ماذا كان الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله سيقول في دروسه حول الحكم العطائية بمساجد دمشق لو لم توافه المنية قبل الثورة السورية الأخيرة وما كشفت عنه من أهوال وجرائم الرئيس الهارب في حق الشعب السوري؟ كان الآلاف يواظبون على حضور دروس هذا العالم الجليل قبل أن تغتاله أيدي النظام الغادرة بعدما تسرب موقفه المناوئ للسلطة حسب رواية المعارضة السورية آنذاك. هل كان سيتشبث بآرائه واجتهاداته حول السياسة الشرعية وفقه الإمارة كما جاء في كتب الأولين؟ سنحاول في هذه السطور تسليط الضوء على بعض الجوانب الخفية في هذه الإشكالية التي عمرت طويلا في العقل العربي الإسلامي علنا نقنع الفقهاء والأصوليين بإعادة النظر في هذا الموضوع بالغ الأهمية. لن نخوض في أصول الفقه أو القواعد الفقهية احتراما لتخصصنا وتخصصات الآخرين. لكننا وبالمقابل سنعرض ببساطة لبعض التناقضات التي يجب الإنتباه إليها انطلاقا من الخلاصات التي انتهى إليها البروفيسور الفلسطيني وائل حلاق بخصوص التاريخ السياسي الماضي والحاضر للإسلام والمسلمين في كتابه الأكاديمي المهم ′′الدولة المستحيلة′′ ممزوجة بإشارات سياسية هنا وهناك من الحكم العطائية على طريقة الإمام البوطي الذي تميز في شرحها وذلك تجنبا لإثقال المقال بالتحديدات النظرية. لنبدأ بالحكمة الأولى..يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى.. ′′ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه′′ وبما أن الثورات ضد الظلم والحكام الفاسدين المستبدين غالبا ما تحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه من ′′الإستقرار الظاهري′′ و′′الأمن الباطني′′، فالثوار بهذا المعنى ومن على شاكلتهم ممن يصبون نحو العدالة والكرامة والحرية لم يتركوا من الجهل شيئا! لماذا؟ لأنهم وكما يقول فقهاء السلاطين يفتحون أبواب الفتن على مصراعيها. هكذا! بمعنى آخر، فالثورة ضد الظلم فتنة عظيمة لكن الظلم في حد ذاته ليس أبدا من الفتن! اعتقال شعب بأكمله وتعذيبه في أقبية السجون السرية وتشريده لا إشكال فيه لأن من اشتدت وطأته وجبت طاعته كما يقول بذلك الفقهاء! لا حرج إذن وباسم الفقه أن يتم تجريم الضحية وتبرئة الجلاد درءا للفتن ما ظهر منها وما بطن..فقه عنوانه العريض لا للضحية ونعم للجلاد..فقه بعين واحدة لا ترى سوى المظلوم وضرورة صبر المظلوم ودعوة المظلوم التي ليس بينها وبين الله حجاب وما يجب فعله على المظلوم وما يحرم فعله على المظلوم وشمائل المظلوم وآداب المظلوم وأجر المظلوم عن الصبر على الظلم في الدنيا وفي الآخرة وأن الله مع الصابرين إلى ما هنالك من تبريرات ليبقى المظلوم في دائرة الظلم ويستمر الظالم على ظلمه. والمحصلة النهائية فقه وفقهاء مع الظلمة لا مع المظلومين. فقه يتجول بحرية تامة..يدخل ويخرج كما يحلو له في شعاب المظلومين القاحلة لكنه لا يجرؤ أبدا على الإقتراب من قلاع الظلم العاتية. لنمر الآن إلى الحكمة الثانية..يقول ابن عطاء الله.. ′′كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان′′ لا ينافس الله عز وجل في أوليته وآخريته إلا الحكام العرب المسلمون! يكفي أن تضع مكان اسم الجلالة اسم علم لأي من هذه الرؤوس التي تتحمل نصب ووصب التيجان الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة والجواهر، لتكتشف الحقيقة التالية : – هذه العائلات الحاكمة خارج الزمن! كل الزمن..الزمن الفيزيائي..الزمن البيولوجي..الزمن النفسي..الزمن الجيولوجي! تمر الأيام والليالي..الشهور والدهور..يجيء قرن ويذهب آخر..يتغير كل شيء..