في مدينة الشعراء، تنبت القصائد على أطراف الألسن ثم تنمو وتزهر، تماما مثل النوار النابت على تخوم غابة سيدي معافة. وكشأن الحياة في انسيابها العفوي، تتدفق وجدة قصائد يبدعها شعراء ينأون عن المألوف. وتقفز هذه التجارب على مزالق العبارة الجوفاء ومطبات الجملة المسكوكة، نحو عوالم شعرية أرحب، بأفق جمالي مختلف، يستثمر في المشترك الإنساني ويفشيه، وينفتح على طرائق القول الآتية من بعيد..من أقصى شرق العالم نحو شرق المغرب الأقصى. إنها حالة إبداعية فريدة تعد بجيل جديد من الشعراء الوجديين، يفتح نوافذ البيت الشعري العربي على فضاءات الفن الممتدة تحت كل السماوات. وهي، بلا أي غضاضة في القول، محاولة جريئة للقبض على لحظات الصفاء الشعري، القابعة خلف ركام عبارات الزخرفة التي تقول..ولكن لا تقول. وليس الشعر شيئا غير ذاك. إنه الأفق الإنساني الرحب حين تعانقه الكلمات، بكل بساطة وبلا أي تعقيد. ولعل في تلك البساطة الفادحة مكمن الإبداعية وعنوان الشعرية؛ غير أنها بساطة عميقة، تلتصق بالواقع وتنضح بالحياة، دون أن تحتاج - حتى - إلى محسنات البلاغة ومجازات التعبير وتشبيهاته. إنه، بعبارة أخرى، نوع شعري مختلف ينحت في اللغة وفي الأحاسيس، ويلتقط تفاصيل الحياة الصغيرة ليصوغها في جمل شعرية موحية، آنية ومشهدية، على الطريقة المعروفة في الشكل الشعري، ذي المنشأ الياباني، "الهايكو" الذي بات مكونا بارزا في كل شعريات العالم. وإنما يعود الفضل في هذا التلاقح الفني للترجمة، بوصفها رحلة لغوية شديدة الإثارة من بيئة إنسانية نحو أخرى، لاسيما بعد ترجمة نصوص الرواد اليابانيين وانتشار الهايكو في معظم لغات الأرض ولهجاتها. وهي، أبعد من ذلك، رحلة وجدانية تستكشف - في بحثها عن قيم الإنسانية المشتركة - مكامن الجمال في حياة الناس، أينما وجدوا، في كل ربوع المعمورة. وإلى وجدة بدورها مضت هذه المعاني، وسط غلالة من اللغة الشفيفة، إلى حيث جرت بها أقلام شعراء مبدعين من أبناء هذه المدينة الألفية. يقول الشاعر الوجدي سامح درويش، وهو أحد شعراء الهايكو المكرسين، في مشهدية بالغة الإيحاء، رصدت لقطة عابرة في زقاق يخلو من المارة: زقاق خال، نتبادل التحية أنا ورجل لا أعرفه. وعلى الإيقاع الفني ذاته، نسجت مخيلات كتاب الهايكو بهذه المدينة عوالم شعرية آسرة، أبدعت ضمن هذا القالب الفني - بما يمنحه من إمكانيات تعبيرية هائلة - قصائد شعرية بسيطة وعميقة في الآن ذاته. لكن السؤال يظل قائما: هل يصح أن نتحدث عن استقرار شعر الهايكو في وجدة، هنا حيث أبدع شعراء المدينة في مساحات إبداعية شاسعة تمتد من الشعر العمودي إلى قصيدة النثر؟.. أم إنه نوع استنبات لهذا الشكل الشعري، الآتي من شرق العالم إلى شرق المغرب؟. إنها فعلا تجربة شعرية تكاد تطبع مدينة وجدة، وشرق المغرب عموما، بل إن التجربة المغربية، في هذا الصدد، أصبحت حاضرة بقوة في المشهد الهايكوي على الصعيد العربي، يقول درويش. بديل شعري أم تنويع على القصيدة؟ حين نتحدث عن البساطة وعن الآنية والالتصاق بالواقع في الشعريات المعاصرة، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هذا الشكل الشعري، النزاع نحو التكثيف والمباشرة، وذائع الصيت في كل ربوع العالم: شعر الهايكو. وهذا الفن يتوسل بألفاظ سهلة، ويتكون من بيت واحد وسبعة عشر مقطعا صوتيا بالنسبة للغة اليابانية، تكتب في الغالب على ثلاثة أسطر. ويعد الشاعر ماتسيو باشو (1644 - 1694) أحد أهم شعراء الهايكو في تاريخ هذا اللون الإبداعي. ويكتسي هذا الشكل الشعري، المقتصد في الألفاظ والمكثف للمعاني، خصائص تبعده عن خانة الشذرة الشعرية وتضفي عليه مقومات الشعرية الآنية، الناقلة للواقع بلا حاجة إلى محسنات بديعية. لكن.. ألا يعود الانتشار السريع لهذا الشكل في الكتابة الشعرية إلى استسهالها بادي الأمر.. أم إن سبب الانتشار يعود إلى الإمكانيات الإبداعية التي تتيحها للشاعر، حين يعبر بالعبارة الوجيزة عما لا تحيط به الجمل الملتوية؟. تعقب مريم لحلو، شاعرة الهايكو الوجدية، بأن هذا الشكل الشعري ليس بديلا لأي نوع، لأن اللحظة الإبداعية وحدها هي التي تفرض الشكل الفني. إنه - برأي سامح درويش - تنويع وإثراء للرصيد الشعري بجهتنا. وتتمثل أهمية هذه التجربة في ما تطرحه من أسئلة على الشعر في أبعاده المختلفة، الموضوعاتية والجمالية. وتستطرد لحلو قائلة إن الشعر العربي نفسه يحفل بالأشعار السائرة، العابرة للأزمان. والناس يحفظون منذ القديم من القصائد الطوال البيت أو البيتين، أي ما يعبر لهم عن اللحظة الجمالية المعيشة فحسب (شأن الهايكو). ولعل منتهى ما يصنع الشاعر - في مكابداته الإبداعية الدائمة - أن ينصب شباك القصيد للحظة المتسارعة، لعل الخيال يمن بصورة أو بظل صورة، حتى. ويعبر ابن المدينة الألفية رشيد قدوري عن هذه الحالة الوجدانية حين تجرد الشاعر من كل شيء، عدا شعريته المحلقة.. فيقول: على كاتب الهايكو أن يحفظ ألف بيت من الشعر وألف قصة ويصعد الجبل عاريا من محفوظاته إن الأمر ليس بتلك السهولة البادية، فالهايكو - يوضح قدوري - يتطلب ثقافة واسعة وتأملات عميقة، والمرء لا يصير كاتب هايكو بين عشية وضحاها. جزالة اللفظ وموضة الساندويتش! تحفل الساحة الأدبية في وجدة بشعراء مكرسين. ويبحث الهايكو - في خضم هذه الأجناس الفنية العديدة - عن موطئ قدم تحت الشمس في مدينة الشعراء.. وقد برزت فيها أسماء لامعة أبدعت نصوصا بارزة في أجناس فنية عديدة، لكن "الهايكو لم يأت ليحكم على الشعراء بالإفراغ من البيت الشعري العربي"، وفق ما يجزم رشيد قدوري. غير أن السؤال ينتصب من جديد: ألا يقتضي مقام الشعر جزالة الألفاظ وعمق المعاني؟ أوليس شأن الهايكو، والحالة هذه، مثل أغنية "الساندويتش" السريعة، التي نسمعها اليوم ثم ننساها غدا؟ تقول مريم لحلو إن الكثيرين يعبرون عن استغرابهم من وجود هايكو عربي مغربي، ولنقل وجدي أو شرقي. ولعلها "العقلية" ذاتها التي رفضت قصيدة التفعيلة ثم قصيدة النثر يوما ما. إن الإبداع - برأي الشاعرة - يحتاج دوما إلى المثاقفة، لأن العالم أصبح قرية صغيرة مشرعة، لا مجال فيها للتقوقع. ويرصد سامح درويش مفارقة لافتة عند الحديث عن موضة الساندويتش بالمعنى الفني: "نحن ننتقد الساندويتش ونتعاطاه بشكل واسع". وليس ذلك فقط، بل إن نعت "الموضة" نفسه أطلق سابقا على الكثير من الفنون في مختلف المجالات. وبعيدا عن كل تلك التصنيفات، يرى درويش أن مكمن التميز في هذا الشكل الشعري يكمن في "التقاط اللحظة في أي مكان أو أي سياق كان، بدليل أن الهايكو يكتب اليوم في كل أرجاء الأرض". ولعل السر يكمن أيضا - حسب الشاعر الوجدي - في بساطة الهايكو وآنيته وتخففه من الأصباغ البلاغية، لأن هذا اللون الشعري يحاول أن يعود باللغة إلى "براءتها الأولى". ويبدو في عالمنا اليوم أن إيقاع الحياة السريع قد فرض هذه الأشكال الإبداعية القصيرة، بما يكتنفها من رشاقة وتكثيف.. إنه - بعبارة وجيزة - فن السهل الممتنع؛ وهو يطلب منك - كما يرى رشيد قدوري - أن تكون بسيطا، حاذقا وذكيا في إثارة الدهشة في ثلاثة أسطر، وأن تكون كاتبا متمرسا على الفكرة المضغوطة التي تحمل زخما من المعاني. وبفعل هذا اللون الشعري تنبثق في أشياء الطبيعة الجامدة حيوات متعددة كأنما هو عكاز الهايكو السحري يشير إليها فتهب من جمودها ناضحة بالحياة وبالجمال. وتعبر الشاعرة الوجدية مريم لحلو عن هذا المعنى، في لمحة هايكو قصيرة: عكازة جدتي في الحديقة تزهر هي أيضا إن الشاعر، حين يبدع من داخل هذا السقف الجمالي، إنما يعيد اكتشاف الكون من زوايا نظر مختلفة ومستجدة. يقول سامح درويش في هذا الصدد: "أنا أكتب الهايكو بوصفه سقفا جماليا إنسانيا..وأكتبه كما لو أني أرمي حجرا في بركة الشعر العربي الراكدة". وجدة.. مزاج شعري وسحر خاص ولأن لكل شيء من اسمه نصيب، فقد أخذت وجدة من اسمها معنى "الوجد"، أي الشغف والحب والسعة والوجدان الجماعي المترع بالشاعرية والسحر الخاص. من يستطيع أن يعيش بمدينة وجدة الألفية من غير أن يستنشق عبقها التاريخي، ولغتها القوية، ونغمها الأندلسي، ورقصاتها المعبرة، وإيقاعات حياتها الشعبية الغنية؟ يتساءل درويش. ويؤكد الشاعر الوجدي أن مزاج المدينة حاضر في كتاباته من خلال التفاعل مع فضاءاتها، أحيانا بالإفصاح عنها، وأحيانا أخرى باستلهام فحواها فقط. أما سحر المدينة فشأن آخر، إنه يرتبط بالوجدان وبالتاريخ وبالأرض وبالوطن، كما يؤكد قدوري. وتتبدى هذه العلاقة الوجدانية بالمدينة الألفية من خلال فنون الأدب وأجناس الفنون. تقول الشاعرة مريم لحلو إنها تعد مشروع رواية "أعبر فيها عن محبتي لمدينتي وجدة".. لكنها تؤكد أيضا أنها وجدت ذاتها حينما وجدت الهايكو. نعم، تضيف الشاعرة، كتبت في القصة والقصة القصيرة جدا والومضة.. "ولكن الهايكو شكل آخر.. آخر تماما". ووسط هذا الإقبال الواسع على تلقي الهايكو وتجريب كتابته، بما يفضي حتما إلى تقريب الجمهور الواسع من فنون الشعر، أصدرت النسخة الرابعة من تظاهرة الموكب الأدبي الثقافية ديوانا جماعيا لشعراء الهايكو بجهة الشرق، بمشاركة أكثر من عشرة أسماء. واللافت أن كاتب الهايكو حين يعيش في هذه الربوع - أو تعيش فيه، ولعله التعبير الأدق - فإن اللحظة الشعرية تنكشف تحت بصره وبين يديه، في كل مكان. يصير الأمر أشبه - والحالة هذه - بالإلهام المتداعي تلقيه في روع الشاعر مشاهد الجمال المنبثة في الشوارع الممتدة والأسواق والأزقة القديمة. وهي منحة المبدع وجائزته الأثيرة إذ تهجم عليه المعاني وهو يمعن النظر في الفضاءات الساحرة ويرهف السمع لكلماتها، ف"يقبض على اللحظة ويمنحها الاستمرارية كمادة إبداعية"، كما يعبر سامح درويش. ويبدو أن منسوب الإبداعية في أصناف القول يصبح أعلى وأعمق عندما يلتقي الشكل الشعري الرشيق والمكان الشاعري الملهم بالمبدع الموهوب الذي يعرف كيف يضيف نفسه وأشواقه إلى هذه التوليفة الجمالية المتاحة. إن الهايكو يحسن كل ذلك، لأن هذا الشكل الشعري إنما هو - كما يرى درويش - وشم ضوء ينطبع على صفحة الروح. *و.م.ع