في زمن تتسارع فيه وتيرة التحولات الاقتصادية، وتغدو القدرة على التنقل السلس، يخطو المغرب خطوة جديدة نحو ترسيخ موقعه كفاعل إقليمي محوري بإطلاق مشروع القطار فائق السرعة الرابط بين القنيطرةومراكش، أحد أكبر مشاريع النقل السككي في إفريقيا. المشروع الذي تقدر كلفته ب53 مليار درهم، ليس مجرد ورش بنية تحتية، بل لبنة إضافية في مسار طويل من الرهان على التحديث والانفتاح الاقتصادي، في إطار رؤية استراتيجية متكاملة تتجاوز حدود النقل نحو تكريس نموذج تنموي جديد. هذا الاستثمار الضخم، الذي يندرج ضمن برنامج أشمل بقيمة 96 مليار درهم، يعيد رسم خريطة التنقل بين أهم الأقطاب الحضرية والاقتصادية بالمملكة، من طنجة إلى الدارالبيضاء، ومن الرباط إلى مراكش، ويحدث قفزة نوعية في تقليص الزمن الجغرافي، بما يتيح للمدن المغربية الكبرى الاندماج فيما بينها ضمن شبكة أكثر دينامية وكفاءة. في هذا الإطار، يرى الخبير الاقتصادي محمد جدري، أن المشروع يندرج في صميم رؤية المغرب 2035، التي تضع هدفا طموحا بمضاعفة الناتج الداخلي الخام من 130 إلى 260 مليار دولار في أفق العقد المقبل. هذه الرؤية كما يوضح، لا تختزل في مؤشرات نمو اقتصادي فحسب، بل ترتكز على تحولات هيكلية تشمل الانتقال الطاقي وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى، وتحقيق عدالة مجالية وخفض معدل البطالة إلى 9 بالمئة، وتعزيز الاندماج الصناعي وتطوير رأس المال البشري. يرى جدري، أن القطار فائق السرعة سيكون له أثر مباشر وغير مباشر على مجموعة من القطاعات، لاسيما السياحة، حيث من المرتقب أن يسهم في رفع عدد الزوار إلى 26 مليون سائح في أفق 2030، بعائدات قد تتجاوز 200 مليار درهم سنويا، مقابل 120 مليار درهم حاليا. التنقل المريح والسريع، خصوصا من المطارات الدولية إلى المدن السياحية يضفي مزيدا من الجاذبية على الوجهة المغربية في سوق سياحية عالمية تشتد فيها المنافسة، ويتيح فرصا جديدة للاستثمار في الفندقة والنقل والخدمات المرتبطة. كما يشير إلى أن المغرب يعول كثيرا على الاندماج المحلي في هذا المشروع، من خلال إحداث مصانع موجهة لتصنيع قطع الغيار وصيانة القطارات فائقة السرعة، وهو ما يعكس توجها واضحا نحو تطوير صناعة سككية وطنية قائمة على نقل التكنولوجيا والشراكات الدولية، كما حصل في تجربة الطرق السيارة، التي مكنت مقاولات مغربية من لعب أدوار محورية في الإنشاءات والأشغال العمومية. المشروع لا يقتصر على كونه وسيلة نقل جديدة، بل يمثل خطوة إلى الأمام في استراتيجية استثمار في البنية التحتية كوسيلة لتعزيز سيادة اقتصادية، وإعادة توزيع النشاط الإنتاجي، وخلق مناصب شغل ذات قيمة مضافة. وهو يفتح آفاقا لتعاون صناعي دولي بين فاعلين مغاربة وآسيويين وأوروبيين، تحت إشراف المكتب الوطني للسكك الحديدية، بهدف تطوير منظومة وطنية لصناعة القطارات وصيانتها، وتكوين كفاءات مغربية قادرة على المساهمة في هذا التحول. بهذا المشروع، يواصل المغرب نسج خيوط قصة نجاحه التنموي، التي انطلقت منذ عقود في محاور متعددة، ليؤكد مجددا أن الرؤية الواضحة حين تقترن بالإرادة السياسية والقدرة على الإنجاز، قادرة على تحويل طموحات الأمس إلى حقائق ميدانية تشهد بها الأرقام والوقائع.