ولم يقف السلطان عند هذا الحد بالكتابة والتوبيخ، بل نكب القائد أشعاش السفير نكبة خطيرة أفضت إلى سجنه وإعتقال أملاكه وبيعها بالمزاد العلني شملت عائلته وبعضا من أصدقائه. وحتى والدته سجنت وصودرت أملاكها، وغضبة الملوك تقهر ، وهكذا يصف ذلك الفقيه احمد الرهوني في تاريخ عمدته قائلا : (فغضب عليه غضبا ما عليه من مزيد … فوجه من قبض على جميعهم الحاج عبد القادر أشعاش وذهب بهم إلى السجن وسجنت والدتهم المرحومة .. التازية التطوانية ووجه السيد بن المكي القباج ومن معه لاستصفاء أموالهم وحوز أمتعتهم، فحيز الجميع وأوذي في جانبهم أناس اتهموا بأن عندهم أمانات من قبلهم لما كان لهم بهم من علاقة المصاهرة أو القرابة أو الصحبة، وضرب أناس، وسجن أناس وقتل أناس تحت الضرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم… ثم رضي عنهم السلطان وسرحهم واستخدم منهم الحاج عبد القادر بحضرته ) . ونقل داود في تاريخه عن العلامة المفضل افيلال أن القبض على أشعاش السفير كان يوم الأحد 12 جمادى الأولى عام 1267 ه (1850)، بمدينة فاس بعد خمس سنوات على سفرته إلى فرنسا وفي نفس اليوم القي القبض على أخيه الحاج عبد الله بتطوان . ووافق المخزن على إجراء صلح مع هذه العائلة، بدفعها غرامة قدرها مائة ألف مثقال، مما يدل على أن التهمة الموجهة تتعلق بالتجاوزات المالية والغني الغير المشروع، ويتجلى هذا واضحا من خلال الصفحات الطويلة التي نشرها المؤرخ محمد داود في القسم الثالث من المجلد الثالث من تاريخه والتي استوعبت لائحة مفصلة عن الأملاك المحجوزة من عقار ومنقول من طرف المكي القباج الذي ظل بتطوان عدة شهور بها من فاتح جمادى الأخيرة من عام 1267 إلى 15 محرم عام 1268، يقوم بعملية إحصاء هذه المحجوزات.. ثم باعها بالمزاد العلني ولم تسلم إلا دار سكنى والده و بعض الأملاك الصغيرة التي أرجعت إليه بعد العفو عنه فيما بعد والواقف عليها يستوعب بداهة مقدار الفحش والغني الذي كانت تعيشه هذه العائلة. و لم يسلم المكي القباج من هجو شاعر تطوان الكبير المفضل افيلال الذي قدح فيه : يا سائلا عن قصة القباج *** فهاكها واضحة المنهاج أفضت به همته الخسيسة *** لان يبيع طابا والحشيشة وهذا كله طعنا في القباج الذي أحصى لأشعاش كل شي وصادره بالبيع بالمزاد العلني حتى إنه باع ما وصفه به افيلال الكيف والحشيش. ثم يرد له الإعتبار : وتشاء الأقدار أن تصفو الأجواء من جديد بين عائلة أشعاش، وبين السلطان ، فيرد لها اعتبارها، ويعيد لتطوان السفير عبد القادر أشعاش حاكما عليها في ظروف قاسية من حرب قذرة وغير متكافئة، إحتل فيها الاسبانيون المدينة، أواخر سنة 1859م وعاثوا فيها فسادا، وحولوها إلى مستعمرة مسيحية، فشوهوا معالم المدينة، وهدموا مساجدها، وأقاموا في بعضها كنائسهم، وفي البعض الآخر مستودعا لتخزين البضائع والخمور وأطلقوا يدهم في ساكنتها العزل من الفقراء والضعفاء الذين لم يغادروا المدينة قبل دخول المستعمر إليها، فصاروا يفعلون ما يشاءون من فساد وتخريب وهدم للديار والمساكين، وفرضوا حالة الطوارئ والاستنفار، وإهانة الناس وإذلالهم بسبب التعصب الديني المسيحي. وعندما تم الصلح المخزي بين المغرب واسبانيا، تحملت فيه خزينة الدولة تأدية العشرات من ملايين الريالات كغرامة حربية لصالح اسبانيا أخذتها كشرط لخرو جها من تطوان . عاد أشعاش إلى منصبه بعد عشر سنوات ونيف من نكبته الأولى ليحكم من جديد مدينة تطوان المثقلة بجراحها، فلم يجد السلطان محمد بن عبد الرحمن إلا عبد القادر أشعاش من يضمد هذه الجراح ويعيد لأهلها الثقة والأمان وتمكن بفضل كفاءته وعزيمته وصبره الطويل أن يعيد إلى المدينة كل من ألقت بها رياح الغربة في البوادي والأمصار أثناء الحرب من الذين غادروها مبكرا، وتلقى من المخزن الدعم الكافي من السلاح والعتاد الذي وزع على السكان وجددت المدافع في