في الظاهر وفي غطار علاقة غامضة تقوم على البيعة وعلى الحكم الذاتي، كان الحكم المحلي، الذي تجسده عائلة كبرى ذات سلطات وراثية، في مواجهة دائمة مع السلطة المركزية للسلطان. وفي الواقع، يستشف من وراء الاستمرار الظاهر لهذا التوازن الدقيق، رجحان مستمر في صالح المخزن حد فيما بعد مجال وطبيعة "الحكم الذاتي التطواني". ولم يكن لآل أشعاع الذين اضطلعوا أبا عن جد بأعباء وظيفة حاكم تطوان خلال سبعين عاما تقريبا، لا حنكة ولا حرية العمل التي ميزت العائلات الثلاث الكبرى التي أنشأت الحاضرة وسمتها بسمات شخصيتها القوية، ويتعلق الأمر بآل المنظري وآل النقسيس وآل الريفي، وكان آل أشعاش قد عينوا في مناصبهم مولاي سليمان (1822 – 1792) ومولاي عبد الرحمن (1832 – 1895) كانا قد قويا السلطة المركزية. وكان مؤسس "أسرة أشعاش الحاكمة"، وهو عبد الرحمن بن عبد الخالق أشعاش، وقد ظهر خلال فترة خلو العرش الدامية، في عهد مولاي يزيد (1790 – 1792) وكانت الأراضي التي استتب فيها أمر هذا السلطان هي بلاد قبائل جبالة التي قدمت له الدعم، ومن بين أولى الإجراءات التي اتخذها هذا الأخير بعيد البيعة، إطلاق الجند على حي يهود تطوان واستباحتهم، وشنت القبائل المجاورة خلال سنتين، مجموعة من الهجمات على الحاضرة، ولقد وطد عبد الرحمن أشعاع حكمه كمسؤول عن الدفاع عن المدينة ومعيد للنظام فيها، ويروي أنه كان وضيع الأصل وأنه كان حَمَّارا في بدايته على حد ما يزعمون، ولقد تمكن من فرض نفسه بفضل مزاياه كمحارب وحاكم، وعن شدته بصفة خاصة، يذكر التاريخ الأخباري أنه أمر بضرب أعناق ألفي أسير من جبالة وتعليق رؤوسهم على أسوار باب الجياف. وتقلبات حكم هذا القائد غير معروفة على وجه التمام ويبدو أن أيام حكمه المعارض والمنافس عليه لم تكن موصولة، فهو لم يفرض نفسه حقا إلا بين 1789 و1790 و1792، ثم عزل السلطان الجديد (مولاي سليمان) ولقد أعيد إلى منصبه في 1794 – 1795، ليعزل ثانية سنة 1795 ويسجن بعد نتف لحيته وأداء، حسب ما يروي، غرامة قدرها مائة ألف مثقال، وأعيد لأشعاش اعتباره بعد ذلك بحيث نجده في طنجة في يونيو 1803، حيث استقبل الرحال الاسباني باديا (Badia). وقد يكون أشعاش تقلب بعد ذلك في وظائف متعددة في الرباط، قبل أن يستعيد منصبه القديم كحاكم تطوان، وهذه هي الولاية الثالثة والأخيرة له، وسيعوض سنة 1808 بحاكم آخر هو العربي بن يوسف. ولقد اختلفت أهمية منصبه بحسب الظروف فهو تارة ينال حضوة سيده وتارة يفقدها، وامتدت سلطته في إحدى الفترات حتى طنجة لتشمل المدينة وناحيتها. وتنطوي تقلبات خدمة أشعاش التي قادته من ممارسة سلطة جهوية قوية إلى غياهب الحبس على عدة عبر، فتقلبات هذه الخدمة تتعارض مع السلطة شبه المستقلة التي مارستها العائلات الكبرى السائدة في الماضي، وكان على السلطان أن يحسب حسابه لهذه العائلات التي كانت تقف في وجهه أحيانا، فهو فرض نفسه على عائلة استمدت شرعيتها من إدارة السلطة المركزية، ولم يحل استرجاع المخزن للأموال من أشعاع، كلما عزل، دون تكوين هذا الأخير لثروة هائلة، وكانت عملية توراث منصب قائد المدينة، تتم بإحكام، وتبين استمرار العائلات الكبرى الحاكمة عبر الفتن التي أثارتها صراعات المطالبين بالعرش ومواجهات القبائل. ولقد ورث عبد الرحمن أشعاش في منصبه ابنه محمد الذي كان يشغل قبل ذلك منصب أمين السلطان في طنجة، وذلك سنة 1824، وقد يكون محمد أشعاش قد اشترى منصبه بخمسين ألف قرش (مئتان وسبعون ألف فرنك ذهبي)، ووجد هذا الأخير مدينة أصابها الضعف وقد زعزعتها بعض الشيء هزة مزدوجة، سياسية واجتماعية وعند نهاية ملك مولاي سليمان، بايع أهل تطوان أحد الطامعين في العرش، المولى سعيد، ولم يجعلوا حدا لعصيانهم إلا بعد معارك حامية وحصار تام، بحري وبري، وانتهت هذه المحن القاسية والطويلة بخضوع مذل. ولقد كانت فتنة 1821 – 1822 مليئة بالمعاني والدلالات فهي تدل على معاضة المدينة المعهودة وعلى نزوعها إلى "الاستقلال الذاتي" وتحفظها من السلطة المركزية ولم يكن تحالف قاس البالي وتطوان في العصيان عرضيا، فهذا التحالف يبين حدود تأثير السلطة المركزية وفاعليتها، وكان على تطوان أن تخضع وتطيع ولقد عانت المدينة من الفتنة المذكورة بسبب المعارك، وتعطل تجارتها تعطلا شبه تام خلال ثمانية عشر شهرا، وهجرة بعض أعيانها الذين استهواهم جبل طارق أو طنجة. ومما زاد في شدة البلاء ما أصاب المدينة قبل أن تتمكن من إصلاح أحوالها، من فتك الوباء ومجاعة 1825 وكان الطاعون قد اجتاح المدينة وناحيتها في 1798 – 1799، و1809 – 1810، ومن جديد 1818 – 1819، ولقد زعزع هذا الاجتياح الرابع، في ظرف ربع قرن، أسس تنظيم المدينة الاجتماعي، وأدى إلى هرب البعض وكذا إلى إثراء أكثر أهلها دهاء إثراء مضاربيا، واسترجع أشعاش نفوذه على المدينة وحكمها حكما قائما على السلطة والصرامة والأبهة إلى أن توفي سنة 1845 وقاد ابنه الحاج عبد القادر بن محمد أشعاش سفارة متألقة إلى باريز في 1845 – 1846، وعزل سنة 1851 ثم سجين في فاس وكالعادة صودرت أمواله أو الظاهر منها على الأقل، وظلت بملكه ثروة هامة لما نصب حاكما على تطوان في 1862 ليستبدل من جديد سنة 1864. ومنذ تلك الفترة، بدأ عهد جديد من تاريخ تطوان، عهد انحطاط المدينة وفقدانها لمميزاتها، وهو الانحطاط الذي يرمز إليه الاحتلال الإسباني للمدينة ما بين 1860 و 1862، حيث زادت أحوال المدينة تدهورا ووضع بذلك حد للحلم الأندلسي الذي رعته الحاضرة خلال ما يقرب من أربعة قرون. العنوان: تطوان الحاضرة الأندلسية المغربية المؤلفين: جون لوي مييج/امحمد بن عبود/نادية الرزيني منشورات جمعية تطاون أسمير (بريس تطوان) يتبع...