تتمتع الحرفيات الصحراويات بحضور قوي ومتميّز داخل صفحات الإبداع الجلدي داخل المجتمع الحساني، فعلى مر القرون أبدعت أناملهن منتجات حرفية وتحف فنية غاية في الجمال والروعة. وبشكل استثنائي، لا زالت تعبر منتجاتهن عن عمق ثقافة المغرب الصحراوي التي أضحى صوتها خافتا يعبر عن ثقافة الأقليات التي في طور الهلاك. حضارة الجلد يعتبر الجلد أهم مادة أولية في عالم الحرف اليدوية الحسانية إذ يدخل في صناعة الكثير من الأشياء، نظرا لوفرته وطبيعته ومكانته؛ فمن ناحية أولى يرتبط الجلد بحضارة الرعي التي كان يتأسس عليها اقتصاد الصحراء، ومن ناحية ثانية يتمتع بخصائص رشحته لأن يكون من بين أكثر المواد ملاءمة للبيئة الصحراوية، أما من ناحية ثالثة تعتبر الجلود مادة حية ومحببة ليس فقط بالنسبة للصحراويين وإنما بالنسبة لكثير من شعوب العالم ماضيا وحاضرا، بل ومنذ أن وجدت البشرية؛ فإنسان ما قبل التاريخ استعمل الجلد في ملبسه ومسكنه، كما شكل في مدينتي أثينا وروما الأسطوريتين مادة حربية صنعت منها الدروع وأدخلت في صناعة العربات التي تجرها الخيول، إلا أن العصر الذهبي لهذه المادة، إن صح هذا التوصيف، كان في القرون الوسطى. يخضع تقسيم العمل في مجال الحرف اليدوية الصحراوية لمعيار الجنس الذي يخضع بدوره لطبيعة المادة المستعملة في العمل، فالعمل على المعدن والخشب هو نشاط ذكوري في حين أن العمل على الجلد يعتبر نشاطا أنثويا بامتياز. وهذا دليل على أن النساء هن الأكثر مهارة وإبداعا في الأعمال التي تتطلب الدقة والتركيز، إذ أن التحكم بالمواد اللينة يكون أكثر صعوبة من التحكم بالمواد الصلبة، فطريقة شدها تتطلب الرفق لأنها قد تتمزق بشكل أسهل من المواد الأكثر صلابة. تقنيات التزيين: إن أدوات عمل الحرفيات الصحراويات تسبب نوعا من التشابك والتداخل في فن التزيين، فغالبية المنتوجات الجلدية تكون مليئة بالنقاط والخطوط والتراكيب المتناغمة حيث لا نجد مكانا للمساحات الفارغة، وهذا ما يسميه الفنان التشكيلي ابراهيم الحيسن بالخوف أو عشق الفراغ، حيث يتساءل: "هل يمكن إسناد هذا الخوف، أو العشق (افتراضا) إلى مقولة أرسطو الفيزيائية القائلة بعدم وجود الفراغ في الطبيعة؟ أم نربطه بتفسيرات بعض الباحثين والمتخصصين في علم جمال الفن الإسلامي، أبرزهم "ألكسندر بابا دوبولو"A. Papadopoulo الذي يرى بأن الكثافة الزخرفية الدقيقة الموجودة في الفنون الإسلامية تعود بالأساس إلى وجود هذا النوع من الخوف..الخوف من المساحات الفارغة التي يسميها بمجال الراحة والهدوء". إن الاسم العام الذي تطلقه الحرفيات على عمليات تزيين الجلد هو "الطَّرْحْ"، أما كل تقنية من تقنيات التزيين فتعرف باسم خاص يؤشر على العملية التي تقوم بها الحرفية. تنفذ الحرفية عدة تقنيات باستعمالها للسكين "لْمُوسْ" من أهمها تقنية الكشط وتكون من الجهة الداخلية للجلد، وتقنية "أَجْرِيدْ" من خلال استعمال شفرة السكين بشكل عمودي على الجلد، تم "لمسيد" وتتم باستعمال شفرة السكين بشكل مائل على الجلد حيث تشكل زاوية حادة، هذا فضلا عن تقنية "تَشْفَارْ" وخلالها تكون شفرة السكين مائلة على الجلد مشكلة زاوية قياسها أربعون درجة. وتنهج الحرفيات خلال عمليات تلوين الجلود منهجية عامة تتمثل أولا في تمديد الصباغة على كل مساحة الجلد المقطع على حسب الشكل المرغوب، وذلك باستعمال خصلة قماشية أو جلدية أو بكل بساطة باستعمال كف اليد، وذلك خاصة عند صباغة المساحات الواسعة. وهنا ينبغي التنبيه إلى أن اللون المهيمن على خلفية المنتوجات الجلدية الصحراوية هو اللون الأحمر والذي قد يكون فاتحا أو غامقا، أما في موريتانيا فتكون خلفية المنتجات الجلدية صفراء عادة، وهذا تقريبا هو الفرق