بآلته البدائية صنع أفلامه. وكان لديه ما يشبه مسرح الدمى في البيت. أما المونتاج فلا يحتاج سوى إلى قصِّ الأفلام وإعادة تركيبها لصناعة أفلام جديدة. ثم إن لديه جهاز تلفزيون وأشياء أخرى تؤنس وحشة المكوث طويلا على فراش المرض. وليس أوقع في القلوب من حال الطفل حين يمرض، ولكن الصبي أفاد من ذلك - ورب ضارة نافعة - فقد قدحت فترة الاستشفاء خياله الطفولي، فأشعل شرارة الإبداع الأولى في حياته، ثم ولد المخرج العالمي ولادته الثانية. إنه فرانسيس فورد كوبولا، أحد أبرز المخرجين في تاريخ السينما. عانى في صباه شلل الأطفال. ولعله عاش في عزلة - بسبب ذلك - بعض الوقت. ولكن المبدع حين يولد مبدعا يشبه الماء في بحثه عن المسارب والمنافذ، فلا شيء يوقفه. وإن القلب ليخفق وراء قفص الصدر كأنه يطرق الأضلاع! وفي الذهن صور وكلمات، وتهيم الروح في مشاعرها المتدفقة، ثم تضيق الأنفاس حتى تنقطع.. وإذا هو المخاض يؤذن بالولادة الإبداعية. ويا لها من تحفة فنية تذهب بالعقول! والطفل - هو ذاك الطفل - يحرك من خلف الستارة كل شيء. إنه قابع في غور عميق، لا تراه عين ولا تمتد إليه يد. يقول كوبولا إن "فرانسيس الطفل هو الصورة المثلى لفرانسيس الحالي". ولك أن تتساءل وأنت تستعرض تاريخ الرجل وإسهاماته: أهذا الفنان العالمي الأبرز في صناعة السينما يستلهم من الصبي الذي كان قبل عقود طويلات؟.. بلى، إنها التعويذة السحرية. وفيها كلمات مكتوبة بماء الذهب: أرهف السمع لذلك الصبي الذي فيك فإنه ينظم الشعر ويكتب الرواية ويصنع الأفلام.. أفضل منك بكثير! وإليك قصة أخرى.. في العام 1925 سافر توفيق الحكيم - وهو أبرز أعلام المسرح العربي الحديث - إلى باريس ليتابع دراساته القانونية العليا. كان مبدعنا الكبير عاشقا للأدب والفن. ولعله نسي الدراسات القانونية - أو كاد - واندمج في الحياة الثقافية الفرنسية، قارئا ومطلعا ومبدعا. لكن أباه ألح أن يعود إلى بلده، وضيع ثلاثة أعوام في سبيل دكتوراه لم يحصل عليها. وقد كان الحكيم - الأب حريصا على مستقبل ابنه، لا يرى في الآداب والفنون بشارات نجاح ولا آفاق عيش كريم. وحدث أن مزّق كتب ولده ورواياته، ثم منعه من الذهاب إلى السينما. وهو فهم للنجاح - كما ترى- جاهز ومعلب. ولكن صاحبنا صار - بعد حين- رائد المسرح العربي، وأحد أبرز كتاب العربية في العصر الحديث. وذلك يعني أن الموهبة - مثل الماء - تختط طريقها تحت كل الظروف. إن الطفل توفيق الحكيم (توفي في العام 1987)، الذي كان ينسل إلى قاعات السينما ويؤجر الكتب والروايات، هو منبع الإلهام في حياته حين شب وشاخ. وإن موهبته هي التي انتصرت.. تماما كما انتصرت موهبة الطفل فرانسيس كوبولا.. وكما تنتصر، في كل يوم، مواهب "مبدعين - أطفال" في كل أرجاء العالم.