سمعت نبأ وفاة البوطي إلى الدار الآخرة بعد عملية حصدت أرواح مصلين في المسجد، ولا أود الدخول في حيثيات مثل هذه العمليات، في مثل هذه المواضع، فذاك موضوع آخر، ولكني أود التوقف مع محمد سعيد رمضان البوطي. يجب الاعتراف أن مكتوبات رمضان البوطي تركت بصماتها على كل أبناء الحركة الإسلامية، وكنت أعرف العديد من الطلبة الإسلاميين يحفظون فقرات مطولة من كتابه القيم "كبرى اليقينيات الكونية" و"نقض أوهام المادية الجدلية" ليفحموا بهم خصومهم من أهل اليسار، عندما كانت الجامعة مسرحا مفتوحا للنقاشات الفكرية العويصة. لكن كتابه "فقه السيرة النبوية" كان إبداعا لا يضاهى، وشكل مدرسة في فهم السيرة وكيفية نقلها من السرد التاريخي إلى التفاعل مع الواقع المستجد، لذلك ظلت كتابا يتوالى طبعه، ولا ينتهي رواده. فقه آخر نبغ فيه الرجل، وهو فقه السلوك إلى الله عز وجل، وتفسيراته للحكم العطائية في سلسلة كتب كانت باكورة أعماله. كنت شغوفا ولا زلت بمكتوبات الرجل، لكني كنت دوما ضد مواقفه منذ زمن مبكر. كنت أتابع حواراته في مجلة " العالم" الإيرانية في التسعينات، وكان نهجه الموالي للسلطة قرارا لا يمكنه الحياد عنه، وفي عشرية الجزائر الدامية وظف العسكر دروسه من أجل إفقاد أي شرعية لجبهة الإنقاذ الإسلامية والجماعات التي خرجت من عباءتها، وهو نهج أصيل عنده لذلك لم يحد عنه وهو يمنح كل المبررات لوحشية بشار تجاه الشعب السوري. هما ثلمتان خطيرتان هدتا مدرسة البوطي، ففي دراسة له لتاريخ المسلمين كان دوما يعلي من شأن الحكام، ونهجه لم يُبنَ أبدا على الانحياز للأمة في مواجهة مستبديها، وفقهه في ذلك واضح، فلدي من نصوصه القديمة قوله أن طاعة الحكام وعدم الخروج ضدهم من عقيدة المسلمين، ليس مجرد اجنهاد ولكنه عقيدة. اجتهاد البوطي اجتهاد خطير لكنه كان فرعا من شجرة ممتدة في التاريخ اتخذت لها عنوان فقه الأحكام السلطانية الذي ظل سيد الميدان، ومن أكبر إنجازات الربيع العربي حسب رأيي قلبه الفقه الموروث ليستقيم على رجليه، وليمنح شرعية مقاومة الاستبداد بمعزل عن كفر الحاكم أو إيمانه. رحل البوطي ليكون عنوان انهيار مدرسة القعود عن مقاومة الظلمة، وهذا لا يعني إقبار كل تراث الرجل، وإن كانت أكثر مواقفه مخجلة، فإن أكثر مكتوباته تظل رائعة. بعد أن أفاض البوطي الروح إلى بارئها، أكون قد قدمت شهادتي في الرجل رحمه الله برحمته الواسعة.