أبراج المدينة، وصارت الحياة تعود تدريجيا وفي كل هذا كان عبد القادر أشعاش يراسل السلطان محمد بن عبد الرحمن في كل شاذة وفدة، ويتلقى التعليمات، ومنهاأن كلف باعفاء النائب السلطاني محمد الخطيب الذي كان آنذاك بمثابة وزير للخارجية من منصبه، وهو الذي وقع معاهدة الصلح مع اسبانيا بإنهاء الحرب. كما سترى عند الحديث عن هذه الشخصية الفذة. إن السلطان محمد بن عبد الرحمان وهو في موقع هذه الأحداث التي كان يتألم لها، لم يجد أحسن تعبير يصف به شعوره وتضامنه مع سكان مدينة تطوان هذه الغرة في جبين المغرب كما . قال . إلا هذه الكلمات الصادقة في حق أشعاش وحق تطوان. (الحمد الله حق حمده .. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد واله من بعده . ثم الطابع السلطاني الكبير ونقش وسطه .. محمد بن عبدالرحمن غفر الله له . وحول ذلك – الله. محمد. ابوبكر. عمر. عثمان. على. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب – وبدائرته : ومن تكن برسول الله نصرته إن تلقه الأسد في أجامها تجم خدامنا أهل تطوان كافة أعانكم الله وأصلحكم وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته . وبعد : فهنيئا لنا و لكم وللمسلمين أجمعين، بما من به الكريم الرحمن الرحيم البر المنان، من رجوع تطوان، فيالها من نعمة ما أعظمها، ومنة ما أجلها وأفخمها، فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين، الذي لا خير إلا خيره، ولا إلاه غيره، على ما أنعم به من العفو والعافية، والألطاف الخافية، بعباده المؤمنين. هذا وان تلك البلاد المباركة، لا يخفى عليكم أن الخراب استولى عليها، وأن من الأمر الأكيد المتعين، الواضح البين، القيام على ساق الجد حتى تعود بحول الله وقوته إلى حضارتها، وحسنها ونضارتها، وكيف لا وقد كانت غرة في جبين المغرب الاقصا، لا تحد أوصافها ولا تستقصا، وذلك لا يتأتى إلا على يد رجل خبير بأمورها، عارف بما يأتي في ورودها وصدورها، يقوم بها أحسن قيام، ويحصل به القصد والمرام، وما رأينا أولى ولا أنسب لذلك من خديمنا الارضى الحاج عبد القادر أشعاش، لقيام تلك الأوصاف به، و لكونه يسلك بأهلها أفضل المسالك، وها نحن وليناه عليكم، وأسندنا إليه أمركم ، فاسمعوا له و أطيعوا فيما يأمركم به من أوامرنا الشريفة، ونواهينا المنيفة، وستجدون فيه من الخصال الحميدة، والوقوف في رفء خرق تلك البلاد السعيدة، ما تزدادون بسببه محبة فيه ويغبطكم فيه غيركم . ولقد عمل فيه أدب سيدنا قدسه الله، وجدد عليه وابل رحمته ، عملا ظهر عليه أثره في أحواله، وأقواله وأفعاله، أسعدكم الله به وأسعدكم به وجبر كسركم وصدعکم، ءامين والسلام. في 14 شوال 1278ه (1862) ومن يد القائد الإسباني تسلم أشعاش مفاتيح المدينة بتاريخ فاتح ذي القعدة عام 1278 ه – 30 ابريل 1862 – فأعلم السلطان بذلك، وأجابه بما يلي: الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على سيدنا محمد و آله ثم الطابع السلطاني الصغير ونقشه، محمد بن عبد الرحمن الله وليه.. خديمنا الارضى الحاج عبد القادر أشعاش وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته .. وبعد : فقد وصلنا كتابك، واستفدنا منه حلولكم بثغركم حرسه الله في مستهل ذي القعدة والتقائك بكبير جنس الصبنيول ودفعه لك مفاتيح البلاد، وعرفنا ما حصل من السرور بذلك للحاضر والباد، فذلك عندنا غاية المراد، نسأل الله تعلى أن يديمه عليها وعلى جميع المسلمين، ويوفقهم لما فيه صلاح الدنيا والدين، ءامين. وعرفنا ما أخبرت به من أن الكبير المذكور جد في حمل أثقاله من مرتيل، وحال بين ركوبه البحر هيجانه، وأنه عزم على التوجه برا لسبتة إن مضت ثلاثة أيام وبقي البحر على حاله والسلام . في 9 من ذي القعدة الحرام عام 1278 . الكتاب: سفراء تطوان على عهد الدولة العلوية للمؤلف: محمد الحبيب الخراز (بريس تطوان) يتبع...