توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"علم الكلام" صحراء ملآى بالعظام اليابسة!
نشر في المسائية العربية يوم 20 - 01 - 2011


(هذه المقالة مُهداة إلى محمد أركون)
للمسائية العربية / حازم خيري
"إنني في كل مرة يدنو مني اليأس
لا البث أن أحس يداً حنوناً تربت كتفي
وأخري تملأ سراجي زيت
وإذا بنوره يتجدد ويتألق ويتمدد
وإذا بي أبصر اثار أقدام
هنا وهناك
فتستأنس روحي وتتجدد عزيمتي وتشتد
وأدرك أنني لست وحدي في الطريق!" ميخائيل نعيمة
ما أشد تشوه وقُبح فهم أبناء أمتنا للحرية! وما أخبث التخلف الذي انفق رواد فكرنا الأنسني النبلاء أعمارهم في منازلته(1)! انه تنين عديد الرؤوس، كثير البراثن وحاد الأنياب! انه تنين عظيم جداً! انه تنين مزدوج مشترك من آخرية عربية/محلية لا تتورع عن تكريس اغتراب شعوبنا ثقافياً(2)، ومن آخرية غربية/عالمية تتحالف بدم بارد مع ميراثنا المُر، تنساب في أرضنا كأفعى، تستأصل بدربة ما تبقى في نفوسنا من مروءة وشرف! "يالذل قوم لايعرفون ما هو الشرف وما هو العار!"، مقولة رائعة للمفكر السوري أنطون سعادة(3)، وصف فيها بدقة خنوثة التخلف العربي.
ثمة بون شاسع وفرق عظيم فيما يرى سعادة بين الحياة والعيش! الحياة لا تكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرق بين العز والذل، وما أكثر العيش في الذل حولنا! فكرنا الأنسني بدوره يرى ان الحضارة هي ما يُفكر فيه الناس ويُحسون به ويفعلونه، وهي القيم التي يضفونها على ما يُفكرون فيه ويحسون به ويفعلونه. صحيح ان أفكارهم ومختلف إحساساتهم وقيمهم يمكن أن تنتهي إلى أعمال تؤثر تأثيراً عميقاً في استعمالهم للأشياء المادية، غير أن الحضارة المادية أقل جانب من جوانب الحضارة أهمية. فالسمو الحضاري لا يبلغ ذروته إلا في عقول الناس وأفئدتهم(4)!
قال حكيم: إن الجهلاء هم الذين يظنون أن المباني الجميلة ومباهج الحياة وألوان الترف إن هي توافرت هي التي تشهد برقي الحضارة. شعور الفرد بحريته وكرامته الإنسانية، هو برهان علو الحضارة دائماً وأبداً، هو ذلك الشيء الفذ الذي يجب الاهتمام به وتنميته إلى أقصى حد! وليس هناك ما يؤدي إلى مثل هذا الرقي ك"التربية الخلاقة"، وتزويد الفرد بالقدرة على قراءة الأمور بطريقة أمينة ومنظمة، تجعله قادراً على النقد والابتكار. حق الإنسان في الحياة هو حقه في دفعها للأمام.
مثل هذه "التربية الخلاقة" لا توجد للأسف الشديد في مجتمعاتنا الموغلة في التخلف! فنظمنا التربوية المُغرضة تستأصل بكل دربة ودأب من عقول وقلوب النشء ملكة النقد والابتكار! غرس اليقين في العقول والقلوب صيرنا "أمة من غنم"!
ولمن يسأل: كيف يمكن إذن تفسير ذلك التعامي الواضح، من جانب القائمين على تدريس الفلسفة عندنا، عن هذا التجفيف المنهجي المُستدام لمنابع التفكير الفلسفي في مجتمعاتنا، بل وذهابهم في هذا التعامي إلى حد "التنطع"؟! وهل ثمة إمكانية للحديث عن وجود "تواطؤ" ما؟! في هذه المقالة أحاول قدر جهدي التحقق من مدى وجاهة طرح مثل هذه التساؤلات، عبر استكشاف "علم الكلام"! فعلى ما يبدو، ثمة تيه في صحراءه ضُرب على معلمي "الفلسفة" في بلادنا، كل ما أخشاه أن يكون أبدياً!
مُصطلح "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
يُستخدم مصطلح "الكلام" الذي يعني حرفياً "الحديث" أو "اللفظ المنطوق" في الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية للتعبير عن المصطلح اليوناني "لوجوس Logos" بكل معانيه المتنوعة الدالة على: "الكلمةWord " و"العقل Reason" و"الحُجة Argument". ويُستخدم مُصطلح "الكلام" في تلك الترجمات العربية كذلك للدلالة على أي فرع من فروع التعليم. واسم الفاعل "متكلمون"(في صيغة الجمع، والمفرد منه: "متكلم") يُستخدم للدلالة على الشيوخ الممثلين لأي فرع مخصوص من فروع التعليم. من هنا ظهرت ترجمات عربية(عن اليونانية) من قبيل: الكلام الطبيعي، أصحاب الكلام الطبيعي، المتكلمون في الطبيعيات، أصحاب الكلام الإلهي، المتكلمون في الإلهيات،..الخ. وبهذا المعنى أصبح مصطلح "الكلام" يُستخدم عند من يكتبون بالعربية أصلاً، ربما بتأثير من هذه الترجمات العربية عن اليونانية.
على هذا النحو وطبقاً للمستشرق ولفسون(5) يتحدث يحيي بن عدي عن المتكلمين المسيحيين. ويتحدث الشهرستاني عن كلام إمبدوقليس وكلام أرسطوطاليس وكلام المسيحيين في كيفية التجسد والاتحاد. ويتحدث يهودا اللاوي عن قوم ينتمون إلى نفس مدرسة المتكلمين أمثال أصحاب مدرسة فيثاغورس ومدرسة إمبدوقليس ومدرسة أرسطو ومدرسة أفلاطون، أو عن الرواقيين وعن فلاسفة آخرين وعن المشائين الذين ينتمون إلى مدرسة أرسطو. ويتحدث ابن رشد عن المتكلمين من أهل ملة الاسلام ومن أهل ملة النصارى أو على حد تعبيره المتكلمون من أهل الملل الثلاث. ويتحدث موسى بن ميمون عن المتكلمين الأُول من اليونانيين المتنصرين ومن المسلمين. ويتحدث ابن خلدون عن كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات..
إضافة إلى هذا كله طُبق مصطلح "الكلام" دونما تقييد على نسق مُعين من التفكير في الحضارة الإسلامية ظهر قبل ظهور الفلاسفة، سُمي أعلامه ب"المتكلمين"، وكانوا على النقيض من أولئك المفكرين الذين أطلق عليهم ببساطة منذ زمان أبو يوسف الكندي اسم الفلاسفة(6). فكيف ظهر في ثقافتنا العربية هذا النسق من التفكير الذي يوصف ببساطة بأنه "كلام"؟ وما الكتابات التي تتناول تاريخه ويمكن أن تُضم معاً؟ الأفكار كالبشر، لحظات الميلاد ومراحل التطور هما السبيل لمن أراد فهمها!
في كتابه القيم "فلسفة المتكلمين في الإسلام"، وُفق هاري ولفسون في ضم كتابات الشهرستاني وابن خلدون(7)، وخرج لنا بعرض وافٍ لتطور علم الكلام في الحضارة الإسلامية، اعتمد عليه أساساً هنا، لخلو مكتبتنا العربية على ما يبدو من دراسات تُماثل في قيمتها، أو على الأقل تقترب من عمل ولفسون الموسوعي المهيب. ولشد ما يُخجلني استقرار مفاتيح إرثنا الحضاري في يد المستشرقين! كل ما املكه هو توخي الحذر قدر المستطاع، فولفسون وأمثاله إنما يخدمون حضارتهم!
ظهور وتطور "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
"السلف" مُصطلح أطلق على صحابة النبي محمد(570632م) وعلى التابعين الذين صحبوا الصحابة. وما وافق عليه هؤلاء السلف يُعد أساساً للعصر الأول للحضارة الإسلامية. وسوف نُشير هنا إلى "السلف" إما على أنهم الأتباع الأول لدين الإسلام أو على أنهم أصحاب الفهم الصحيح للدين. كلٌ حسبما يقتضيه السياق.
يشتمل الأصل الديني للاسلام الذي تشكل من تعاليم القرآن على نوعين من التكاليف، وفق ما يرى ابن خلدون: الأول التكاليف البدنية، والثاني التكاليف القلبية.
يحتوي القسم الأول على الأحكام الإلهية التي تحدد تكاليف أبدان المسلمين وهذا هو الفقه. هو مصطلح يفيد في معناه الأصلي الفهم والمعرفة، واستخدم في أول الأمر بمعنى محدود هو الاجتهاد، أي استعمال الرأي الخاص لتقرير مسائل شرعية في غياب أي سابقة تنطبق على الحالة موضوع المسألة، لكنه اكتسب فيما بعد المعنى الأشمل للدلالة على التشريع الإسلامي القائم على: القرآن، السنة، القياس، الإجماع.
القسم الثاني من التكاليف يتعلق بالإيمان الذي يُعرف بأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان. ويتكون من عقائد ست تقررت في الدين تبعاً لحديث النبي نفسه حينما سُئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. مُناقشة تلك العقائد الإيمانية هي التي تُشكل "علم الكلام".
