تتناول هذه المقالات تعريفا ببعض أهم العلوم الشرعية التي نشأت في الحضارة الإسلامية. فقد ظهرت في تاريخ الإسلام علوم كثيرة دارت حول القرآن والسنة، وهي علوم تعكس طبيعة العقل المسلم وآليات اشتغاله وتنوع اهتماماته.. لقد كانت حضارتنا حضارة علم ومعرفة، لأنها حضارة كتاب وتأسست على كتاب، وهو القرآن. لم يحظ نبي ولا زعيم ولا مفكر بمثل ما حظي به نبي الإسلام من كتب ودراسات وأبحاث... في القديم والحديث. وهذا الاهتمام متعدد الأبعاد، متنوع المشارب، وكتب بلغات مختلفة. لقد درس العلماء والمفكرون تعاليم النبي (ص) وأحاديثه وبلاغته وشخصيته وأخلاقه.. وكل شيء يمت بصلة إليه. وساهم في ذلك المسلمون وغير المسلمين، حتى إن جزءا مهما من المكتبة الاستشراقية خص به النبي (ص). ومن أبرز ما اهتم به الناس – مما يتعلق بنبينا (ص) -: تاريخه، وأحداث حياته.. أو ما اصطلح عليه بالسيرة النبوية، وهي غير الحديث النبوي. فالحديث أعم، إنه كل ما أضيف إلى النبي الكريم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية.. بينما تركز السيرة على الأحداث والوقائع من الإرهاصات الأولى لولادة النبي إلى وفاته بالمدينة. كان الصحابة –رضوان الله عليهم- أحرص الناس على مصاحبة النبي (ص) وتتبعه أينما حل وارتحل، ومراقبته في تصرفاته كلها.. وكانوا أهل عقل وفطنة، فسجلت ذاكرتهم كل التفاصيل عن حياة النبي (ص)، فحفظوا أقواله، ولاحظوا أفعاله، وسجلوا كل صغيرة وكبيرة من حياته، حتى الشيب في رأسه لاحظوه وأحصوا عدد الشعيرات البيضاء إلى وفاته عليه السلام، فكانت سبعة عشرة شعيرة. وقد سئل علي رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. وقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يُحَب كحب أصحاب محمد محمدا. وقد حكّم الصحابة رسول الله في أنفسهم وأموالهم فقالوا كما روى مسلم: هذه أموالنا بين يديك، فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسنا بين يديك، لو استعرضت بنا البحر لخضناه.. وفي صحيح البخاري أنه حين فاوض عروة بن مسعود الثقفي النبي الكريم في صلح الحديبية رجع إلى قريش وقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما. وفي كتاب الإصابة لابن حجر، قال عمرو بن العاص: ما كان أحد أحب إليّ من رسول الله ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه. وبلغ من شدة حرص الصحابة على إكرامه وتجنب إيذائه، أن الصحابة كانوا إذا قصدوا بيت النبي عليه السلام قرعوا الأبواب بالأظافر، كما قال أنس في شعب البيهقي. لا غرابة، إذن، أن يتذكر الصحابة تفاصيل حياة النبي الكبير، وأن يدوّن المسلمون هذه التفاصيل في زمن مبكر، بل أن يؤسسوا علما مستقلا اسمه: السيرة النبوية. وهذا لا يوجد لنبي آخر، فنحن لا نملك بين أيدينا أي كتاب موثوق به، علميا، عن الأنبياء السابقين، فإبراهيم وموسى، مثلا، عاشوا منذ عشرات القرون، ولا نعرف عنهما بيقين إلا نتفا يسيرة، أكثرها جاء بالعهد القديم. أما المسيح عليه السلام، فهو أحدث عهدا، ورغم ذلك ما يثبته التاريخ عنه محدود جدا، لدرجة أن بعض المؤرخين بأوربا أنكروا وجوده أصلا، وقالوا