سياحة داخلية في جوانية الزروالي بقلم : المداني عدادي أمضى الفنان عبد الحق الزروالي ابن فاس العتيق عقدين من الزمن على الركح ممتطيا صهوة الخشبة فكانت له فيها صولات و جولات في المونودراما أو المسرح الفردي ، راكم خلالها أزيد من ثلاثين عملا مسرحيا أمتع فيها و استمتع ، و خاصة في بداياته الأولى مع “سرحان المنسي” ، و ” برج النور ” و ” و كدت أراه ” و “نشوة البوح” حيث اجتمع فيها لهيب الراهن السياسي مع فورة الشباب آنذاك ..مرورا ب”كرسي الاعتراف” .. و غيرها . لكن غارته الركحية هذه المرة جاءت على غير المعتاد ، فالصوت نفسه و الجسد نفسه و الديكور نفسه .. لكم أنفاس الزروالي هذه المرة بدت نبتة باهتة مسقية بمرارة الأيام ، و جور الخلان ، و خيانة الجسد . أحسسنا بلحظة كُمُون و هدوء و كأنها لحظة تأمل صوفية لذات ضجَّت زمنا طويلا بأفكار و أحلام و طموحات .. لكن فجأة انجلت العاصفة ، و هدأ أزيز زوبعة العمر ، و عقبتها لحظة سكون آسر كنّا ضيوفها عشية يوم الأربعاء 27 مارس 2013 بدار الشباب أنوال تازة ، فاغتنمناها فرصة للسياحة في جوّانية هذا الممثل المُتفلّت المنفرد ، و الذي طالما ظلّ متمنعا تحت قناع يلبسه . فعبد الرزاق المنتظر عبثا لمرزوقة في محطة افتراضية لا يدلّ عليها سوى صفير قطار وهمي و حقيبة حمراء قانية ترمز للشوق و التحرق للسفر أو لملاقاة حبيب .. هذه الأشياء هي الرابط الوحيد الذي جمع بين شتات المسرحية ، و ما عداها هو مجرد انفلاتات لذاكرة مفعمة جريحة ، حبلى بأنات و آهات .. اختزلت مساره الفني و العملي ، فكانت المسرحية عبارة عن بورتريه ذهني لعبد الحق الزروالي لكنها بصورة مكبرة ، أو ما عبر عنه هو نفسه بالذات الكبرى في حديث دار بيننا عقب العرض و هذا صحيح لو لم يضيّق دائرة هذه الذات الجماعية لتصبح فردية في مشهد حمل كتبه الخاصة ، و إدراجها ضمن متن السرد المسرحي ، بطبيعة الحال لم تكن أكسيسوارا بريئا و إنما كانت لحظة تبئير سلّطت الضوء بل الأضواء على مسار عبد الحق الفني و بالتالي النفسي … و مع ذلك و من باب العدوى الفنية التي تحدثها حالة التشخصن مع كلّ نص مثير أو ممثل حاذق استطاع أن يشركنا في مأساته ، و يسقينا من كأس معاناته حدّ الثمالة ؛ ثمالة زكتها جرعاته المتكررة من قنينة مموهة لا أحسبها هي الأخرى بنت أكسيسوار ، و إنّما كانت شاهدة و مشهودة على ما يفعله الخمر بكلّ تجلياته الوجدانية و الرمزيته و حتى الحقيقة . بساطة في الديكور الذي كان مجردة طاولات مشقلبة تواجه الجمهور كخلفية للعرض ، شحٌّ في الأكسيسوارات ؛ سوى من درجات ثلاث هي محرابه المسرحي ، و مقعدين خشبيين و حقيبة سفر ، جراب ، شمعة خلف الديكور ، قنينة صغيرة ، و سيجارة واحدة . تمويج موسيقي و غنائي يتجاوب و ظرفية المشهد اختلط فيه الشرقي بالمغربي ، الرومانسي بالملتزم ، إلاّ أنه لم يكن مجانيا بقدر ما كان يخدم المشهد و يثريه ، باستثناء أغنية فيروز ” أعطني الناي و غنّ فالغناء سر الوجود ” التي فسرها الزروالي حسب ظرفيته الركحية معتبرا ذلك الطلب الجميل مجرد رغبة جنسية تتمثل في الحنين إلى الآخر الذكر ، و لست أدري مَنْ منهما المَعِيب ؟ هل القائل الأول أم الثاني ؟ هل جبران خليل جبران صاحب النص الأول أم فيروز صاحبة النص الثاني المُغَنّى ؟ و لست أدري لماذا الوقوف في محطة الانتظار ، و صوت القطار أو ما يدل عليه .. لماذا ذكرتني هذه الأشياء بالباتول في عرض ثريا جبران ؟ أهي مجرد مصادفة ؟ أم الشيء بالشيء يُذكر ؟ أم بين العرضين تشابه و تداخل في الرؤى و الأفكار ؟ أم هو مجرد إحساس لا غير ؟ و آخر محطة هو غلبة تيمة الانتهاء و اليأس على العرض ككل ، بدءا من مرزوقة التي لا تأتي ، و القطار الذي لم يصل ، و الشمعة التي انطفأت قبل الأوان ، و الموت الفجائي في نهاية العرض .. كلّها دلائل مؤشرات تُنبئ بوفاة الفنان .. ليس بالضرورة أن يكون عبد الحق الزروالي .. و إنّما هو الفنان المطلق في كلّ زمان و مكان إذا أحاطت به نفس الظروف و الملابسات التي دبلج بها عبد الحق أحاسيسه و مشاعره و انفعالاته خلال العرض ، و هي التي كانت سببا في هلاكه .