[1] مرحلة علم الكلام السابق على الاعتزال:
لا يوجد فيما يرى ولفسون ما يجعلنا نعرف على وجه الدقة متى أصبح لفظ "الكلام" يُستخدم بهذا المعنى الاصطلاحي. غير أننا وبحسب ولفسون نفهم من عبارات الشهرستاني انه كان هناك "علم كلام" سابق على نشأة الاعتزال على يد واصل ابن عطاء(699748م) وأن رونق الكلام ابتدأ من عهد هارون الرشيد(786809م).
وربما يمكن أيضاً الاستدلال على وجود كلام سابق على الكلام الاعتزالي من استخدام مصطلح "المتكلمين" عند ابن سعد(764/765854م) في الإشارة إلى أولئك الذين كانوا يناقشون وضع مرتكبي الكبيرة في الإسلام الذي أثارته فرقة المرجئة السابقة على الاعتزال. ومن استخدام مصطلح "يتكلم" عند ابن قتيبة(828889م) فيما يتعلق بمناقشة مسألة حرية الإرادة عند غيلان الدمشقي السابق على المعتزلة.
في سياق توضيحه لكيفية تأسس "علم الكلام" عند أولئك المتكلمين الذين ازدهروا قبل قيام الاعتزال، وعلى أي نحو كان ذلك التأسيس، يصف لنا ولفسون استناداً إلى ابن خلدون الأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الإسلامية قبل المعتزلة بقوله ان الاختلافات حول مسائل العقائد أدت إلى قيام "علم الكلام"، فالمشاركون في مناقشة مشكلات من قبيل: التشبيه، والقدر، ومرتكب الكبيرة، وموقف "أصحاب الجمل" من الفريقين، بدلاً من مجرد اقتباس نصوص من القرآن والسنة دفاعاً عن آرائهم، استخدموا منهجاً معيناً في الاستدلال، توصلوا به إلى استدلالات من نصوص القرآن والسنة تلك. كان ذلك المنهج الاستدلالي مُستعاراً من الفقه، حيث كان مستخدماً فيما يتعلق بمسائل الشرع التى كانت تحكم الفعل، وكان معروفاً بمنهج القياس "بمعنى المماثلة". أما بالنسبة لمسائل الاعتقاد التى أصبح يطبق عليها حديثاً منهج القياس هذا فكانت مسائل تتصل ب"الكلمة المنطوقة"، وأصبح هذا التطبيق الحادث لمنهج القياس يسمى "الكلام"، أى ما يُقصد حرفياً من "الكلام المنطوق". والمنهج قائم، سواء في الفقه أو الكلام، على مجرد التشابه وأدلته مستمدة من النقل.
الفرق التى ظهرت في حضارتنا الاسلامية كثيرة، وأكثر منها الاختلافات حول مسائل العقيدة. غير أن ولفسون، ولأغراض دراسته لفلسفة المتكلمين في حضارتنا، تناول اختلافات بعينها، تتعلق بمسألتين ايمانيتين: الايمان بالله، أى الايمان بالتصور الصحيح عن الله. والايمان بالقدر، أى الايمان بسلطان الله على الأفعال الانسانية. فلقد ظهرت، فيما يتعلق بهاتين المسألتين الايمانيتين، اختلافات في حضارتنا حتى قبل قيام الاعتزال، وهي الاختلافات التي أدت إلى مجالات عُرفت اصطلاحاً ب"الكلام".
وبحسب ابن خلدون، كانت اختلافات السابقين على المعتزلة عن التصور الصحيح عن الله هي تلك التى تتعلق بآيات التشبيه في القرآن. وكان مصدر الاختلافات الأوصاف التى وُصف الله بها في القرآن. فمن ناحية ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في أكثر من آية، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها(8). ومن ناحية أخرى، وردت في القرآن آي أخرى توهم التشبيه. هذه الآيات والتى قد يراها البعض متباينة أدت بحسب ابن خلدون إلى آراء ثلاثة: أولاً، سلم السلف الذين غلبوا أدلة التنزيه بآيات التشبيه في القرآن، فلم يتعرضوا لمعناها بتأويل، لأنهم فيما يرى ابن خلدون علموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. ثانياًً، بجانب أولئك الذين تبنوا الرأي السابق، وُجدت قلة من "المبتدعة"(9). منهم فرقتان رئيسيتان: توغلت الأولى في التشبيه الصريح مخالفة بذلك آي التنزيه المطلق. أما الثانية فحاولت التوفيق، ومن هنا ظهر التأويل من خلال صيغة: جسم لا كالأجسام.
الاختلاف الثاني الذى ظهر قبل نشأة المعتزلة هو فيما يرى الشهرستاني وابن خلدون ما كان يتعلق بالاعتقاد بقدرة الله. وهذا الاختلاف نتج أيضاً عن الآيات القرآنية حول قدرة الله. فمن ناحية، توجد آيات تقرر أن هناك بعض وقائع الحياة الانسانية وبعض أفعال الانسان مقدرة من الله سلفاً، على حين توجد آيات تقرر أن الانسان يتمتع بحرية معينة يمارس بها أفعاله، من ناحية أخرى. ووفقاً لما يقرره الشهرستاني فإن الرأي الأصيل فى الاتباع تمثل في اتباع تلك الآيات التى تُظهر أن القدرة المهيمنة على الفعل الانساني مرجعها إلى الله. وفي أواخر عهد الصحابة، حدثت بدعة معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري في القول بالقدر وانكار إضافة الخير والشر إلى القدر. ولأنهم حولوا القدر من الله إلى الانسان زاعمين أن الانسان، وليس الله هو الذى يحدد أفعاله الخاصة، عُرفوا ب"القدرية". وعلى ذلك، يشير ولفسون إلى هاتين الفرقتين على أنهما: فرقة القائلين بالاختيار "القدريين"، وفرقة القائلين بالجبر "سبق التقدير". والفرقتان حاولتا تفسير الآيات المعارضه لهما.
قارئي الكريم، في مسيره الشاق والمُرهق نحو اللحظة الراهنة، مر علم الكلام بأكثر من مرحلة، تميزت شخصية كل منها عن الأخرى. البداية وكما سنرى لاحقاً كانت مع علم الكلام المعتزلي(بفترتيه: غير الفلسفية، والفلسفية)، ومن بعده جاءت محاولات الخلفاء لحمل أئمة السلف على الاعتزال وهو ما عُرف ب"المحنة" ، ثم ردود الفعل على هذه المحاولات العنيفة وظهور علم الكلام الأشعري، وما طرأ عليه بعد ذلك من تغييرات أحدثها الباقلاني والغزالي، وأخيراً نهوض ابن تيمية وابن القيم لاحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة غلو الغالين في خلط الفلسفة.
[2] مرحلة علم الكلام المعتزلي:
لشد ما يصعب بحسب المستشرق نلينو(10) معرفة لأى سبب وبأي معنى أطلق لفظ "المعتزلة" أول ما أطلق على أصحاب المذهب الذى كان في القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة خصماً خطراً لمذهب أهل السنة في "الكلام". ذلك لأنه يتوقف على مثل هذه المعرفة حل مسألة من أهم المسائل التاريخية، وهي مسألة أصول حركة المعتزلة، وطابعها الأصلي. نلينو يُعرفنا بأشهر الآراء في هذا الصدد(11):
الرأي الأول: رواية نُسج حولها طائفة من الأقاصيص، يشتق أصحابها اسم المعتزلة من اعتزال واصل ابن عطاء الغزال(أو اعتزال عمرو بن عبيد بن باب في رواية أخرى) للحسن البصري(642728م) أو اعتزاله للجماعة عموماً في مسألة مرتكب الكبيرة: مؤمن هو أم كافر؟ والتفاصيل تختلف قليلاً باختلاف الروايات. فعلى حسب بعضها، جاء اسم المعتزلة من العبارة التي قالها الحسن في تلك المناسبة لتلميذه القديم: "اعتزل عنا". وعلى حسب البعض الآخر، كان قتادة بن دعامة المتوفي عام 117ه أو 118ه المحدث أول من وضع هذا الاسم، مشيراً إلى عمرو بن عبيد وإلى نفر من اتباعه بسبب اعتزالهم الحسن. وعلى كل حال، فمهما يكن من اختلاف الروايات، فإن هذه الروايات في مجملها تعتبر أن لفظ "المعتزلة" اسم أطلقه عليهم أهل السنة، وأنه يتضمن نوعاً من الذم واتهاماً واضحاً بالخروج على السنة والجماعة.
الرأي الثاني: المستشرق اشتينر(12)، واعتماداً على نصوص عربية متأخرة عن القرن الثالث الهجري تسمي المعتزلة أحياناً باسم "القدرية"، يرى أن المعتزلة اسم عام لفئة انفصلت عن الجمهور وانشقت عليه، ولكن بمضي الزمن أصبح هذا الاسم في أوائل القرن الثاني للهجرة علماً على مذهب خاص. وهو ما قد يُفسر على أن هذه الفرقة كانت من بين فرق الاسلام أهمها وأكبرها خطراً. أيضاً يبدو لاشتينر أن هذه التسمية قد انتشرت انتشاراً بطيئاً. إذ يتكلم ابن قتيبة المتوفي 889م عند ذكره لمذاهب عصره لا عن المعتزلة بل عن "القدرية". مع أنه عرف اسم المعتزلة. وعلى ذلك فالنواة الأولى لمذهب المعتزلة كانت اذاًً انكار القدر المطلق، ويشير لفظ "القدرية" إلى مضمون المذهب، فهو من الناحية الظاهرية الشكلية إذاً أكثر تحديداً وأوضح دلالة من لفظ "معتزلة". ثم لما أظهروا آراء مخالفة في مسائل عديدة أخرى مثل صفات الله، وطبيعة القرآن، والوعد والوعيد، ومسائل ثانوية أخرى، بدت هذه التسمية "القدرية" غير كافية، لذا استبدل بها لفظ "معتزلة"، ولم تعد بعد ذلك تستعمل شيئاً فشيئاً.