لم يوجد رجل حقيقي يسمى عيسى بفلسطين في تلك الفترة. أما نبينا محمد، فهو الوحيد الذي نتوفر على تأريخ دقيق وصحيح وشامل عن حياته، بحيث نعرف عنه اليوم آلاف التفاصيل. إذن، حرص الصحابة على أن يسجلوا بذاكرتهم كل شيء يتعلق بالرجل العظيم، فلما جاء جيل التابعين، وهم الذين لم يلحقوا النبي عليه السلام، لكنهم أدركوا الصحابة، نقل ذلك عنهم وحفظوه، واشتهر بعضهم بالعناية بالسيرة، مثل أبان بن عثمان بن عفان، وعروة بن الزبير بن العوام... ثم جاء جيل آخر، فكتب هذه السيرة وجمعها في مصنف واحد، ومن أشهر هؤلاء: محمد بن عمر الواقدي (توفي سنة 207ه) في «المغازي»، ومحمد بن سعد في «الطبقات الكبرى». لكن أهم هؤلاء هو محمد بن إسحاق، الذي ألف سيرة كاملة ومستقلة وعلى درجة من الصحة مقبولة. فلما جاء أبو محمد عبد الملك بن هشام هذبها واختصرها، فتلقاها الناس بالقبول، حتى صارت أشهر سيرة قديما. وبعد ذلك، كثرت التآليف في هذا المجال وتعددت، فمن ذلك: «عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير» لأبي الفتح بن سيد الناس، و«السيرة النبوية» لمحمد بن إسماعيل بن كثير، وكلاهما عاش في القرن الثامن. وفي العصر الحديث، توالت الكتابة في السيرة وتنوعت مناهجها واختلفت أساليبها، وهذه بعض أهم هذه الكتب: 1) «فقه السيرة»، لمحمد الغزالي. ميزة هذا الكتاب أنه يقدم السيرة النبوية بطريقة مشوقة تدع القارئ يعيش في أجوائها ويتأثر بأحداثها. وقد نجح الكاتب في تصوير الجو العام الذي دارت فيه حياة النبي (ص)، بحيث إن القارئ يحس من نفسه وكأنه قد عاد إلى تلك الفترة – بمكة والمدينة- واندمج فيها. 2) «فقه السيرة»، لمحمد سعيد رمضان البوطي. اعتنى الكاتب باستخلاص العبر والدروس من أحداث السيرة، وهي دروس اجتماعية وتاريخية وعامة.. كما أنه يستطرد أحيانا إلى بيان الفوائد الفقهية لهذه الأحداث، ويرد على بعض الشبهات المتعلقة بنبي الإسلام... وهو مفيد من حيث إنه جعل من السيرة موضوعا ثقافيا عاما. 3) «الرحيق المختوم»، للمباركفوري. وجه الكاتب همته إلى التحقيق التاريخي لوقائع السيرة، وجمع أكبر عدد ممكن من التفاصيل، بحيث كاد يستوعب ما في سيرة ابن هشام، بل زاد عليها أشياء كثيرة من مصادر أخرى. والكتاب يقدم صورة تاريخية دقيقة عن مرحلة السيرة. 4) «السيرة النبوية»، لمصطفى السباعي. وهي مختصرة، وقد قصد فيها الكاتب إبراز الدروس التي تفيد الدعاة إلى الله تعالى، وذلك أنه عرض للسيرة من حيث هي دعوة تبغي تركيز عقيدة جديدة في الناس. ويوجد فن خاص في الكتابة يركز على جمع صفات رسولنا في كتاب وشرحها، كما صنع الترمذي في الشمائل، لكن ربما كان أفضل كتاب من هذه الناحية هو «الشفا» للقاضي عياض. إن معرفة سيرة النبي (ص) ووقائع حياته ضرورية للمسلم، فذلك من الدين، إذ من الواضح أن ظهور الإسلام يرتبط بميلاد النبي (ص) وبعثته. والرسول (ص) ليس شخصا عاديا ولا زعيما كغيره من الزعماء، إنه قبل ذلك نبي أرسله الله سبحانه بكتاب جديد ودين جديد، وجعله لنا قدوة في أخلاقه وتصرفاته وسيرته: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا» سورة الأحزاب، آية 21.