لعله تردد قليلا قبل أن يتوقف. وربما اجتاحته المخاوف من كل جانب. ولكنه عَلِم أنْ لا مفر من الانقطاع نهائيا عن متابعة الدراسة. لم يكن ثمة من خيارٍ غير تقبل الوضع الجديد والبحث عن منافذ ضوء في الأفق المسدود.. وقد نام صاحبنا على أرضية غرف أصدقائه وباع قنينات الليمونادا مقابل خمس سنتات. وكان عليه أن يقطع كيلومترات–كل يوم-لأجل الحصول على وجبة طعام! وحين ضاقت به الأرض واشتد الخناق، قرر–وهو في عز أزمته، في حركة قد تبدو سوريالية–أن يتعلم فن رسم الخطوط! ولم يكن هذا التكوين حول طرائق محددة في رسم بعض أنواع الخطوط يفضي–في نهاية المطاف–إلى أي مسار مهني واضح. فكيف إذن والرجل لا يكاد يجد ما يسد به رمقه؟ يسميها صاحبنا–الذي صار بعد ذلك أحد أهم المخترعين ورجال الأعمال في العالم–بآلية "ربط النقاط"؛ وهي تعني–في المجمل-أنْ لا شيء يضيع سدى. وأن كل جهد تبذله تجني ثماره الآن أو بعد حين. وإنما كلامُه، في هذا المقام، حديثَ العارف والمجرب حين يقدم عصارة تجاربه في كلمتين. ولعلكم عرفتم مبدعنا الكبير: إنه ستيف جوبز (الذي توفي في العام 2011). وقد احتاج الأمر إلى عشرة أعوام حتى يضع تكوينه السالف حول الخطوط في الموقع الأنسب. وما بدا ضربا من العبث في حينه، بات اليوم أداة عمل في تصميم الماكنتوش الأول؛ الحاسوب الأول ذو الطباعة الجيدة! ولذلك سماها ستيف جوبز آلية "ربط النقاط". إنها–كأي آلية حياتية عفوية-تربط بين الوقائع الإيجابية في حياتنا، وهو ما يصنع الإنجاز. إن الأمر أشبه بتجميع أجزاء الصورة عبر فترات من الزمن حتى تكتمل في نسق واحد! ولكن المعول-في المبتدأ والمنتهى-على إرادتك. والبذرة لا تنبت شجرة من يومها. أما الإنجاز فهو فعل تراكمي يستدعي التكوين الذاتي المستمر والرؤية الإبداعية الخارجة عن المألوف والعمل اليومي الجاد ثم الصبر والنفس الطويل. وقديما، قال سيدي عبد الرحمن المجدوب: الهم يستاهل الغم والستره له مليحه رد الجلد على الجرح تبرا وتولي صحيحه أما أنا فأقول: حين تضيق بك الأرض بما رحبت، تنفتح في الأفق المسدود فجوة أمل صغيرة، تكبر كل يوم وتتسع إذا كنت تحسن أن ترى في كل حركة في الكون أو سكون جمالا يجدد الدماء في العروق ويدفع إلى العمل الجاد.. لا إلى الاستغراق في الأحلام المجنحة!