ولا تتغير هذه العروش! حتى ملك الموت لا يملك من أمرها شيئا! إنهم باقون ما بقيت السماوات والأرض وما بقي الليل والنهار ليحكموا الجميع رغما عن أنف الجميع بما فيهم الفقهاء الذين يفقهون هذه المعادلة جيدا ويتفيقهون على من لا يفقهها من المحكومين بفقه محكم وحكيم..ومحكوم! هل من المنطق أن يشرع الفقه لخلود البشر؟ أو للبشر الخالدين؟ أو المخلدين؟ تقول الحكمة الثالثة.. ′′ما من نفس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه′′ هنا الضمير عائد إلى الله جل جلاله. وعلى أرض الواقع فالضمير يعود إلى المتسلطين على رقاب المسلمين..يحصون عليهم حركاتهم وسكناتهم..عباراتهم وخطراتهم…ليلا يشكلوا خطرا على عروشهم..يتجسسون عليهم بالليل وبالنهار..في الحل والترحال..في اليقظة والمنام..في الفراغ والإشتغال..في السجون وفي الديار..في كل مكان وزمان. شغلهم الشاغل ألا يشتغل المشتغلون بهم بل بغيرهم. وإذا حدث وأن اشتغل الواحد بشغلهم دون شغله آنذاك يمضون فيه أقدارهم القذرة من سجن وتعذيب وتشريد..وقتل وتنكيل… والله عز وجل فوق سبع سماوات حيي ستار ينهى عن التلصص والتجسس على عورات العباد وأسرارهم ليتحمل الإنسان مسؤوليته الكاملة في السر والعلن..في الخفاء والجلاء..في الظاهر والباطن..لا رقيب له إلا نفسه ومولاه المطلع عليه لا تخفى عليه خافية حفاظا على خصوصيته وعلى نوازع الخير والشر بين جوانحه ليختار بحرية تامة ما شاء من خير أو شر. والسؤال هو كالتالي.. – في غياب الحرية والمسؤولية هل ما زال من معنى للشريعة الإسلامية؟ تقول الحكمة الرابعة.. ′′من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان قيد إليه بسلاسل الإمتحان′′ ومن لم يقبل على الحاكم فلان أو فرتلان بإشارات البنان سيق إليه بسلاسل الإمتحان. وأي امتحان؟ أي امتحان؟ وأي امتحان؟ في ظل توحيد الدكتاتورية، ماذا بقي من توحيد الربوبية؟ وماذا ترك أرباب الأرض لرب السماء؟ من صلاحيات لتربية العباد؟ ′′فقه الإستعباد′′ يدعو الناس إلى الإقبال على الأسياد. وفقه العبودية يدعو الناس إلى الإقبال على رب العباد. الحكمة الأخيرة.. ′′من أشرقت بدايته أشرقت نهايته′′ كانت نهاية الرئيس السوري مظلمة رغم الدعوات من على منابر الجمع وعقب الصلوات بالمساجد. ورغم ابتسامته المشرقة في كل ركن وجدار من المدن والقرى السورية. مع إشراقة شمس كل يوم جديد، كانت صور الزعيم وأب الزعيم تشرق في مكان جديد. الشروق والإشراق ولا شيء سوى الإشراقة والشروق..مع فقه مشرق وفقهاء مشرقين بعمائم شرقية يشرقون مع الزعيم في كل إشراقاته ويضعون القواعد الفقهية للشرق والشروق والإشراق والغد المشرق والمشرقة وجوههم بأنوار المشارق…إلى أن أظلمت البلاد والعباد! فهل كان ابن عطاء الله مخطئا؟ أم أن الفقهاء المشرقين اختلط عليهم الشروق والغروب ولم يعد باستطاعتهم التمييز بين أنوار الشرق والغرب؟ لنجمل الآن ما استعرضناه في الفقرات السابقة.. خمس حكم وخمس تناقضات رئيسية ترخي بظلالها على الفقه السياسي للمسلمين اليوم..السنة لا الشيعة لأن هذا موضوع آخر. 1 – فقه للمظلومين على مقاس الظالمين. 2 – تخليد للظالمين في شرع المظلومين. 3 – لا حرية للمظلومين في شريعة الظالمين. 4 – الخلط بين فقه الإستعباد وفقه العبودية. 5 – الصناعة الفقهية في خدمة الدكتاتورية. من الحكمة أن نقول أن هذه المفارقات الصارخة نتيجة طبيعية للتفكير بالمقلوب ووضع العربة أمام الحصان في المسألة السياسية. كيف ذلك؟ الأحكام السلطانية كما وضعها علماء الإسلام الأوائل كانت مبنية على واقع الخلافة الإسلامية وواقع الغلبة للإسلام والمسلمين على الحضارات الأخرى. وبلغة العصر، كانت السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية مستقلة تماما عن بعضها البعض. السلطة القضائية بيد القضاة والسلطة التشريعية بيد الفقهاء والعلماء والسلطة التنفيذية بيد الحاكم. وفي الغالب الأعم لم يكن ولاة الأمور يتدخلون في القضاء أو التشريع لسبب بسيط هو أن مصدرهما الأساسي من القرآن والسنة. نعم كانت هناك بعض الحالات التي حاول فيها الحاكم التدخل في السلطتين لتوجيههما لصالحه أو لصالح أسرته أو عشيرته…لكنه وحتى في هذه الأحوال كان يلجأ إلى الدلائل من مصادر التشريع الإسلامي ولم يكن أبدا يضع تشريعات خاصة به كما هو الوضع اليوم. هذا من ناحية. من ناحية أخرى كان فقهاء وعلماء وقضاة المسلمين يعيشون بين المسلمين وكان لأغلبهم مهن يمتهنوها ولم يكونوا يطلبون القضاء أو الفتوى بل كانوا يعينون من طرف السلطان وقد يرغمون على ذلك كما هو معروف في سيرة من تصدروا القضاء والفقه من الأئمة الكبار ومن أتى بعدهم. وبلغة عصرنا مرة أخرى، كانت الثقافة القانونية مشاعة وشائعة بين الناس لا يحتكرها أحد. وما يهمنا من هذا الجرد التاريخي هو أن السلطة السياسية لم تكن تتدخل في حياة ′′المواطنين′′ كما هو الحال اليوم بالتشريعات التي لا تنتهي والتي تحصي الأنفاس على الناس ولم تترك مجالا إلا واقتحمته على أهله وضيقت عليهم فيه من حرياتهم. كان المسلمون – وغير المسلمين كذلك – يعيشون إسلامهم وشريعتهم الإسلامية بدون وصاية من أي جهة أو سلطة سياسية والتي اقتصر دورها فقط في حماية دار الإسلام والدفاع عن المسلمين من الغزو الخارجي. طبيعي إذن وفي ظل هذه الظروف أن يكون الخروج على الإمام مدعاة للفتنة ولشق صف المسلمين. طبيعي كذلك أن يكون الفقه منخرطا في هذا المنطق وأن يدعو إلى طاعة أولي الأمر حفاظا على هذه ′′المكتسبات الإجتماعية′′ التي أتينا على ذكرها. بعد سقوط الخلافة العثمانية، تم تقسيم رقعة العالم العربي الإسلامي إلى كيانات مستقلة عن بعضها البعض. أصبح هناك واقع سياسي مغاير تماما عموده الفقري ما يسمى بالدولة الوطنية/القومية الوافدة من الغرب. وعلى رأس كل دولة أو دويلة رئيس أو زعيم أو ملك مدى الحياة يرثه ولي عهده أو أحد أقربائه ويرث السلطة من بعد وفاته..كما يرث معها البلاد والعباد! وتحول العمل بالتشريعات الإسلامية إلى العمل بالقوانين الوضعية التي تضعها البرلمانات تبعا للمصالح وموازين القوى. إضافة إلى الأجهزة الإدارية الضخمة التي تسير القطاعات الإجتماعية من تعليم وصحة وسكن…والتي لم يعرفها نظام الحكم الإسلامي في الماضي. باختصار لم يبق من الإسلام في جانبه الحضاري سوى الإسم لأن سياسة الدين والدنيا كلها تتم وفق النموذج الغربي. رغم كل هذا، فالفقه السياسي ظل جامدا لم يتغير. كان يبني أحكامه على أنقاض الماضي فيما الحاضر لا علاقة له بماضي المسلمين لا من قريب ولا من بعيد. ما زال ينظر إلى رئيس الدولة كخليفة للمسلمين! لا تداول للسلطة ولا هم يحزنون! وما زالت طاعة أولي الأمر واجبة رغم أن الأمور لم تعد بأيديهم منذ زمن بعيد ولم يعد هذا الأمر خافيا على أحد. هل نسترسل في تبيان الوصاية المفروضة على حكام المسلمين أم نكتفي؟ السلطة الوحيدة التي بقيت في أيديهم وبتعبير أدق أبقيت في أيديهم هي سلطة القهر والإذلال لشعوبهم دون قيد أو شرط. أي فقه هذا الذي يشرعن للظلم وللظالمين ويضع الأغلال حول رقاب المظلومين؟ ليس ضروريا أن تتفقه حول الحرية لتدرك معنى الحرية..لا تحتاج الحرية إلى فقه أو إلى من يفقهها..الحرية إما أن تكون حرا وإما أن تكون عبدا..والفقه هو من يحتاج حقيقة إلى الحرية!