الرأي الثالث: المستشرق اجنتس جولدتسهير(13) يشير كما يشير المؤرخون ، بمناسبة بن عطاء وزميله بن عبيد ومعتزلين آخرين متأخرين كذلك، إلى ميولهم الصوفية وزهدهم، أى إلى بعدهم عن زخرف الدنيا وشهواتها، ويورد شاهداً قديماً على استعمال لفظ "معتزل" بمعنى زاهد أو متعبد. يقول جولدتسهير: "معنى هذه الكلمة(المنشقون). ولست أريد أن أكرر هنا الأسطورة التى عني الناس بروايتها من أجل تبرير هذه التسمية، وانما أريد أن أقرر أن التفسير الحقيقي لهذه التسمية هو أن البذور الأولى لهذا المذهب كانت دوافع صادرة عن التقوى والتعبد وكان الباعثون على هذه الحركة رجالاً متعبدين، زهاداً معتزلين(زاهدين) ثم اتصلت الحركة بالدوائر العقلية، فاتخذت شيئاً فشيئاً موقف المعارضة بإزاء المعتقدات الدينية السائدة"
الرأي الرابع وهو رأي نلينو نفسه: اختار المعتزلة الأولون هذا الاسم، أو على الأقل تقبلوه، بمعنى "المحايدين" أو "الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين(أهل السنة والخوارج) على الآخر" في المسألة الدينية الخطيرة، مسألة "الفاسق". وما دامت هذه المسألة قد أخذت حظها من الأهمية بسبب المنازعات السياسية والحروب الأهلية في القرن الأول للهجرة، فمن الطبيعي أن يكون اسم المعتزلة قد أُخذ عن لغة السياسة في ذلك العصر. فكان المعتزلة الجدد المتكلمون في الأصل استمراراً في ميدان الفكر والنظر، للمعتزلة السياسيين أو العمليين. كانت الجماعة الأولى من المعتزلة المتكلمين تشمل على وجه الاحتمال أشخاصاً اختلفت آراؤهم حول بعض المسائل الدينية الأخرى. حتى انه في القرن الأول وأوائل القرن الثاني كانت بعض المسائل الدينية(مثل الجبر والاختيار) غير واضحة المعالم والحدود، ولم يكن من المستطاع القطع بأي الآراء المتعارضة يجب اعتباره من أقوال أهل السنة أو أقوال غيرهم. فلم يكن الاجماع قد تم في هذا الباب بطريقة قطعية. فكان اسم المعتزلة المتكلمين في الأصل يشير إذاً إلى النقطة الوحيدة المميزة لمذهبهم عن مذهب أهل السنة والجماعة. وهذه النقطة قد فقدت أهميتها من بعد بانقضاء الحروب الأهلية بالنسبة لمسائل الخلاف الدينية الأخرى(القدرة، الصفات، خلق القرآن، النقل والعقل)، التى رسخت شيئاً فشيئاً، وطغت على تلك النقطة من جراء رد الفعل المتزايد ضد ثبات أهل السنة ورسوخه. أو بعبارة أخرى كانت هذه التسمية تسمية جزئية في وقت من الأوقات مثل تلك التى اتخذها المعتزلة من بعد أحياناً للدلالة على بعض النقط الخاصة في تعاليمهم دلالة خاصة، مثل "القدرية"، "العدلية"، "الموحدة".
على أية حال، وبدون التوقف كثيراً عند هذه الآراء المتباينة حول أصل تسمية المعتزلة، يرى ولفسون أن مرحلة علم الكلام المعتزلي غير الفلسفي دامت قرابة القرن، من وقت ظهور المعتزلة وحتى ظهور ترجمة الاعمال الفلسفية اليونانية الى اللغة العربية في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي. ثم حدث، بعد انقضاء قرن على زمن بن عطاء، أن تأثرت المعتزلة بالفلسفة اليونانية واكتسبت طابعاً جديداً.
"ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة، حين فُسرت أيام المأمون. فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنا من العلم وسمتها باسم الكلام. إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام فسُمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق. والمنطق والكلام مترادفان(كما أن الكلمة اليونانيةLogos ، أي العقل والمنطق، تعني أيضاً الكلام)".
يُلاحظ في فقرة الشهرستاني هذه أن مذهب الاعتزال يتوزع بين فترتين: فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية. في الفترة الأولى السابقة على التأثر بالفلسفة اليونانية استخدم المعتزلة ما يوصف بأنه مناهج الكلام. والتى يرى ولفسون أن الشهرستاني يشير بها إلى تلك التطبيقات المتنوعة للقياس الفقهي على الاختلافات التى ظهرت، في نطاق ما يُسمى بالكلام قبل الاعتزال، حول مسألتين: الأولى، مسألة التصور الصحيح عن الله، خاصة مشكلة التشبيه. الثانية، مسألة الاعتقاد في القدرة.
رأي ولفسون هذا يتسق مع وصفه للأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الاسلامية قبل قيام الاعتزال، ذلك الذى أوردناه فيما سبق بشيء من التفصيل، في سياق عرضنا لكيفية تأسس علم الكلام عند متكلمي ما قبل الاعتزال.
أما مناهج الفلاسفة التي يشير الشهرستاني في حديثه إلى خلط المعتزلة اياها بمناهج الكلام، فيرى ولفسون امكانية الزعم بأن الشهرستاني كان يقصد بها أمرين:
أولاً، ربما كان يقصد أن المعتزلة بتأثير من الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية ، قد بدأوا يستخدمون مصطلح القياس المرادف لكلمة syllogism(14)، أما عن مصطلح القياس بالمعنى القديم للمماثلة analogy المستخدم في الفقه فإنهم أحلوا محله مصطلح التمثيل. تبرير هذا الافتراض هو أن آخرين من الذين خضعوا لتأثير هذه الترجمات من المسلمين قد بدلوا معنى القياس الذى يدل عليه لفظ المماثلة analogy إلى القياس الذى يدل عليه لفظsyllogism . وأحلوا محل القياس بمعناه الفقهي القديم مصطلح التمثيل.هكذا نجد ابن سينا والغزالي على سبيل المثال، يستخدمان القياس بمعنى syllogism والتمثيل بمعنى الanalogy الذى يقوم استخدامه في الفقه على أساس التشابه بين الأشياء . وبعد ذكر مصطلح التمثيل يلاحظ ابن سينا أن هذا هو الذى عرفه أهل زمانه بالقياس، ويلاحظ الغزالي أن هذا هو الذى يسميه شيوخ الفقه وشيوخ الكلام القياس.
ثانياً، يمكن افتراض أن الشهرستاني كان يقصد بكلامه أيضاً أن المعتزلة المتفلسفين قد أصبحوا على دراية بتصور أرسطو للanalogy وهو ما عُبر عنه في العربية ب"المساواة"، وخلطوه بالقياس الفقهي الذى أصبح المصطلح العربي الجديد الدال عليه هو "التمثيل"، أى التشابه. المماثلة عند أرسطو لم تكن قائمة، كما هو الشأن في الفقه، على مجرد التشابه بين الأشياء. فالمماثلة عنده هي المساواة في النسب(أو العلاقات)، والتي يصورها بأنه عندما يُحمل مصطلح الخير على العقل وعلى البصر، فإن ذلك يكون على طريق المشاكلة analogy بمنزلة ما أن العقل في النفس كقياس البصر في البدن. ما يريد الشهرستاني بحسب ولفسون قوله هو ان المعتزلة المتفلسفين خلطوا التمثيل المُستخدم في الفقه، والذى يقوم على مجرد التشابه، بالتمثيل الذى يستخدمه أرسطو بمعنى التساوي في النسب أو العلاقات..
مع وصف الشهرستاني لنشأة الاعتزال يتفق ابن خلدون، فاشارة الأخير إلى التمييز بين فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية في تاريخ الاعتزال، واضحة في وصفه منذ البداية ببساطة لواصل ابن عطاء عندما يرد اسمه بأنه واحد منهم، أي من المعتزلة. لكن اسم أبي الهذيل(15)، فإنه يصفه بأنه اتبع رأي الفلاسفة، وبالمثل اسم النظام(16) يصفه بأنه طالع كتب الفلاسفة. ابن خلدون يتابع الشهرستاني فيعطي ذات السببين اللذين من أجلهما تبنى متفلسفة المعتزلة الاسم القديم "كلام" لمذهبهم. يقول ابن خلدون: "وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الذى يسمى كلاماً، وإما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام أي قِدم القرآن ".
[3] محاولات حمل أئمة السلف على الاعتزال:
مع قيام فرقة المعتزلة التي استخدمت على نحو ما ذكرنا منهج الكلام واستبقت لمذهبها اسم "الكلام" حتى عندما أصبح طابع مذهبهم فلسفياً، أصبح مصطلح "الكلام" بالتدريج علماً على المعتزلة. الشهرستاني وابن خلدون يرويان لنا كيف تبنى بعض الخلفاء الاعتزال وحملوا أئمة السلف عليه وهو ما عُرف بال"محنة" ، وكيف أدى رد فعل السلف على هذا القمع إلى قيام علم كلام سني يناهض المعتزلة.
