من خلف الزجاج، بدت الساحة المقابلة كأي ملاذ صغير يكتظ بالهاربين من قيظ المدينة. كان سفيان، الشاب الثلاثيني الذي قادته ضرورات العمل إلى وجدة، يراقب من مقهاه الأثير حركة الأقدام السائرة على شارع محمد الخامس. ينعطف عشاق الأماسي الوجدية على اليمين نحو الأسواق الشهيرة في باب سيدي عبد الوهاب، فيما يفضل آخرون استراحة عابرة في ساحة الحمام. تلتقط أذنا الشاب كلمات متناثرة. يدرك معاني الألفاظ في سياقاتها، لكنه قطعا لم يعتد عبارة كالتي قالها رجل خمسيني يهم بعبور الشارع: الحمان ياسر هذا الصيف! وقعت كلمة "الحمان" في سمع الشاب الثلاثيني مفخمة تزيدها الميم المشددة تفخيما. كان واضحا أن الإيقاع اللحني لتوالي الكلمات مختلف نوعا ما عما ألفه في أحياء سلا الجميلة. "هي قيمة التنوع الأصيل داخل الوحدة الجامعة"، يقول سفيان بينما تقوده رحلة اكتشاف المدينة الألفية إلى ارتياد فضاءات بهية غير بعيد عن الشارع الرئيسي حيث ينتصب مسجد بالقرب من كنيسة. "أضف إلى قيمة التنوع.. قيمة أخرى. إنها التعايش"، يستطرد الشاب قبل أن يحث الخطا نحو "روت مراكش".. تدب الحركة في أوصال الشارع التجاري وتختلط الأصوات، لكن حرف الإيجاب الوجدي "واه" ينفذ إلى سمعه من وسط اللغط المتصاعد كأنه ينصت إليه، على الطريقة الوجدية، للمرة الأولى! تغيرت أشياء كثيرة في اللهجة المحلية، لكن هذه "الواه" الأنيقة ظلت عصية على التغيير. هي "نعم" الوجديين، لفظ إيجاب ومعنى إيجابي. يقول رجل ستيني من أبناء المدينة العتيقة "هذه البلدة تدخلها باكيا.. وتخرج منها باكيا". يعقد الوافدون على وجدة، شأن سفيان، روابط عاطفية مع هذا النسيج الفريد الذي يمتزج فيه البعد الإنساني والعمراني مع النسق اللغوي والجمالي في بوتقة واحدة. إنها وجدة، وانتهى السؤال. تزيل عن الزائر وحشة اللقاء الأول ثم تملؤه بالألفة والحنين.. لكن هذا الزخم الانفعالي لا يمتد - في الغالب - إلى أبعد من حدودها الجغرافية. يظل حبيس قلوب عاشقة، كما يرى كثيرون، دون أن تتحول مشاعر الحب إلى تحف فنية تعكس جانبا من جمال هذه المدينة. لماذا لا يسمع الوجديون - مثلا - لهجتهم في الأعمال الدرامية المغربية؟ يسأل صديقنا الشاب الذي راح يسجل غريب الألفاظ الوجدية في كناش صغير. ذاكرة جمالية ينبعث هذا السؤال بدافع من المادة الفنية الخام المتاحة في كل تفاصيل الحياة اليومية: لهجة مطواعة وفضاءات ملائمة للتصوير وأفق إنساني وجمالي شديد الاتساع. وهو سؤال وجيه كان لا بد أن نستشف عناصر للإجابة عنه لدى فنان مغربي موهوب، يؤكد أن علاقة وجدانية خاصة تربطه بالمدينة الألفية، كما أفضى بذلك لوكالة المغرب العربي للأنباء. وظف الفنان المبدع حسن الفذ اللهجة المحلية و"الشخصيات الوجدية" - كشخوص درامية - في باروديا شهيرة عرضت قبل أعوام تحت عنوان "الشانيلي تيفي". وتفاعل الجمهور بشكل لافت - آنذاك - مع فرقة "وليدات بني مطهر" التي مثلت الجهة الشرقية في باروديا المحاكاة الساخرة لبرامج المسابقات في تلفزيون الواقع. لكن الفذ يرى أن الإشكال المطروح لا ينحصر في وجدة بعينها. هناك "نوع من الكسل"، كما يقول، أثناء المعالجة الفنية، إذ لا تراعي السيناريوهات أحيانا التنوع القائم في اللهجات واللكنات وطرائق القول والخصوصيات المحلية. إنه، برأي مبدع سلسلة "الكوبل"، نوع من البحث عن السهل والأقل عناء في كتابة السيناريو عبر توظيف اللهجة السائدة في الوسط، لكن ثمة نماذج بينت أن الانفتاح على اللهجات المحلية قد يدفع بالعمل الدرامي نحو مزيد من الانتشار. وهنا ينتصب مثالان بارزان: "بنات لالة منانة" و"الحسين والصافية" مسلسلان ناجحان بلهجة شمالية جميلة أضفت على المنتوج الفني خصوصية فريدة. غير أن مقومات الكتابة الدرامية - كما يقول الفذ - أوسع من أن تختزل في توظيف اللهجة. إن صناعة الدراما، بما تتطلبه من حبكة وصراع وتصاعد للأحداث، تستدعي معالجة موضوع شائق بنفس طويل يشد الانتباه. وأقصى ما تمنحه اللهجة في هذا السياق أن تشكل "خطا ثانويا" يدفع بالأحداث الدرامية داخل النسق الفيلمي المتكامل، وفق رؤية الفنان الذي راكم أزيد من ثلاثة عقود في الممارسة الإبداعية. ومن زاوية الكوميديا، قد تكون اللغة - لا