نعم، لديه عقل، لكن لا أحد يمتلك خريطة لهذا العقل الشعبوي، لصاحبه المنفوخ زهوًا وعجرفة وغرورًا. لنترك التحليل النفسي لساكن البيت الأبيض للمختصين، ولنقم بفحص بعض قراراته الأخيرة ونتائجها وإمكانية تنزيلها على أرض الواقع، لفهم أسلوب ترامب في الحكم، وإدارة الملفات، ومدى تأثير ذلك على أقوى اقتصاد، وأكبر جيش، وأهم تكنولوجيا في العالم، ومدى انعكاسه على النظام الدولي واستقراره. 1. تهجير 15 مليون مهاجر غير نظامي من أمريكا كان هذا أحد أهم شعارات ترامب الانتخابية، الممزوجة بنزعة عنصرية، حيث نسب إلى جميع المهاجرين، دون تمييز، الجريمة والفوضى. والحقيقة أن ما يحرك هذا الشعور المعادي للأجانب هو اعتقاد اليمين المتطرف أن "الرجل الأبيض" سيصبح أقلية في بلاده من الآن وحتى عام 2050 نتيجة استقبال أعداد ضخمة من المهاجرين. منذ اليوم الثاني في البيت الأبيض، وقع ترامب أوامر تنفيذية بتشديد الرقابة على الحدود، واعتقال المهاجرين غير النظاميين، وإيداعهم في مراكز توقيف، وترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية. فماذا جرى؟ وجد القرار صعوبات قانونية، ولوجستية، واقتصادية أثناء التنفيذ، لأن هؤلاء المهاجرين لا يعيشون عالة على الأمريكيين، بل يشتغلون، وينتجون، ويدفعون الضرائب، ويمتلكون منازل. جل هولاء الموعودين بالترحيل يشكلون القوة الأولى العاملة في المجال الزراعي، وهو القطاع الذي يوفر الطعام لأمريكا وأجزاء كبيرة من العالم. هؤلاء المهاجرون لديهم أطفال أمريكيون (حصلوا على الجنسية وفق قانون الأرض)، وهؤلاء الأطفال يصل عددهم إلى أربعة ملايين. كيف ستفصل الأطفال عن آبائهم؟ من سيرعاهم؟ من سيأخذهم إلى المدارس؟ من سيوفر لهم ثلاث وجبات يومية وخدمات صحية؟ هذا سيكلف مليارات الدولارات، في وقت يتباهى فيه إيلون ماسك بتوفير مليار دولار يوميًا من الخزينة الأمريكية عبر تقليص الميزانية الفيدرالية، ووقف المساعدات والمنح للطلبة وغيرهم. المعارضة من الولاياتالأمريكية رفض 13 حاكم ولاية تنفيذ قرار ترامب بطرد المهاجرين بدون إقامة ، ورفعوا دعاوى قضائية أمام المحاكم لإبطاله، لأنه يكلفهم مليارات الدولارات من الخسائر كل يوم. في أمريكا، يعتبر مس الحكومة الفيدرالية بمداخيل الولايات الخمسين من المحرمات، مما يجعل التمرد على قرارات واشنطن أمرًا ممكنًا. كيف تراجع ترامب خطوة بخطوة؟ بعد هذه الورطة، بدأ ترامب يخفف من حدة موقفه: أولًا: قال "سنرحل فقط المهاجرين غير الشرعيين المتورطين في جرائم". ثم: خفض السقف ليشمل "من ارتكبوا جريمتين وأكثر (حالة العود)". وأخيرًا: أعلن أن الترحيل سيقتصر على "المهاجرين غير الشرعيين الذين لا يدفعون الضرائب ولا يمتلكون منازل في أمريكا حتى وان كانوا قد ارتكبوا جريمة في السابق". والآن، القضية أمام المحاكم، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام. 2. تيك توك: حرام... أم حلال؟ خلال حملته الانتخابية، تعهد ترامب بحظر تطبيق تيك توك، الذي يستخدمه 170 مليون أمريكي، معظمهم من الشباب، بحجة أن التطبيق صيني، وأن بيانات المستخدمين الأمريكيين تذهب كل مساء إلى Big Data الصينية، مما يهدد الأمن القومي الأمريكي. ولكن ترامب لم يذكر أن ملياري مستخدم حول العالم يرسل واتساب وفيسبوك بياناتهم إلى أمريكا، حيث يتم توظيفها استخباراتيًا وتجاريًا. انقلاب ترامب على موقفه في وسط الحملة الانتخابية، غيّر ترامب رأيه فجأة: قال في تجمع انتخابي إن ابنه طلب منه عدم حظر تيك توك، لأنه يحبه، ولأن ملايين الشباب يستخدمونه. اقترح الابن على والده استخدام تيك توك لحشد الأصوات الانتخابية للشباب. ترامب اقتنع وقال للشباب: "إذا صوتُّم لي، سأسمح ببقاء تيك توك". بعد فوزه، أوقف قرار الحظر، لكنه وجد حلاً آخر: اقترح على إيلون ماسك وأصدقائه المليارديرات شراء 50% من رأسمال تيك توك في أمريكا! أي أن الأمن القومي الأمريكي لم يعد مهمًا، طالما أن أحد أصدقائه يملك نصف أسهم التطبيق! 