تضييق الخلفاء المعتزلة على السلف يخبرنا عنه الشهرستاني في فقرتين قصيرتين: في احداهما، وبعد أن يذكر اسم أبي موسى المزدار(17) راهب المعتزلة بما هو واحد من شيوخ الاعتزال، يضيف قائلاً: "وفي أيامه جرت أكثر التشديدات على السلف لقولهم بقدم القرآن". وفي فقرة أخرى وهو يتحدث عن المعتزلة يقول: "ونصرهم..جماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن".
مع فقرتي الشهرستاني يتفق هذا القول الخلدوني: "ولُقنها أي عقيدة الاعتزال بعض الخلفاء عن أئمتهم، فحمل الناس عليها، وخالفهم أئمة السلف، فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودمائهم". وثمة اشارات إلى ثلاث حقائق تاريخية تشي بها فقرتي الشهرستاني: 1 اصدار الخليفة المأمون سنة 827م لمرسوم أعلن فيه أن الاعتزال عقيدة رسمية للدولة، واتهم أهل السلف بالابتداع. 2 اصداره لمرسوم آخر في سنة 833م، سنة وفاته، تم بموجبه امتحان أهل السلف في عقيدتهم. 3 استمرار المحنة أثناء حكم الخليفة المعتصم وحتى السنة الثانية من حكم المتوكل سنة 847م.
قارئي الكريم، قد يكون ملائماً وقبل المضي قدماً القاء الضوء على ما عُرف ب"المحنة"، لأهمية ذلك الحدث وخطورته. ما حدث هو أن البحث فيما يراد باتصاف الله بالكلام أصبح موضوعاً له خطره في باب الجدل، حتى أفضى ذلك آخر الأمر إلى قضاء الهيئة الحاكمة على المعتزلة، أولئك الذين ذهبوا إلى القول بأن الكلام إذا كان صفة لله فلابد أن يكون أزلياً قديماً موجوداً قبل العوالم كلها، وإلا فإن الله إذا كان قد تكلم في الزمان فقد مسه سبحانه وتعالى التغيير وصار مالم يكنه من قبل. ولا يجوز أن تحمل الاستحالة على الله، وعلى هذا فان الكلام إذا كان صفة لله وكان القرآن تسجيلاً لهذا الكلام، فلابد أن يكون على هذا الاعتبار قديماً لأنه كلام الله.
وقد ذهب الخليفة المأمون المعتزلي إلى أن اعتبار القرآن مخلوقاً في الزمان امتحان لا يجوزه إلا ثابتو الإيمان. واشتد لسوء الحظ تعصب المعتزلة لآرائهم أيام سلطانهم وقد قاسوا كثيراً ولاقوا عنتا شديداً فيما بعد من جراء اضطهادهم لأهل السلف الذين تمسكوا تمسكاً شديداً بالمذهب القائل بقدم القرآن، ولم يسرفوا في تفسيره حرفياً وأقروا عدداً جماً من السنن التى ذاعت في الناس. على أنه قد أصبح واضحاً جد الوضوح إبان القرن الرابع للهجرة ألا مفر من بعض التسليم بما ذهب إليه المعتزلة، إذ تبلبلت أفكار الناس ومست الحاجة إلى تعزيز قواعد الدين من جديد على ضوء الأفكار الشائعة. وقد اضطلع بهذا الأمر الخطير رجلان: الأول، أبو الحسن الأشعري(873935م). والثاني، أبو منصور الماتريدي المتوفي سنة 944م(18).
وها هو ابن خلدون يوجز لنا رد فعل السلف بازاء ال"محنة" بقوله: "وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعاً في صدور هذه البدع". وفي ظل ما يراه ولفسون من أن تعبير الاحتجاج بالعقل يستخدمه ابن خلدون للدلالة على منهج القياس التمثيلي الفقهي القائم على معطيات نقلية والذى استخدم في وقت سابق على قيام الاعتزال واكتسب اسم الكلام، يكون واضحاً تماماً أن ما يعنيه ابن خلدون بهذه العبارات هنا هو أن أئمة السلف، قد تبنوا في استدلالاتهم، نتيجة للمحنة، منهج القياس الكلامي السابق على المعتزلة. ابن خلدون بالفعل يشير، بعد هذه الفقره تماماً، إلى أهل السنة هؤلاء بأنهم "المتكلمون". ويُدخل فيهم ابن كلاب والقلانسي والمحاسبي، وهي الأسماء التي توصف من جانب الشهرستاني بأنها "أمتن كلاماً"، وذلك في إشارة إلى نمط الكلام غير الفلسفي السابق على الاعتزال.
المتكلمون المذكورة أسمائهم تواً جماعة واحدة فقط من جماعات ثلاث للسلف ناضلت عقب المحنة فيما يتعلق بمشكلة الصفات، بما في ذلك "قدم القرآن". غير أنها، ورغم كونها من جملة السلف، باشرت علم الكلام وأيدت عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية، مما يعني استخدامها منهج المماثلة الكلامي السابق على المعتزلة.
من جهة أخرى، يصف الشهرستاني الجماعتين الأوليين من هذه الجماعات الثلاث بأنهما ناهضتا المعتزلة لا على قانون كلامي أي بدون استخدام منهج القياس الذى كان مستخدماً قبل قيام المعتزلة عند بعض السلف ، بل على قول اقناعي، بمعنى أنهما تشبثتا بمنهج المسلمين الأوائل وتعلقتا بظاهر الكتاب والسنة. تعبير على قول اقناعي يشير برأي ولفسون إلى ما يسميه أرسطو بالقول الخطابي، فالخطابة عنده ملكة اكتشاف الوسائل الممكنة للاقناع بالاشارة إلى أي موضوع كان.
هكذا انقسم السلف في حوالي منتصف القرن التاسع حول مشكلة آيات التشبيه في القرآن إلى جماعات ثلاث. الأولى: جماعة الحنابلة، الذين رفضوا على حين أنكروا التشبيه مناقشة آياته الواردة في القرآن. الثانية: جماعة من الحشوية الذين رفضوا وقد أخذوا آيات التشبيه على ظاهرها مناقشة تلك الآيات التي تحظر التشبيه. الثالثة: جماعة الكلابية الذين أولوا آيات التشبيه في القرآن طبقاً للمنهج الكلامي، أي منهج القياس التمثيلي على نحو ما هو مستخدم في الفقه وعبروا عنه بصيغة "جسم لا كالأجسام". ومن قلب هذه الجماعة الكلابية انبثق علم الكلام الأشعري بعد قرن من الزمان، وذلك في عام 912م. وكما قرر الشهرستاني: "فان جماعة يقصد الكلابية باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية وصنف بعضهم ودرس بعض، حتى جرى بين الأشعري وبين أستاذه الجبائي مناظرة في مسئلة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة الكلابية فأيد مقالتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة".
[4] علم الكلام الأشعري:
في فقرة لابن خلدون، وبعد أن يقرر أن الأشعري كان إمام المتكلمين يقصد الفرقة المكونة من الجماعات الثلاث السالفة الذكر ، يصفه بأنه توسط بين الطرق ونفى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ماقصره السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، ثم يضيف على ذلك أنه أثبت جميع الصفات، بطريق النقل والعقل. ولفسون يرى أن ما يقصده ابن خلدون من عبارته طريق النقل والعقل هو نفسه الجدل القائم على العقل مضافاً إليه الدليل المستمد من النقل، المستخدم وصفاً للمنهج القياسي في الفقه. أيضاً نجد عند ابن خلدون وصفاً لتطور الكلام الأشعري.
يبدأ ابن خلدون بتحديد عام لخصائص الكلام في فقرة أخرى يقول فيها، بعد أن قرر أن المذهب الأشعري على نحو ما أكمله أتباعه أصبح واحداً من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية: "إلا أن صور الأدلة فيها في طريقة الأشاعرة جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي أي جاءت غير مطابقة لقواعد البرهان المنطقي ، لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التى تسير بها الأدلة وتعتبر الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك".
يُلاحظ هنا أن ابن خلدون لا يقول لنا إن المذهب الأشعري لم يعتمد في صياغة أدلته على الفلسفة ولا يقول إن أدلته صائبة منطقياً في بعض الأحيان. كل ما يقوله هو أن أدلته جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي، والمقصود بقوله بعض الأحيان: عندما كان يمكن أو عندما كان يلزم أن تكون الأدلة مقدمة في صيغة منطقية أي قياسية، فإنها لم تقدم على هذا النحو، وربما كان في ذهن ابن خلدون هذا الدليل الكلامي على حدوث العالم، الذى وصفه مؤخراً بأنه دليل من حدوث الأعراض المكونة لأجزاء العالم. ويأتي هذا الدليل، كما صاغه عديد من المتكلمين، كلهم من الأشاعرة، في صيغة غير قياسية، غير أن ابن سوار المسيحي عندما عرضه على لسان المتكلمين رتبه في صيغة منطقية. ثم أبدى ملاحظة قال فيها: هذا قياسهم إذا نُظم النظم الصناعي. ابن خلدون أيضاً يذكر تغييرين حدثا في علم الكلام الأشعري:
التغيير الأول: أحدثه الباقلاني المتوفي عام 1013م. وإذ يبدأ الباقلاني بمقدمة، من الواضح انها تشير إلى رأي أرسطو في أنه من الممكن أحياناً أن نصل إلى نتائج صحيحة من مقدمات زائفة، فإنه يقرر أن أدلة العقائد الايمانية تتوقف على وجوب الاعتقاد بمقدمات هذه العقائد بمعنى أن بطلان الأدلة يؤذن ببطلان المدلولات. وهكذا انتهى إلى أن لأدلة العقائد أو المقدمات التي تقوم عليها الأدلة نفس المكانة أو أنها تابعة للعقائد الايمانية في وجوب اعتقادها، حتى ان الهجوم عليها هو هجوم على العقائد الايمانية. بناء علي هذا، فإن ما يقوله ابن خلدون من أن الباقلاني أكد وجود الجوهر الفرد والخلاء، ينبغي أن يُفهم بمعنى ان المذهب الذري الذى كان لفترة طويلة جزءاً من النظرية الفلسفية لعلم الكلام واستخدم قاعدة للتدليل على بعض المعتقدات الدينية قد أصبح عند الباقلاني جزءاً رئيسياً من المعتقدات الدينية ذاتها.