الوحيد بين فنون التزيين الصحراوية ونظيرتها الموريتانية بحسب عدد من المستجوبات. وفي مجال التزيين باستعمال الخطوط، تستعمل الحرفية أداة "الخطاطة" وتقوم بصباغة المساحات الضيقة التي تفصل بين الخطوط باستعمال الفرشاة. ثم تمر إلى مرحلة التزيين باستعمال الرموز والأشكال، حيث تقوم برسم الديكور باستعمال أداة الرسم ثم تقوم بصباغته وإعادة رسم حوافه بواسطة الحبر، وفي ذات السياق تقول إحدى الحرفيات: "تكون الخطوط الخاصة بالتزيين مرسومة بواسطة فرشاة ويتم إعادة رسمها بشكل دقيق بواسطة الحبر الأسود. وفي الأخير يتم نقش الأماكن الفارغة على شكل خطوط بيضاء بواسطة سكين". كما تلجأ "الحرفيات" إلى استخدام المرسامات الجلدية أو المصنوعة من الورق المقوى للنسخ السريع لبعض الرموز أو الأشكال على الأجزاء التي يرغبن في تزيينها، والتي قد تكون على شكل نجمة أو صدفة أو على شكل حذوة حصان بكل بساطة. وعندما تكون التزيينات التي على شكل خطوط منفذة "باستعمال رأس سكين، أو بواسطة مثقاب أو أحيانا بواسطة شفرة حلاقة تسمى [هذه العملية] "أرْدَمْ"، وإذا كانت منفذة بواسطة ريشة فتسمى "راَفِي"، وهي تقنية تعتمد على رسم خطوط أو أشكال هندسية كالمستطيل، المربع، المثلث، المعين، وغيرها. كما تطلق تسمية "أرْدَمْ" على تقنيات التزيين بواسطة أهداب جلدية رقيقة أو شرائط عريضة على حواف المنتوجات. ومن بين التقنيات الأخرى المستعملة في هذا المجال نجد تقنية "رْبَاطْ" أو "التَّجْلِيدْ" التي تعتمد على خياطة جوانب القطع الجلدية بالإضافة إلى تقنية الزركشة. وإذا كانت الحرفيات ينفذن تقنية "الرافي" باستعمال الريشة Plumeمن أجل رسم الخطوط والأشكال، فإن تلوين هذه الأخيرة يتم بواسطة فرشاة Pinceauحيث تسمى هذه التقنية ب"اصْبَاغَة". أما فيما يخص تقنية طبع الجلد gaufrage فتتم باستخدام أدوات حادة في الغالب أو يتم اللجوء إلى طوابع Tempo للضغط على الجلد، وتسمى هذه التقنية ب" أَرْشَمْ" Estampage. إن تقنيات تزيين الجلد عند أهل الصحراء جد متنوعة ونجدها إلى حد ما متأثرة بالتقنيات الأوروبية، ومتشابهة مع فنون التزيين الطوارقية خاصة في مناطق تمبكتو، كوندام، كورما، كاروس، أدرار إيفوغاس، أي في مناطق التماس بين الطوارق والحسانيين تحديدا. وعلى الرغم من أن هناك بعض الاختلافات المحلية بين أساليب التزيين المتبعة عند كل من حرفيات المجتمع الصحراوي والمجتمع الطوارقي، إلا أن تقنيات التزيين والتلوين بالإضافة إلى الأدوات المستعملة هي نفسها تقريبا، وهو الشيء الذي دفع الأنثروبولوجي السويسري"جون غابوس" إلى القول بأن الفن الطوارقي والحساني يشكلان وحدة، فبحسبه وعندما ننطلق من تحليل عناصر التزيين والتقنيات المستعملة في العالم الحساني والطوارقي، نكتشف أن هناك تشابهات كثيرة بين الفن العربي الحساني والفن الأمازيغي الطوارقي، فكلاهما ينتميان إلى الأسلوب الهندسي المغاربي. لوحات تشكيلية تتجاوز مفهوم الإطار: بدل التصوير أو التجسيد توظف الصانعات التقليديات في فنونهن التزيينية الزخارف والتعابير اللونية المسطحة، بالإضافة إلى عناصر ومفردات هندسية صرفة، وهذا إلى جانب استخدام التوريق والتزهير. إنه فن تجردي متطور يتضمن أساليب جمالية تتكرر وتتعاقب وتتعاكس، وترتكز على ما يسمى بمجموعات الاعتدال Groupes de symétrie بتعبير سمير التركي. وهو من بين الوسائل التي تساعد في تحقق التوازن في العمل التشكيلي. عادة ما تبدأ الحرفية بوضع شكل هندسي في المركز: قد يكون صليبا، نجمة، مربعا، معينا، مثلثا..