.. أما في ما يخص المشاعر الروحية ومسالك الطفرة الصوفية، فلم يكن هناك أبلغ ولا أبدع ولا أروع من الأديب المغربي الكبير محمد الصباغ الذي كتب مقدمة «لغة الملائكة» في دقة متناهية حاول من خلالها أن يتسلل بجمالية كلامية إلى لغة الملائكة فعلا..وقصد بذلك البراءة في مولدها والطهر في عفته ونقاء الروح في سموها إلى درجات عليا خارقة واصلة حدود الملائكة.. طبعا هذه هي الخصوصيات التي نهلت منها أشعاري والتي ميّزت قصائدي بأسلوب شاعري أو نثري أحيانا مع موسيقى داخلية رمزية ومعبرة في آن..ثم لا يمكن أن أتغافل في هذا المجال من الإلهام ما قاله الشاعر الرقيق والصديق عبد الكريم الطبال في مقدمة ديوان «نبض العشق»: «عندما يحلق النورس فوق البحر، فإنه لا يرسم خطوطا لأسفاره، وإنما يحلق فوق الموج ويجمع بين زرقتي البحر والسماء». رسالة الشاعر.. أعتقد بأن رسالة الشاعر يكتبها بدمه ووجدانه قبل أصابعه..لتكون ترجمة صادقة وفعلية لمعاناته وأحاسيسه وتطلعاته وما ينفعل داخل وجدانه من كل أثر أو وقع. فهو ينقل هذا الإحساس إلى القارئ عبر كلمات جميلة وأسلوب مموسق وطريقة جمالية توصله إلى قلب المتلقي في صفاء ومحبة وتواصل وانسجام.. واقع القصيدة المغربية اليوم الشعر المغربي الحديث تغلب عليه خاصية أجملها في ما يأتي: أولا، جمالية النص والكتابة والإبداع الحقيقي المتجلي في التركيبة الفنية والشعرية الحقيقية. ثانيا، الغموض والضبابية واللامعقول واللامفهوم في كتابات سطحية لا ترقى إلى مستوى الشعرية والشاعرية. فهي كلام مرسل على عواهنه ومصاغ بعبارات لا معنى لها ولا بلاغة فيها ولا موسيقى تصاحبها.. ومن حسن حظ المرحلة الحالية أن هناك طبقة من الشعراء المتميزين بكتاباتهم الجدية والجمالية في روعة الكلمة وصفاء الشعر وبهاء العبارة..إذن، هناك وضوح في الرؤية لأن الجمال لا يختفي مهما كانت الضبابيات والطلاسم والادعاءات المزيفة التي لا قيمة لها على الإطلاق.. آليات التلقي الشعري.. إن الهدف من الكتابة أساسا ليس هو التنفيس عن الذات أو مداواة الجراح أو التخفيف من الآلام التي يعاني منها المبدع فحسب، بل إن كل هم الشاعر الحقيقي هو أن ينساب ويتسلل إلى روح المتلقي الذي إذا قرأ تأثر..وأحس بأن الإبداع الذي بين يديه هو جزء من مكامن روح الشاعر وعبارة عن أحاسيسه الحقيقية. وأكاد أقول بأن الشاعر مثل الوردة كل همها هو أن تهدي عطرها إلى الآخر..هذا الأريج النابع من رحيق الوردة هو ذلك الشعور المتبادل بين الشاعر ومتلقي الشعر..الشعر بدون قارئ كزهرة بدون عطر..وكجسم بدون روح وكقيثارة بدون أنغام..ت سبب تراجع الشعر بالمغرب.. تتتت أعتقد شخصيا بأن الشعر في المغرب لم يتراجع بصفة أساسية لانعدام قرائه وعشاقه، ولكن للقلة النادرة لمبدعيه الحقيقيين والذي أصبحت ساحته ملأى بأسماء كثيرة لا تتجمع فيها القيم الحقيقية للشعر الجميل. فالقارئ المغربي الذي نعيب عليه عدم اهتمامه بالشعر، وهو واقع لم يأت نتيجة فراغ أو لامبالاة، ولكن أيضا كحصيلة لضعف وتفاهة النص الشعري. فلو رجعنا مثلا إلى عبد المجيد بن جلون وأحمد المجاطي ومحمد الصباغ وعبد الكريم الطبال وعلال الحجام وغيرهم من الشعراء المغاربة المجيدين المبدعين، لوجدنا أن كتاباتهم الشعرية كانت غنية ومقروءة ومحبوبة ومحبّبة عند المتلقي. وعندما فرغت الساحة الإبداعية لدينا من كل إبداع ، فإن القراءة الشعرية صارت ضعيفة جدا حتى أن بعض الدوواين الشعرية (التي لن أسميها) لم تبع منها إلا أعداد محسوبة على أصابع اليد الواحدة..وهكذا بقي المجال مفتوحا أمام الرواية والقصة في غياب الشعر الجميل الذي كان دوما في مستوى الشعر العربي الآتي من المشرق والذي فاقه أحيانا عند شعرائنا الكبار. الحاجة إلى صحوة شعرية.. طبعا هذا الموضوع- سؤال الصحوة- مرتبط بسابقه..فمجال إعادة القيمة الشعرية إلى الشعر المغربي راجعة بصفة أساسية إلى تنظيف وتطهير الساحة الشعرية من كل زيف أو هراء أو ادعاء أو أي كلام لا يرقى إلى مستوى الشعر الجميل الذي يجد فعلا قارئيه ومحبّيه والذين يهيمون ويتغنون به ويصبح على كل لسان، حتى أن بعض فنانينا الكبار يجدون معينا في القصيد الساحر لنقلة عبر أنغام ساحرة في مستوى سيدي أحمد البيضاوي وعبد السلام عامر وحسن القدميري..وغيرهم.ت المشروع الإبداعي القادم مشروعي الشعري القادم يعتبر محاورة ذاتية بعنوان: «احتفالية الجرح» وفيه أجسد بأسلوب المونولوغ لحظات وجدانية مليئة بالانفعال وتبادل الاعتراف على إيقاع أثر الحب ورواسبه التي لا يمكن محوها أو إجلاؤها حتى ولو تعاقبت عليها كل أزمنة الكون. وهذا الديوان سيصدر قريبا بحول الله وسيكون تتويجا وانتصارا رمزيا للموقف من الحياة ومن مفاجآتها الكثيرة التي لا أتذوقها سوى من خلال نظم الشعر. كلمة أخيرة أطلب من الله عز وجل أن يحقق أملي ورجائي في أن أتمكن مستقبلا من إخراج وطبع دواويني المكتوبة الأخرى والتي لا تزال على الرف..ولا شك أن طباعة وإخراج ديوان شعر في المستوى، هو عمل جبار ومضن ومتعب ومكلف ومرهق، إلا أن إرادتي في أن أحقق هدفي في الحياة يدفعني دوما إلى التضحية بكل شيء في سبيل طبع ديوان شعري جديد أشعر خلال إصداره بأنني كسبت مولودا جديدا عاش معي حوالي العشر سنوات صباح مساء..ليل نهار. فعندما يكون بين يدي أعانقه من الأعماق وأسعد به أكثر من أي شيء آخر في الدنيا..وأحمد الله أنه وهبني الحياة لتحقيق هذا الأمل وبلوغ رجائي في أن تصل كلماتي إلى قلوب عشاق شعري بصدق وشفافية وصفاء..