التغيير الثاني: أحدثه الغزالي(1059م 1111م)، ويمكن وصفه بأنه جعل نمط الكلام الأشعري كلاماً فلسفياً. فعلى خلاف الباقلاني الذى وصفه ابن خلدون بأنه تلميذ الأشعري وبه تمت طريقة الأشعرية، يصف ابن خلدون الغزالي بأنه الذى أدخل طريقة المتأخرين. ويوجز ابن خلدون طريقة المتأخرين هذه على النحو التالي: أولاً، إنهم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التى أدتهم إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والالهيات، والمعروف أن الغزالي أحجم عن اتخاذ المذهب الذري دليلاً على مسائل الاعتقاد بحجة أنه يتضمن صعوبات يطول الكلام في حلها. ثانياً، نبذ أولئك المتأخرون رأي الباقلاني في أن بطلان الدليل، يؤذن ببطلان المدلول. وهو ما يعني بحسب ولفسون ان قول أرسطو بامكانية الوصول إلى نتائج صحيحة من مقدمات زائفة، يمكن اتخاذه سبيلاً للبرهنة على أمور العقيدة. ثالثاً، إن طريقة المتأخرين ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الايمانية.
الخاصية الأولى والخاصية الثالثة لطريقة المتأخرين التي قدمها الغزالي تعكس وصفه لموقفه من علم الكلام في سيرته الذاتية "المنقذ من الضلال" وفي مبادرته إلى القول إنه ابتدأ بطلب علم الكلام فحصله وعقله. وعلى حين يمدح الغزالي المتكلمين لدفاعهم عن عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة، إلا أنه يخطئهم باعتبارين: الأول، إنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها: إما التقليد، أو إجماع الأمة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وبلا ريب فإن المذهب الذري هو ما كان يعنيه الغزالي هنا. والثاني، قوله: إن الذين اشتغلوا بالرد على الفلاسفة من المتكلمين لم يصرفوا عنايتهم للوقوف على منتهى علومهم، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار بها بغافل عامي فضلاً عمن يُدعى دقائق العلوم. وقد حاول هو أن يعالج في "تهافت الفلاسفة" هذا القصور.
ابن خلدون لم يعرض لنهوض ابن تيمية(12631328م) وتلميذه ابن قيم الجوزيه(12921350م) لاحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة غلو الغالين في خلط الفلسفة. المقريزي يقول في خططه: إن مذهب الحنابلة الذى أحياه ابن تيمية كان له أنصار بمصر. ثم ضعفت الهمم عن الدراسات القوية لعلم الكلام ولم يبق بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ وتنافر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور. محمد عبده في رسالة التوحيد يتفق مع هذا الرأي. الوجود الراهن لعلم الكلام يقوم على التنافس بين مذهب الأشعرية، ومذهب ابن تيمية. أنصار هذا الأخير يسمون أنفسهم اليوم بالسلفية(19).
ملاحظات حول المنبت الحضاري ل"علم الكلام":
"حيثما تكون الأفكار الحاكمة زائفة فمن الغباء أن يملك المرء نفساً حرةً"، "من الأفكار الزائفة ما تبدو نعيماً سابغاً بحيث يُستحسن أن ندعها وشأنها"، ...الخ. مثل هذه الأقوال الرائجة بقوة في مجتمعاتنا المتخلفة لا تخلو من نفع، بل هي عين النفع، حين يستجير بها المُستضعفون، ويُمكِن لها عبيد المصالح، وخونة الأوطان!
الأنسني وعلى خلاف هؤلاء جميعاً لا يملك ترف احتمال زيف الأفكار الحاكمة أو حتى التعامي عنه، وكيف يفعل وقد عاهد ربه ونفسه أن ينشد الحقيقة بأمانة ونزاهة وأن يذود بشرف عن الحرية هدية الله ، حتى يُمكِن لها في الأرض أو يذوق الموت دونها! الأنسني لا يُجيد "فن الطاعة"، ولا يقبل أن يكون ذئباً لأخيه الانسان! كما أن حضارتنا في أمس الحاجة لقلق الأنسنيين وتساؤلاتهم. غليل الأنسنيين لا يشفيه الماء قدر ما يشفيه الظمأ! نبع الماء لا ينشده إلا من ذاق الظمأ!
من هنا، أستأذن قارئي الكريم في ابداء بعض الملاحظات حول المنبت الحضاري لعلم الكلام، وأعني به حضارتنا! ملاحظاتي هذه قد تبدو للبعض ساذجة أو حتى مُستفزة بعض الشيء، غير أني لا أبغي من ورائها سوى فضح زيف بعض الأفكار الحاكمة "المسكوت عنها بوعي أو بلاوعي"، في مجتمعاتنا! فأى فكرة أو معتقد ، لا تلبث أن تقوى وتنتشر، بغض النظر عن درجة الخطأ الكامنة فيها، متى وُصِف أنصارها بأنهم "جماعة"، وهو ما يُطلق عليه لوبون "العدوى النفسية"(20).
ولشد ما تتشابه ظاهرة "العدوى النفسية" عند لوبون، ب"الاغتراب الثقافي" في قكرنا الأنسني. ففي تثمينها لقدر الإنسان في الذود بشرف عن حرية عقله وقلبه، تذهب رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني إنما يُعد نتاجاً لصراع طويل ومرير بين إنسان(ذات) لا يملك سوى حرية عقله وقلبه التي وهبه الخالق إياها، ليستعين بها على ترويض الحياة، وبين(آخر) يُصر على الاستئثار بالحرية، ليتسنى له العبث بمقدرات رفاق الحياة! ف(الآخر)، في فكرنا الأنسني، عادة ما يعمد إلى آليات بعينها لتكريس تنازل أخيه(الذات) عن حقه في نقد وتطوير ثقافته أعني طريقة حياته الشاملة ليظل هذا الأخ المسكين(الذات) مغترباً ذليلاً طيلة مقامه في ضيافة الحياة، يستهلك فقط ما يجود عليه به (الآخر) عبد المصلحة، حتى أنه بمرور الزمن، يفقد المغترب قدرته على النقد والتطوير، ولا يملك إلا الانتظار!
لا فرق في فكرنا الأنسني بين آخر عربي أو صهيوني أو أمريكي أو سعودي أو هندي أو ..الخ! تشويه النفوس واسترقاقها لا يخفف من فداحته وكارثية تبعاته، أن يقف وراءه أخ مُسلم أو عربي أو صهيوني أو غربي..الخ. اغتصاب الحق المُقدس في الحرية هدية الله للبشر ، لا تُجيزه قرابة حضارية أو دينية أو قومية..الخ!
وعليه، أعمد في هذه الجزئية لحرث المنبت الحضاري لعلم الكلام، ليس فقط بهدف تطهيره مما نبت فيه من أفكار حاكمة زائفة، تُعيق التمكين لغرسنا الأنسني، ولكن أيضاً لتعرية الآخرية المحلية، فهي بحق قيء حضارتنا وعارها الثقيل.
على أية حال، لنبدأ حرثنا من بواكير انفتاح حضارتنا على النُشدان الحُر للحقيقة، وسنجد أنه ليس هناك ما يدعو إلى الظن بأن العرب الذين ائتلفت منهم جيوش الخلفاء الأول الظافرة يختلفون عن عرب اليوم اختلافاً بيناً. أسلافنا لم يؤرقهم على نحو ما هو حاصل معنا اليوم(21) حب الحقيقة ونُشدانها من خلال البحث والتقصي، ولم يكن ثمة بُد من أن يوجد باعث قوي يدفعهم إلى هذا الفضاء الرحب.
التوسع والانتشار الاسلامي المُلفت تبعه تحول الكثيرين من المسيحيين واليهود إلى دين الاسلام. وبذلك تعرض العرب المسلمون لفكر آخر من مفكرين ينتمون لعقائد وايديولوجيات أخرى في تناولهم للتساؤلات الأساسية عن الانسان والوجود.
ولقد وجدت فئة من أبناء حضارتنا الاسلامية الوليدة انه من الممكن أن تتقدم ويتطور فكرها، أو على الأقل يصبح أكثر ترتيباً وانتاجية إذا تقبلت وطوعت بعضاً من عمليات التفسير والتقسيمات الطبيعية والنظرية التى كانت موجودة قبلها بقرون.