إلخ، وهذا الرمز المركزي هو الذي سيكون محاطا بالعديد من الأشكال التزيينية الأخرى الأصغر حجما والتي تختلف حسب أسلوب Style كل حرفية وطبيعة المنتوج الجلدي، وهي تزيينات تكون ذات ألوان زاهية في الغالب. وعلى ذكر الألوان نجد حضور مقامين لونيين وهما: المقام الساخن وهو الطاغي والمقام البارد( الأخضر، الأصفر المائل إلى الأخضر حتى يدخل في التناسقات اللونية، والنيلي) ويعد الأقل حضورا. ينفذ المقام اللوني الأول باستعمال ثلاث طبقات لونية: البعد الأول يكون أصفرَ، والثاني برتقاليا وأحمر، والثالث يكون أسودَ، بالإضافة إلى القليل من الأخضر الذي يضفي على هذه الألوان نوعا من التوازن، ويعطي فسحة بصرية مريحة للعين. فالأخضر في الفن التشكيلي هو لون التوازن، صلة الوصل والتواصل بين الألوان الباردة والألوان الساخنة أي بين الأرض والسماء. إن هذا المقام اللوني مستمد من النار ويصنفه المتخصصون في الفن التشكيلي ضمن مقامات الألوان الساخنة أو النارية، المستمدة من الشمس التي تعتبر أحد رموز الجمال في العديد من حضارات العالم، وهي ألوان حارّة منشّطة ومنبّهة، تلعب دورا كبيرا في الإحساس بالعمق. ومن خلال النظر إلى الكيفية التي وضعت بها الألوان نلاحظ أن الحرفية متمكنة جدا من آليات استخدام الريشة، هذا التمكن يتجلى في دقة الخطوط المرسومة والأشكال الهندسية الموضوعة، فريشتها الصلبة المصنوعة من الألياف النباتية تستعملها في صباغة الخطوط الغليظة ورسم المساحات، أما المصنوعة من الشعر تكون ناعمة وتستعملها لتلوين الخطوط الرقيقة وبصفة عامة للمسائل الدقيقة والرتوشات، والغريب أن جميع الفنانين التشكيليين يحتاجون للنوعين معا لأنه تقليد في الفن التشكيلي، فمن أين استمدت الحرفيات هذه التقنيات سؤال يحتاج إلى إجابة. إذن نحن أمام لوحات تشكيلية وليس مجرد منتجات حرفية، وقد يتساءل المرء: كيف تسنى للحرفيات في هذه الصحراء التي كنا نعتقد بأنها معزولة أن يتقن تقنيات استعمال الريشة والفرشاة؟ ويخترن المقامات اللونية بعناية وتناسق لا يؤدي إلى تنافر أو إلى نشاز؟ وهل نحن أمام لوحات تشكيلية تتجاوز مفهوم الإطار؟. حقيبة تاسوفرة يقول أحد الفنانين التشكيليين الذين طلبنا منه تقديم رأيه حول بعض المنتجات الجلدية الصحراوية :"إن التقنيات المستعملة في هذه المنتوجات تقنيات محترفة وهي نفس المنهجية المستعملة في المدن العتيقة كمراكش وفاس حيث يبدأون بوضع رمز مركزي بعد ذلك يملؤون المساحات بالتدريج(…) هذا الفن الذي أشاهده في هذه الصور يمثل موروثا ثقافيا غنيا، ويتجلى ذلك في دقة الاشكال والألوان الموظفة على هاته المنتوجات الجلدية(…) في الواقع إنه ليس بفن بدائي وإنما هو فن متطور، فإذا لا حظنا المستوى الجمالي بصفة عامة فمن الصعب على الإنسان أن يبدع مثل هذه الاشكال فهو محصلة قرون من الإبداع، والدليل القاطع على ذلك أن الفنان المغربي فريد بلكاهيا مدير مدرسة الفنون الجميلة في الدارالبيضاء الذي له شهرة عالمية قد استمد مقاماته التشكيلية من هاته الألوان التي نراها في هاته الوسائد. ثم إذا لاحظتم معي ستجدون أن هناك تناسقا لونيا بين الأصفر فوقه الأحمر فوقه الأسود، وهي تقنية يشتغل بها أشهر الفنانين التشكيليين بحيث ننتقل من لون إلى لون بنقلة مندمجة. فعلى سبيل المثال الفنان الانطباعي الفرنسي "ديغا" Déga الذي وصل إلى مستوى متقدم في الفن التشكيلي استعمل نفس التقنية لون فوق لون في لوحاته الأخيرة المعروفة براقصات البالي. هذا دليل على أن الحرفيات الصحراويات وصلن إلى مستوى راق في الحس الجمالي (الفنون التشيكلية). وهو عمل لأناس متمكنين ويعبر عن حسهم الجمالي الرفيع الذي يتجلى كذلك في دقة التدرج الضوئي للألوان… وهذه مناسبة جميلة ستدفعني إلى التفكير بجدية لزيارة الصحراء للتعرف عن كتب على هذا الفن الذي فاجأني في الحقيقة". بوجدور / صلاح الدين أركيبي