ألوان زاهية، معالم عمارة مغربية 'عربية'، سحابٌ ودخان واقتباسات بالفرنسية والعربية... عالَمٌ جميل وهادئٌ مُهدّئ توقّعه ريشة الكاتب والناقد الطاهر بنجلون بمتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بمدينة الرباط، بعد محطات مغربية بمراكش والبيضاء وطنجة، وغير مغربية بمعهد العالم العربي بباريس، ومعارض بالإمارات وفرنسا وإيطاليا. بالعاصمة الرباط، يكشف هذا المعرض الجديد جانبا من الشخصية الفنية للكاتب المغربي الفرنسي الطاهر بنجلون، الذي "قبل أن يصوغ الكلمات، عبّر بالألوان"، طفلا، ولو عُرف أستاذ مادة الفلسفة في مرحلة لاحقة، أواسطَ شبابه، برواياته وتعبيراته الأدبية الأخرى، التي قادته للتتويج بجائزة "غونكور" ذات الصيت البارز في مجال الأدب الناطق باللغة الفرنسية، وليصير أحد "السلط الأدبية" بفرنسا ومن ثمّة المغرب في شقّه الفرنكفوني خاصّة. رسمُ الطاهر بنجلون وصباغته جرعة من الراحة البصرية، ذات الألوان المتناسقة، والأشكال غير المتنافرة، التي ينتمي كثير منها إلى المجال الذي ترعرع فيه، وجودِل حول طريقة نقله أدبيا للغةٍ "أخرى": فاس، أو مغرب المدن العتيقة، أو "المدن الإسلامية" التي كثيرا ما تشبه بعضها خاصة في الجانب العمراني؛ قربٌ وألفة بين المساكن، وتناسقٌ في غير تنافر في المعمار، ولا تطاولٍ يعيب البُنيان وما يوحي به من تمايزات بين الإنسان. هذه اللوحات قد يرى فيها النّاظر صِباغة مهادِنة؛ لا تستفزّ، لا ترى أن دورها الاستثارة، أو دفع زائرها إلى الوقوف المشدوهِ؛ هي سطحٌ جميل، مع اقتباسات جميلةٍ، كلاهما يسير الهضم: ف"وحدها أعين الحب لا تشيخ أبدا"، على سبيل المثال. في لوحات بنجلون تتجاور الأشكال الهندسية، وكأنها مواطنة قرية رسومٍ للأطفال، تتعدّد ألوانها دون تنافر، تتقارب دون شحناء، تطأ الخضرة، وتعلوها الزرقة، ومجالها أبيض سلامٍ ساكن؛ عالمٌ لا بغضاء فيه، ولا نشراتُ أخبار تحتاج التحليل والتعليق واستحضار المرادفات، وتدرّجات الموقف، ونصفِه، وربعه. لا يستطيع الناظر نفي سكينة هذا العالم. سكينةٌ تطبع المكان في غير هيمنة، يعضّد أثرها أزرقُ قاعة عرض متحف محمد السادس التي استقبلت قبله معرضا ل"فطريّة" فنّانة "الأهالي" الشعيبية طلال في تقاطعها مع تعبيرات "مجموعة كوبرا"، وقبلهما كانت القاعة ساحة تعبير بالرسم والشعر وتذكّر التعبير السياسي والموقف، للأديب المغربي المتوَّج بال"غونكور" أيضا: عبد اللطيف اللعبي. في لوحات بنجلون أشكال من يوميّ المغاربة، أو أشكال كانت من يوميّهم ولا تزال حاضرة اليوم: القبّة الخضراء، سقف القرميد، وتقويس الباب، والمنارة، والمساكن التي تشدّ بعضها دون نافذة تفضح سِترها. بينما في لوحتين أخريين، تبدو المباني الشاهقة أقلّ تنوّعا، وأقلّ غنى، أكثر دكانة، وأقلّ متعة في النظر. ثمار ريشة ومسطرة الطاهر بنجلون، في مُجملها، لا تخلو من خضرة، ولو خاصمَها الوجه الحسن، فتحضر النباتات، والأزهار، والأشجار، وزرقة السماء والماء، والحياة التي مركزُها دفء الشمس. لوحات الطاهر بنجلون لا يغيب عنها الرمز، ففيها الباب: معبر الدخول والخروج، الذي لا يأسر العين ولو في لوحة جميلة الألوان والأشكال. وفيها السُّلَّم الذي يتطلّع إلى عَنان السماء، إلى أمل عالم آخر، عالم أفضل، عالم ليس هو العالم الذي يعرفه الكاتب، والناظر، وتسعى هذه اللوحات إلى أن تكون مسكّنا، مؤقتّا، لآلامه ومثالبه.