وهكذا، راقت لهذه الفئة المُجتهدة من أسلافنا أعمال فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو..الخ، واكتشفت فيها ذخيرة فكرية قد تراكمت، فشعرت حيالها بامكانية، بل وجوب، تزخيم حضارتها الناشئة بها. أيضاً وبشكل كبير أثرت انجازات قدماء المصريين وبلاد ما بين النهرين والفرس والهنود، في كل التطور الفكري خلال القرون الأولى لحضارتنا. ومن اللافت للانتباه بوجه عام، فيما يرى تيرنر(22)، الترحيب الذى احتضن به العلماء المسلمون التراث المتنوع الذى اكتشفوه في ممتلكاتهم الجديدة، حيث حظي هذا التراث بالاحترام ونُظمت وسائل للاستفادة منه.
مدينة جند دشابور في جنوب غرب فارس، والتى فتحها العرب وقعت في قبضتهم عام 836م أصبحت مركزاً لنشر المعارف العلمية والفلسفية للاغريق وآخرين في جميع أنحاء الامبراطورية الاسلامية. وقد انتعش فيها مجتمع كبير من النسطوريين وهم أعضاء طريقة مسيحية اتهمت بالهرطقة وأجبرت على الفرار من الأراضي المسيحية في نهاية القرن الخامس الميلادي. استضافت المدينة ولفترة طويلة مجموعة متميزة من المفكرين والأطباء، كان الكثير منهم يتكلم الاغريقية والسنسكريتية والسريانية وهي لهجة آرامية كانت منتشرة في تلك المنطقة. وقد عرفت هذه المجموعة اللغة العربية بعد قدوم العرب مباشرة. الخلفاء المسلمون دعموا برنامجاً مكثفاً لترجمة مخطوطات "الفلسفة" و"الطب" وبقية العلوم إلى اللغة العربية.
كانت كمية الترجمة التى انجزت في جند شابور حدثاً غير مسبوق في التاريخ ويمثل منذ بدايته جهداً على المستوى العالمي. انخرط فيه كثير من المسيحيين واليهود إلى جانب المسلمين. وفي أغلب الأحيان كان ذلك يتم اعمالاً لقرارات ملكية تعكس اهتمام الخلفاء وأعضاء الحاشية والحكومة ليس فقط بالعلوم العملية مثل الطب والفلك ولكن أيضاً بالموضوعات الأقل تداولاً مثل التنجيم والسيمياء. القرون الأولى لحضارتنا شهدت أيضاً تأسيس مكتبات عظمى ومراكز للتعليم، في كل مكان. وقد قامت أشهر هذه المراكز في مواقع السلطة. على سبيل المثال، ازدهر بيت الحكمة في القرن التاسع في بغداد، حيث لم يكن مركزاً للترجمة فحسب، بل للدراسات أيضا.
هكذا، وفي أقل من أربعة قرون من التوسع الاسلامي، كان الفلاسفة وعلماء الرياضة وعلماء النبات والأطباء والجيولوجيون والسيميائيون وزملاؤهم في العلوم الأخرى، العاملون في جميع الأنحاء الاسلامية، قد أتموا عملاً فذاً في الكشف عن التراث الثقافي المهول الذى وصل إليهم من الحضارات الأخرى السابقة عليهم. وكما هو متوقع أثار هذا الانفتاح المعرفي الهائل على الموروث الانساني مخاوف فئة أخرى من أسلافنا، لابد وأنها ضمت بين صفوفها عناصر حسنة النية، راودها القلق على خصوصية حضارتنا الوليدة آنذاك ، ولا مشكلة في هذا! على العكس، كانت الخشية كل الخشية لو أن مثل هذا الاختلاف الخصب، إزاء مسألة الانفتاح المعرفي، قد غاب! فلا أحط من أن تُستنسخ الرؤى، أو أن يُعاد تدويرها!
بيد أن قلق أصحاب النوايا الحسنة من أسلافنا الأول إزاء هذا الانفتاح المعرفي الهائل، لم يلبث أن وجد من يُزايد عليه، ويُنادي بفكرة "النقاء الحضاري المُطلق"! فكرة خطيرة كهذه، ساعد على تمريرها رغم استحالتها نظرياً أمور عديدة، من بينها: 1 أن للانسانية تراثاً غزيراً من المعتقدات والقيم قد يكون متبايناً في ظاهره، في حين أنه يعبر في صميمه عن وجهات نظر، تدافع بطرائقها الخاصة عن حرية الانسان وكرامته(23). 2 اقتران الانفتاح المعرفي بانبهار مُربك وتكالب مُستفز على المُحاكاة وليس النقد والتطوير، على ما يبدو لعدم امتلاك أسلافنا تجارب سابقة في نُشدان الحقيقة من خلال البحث والتقصي(24). 3 وفود علوم سيئة السمعة كالسحر والتنجيم. 4 اشتغال جُل أنصار الانفتاح المعرفي بالفقه، وتورطهم بالرأي في مسائل دينية شائكة(25). 5 الخوف من شيوع القول بانه لو كان "الهام النبوة" حقاً لما اختفى على مُحبي الحقيقة، وبالتالي شيوع الاشتغال بالبحث والتقصي(26). 6 المُزايدة على الانفتاح المعرفي من جانب عبيد المصالح وخاصة أولي الأمر، ونجاح هؤلاء في تغليف مُزايدتهم برقائق دينية، عبر تكريس ذلك الخلط المُربك بين الاسلام كحضارة أنتجها بشر ومن ثم يحق لهم نقدها ودفعها للأمام، والاسلام كأصل ديني مُكتمل، "حقيقة مُلهمة" للنبي، لا يجوز لبشر إلى أبد الآبدين، تعهدها بنقد أو تطوير.
عبيد المصالح في مساعيهم الآثمة والدءوبة الرامية لاسدال الستار الحديدى الخانق على عقول وقلوب أبناء حضارتنا ، لم يقنعوا أو يكتفوا بالتمكين لفكرة "النقاء الحضاري المُطلق"! بل أرادوا فكرة أخرى على النسيج نفسه، تُعضد الأولى وتشد من أزرها! وبالطبع، لم يكن ثمة فكرة أنسب ولا أفضل من المناداة ب "عصمة الأسلاف وبلوغهم حد الكمال"! فكرة كهذه، فضلاً عن اتساقها وتناغمها مع ميراث العصبية والتفاخر بالأنساب قبل الاسلام، كانت كافية لاحاطة تاريخنا الحضاري بسياج من التوقير والقداسة(27). فما صنعته يد الأسلاف "المعصومين عملياً وليس نظرياً "، لا سبيل لنقده وتطويره! أليسوا الأمناء على الهام النبوة والأقرب إلى رضوان الله.
وللمصادرة على مطالبة أنصار الانفتاح المعرفي آنذاك بالحق في التعايش مع مناوئيهم من أنصار الستار الحديدي، كان لابد من "ضربة استباقية"، استهدفت التشهير بهم وتحقيرهم في عيون أبناء حضارتهم، وهو ما تم بالفعل على نحو غاية في الاتقان، بحسب ما تشي روايات المؤرخين المُحايدين والموثوق بهم. فقد شاعت وراجت مُسميات لم تخل من غرض، كال"الفئة الصالحة"، و"الفئة الضالة/أهل البغي"، و"الفتنة"..الخ(28). وزاد الطين بلة، ما شهدته مسيرتنا الحضارية الطويلة والمريرة من توظيف لهذه المُسميات ضد كل من سول له ضميره الاشتغال، أو حتى المُطالبة بحق أبناء حضارتنا في الاشتغال، بنُشدان الحقيقة، عبر البحث والتقصي!
وهكذا، وعلى الرغم مما لقيته علوم الأوائل أو القدماء(وهو اسم أُطلق على تلك العلوم التي نفذت إلى المنبت الحضاري الاسلامي بتأثير المؤلفات المأخوذة عن الكتب اليونانية تأثيراً مباشراً أو غير مباشر في مقابلة علوم العرب خاصة الفقه) من عناية كبيرة في صدر حضارتنا الاسلامية على نحو ما ذكرنا ، حث عليها الخلفاء العباسيون وشملوها برعايتهم، فقد ظل هناك دائماً انصار العزلة ينظرون في شيء من الشك وعدم الثقة أو الاطمئنان إلى دارسي علوم الأوائل. وكلما ازدادت شوكة هذه الفئة المناهضة للانفتاح المعرفي، كان عدم الثقة لدى البيئات الاسلامية بإزاء الاشتغال بعلوم الأوائل أشد وأعنف. وأقدم مثل لذلك ما شعر به الفيلسوف الكندي من قلق وخوف بعد عودة سلطان هؤلاء في عهد المتوكل. هذا النحو من عدم الثقة لم يقتصر على "التفلسف" بمعناه الدقيق، بل امتد إلى كل ما يُنشد خارج اطار الحقيقة المُلهمة التى مصدرها الوحيد المُؤتمن هو المصحف المُقدس وسنة النبي(29).