سيما من خلال "اللعب بالكلمات" - وسيلة إضحاك. ويبدو أن اللهجة الوجدية تتسع لشيء من ذلك. لكن ثمة انطباعا سائدا أن هذه اللهجة لا تعبر بالشكل الأمثل عن المشاعر وفيها قدر من الجدية المفرطة. يعقب الفذ جازما أن ذلك "محض كليشيهات وأفكار مسبقة". في وجدة، يضيف المتحدث، "المحبة والطيبة وروح التفكه العالية.. والمشاعر الرقيقة". وفيها - كما في كل مكان - ذاكرة جمالية تتفاعل مع الكلمات التي تعرفها. وحين يختلف السياق الاجتماعي، قد لا يحدث أي أثر للكلمات والصور البلاغية والمواقف الكوميدية.. وهنا يقفز السؤال: ألا تحد صعوبة المعجم – أحيانا – من انتشار المنجز الإبداعي باللسان الوجدي في الأغنية والمسرح والسينما؟ ذائقة فنية وسط ساحة سيدي عبد الوهاب، لا يزال الشاب الثلاثيني يقضم سندويتشات كران ثم يتبعها بالمشروب الملون باريدة. "يزعم الوجديون أن كران هو أرخص وجبة في العالم.. وأنا أيضا أزعم ذلك"، يؤكد سفيان وهو يتطلع إلى الأسوار الشاهقة وسط المدينة العتيقة. وكأي وافد حديث على المدينة يصادف الشاب عبارات مستجدة لم تطرق أذنيه من قبل: بلع الباب (أغلق الباب).. آش هاد التكعرير (ما هذا اللجاج).. حدا التنكرافه (قريبا من عمود الكهرباء). يشعر صديقنا السلاوي أن إيقاع اللكنة يبدو أكثر بطء مما اعتاده، أما الكلمات التي لا يعرفها - وهي قليلة على العموم - فسرعان ما يستأنس بها. وإزاء ذلك قد يظهر، بادي الرأي، أن ثمة عبارات شديدة المحلية تستغلق على الأفهام، غير أن التداول اليومي يحيل التواصل اللغوي أكثر سهولة، وهو ما لا يتاح دائما في الأعمال الأدبية والفنية. توجهنا بهذا السؤال إلى الناقد والمسرحي، ذي الصيت العربي الواسع، مصطفى الرمضاني. يعيش هذا الفنان بمدينة وجدة وإن كانت أصوله تعود إلى مدينة بركان (60 كلم)، ويؤلف مسرحياته بالعربية الفصحى والعامية المغربية واللغة الثالثة القريبة منهما. يقول الرمضاني إنه يكتب أحيانا باللهجة المحلية "لأنها قد تكون وظيفية، أي أنها تؤدي المعنى الذي أريد في سياق معين". إن اللفظ الوجدي قد يكون مقصودا لذاته في أعمال كاتبنا الاحتفالي. وعلى المستوى الحرفي، يضيف المتحدث، قد تحقق الكلمة المحلية "وقعا جماليا لدى المتلقى أعمق من تحققه بلغة أو لهجة أخرى". ولئن كان المسرحي البركاني نزاعا إلى استعمال "لغة عامية متوافق عليها" يدركها المغاربة، فإن هناك "حالات وظيفية" تستدعي استعمال كلمات محلية. أنا لا أكتب باللهجة العامية بطريقة تلقائية، يستطرد الرمضاني، لأن الأمر يتطلب أحيانا "مجهودا أكبر" من التأليف بالعربية الفصحى. ومهما تكن تقنيات الكتابة واختياراتها الفنية، فإن الأكيد أن الشخصية المغربية متعددة وأن الحاجة قائمة إلى تسويق الثقافة المغربية بكل تنوعاتها، وفق ما خلص إليه الفنان الذي تحدث لوكالة المغرب العربي للأنباء. لكن دور اللغة لا ينحصر في التأسيس للذائقة الجمالية فحسب. إنها بنية معجمية ونحوية ونظام صرفي ومقاطع صوتية يبحثها المتخصصون، شأن الأكاديمية الراحلة سيمون الباز التي سعت، في ثمانينات القرن الماضي، إلى صياغة أول مقاربة لسانية وظيفية للهجة الوجدية. وقد حققت هذه الغاية من خلال أطروحتها لنيل الدكتوراه في جامعة باريس 5 تحت عنوان "عامية وجدة: دراسة تطبيقية للنظرية الوظيفية"، بإشراف رائد اللسانيات الوظيفية أندري مارتيني. كان لافتا ومثيرا أن الباز كتبت في ختام عملها الأكاديمي: "أعبر في الخلاصة عن شعور بالشرف انتابني في إنجاز هذا العمل، أمام الشهود وأمام كل أهل وجدة، لأن عامية وجدة لغة تتمتع بمواصفات البنية اللسانية"، وفق ما ترجمه الباحث الأكاديمي بدر المقري في سياق مشروعه المعرفي الساعي، في جزء منه، إلى التعريف بالتراث الفكري لهذه السيدة العاشقة للسان الوجدي. لكن السؤال ينتصب من جديد: أي نوع من الشغف وأي شكل من الحنين دفع هذه الباحثة، التي عاشت بمدينة وجدة فترة من حياتها، إلى العودة إلى هذه المدينة من مدخل اللهجة المحلية؟.. لا ريب أن ثمة سرا ما. وهو عين السر الذي يستكشفه صديقنا الشاب، كغيره من الوافدين على المدينة، في مشاهد الجمال التي تنطق بها ألسنة الناس وتنضح بها الوجوه والشوارع والأسواق والأزقة القديمة.