إنه مجرد أنبوب فارغ.. قصبة مجوفة ومثقوبة.. قطعة أسطوانية، مفتوحة على طرفيها.. إذا رأيته لم يَلْفِتك بشيء، فإنما هو خشب كأي خشب. ولكن معاني الأشياء تكمن خلف مظاهرها. وإن الجمال ليرشح من ثقوب هذا التجويف العجيب حين تهتز الأنفاس العازفة - على إيقاع الأنين - كأنها تصرخ في السامعين: - آآآآه.. آآآآآه! وينبعث الصوت الساحر من خلف ترنيمة الناي: أعطني الناي وغنّ.. فالغنا سر الوجود وأنين الناي يبقى.. بعد أن يفنى الوجود ثم يملأ الآفاق، فلا شيء سوى ذلك الطلب تسمع صداه: "أعطني الناي وغن". وتغمض عينيك فترى الشاعر مرهف الحس جبران خليل جبران يبحث – وسط الحقول وفي الغابات وعلى السواقي - عن جوهر الإنسان ومعناه: هل جلست العصْر مثلي بين جفنات العنب والعناقيد تدلّت كثريات الذهب هل فرشت العشْب ليلا وتلحَّفت الفضاء زاهدا في ما سيأتي ناسيا ما قد مضى. إن "صوت فيروز لا يكبر، فهو مرتبط بعُمر كل واحد منا"، كما قال شاعرنا الكبير محمود درويش. ولقد كان يتملكني إحساس بالنشوة غريب حين تذاع أغنية "سكن الليل" على الإذاعة – ليلا. وكنت لا أزال فتى يافعا. يقول جبران في هذه القصيدة، التي لحنها محمد عبد الوهاب لفيروز، في لقاء فني جميل بين مدرستين في الموسيقى العربية. وقد وشاها بحسه التطريبي الأخاذ: اسْمَعي البُلْبُلَ ما بين الحُقولْ .. يَسْكُبُ الألحانْ في فضاءٍ نَفَخَتْ فيهِ التُلُولْ .. نَسْمَةَ الرَيْحَانْ والواقع أن قصيدة جبران (توفي في العام 1931) مغناة قبل أي تلحين، فإنها تقطر موسيقى قبل أن تمسّها آلات النغم. وأنت ترى أن الكلمات تنبعث حية بين يديه فتقع في الأذن كأنها أغنيات. ولعله إحساسه الفني "العالي" – كما يعبر أهل الميدان – وتلك موهبة لا تأتي في الغالب من طريق الاكتساب. ومثلما لكل صوت نبرته، فإن لكل مبدع نكهته. كما أن لكل آلة موسيقية – وهي شيء جامد – إحساسها الخاص. وإنما يصنع الفنان "توليفات الأحاسيس" من مزج الآلات الموسيقية. ولكن للناي حكاية أخرى، رواها المتصوف الشهير جلال الدين الرومي (توفي في العام 1273) في أشهر قصائده: أنصت إلى الناي يحكي حكايته ومن ألم الفراق يبث شكايته: مذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق لأبوح له بألم الاشتياق.. وبعد، فها أنت ترى أن هذا الأنبوب الأجوف المفتوح على طرفيه يفعل بمشاعر الناس الأعاجيب. وما هو سوى قطعة خشب مثقوبة.. ! نعم.. إن آلة الناي تصنع كل هذا الجمال.. فقط لأنها قصبة مثقوبة!