المسلم الصالح، فيما يرى أنصار العزلة، عليه أن يتجنب الانفتاح المعرفي أشد التجنب، باعتباره خطراً على دين الاسلام. فكل انحراف عن طريق المرشدين الدينيين الرئيسيين كان القوم يعزون السبب فيه إلى الانفتاح المعرفي، إذا كان صاحب هذا الانحراف قد اتصل بها عن قرب أو عن بعد. فتاج الدين السبكي يرى أن السبب الذى جر الخليفة المأمون إلى القول بخلق القرآن هو هذا المقدار الضئيل الذى عرفه من علوم الأوائل. ويذكر لنا أن العامة يرجعون أقوال الغزالي في مسائل كثيرة بما لا يتفق ومذهب أهل السنة في عصره إلى تأثره بعلوم الأوائل والغزالي لم يستطع مطلقاً أن يتحلل من اهتمام بالفلسفة، على الرغم من أقواله . من هنا، يسهل تفهم كيف أن الكثيرين، ممن كانوا يحرصون على حسن السمعة، كانوا يسبلون قناعاً على دراساتهم الفلسفية، مظهرين اشتغالهم بها تحت ستار علم من العلوم الحسنة السمعة.
وأوضح مثال لهذا، وإن لم يكن هو المثال الوحيد، محمد بن على بن الطيب المتوفي سنة 436. فيذكرون عنه أنه "كان إماماً عالماً يعلم كلام الأوائل"، إلا أنه خشي أهل زمانه فلم يشأ الظهور صراحة بمظهر الفيلسوف، فأخرج مذهبه في صورة "علم الكلام"، التي لم تكن مع ذلك حائزة لرضى أهل السنة في عصره هي الأخرى. ولكنها كانت نسبياً أقل خطراً من التفلسف، كونها نمت في تربة فقهية.
ومن أجل هذا كله، فقد كان مما يثير الغبطة ويبعث على الرضا، أن يُقال إن واحداً من الفلاسفة قد رجع ساعة موته أو في شيخوخته عن ضلالات الفلسفة وأكاذيبها، وأنكر التفلسف حب الحقيقة ونشدانها الذى استهداه طوال محياه. مثل هذا يُروى في لهجة يُمازجها سرور المنتصر الظافر، عن عالم كفيف البصر، هو حسن ابن محمد بن نجاء الأربلي المتوفي سنة 660، الذى عاصر ابن خلكان، وجرت بينه وبينه مقابلة لم تكن طيبة. كان حسن هذا اماماً عالماً بعلوم الأوائل، بيد انه كان يتقي أهل زمانه بالتنكر لها، فأخرج ما عنده في صورة "الكلام"! وفي دمشق كان يجتمع خلق كثير من المسلمين وأهل الكتاب وأتباع الفلسفة كي يأخذوا عنه. ويروون أن آخر كلمة قالها ساعة الموت هي: "صدق الله العظيم، وكذب ابن سينا"!
ثمة حادثة أخرى طريفة لشد ما ترتبط بحديثنا أشد الارتباط، في تفاصيلها المُضحكة المُبكية تتجلى سطوة الأفكار الزائفة على نحو فج وصارخ! كلنا يعرف الثائر المعروف بجمال الدين الأفغاني، وكلنا يعلم قدر الرجل ومدى تأثيره ونفوذه في ثقافتنا العربية المعاصرة، ففي مصر مثلاً تتلمذ على يديه ونهل من معارفه رواد ما اصطُلح على تسميته بعصر النهضة، كمحمد عبده، مصطفى كامل، قاسم أمين..الخ!
إلى هذه الدرجة الشديدة العلو وصل تأثير الرجل ونفوذه! ولقد وقعت اثناء اعدادي لهذه الدراسة وبالصدفة البحتة على كتاب وثائقي خطير، بعنوان: "جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني كما يقدمه ابن أخته ميرزا لطف الله خان"، مُترجم عن الفارسية! الكتاب يحكي بالوثائق سيرة جمال الدين، ويُعضد في مجمله زعمنا بوقوع أبناء أمتنا في أسر أفكار زائفة كالنقاء الحضاري وعصمة الأسلاف.
خلاصة الكتاب ان الثائر الطموح جمال الدين ايراني الأصل وأنه لما صمم على السفر والطواف بالبلاد الاسلامية لايقاظها من سباتها وجد أن انتسابه إلى ايران سيقف عائقاً دون دخوله هذه البلاد، ودون القيام بالدعوة فيها، فلقب نفسه ب"الأفغاني"، حتى يتمكن من أن يجد أذناً صاغية بين الشعوب السنية التى يزورها والتى تشكل أغلبية العالم الاسلامي ، ولم يكن أمام جمال الدين لقب آخر يستطيع أن يحتمي به غير "الأفغاني"، لأنه فضلاً عن أن أفغانستان بلاد سنية، وأن لغتها هي الفارسية كلغته هو ، فإن مذهبها هو المذهب الحنفي الذى كان المذهب الرسمي في الدولة العثمانية. فالتعصب المذهبي كان على أشده، خصوصاً في عصري السلطان عبد الحميد في تركيا والشاه ناصر الدين في إيران، ولولا صنيع جمال الدين هذا ما تيسر له وياللسخرية أن يحظى بثقة الأزهريين في مصر وهو شيعي(30).
وطبقاً للكتاب نفسه، حقق انتساب السيد جمال الدين إلى الأفغان هذا الغرض، بل حقق له نفعاً آخر هو أنه جعله بعيداً عن متناول ممثلي إيران وقناصلها في الخارج، لأن أفغانستان لم يكن لها تمثيل في الخارج في ذلك الوقت، كما كان للانجليز نفوذ كبير فيها، فكانوا يرعون اتباعها في الخارج. يسر هذا للسيد جمال الدين مهمة السفر إلى الأقطار السنية، كما يسر له الاقامة فيها بعد طرده من إيران.
وقد ازداد اصرار جمال الدين على أنه أفغاني حينما ساءت علاقاته بحكام ايران حتى يبعد الشر عن أسرته في أسد آباد، إذ جرت العادة في ذلك الوقت وكما يحدث اليوم في بلادنا أن تؤخذ الأسرة بجرم أى فرد منها، ولو أن هذا لم يغن أسرة جمال الدين فتيلاً ولم يبعد عنها الشر بعد اتهام جمال الدين بالاشتراك في تدبير قتل ناصر الدين شاه. وفي تفسيره الوجيه لما اكتنف موت جمال الدين في الآستانة من غموض، أوضح الكتاب أن عريضة وصلت عن طريق علاء الملك سفير إيران في تركيا، على خلفية الاتهام المُشار إليه تواً، كشفت حقيقة أصل جمال الدين عند السلطان العثماني بالدلائل القاطعة! ظهر للسلطان أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغانيين، ويتخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به، فدبر دس السم له، وكانت هي طريقة الخلفاء العثمانيين للتخلص من غير المرغوب في وجودهم في الحياة!
"الأفغاني" ثائر عظيم، لا شك في ذلك، ولولا أنواره، لكان الحال في مجتمعاتنا الكسيرة فيما أرى أكثر انحطاطاً مما هو عليه! رحم الله ذلك الثائر "الفارسي"! الفزع يصيبني حين أفكر فيما كان سيحصل لو أن الأفغاني لم يفطن لمخازي أمتنا وانسياقها غير المحسوب بفضل عبيد المصالح وراء أفكار زائفة كالنقاء الحضاري المُطلق، وعصمة الأسلاف. كانت ثورته حتماً ستُرفض، وتُرمى بكل ما يُنفر منها!
الأكثر إثارة للدهشة كما للأسف هو عدم انكار الأفغاني لما احتال هو نفسه لتلافيه، فها هو شكيب أرسلان يزوره ويدور الحديث بينهما حول ما رُوي عن عبور العرب المحيط الأطلنطي قديماً واكتشافهم أمريكا، فيقول السيد الأفغاني(31):
"إن المسلمين أصبحوا كلما قيل لهم الانسان كونوا بني آدم أجابوه إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من الخمول والضعة. إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالاً، ولكنكم أنتم أولاء كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آباؤكم إلا أن تفعلوا فعلهم".
كلام الأفغاني، وهو ما يضاعف أسفي، لا يخلو من اقرار ضمني بتنزيه الماضي وتمجيده، ولا يخلو أيضاً من دعوة مألوفة في أدبياتنا التنويرية لاستعادة ذلك الماضي الزاهر، دون أدنى تنبيه لحتمية تجنب ما عكر صفوه من أفكار زائفة. فهل نسي الأفغاني على ما عُرف عنه من ثورة ونُبل أم أنه تناسى كون بناة حضارتنا بشر مثلنا، أدوا دورهم وامتلكوا الجرأة على أن يحيوا تجربتهم الخاصة، بما لها وما عليها، وانه استنسرت بين ظهرانيهم أكاذيب كالنقاء المُطلق وكمال الأسلاف.
لسنا استثناءًا من ناموس الحياة! لم توجد قط على ما هو معروف حضارة بعينها تفردت بالابداع أو النقل أو خلت من سمة تميزها عن غيرها من الحضارات. حتى الحضارة الغربية نفسها بكل زخمها لم تشذ عن هذا الناموس، ولولا خروج هذه المسألة عن نطاق البحث الماثل، لتناولتها بشيء من التفصيل(32).
