"ماذا تبقى إذن من اليوطوبيا؟ فالإسلاميون لا يتوفرون على مشروع اجتماعي واقتصادي.في الواقع، ما إن تصل الحركة الإسلامية إلى السلطة حتى تصبح محافظة وتتقاطع هنا مع الأصولية الجديدة في النقطة التالية: إذ تصبح مسألة الأخلاق مسألة مركزية. هكذا فالحركة الإسلامية تتحدد إذن بدقة كرد فعل مضاد للإمبريالية الثقافية الغربية. ولكنها لا تحمل أي نموذج ثقافي غير النموذج الارتكاسي، لهذا فهي تنتهي إلى الخلط بين الثقافة وبين شرطة الأخلاق." اوليفيه روا لقد أساء أدعياء الإسلام السياسي مرتين في فهم وتفسير طبيعة الهزائم الحضارية المتوالية التي منيت بها أمتنا الإسلامية، وذهب ريحها، وأصبحت أمة مغبونة ومغلوبة على أمرها، رهينة للأجنبي يفعل بها ما يشاء دون أن تقوى على فعل أي شيء. مرة عندما ذهب أدعياء الإسلام السياسي إلى أن السبب يكمن في ابتعاد الناس عن هدي الإسلام، وغياب الاحتكام إلى الشريعة التي لا خلاص للإنسان إن هو أراد النجاة إلا بتطبيقها ولو بحد السيف" إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن" أي بمعنى صلاح الناس في دينهم ودنياهم لن يتحقق إلا بقطع أيادي السارقين، ورجم الزناة وهدر دماء المرتدين، ودفع أهل الذمة للخراج إن هم أرادوا العيش في بلاد المسلمين وهم صاغرون، متناسين أن صلاح الدين والدنيا لن يتم إلا بإقامة العدل وتحقيق المساواة ودحر الاستبداد" إن الله ينصر الدولة الكافرة إن كانت عادلة ولا ينصر الدولة المؤمنة إن كانت ظالمة" ومرة ثانية عندما لم يجد أدعياء الإسلام السياسي بدا بعدما لفظهم التاريخ وتجاوزتهم الأمم الراقية من التشبث بتلابيب الماضي، ونفث الأوهام في عقول الناس المساكين عن يوتوبياهم البائدة، أي بمعنى إمكانية استعادة الخلافة، وأن ذلك لن يتحقق إلا باتباعهم، حيث لا طريق سديد سوى طريقهم و لا منهاج قويم سوى منهاجهم وما عدى ذلك فهو باطل، وهم إذ يسوقون ليوتوبياهم البائدة ويرسمون في مخيلة الناس صورها الوردية ويدغدغون مشاعرهم المرهفة بأنه بمجرد استعادة ذلك العصر المشرق ستتحقق العدالة الإلهية على الأرض، وسينعم الناس بالحرية والمساواة، وسيستنشقون عبيرها بعد أن رزحوا لأمد طويل تحت نير الاستعباد وسوط الاضطهاد، سيفتح الناس أعينهم وكل شيء قد تغير نحو الأفضل. الشرطة الأخلاقية تجوب الشوارع جيئة وذهابا تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر رافعة شعار تطبيق الشريعة ومن سولت له نفسه المروق عن الإسلام يدمغ بالكفر والردة ، ويقام في حقه الحدود، متناسين قوله تعالى" ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم نما كنتم تختلفون" المائدة 48. هذا وتشكل قضية الأخلاق بالنسبة لهؤلاء الأدعياء اللبنة الأساسية في عملية التنشئة الاجتماعية، وحجر الزاوية في استقطاب المريدين وتكوينهم، ويتأسس هذا الخطاب الأخلاقي البرغماتي على سلسلة دروس وعظية وبرامج تربوية صارمة ومضبوطة. برامج تلقينية أكثر منها ورشات لاستعمال العقل النقدي و النبش في اللامفكر فيه لإعادة استكشاف الحقيقة الغائبة. برامج تكرس في النفوس الطاعة العمياء والخنوع والاستسلام. برامج تدعي لنفسها الكمال والعصمة من الخطأ، وترى أن لا خلاص للإنسان من حيرته ولا للعالم من فوضاه إلا بتطبيقها تطبيقا حرفيا وإلا حاقت بالإنسان لعنة الله ونقمته إذ بتطبيقها سيحق الحق ويزهق الباطل، وهم أي أدعياء الإسلام السياسي إذ يستغلون فورة الشباب الحائر ونقمته على واقعه الطبقي البئيس الذي كرسته السياسات اللاشعبية و اللاديمقرطية، ورغبته الجامحة لتغيير حاله ولو بالقوة فإنهم لا يتوانوا في رسم صور مظلمة وشيطانية عن جاهلية العالم و انحرافه، عن انتحار القيم ومذبح الفضيلة، وأنه لا مفر للشباب الراغب في الانعتاق من سجن هذه الدنيا الكافرة وهذا العالم الجاهل إلا بالتشبث بالقيم الأصيلة و الحقة. وهنا نطرح سؤالا جوهريا أية قيم يدعو لها هؤلاء الأدعياء الوصوليون علما بأن مسألة القيم حظيت باهتمام كافة المجتمعات ودون استثناء على امتداد التاريخ باعتبارها ميثاقا تواضع جميع أفراد المجتمع الاحتكام إليه مادام يشكل لحمة المجتمع وركنا من أركان استقراره وديمومته، و لهذا لا نكاد نجد مجتمعا قائما بذاته دون قيم سواء كانت قيما أخلاقية أو دينية أو إنسانية تعكس سلوكاته وأفعاله وتحدد أنماط تفكيره لنفسه ورأيته للأخر، هل تشيع هذه القيم التسامح والخير والعدل أم قيم تمجد المواجهة والنفير والجهاد!؟. وإذا ما قمنا باستعراض أدبيات هذا الخطاب الاسلاموي فسنجد أن لا لغة تسيطر على هذا الخطاب غير لغة الجهاد، وأن لا صور تروق لمريدي هذا الخطاب غير الغزوات المباركة فالجهاد هو سنام الدين، به ينصر الدين وتقوى شوكة المؤمنين و به يقوم العدل فيسطع نبراس الحرية والمساواة، و به ينجدل الظلم فيرد الكافرون على أعقابهم خاسئين مدحورين، مذمومين، ولا خيار لهم إلا أن يدخلوا في الدين ، أو يعطوا الجزية إن هم أرادوا البقاء والعيش في ديار المسلمين، متناسين قوله تعالى" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم من ضل سبيله وهو أعلم بالمهتدين" النحل 125. فالإسلام دين الرحمة ومكارم الأخلاق وحاشى أن يكون مصدرا للعنف الأعمى وسفك الدماء وترويع الآمنين، لكن تصرفات الأصوليين ومحاولة الاستفراد بتفسير وتأويل الدين حسب هواهم ونواياهم المبيتة جعل الدين في موضع شبهة هو براء منها. [email protected]