3. ترحيل مليوني فلسطيني إلى مصر والأردن قبل انتهاء المرحلة الأولى من هدنة غزة، خرج ترامب، من على متن الطائرة الرئاسية، ودون استشارة أحد، وقال: "سأطلب من السيسي والملك عبد الله استقبال مليوني فلسطيني من غزة حتى نطهّرها من البشر". خطورة هذا التصريح يشجع إسرائيل على استئناف الحرب، لأنه يعطي الضوء الأخضر للتطهير العرقي. يكشف أن هدف إسرائيل من الحرب – القضاء التام على حماس – لم يتحقق. ترامب عمليًا يطلب من العرب تحمُّل تكلفة إبادة جماعية جديدة إذا عادت اسرائيل للحرب لأنهم رفضوا استقبال الغزيين على ارضهم . استنتاجات من القرارات "الترامبية" الثلاثة 1. الشعبوية تلعب على المشاعر لكنها لا تملك حلولًا حقيقية تعرف الشعبوية المشاكل لكنها لا تعرف كيف تحلها، لأن وراء تبسيط القضايا الكبرى والملفات الشائكة تعقيدات كثيرة لا تُصارح الترامبية الجمهور بها. 2. الترامبية لا تؤمن بالقوانين أو الأعراف أو الأخلاق الديمقراطية عندها تعني فقط نتائج صندوق الاقتراع بدون إيمان بالقيم الموسسة النظام الديمقراطي التي لا يشكل الاقتراع إلا الجزء الأصغر داخلها ، أما المواطن، فهو مجرد ناخب بلا ذاكرة ولا منطق ولا عقل، بل مجرد كتلة من العواطف والخوف والتدين غير العقلاني. 3. ترامب لا يؤمن بالمؤسسات ولا بالتخطيط لا يرى تاجر العقارات في الإدارة والخبراء والدراسات والاستشارات أي قيمة، ويرى فيهم جزءًا من "الدولة العميقة التي يكرهها ولا يرى لها لزوما في إدارة الدولة ". 4/3/ ترامب لا يؤمن بشيء اسمه المؤسسات والإدارة والخبراء والملفات والدراسات والتخطيط الاستراتيجي والتزامات أمريكا مع الحلفاء والعالم... هو أصلاً جاء للانتقام من "الدولة العميقة" (الاستبلشمنت)، ولهذا يهددهم الآن بكشف أسرار اغتيال كينيدي مثلًا، ومارتن لوثر كينغ، ليس حبًا في السود أو الديمقراطيين، ولكن كراهيةً في ال FBI وال CIA والبنتاغون، الذي وضع على رأسه مذيعًا فاشلًا كان يعمل في قناة "فوكس نيوز" (Fox News)، وأصبح الآن يقود أقوى جيش في تاريخ البشرية، جيش يمتلك 750 قاعدة عسكرية خارج حدود بلاده، في أركان العالم الأربعة! إنها إهانة للجنرالات ووزارة الدفاع أكثر منها اقتناعًا بكفاءة الوزير...: Pete Hegseth. 4/ ترامب يستعمل سلاحين: في يده الأولى القوة، يهدد بها الخصوم والأصدقاء على السواء، ثم يخرج السلاح الثاني، وهو الصفقة، معتمدًا على حسّه التجاري التفاوضي الذي اكتسبهما في مجال بيع العقارات. هنا ينسى ترامب أن أمريكا تخرب النظام الذي أسسته بعد الحرب العالمية الثانية، والقائم على ثلاث ركائز: 1. القوةpower 2. المؤسسات (Institutions) 3. المعايير أو القوانين (Norms) سينهار هذا النظام عندما تنهار إحدى ركائزه. فعندما يطالب رئيس الولاياتالمتحدة بضم كندا، أو شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك، فهذا يعني أن الرئيس الأقوى في العالم يعطي الإشارة إلى العودة إلى القرن التاسع عشر، حين كان التوسع والاستعمار جزءًا من سياسات الدول، وكانت السيادة محل مقايضة وتساؤل وانتهاك. فكيف سيقنع ترامب بوتين بالخروج من أوكرانيا، وهو نفسه يطمع في جزيرة جليدية تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة المغرب؟ القوى الكبرى لا تسود فقط بالقوة والسيطرة وفرض الأمر الواقع على الآخرين، بل تحتاج الإمبراطوريات قبل غيرها أسلحة اخرى، واولها الديبلوماسية، والقوة الناعمة التي تعني في فهم جوزيف ناي منظر المفهوم الجديد للقوة الناعمة ( دفع الآخرين إلى خدمة مصالحك وكانّها مصالحهم دون ضغط ولا صدام ولا حرب ) هذه بعض مفاتيح لفهم أسلوب ترامب في الحكم والإدارة وما خفي اعظم...