الأحداث الجارفة التى تثيرها دوافع الهيمنة والاستغلال قد تُعرض سمات الأصالة للحضارات للطمس، غير أن هذه السمات أو هذا الجوهر الانساني المشترك يظل حياً يتمثل في طرائق الحياة، ويتردد صداه في الجهد الذى يبذله الانسان لكي يفهم محيطه ونفسه، ولكي يعين الطريق الذى سيتبعه من قوى الطبيعة، ولكي يسيطر بالتعاون مع أمثاله، على الطبيعة وعلى أعماله ذاتها وعلى تعابيره، ولجعلها متلائمة مع القيم والغايات التي يكتشفها. هذه الوجوه الانسانية هي من الوضوح في كبريات الأعمال الأصيلة، حتى لتُنسى بسهولة جملة العوامل الثقافية المؤثرة في عمل المبدع الذى يُنتج ، لأول مرة، شكلاً من الابداع مُختلفاً عن القديم. أو يعرض لأول مرة مشكلة ما يحلها بطريقة مُبتكرة تكشف عن أخطاء الحلول القديمة ونقائصها. ومع ذلك فإن هذا المُبدع قد استفاد من التراث الانساني، مُمثلاً في المواد التى اُنضجت سابقاً والاهتمام الذى تركز على القضايا المُعالجة والجهود المبذولة للفهم وحاجات المعاصرين وتقديرهم. والواقع أن الاطار الذى ينبسط فيه مثل هذا الجهد الابداعي هو من الأهمية، بحيث كثيراً ما يحدث أن يكثر في عصر إلى الدرجة التي تُميزه بقوة.
نشر المعرفة بمثل هذه الأمور والتنقيب عما تتميز به الحضارات من سمات الأصالة سيؤدي، إن هو حدث، إلى اضعاف نزعات المزايدة والتمييز، بين أبناء الحضارات المختلفة أو حتى بين أبناء الحضارة الواحدة. لسنا في الشرق والغرب إلا حضارت متنوعة على كوكب واحد، نهر واحد تعددت روافده، من نبع واحد أتينا، وفي المصب نفسه تُسكب أعمارنا القصيرة. أقول هذا لأبين مدى زيف فكرة "النقاء الحضاري المُطلق"، وإن وجدت من يُزايد عليها، داخل حضارتنا وخارجها.
حضارتنا الاسلامية، ورغم اقراري بسمو قصد روادها الأول، لم تبدأ من العدم، فالبدء من العدم امتياز لله وحده! ولم تك انقطاعاً معرفياً عما سبقها، حتى في حياة النبي محمد، وهو واضع اللبنة الأولى! يكتشف هذا بسهولة ويسر فقط أولئك الذين يملكون القدرة على القراءة الأمينة والمُنظمة لتاريخ الانسان على الأرض..
الزمن ليس في انحدار كما علمونا(33)، ولا يسير من سيء لأسوأ كما ألقوا في روعنا منذ نعومة أظافرنا! حاضرنا وإن كان غير مُرضٍ ، يظل أفضل من الماضي وإن عظم شأنه ، فهو ملك خالص لنا! انه هدية ثمينة منحنا الله إياها على نحو ما منح أسلافنا العظام، لاثراء حضارتنا والحياة ودفعهما إلى الأمام! فرصتنا لنكون أنفسنا لا مجرد نُسخ مُكررة ومُعادة! فرصتنا للاسهام بقوة وشرف في تنقية الماضي وانتاج الحاضر والمستقبل، لا أن نكتفي باستهلاك ما أنتجه أسلافنا أو أبناء الحضارات الأخرى! لا أمر من الندم على الحياة، فلندافع عن وجودنا وحقنا فيها! ولنمح عن أنفسنا ما نُعير به، وهو اننا أمة من غنم، شكوانا الأبدية يقف وراءها أن عصى الراعي غليظة! وأن ما يوضع أمامنا من علف وإناث لا يُوزع بيننا، بالقسط! وأن حريتنا(!!) لا تتجاوز ما يسمح به طول "الحبل" الذي يُحيط بمصائرنا!
في مقالة سابقة لي ناقشت باسهاب ذلك الإخفاق "المُستدام" من جانب أبناء حضارتنا في ادارة عملية الانفتاح المعرفي منذ جرت أول محاولة بعد رحيل النبي للانفتاح على الموروث الإنساني(34) ، وخلصت إلى ان مجتمعاتنا اليوم، وكما كانت في الماضي، ليست فقط عاجزة عن التعاطي مع الوافد المعرفي من خارجها، بل هي عاجزة أيضاً على نحو مضحك مبك عن التعاطي مع ميراثها الذاتي، أعني الوافد المعرفي من العصور الماضية، داخل حضارتنا نفسها! خلصت كذلك في المقالة نفسها إلى أن الانفتاح "النقدي" على الوافد المعرفي الخارجي والداخلي ، كفيل بمحو أو على الأقل لجم هذا الاخفاق المُستدام في تعاطي أبناء حضارتنا مع اشكالية كهذه!
وليس لقارئي الكريم أن يخلط بين دعوة فكرنا الأنسني لحتمية اقتران الانفتاح المعرفي بنفوس حُرة قادرة على النقد والتطوير، وبين دعاوي "ضِرارية" للانفتاح المعرفي، كتلك التي تجري بسخاء على الألسنة في الندوات والمؤتمرات الأكاديمية، في أرجاء عالمنا الإسلامي، والتي لا هم لأصحابها وفي مقدمتهم دكاترة القانون المقدس إلا المُزايدة، والتخفي المُتقن وراء مسوح الاستنارة والحمية المعرفية!
يقول عبد الرحمن بدوي، في تقديمه لكتاب "روح الحضارة العربية"(35):
"أهمية التراث اليوناني بالنسبة إلى دراسة الحضارة العربية أكبر بكثير جداً من أهميته بالنسبة إلى الحضارة الغربية الأوروبية الفاوستية، بالرغم مما قد يبدو في هذا القول ظاهرياً من غرابة. ذلك أن مصير الحضارة العربية كان أوثق ارتباطاً وبدرجة هائلة بالتراث اليوناني من ارتباط الحضارة الأوروبية بهذا التراث، اذ هو الذى قسر الحضارة العربية على الدخول في قالبه وهي لا تزال في مستهل نشأتها، فانطبعت بطابعه قبولاً أو نفوراً، وكلاهما هنا سواء بكل وضوح بحيث لم يعد من الممكن محو هذا الطابع عنها ولا الانفكاك من أسره.
"أما الحضارة الأوروبية المعاصرة والحديثة فقد اتخذت منه مجرد تكأة للوثوب، حتى انها لم تكد تتم الوثبة الا وطرحته ظهرياً. وما هذه الحركات التي تدعى النزعات الانسانية المحدثة والتى نراها تتجدد أو تتردد من حين الى آخر في تاريخ الحضارة الأوروبية الحديثة من عصر النهضة مارين بفورة فنكلمن وجته حتى نصل إلى النزعة الانسانية المحدثة التى يمثلها فرنر ييجر، العالم الألماني المعاصر آنذاك وصاحب مجلة "الحضارة القديمة"، ومن التف حوله وكتب في مجلته هذه، ثم جماعة جيوم بيديه في فرنسا، نقول ان هذه الحركات نفسها والشعور بالحاجة إلى بعثها انما هو أبلغ دليل على نسيان الحضارة الاوروبية لهذا التراث، بوصفه عاملاً لا يزال يحيا بكل قواه فيها، وهذه الحركات انما يقصد منها إلى تذكير تلك الحضارة به حين تنساه حتى تتخذ منه مرة أخرى تكآت للوثوب حينما يشعر أبناء تلك الحضارة بأنهم في حاجة إلى تلك التكآت. أما في الحضارة العربية فإن القوم لم يكونوا بحاجة إلى شيء من ذلك، لأنهم لم ينسوا التراث اليوناني أبداً، وكيف ينسونه وهو عنصر فعال دائم الحياة في كل ما يفكرون فيه ويشعرون به ويقدرونه! ماذا أقول! بل كانوا على العكس من ذلك في حاجة الى من ينسيهم اياه، او يخفف عنهم ثقل وطأته، أو يرشدهم إلى ينبوعهم الأصيل. ويمثل هذه الأحوال الثلاث على التوالي: أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، وأبو عثمان الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، ثم يمثل هذه الحالة الثالثة أعني الارشاد إلى الينبوع الاصيل شهاب الدين يحيى بن حبس السهروردي المقتول، وهو الذى دعا إلى نزعة انسانية تصعد عن الروح العربية الأصيلة.
"وإذا كان سيقدر لنا معشر العرب اليوم أن ننشيء حضارة جديدة، فان مشكلتنا اليوم مع الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة وهي الآن في دور النهاية وافساح الطريق لحضارة مقبلة سيبزغ فجر ربيعها في نهاية هذا القرن أو مطلع الألف الثالث هي بعينها نفس المشكلة التى عاناها أسلافنا الذين أنشأوا تلك الحضارة العربية. فهل لنا أن نستنبط العبرة من تلك التجربة الأليمة البائسة؟ التى عاناها أولئك الأسلاف؟".
إلى هنا ينتهي كلام العملاق عبد الرحمن بدوي، وهو يُعضد في مجمله وعلى نحو شديد الوضوح دعوة فكرنا الأنسني لحتمية اقتران الانفتاح المعرفي بنفوس حُرة قادرة على التثمين، يزدهر معها هذا الانفتاح ويؤتي ثماره الحُلوة. كلام بدوى أيضاً يعضد زعمنا ب"ضِرارية" دعاوي الانفتاح المعرفي التي تجري بسخاء على الألسنة في الندوات والمؤتمرات، والتى لا تتجاوز كونها "خطط اشغال"، فأصحابها يتعامون بدربة مُخيفة عما هو حاصل في مجتمعاتهم المُتخلفة من تجفيف لمنابع التفكير الفلسفي وتدجين مُخز لعقول وقلوب النشء. أين حُمرتك أيها الخجل!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.