في عمق المشهد قطعة طباشير محشورة بين أصبعين في قدم كريستي. نحن الآن في بيت براون الذي يتصدر المشهد موليا ظهره إلى الكاميرا؛ أما أولاده فيراجعون دروسهم على طاولة مستديرة. وحده كريستي في الركن الأيمن تتصاعد أنفاسه.. في لحظة، زحف الطفل على جانبه الأيسر مبتعدا عن فراشه، ثم رسم على الأرض ما يشبه المثلث. ذهل والد كريستي وإخوته وأسرعت الأم من مطبخها تسأل عما حدث. كان الطفل المصاب بالشلل الدماغي ممددا على الأرض يرسم بقدمه ثلاثة خطوط..على أن أطرافه الأربعة كانت، قبل ذلك، متوقفة عن الحركة.. حدست الأم أنه رسم حرف A..لم تكن في حاجة إلى سماع صوت كريستي..كانت تقرأ كلماته في عينيه، وعلى مدى دقائق الفيلم ظلت سنده المتين الذي لا يهتز بالحوادث والعواصف والنوائب. وقد أدت دور الأم الرحيمة، بتقمص خيالي واقتدار مذهل، الممثلة بريندا فرينكر. ثم صاح الأب: - إنه كريستي براون..ابني العبقري! وفيلم "قدمي اليسرى" للمخرج جيم شيريدان مستوحى من قصة حقيقية للفنان كريستي براون، الذي ولد في العام 1932 بدبلن وتوفي في العام 1981. وفي سيرته الذاتية – كما في الفيلم – تكتشف ماذا يعني أن يسكن المرء "في جسد ميت"، لا يقوى على الحركة ولا على الكلام!. وعلى الرغم من الإحساس بالمرارة – الذي يصعب تفاديه في هذا الفيلم – فإن الرؤية الإخراجية لشيريدان أزالت مسحة السوداوية التي يمكن أن تنجرف إليها أفلام من هذه الشاكلة. كما أن الممثل البريطاني دانيال داي لويس تقمص شخصية كريس براون حد التماهي والذوبان في الشخصية الفيلمية. وبرع داي لويس في "تمثيل" لحظات اليأس والإحباط القاتلة في حياة بطل الفيلم، ولحظات الأمل والانطلاق والإقبال على الحياة..وحتى خفة دم كريس براون في الكثير من الأحيان. في السيرة الذاتية، رفضت الأم – وبشكل قاطع – كل الدعوات التي حثتها على إرسال الولد إلى ملجأ لرعاية المعاقين؛ ويحكي كريس أنها قضت معه ساعات طويلة وهي تعرض عليه صور الحيوانات والزهور والحدائق وتسمي له كل تلك الأشياء بمسمياتها..لكنه لم يكن يصدر أي إشارة فهم!..كان عاجزا تماما وبشكل مطلق..ولكن قلب الأم دليلها..وحتى حينما تنزغها الشكوك وتحيط بها خيبات الأمل كانت ترى في الشعاع المنبعث من عينيه شبهة حياة!. وصرخت الأم في وجه المشككين: - ابني ليس معتوها ولا أبله..أنا متأكدة من ذلك.. ومن عجب أن حركة قدمه اليسرى – وهي تحاول أن ترسم الحرف الأول في الأبجدية - كانت إيذانا بحياة جديدة، فقد استطاع أن يجري عمليات ترويض أعادت له شيئا من القدرة على الكلام وعلى الحركة..ثم بات بعد ذلك رساما وشاعرا وأديبا يضاهي كبار كتاب الإنجليزية. "الآن أستطيع أن أسترخي وأستمتع بكل بشيء..لقد وصلت إلى السلام الداخلي"، يكتب كريس براون في سيرته الذاتية التي تحولت إلى فيلم سينمائي بات من أجمل كلاسيكيات السينما العالمية.