"صراحةٌ حول واقع الترجمة بالمغرب" جمعت متخصصين وأكاديميين ومسؤولين سابقين في يوم دراسي نظّمته "الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة" التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، الخميس، بالعاصمة الرباط، بعنوان "تعليم وتعلم الترجمة بالمغرب.. تحديات الراهن ورؤى المستقبل". أداة تفكيرٍ ومساءلة عبد الفتاح الحجمري، منسق الأكاديمية العليا للترجمة، نبّه إلى ما يشهده المغرب من "محدودية تعليمنا للترجمة، لا من حيث التخصصات فقط؛ بل غياب رؤية مؤسسية تؤطر الترجمة ضمن عمل شامل.. فلا تنسيق بين الجامعات، ولا تنسيق بين الجانب الأكاديمي والحاجات المهنية، فضلا عن ضعف القاعات المجهزة والمختبرات... والانفصال شبه التام عن النسيج المهني، فنادرا ما يتاح للطلبة الانخراط في أمور عملية... وضعف التفاعل مع متطلبات السوق المتغيرة". وأكّد الحجمري، في كلمته، على ضرورة "استبدال منطق الحفظ بالفهم والتلقين (...) ووضع الترجمة في قلب التفكير في التعدد، وتكوين الإنسان القادر على التفكير بلغتين وثقافتين والعيش في زمنين دون فقد الهوية والكينونة؛ لأن من لا يعرف كيف يترجم لا يعرف كيف يصغي، ومن لا يصغي لا يتعلم، ومن لا يتعلم لا يبدع". هذه الترجمة "أداة فعالة للتأهيل الاجتماعي، والمشاركة في الحركية الاقتصادية، وإنتاج نخب فكرية قادرة على الترابط العالمي في ظل تنافس يسم العلاقات (...) وهي أداة توازن وتدبير لا بين اللغات في حد ذاتها، بل ما تحمله هذه اللغات من رؤى للعالم"، كما تطرقت الكلمة إلى "دور الترجمة في بلورة سياسة لغوية عادلة، وخلق مساحات مشتركة للتفكير والتلقي وتفكيك 'الهيمنة الثقافية اللغوية' التي تتستر غالبا خلف لغات المركز ومؤسساته". هذا ما يطرح "الحاجة إلى تطوير تعليم الترجمة، واستراتيجيات دعم استخدام اللغات المختلفة في العلم والمعرفة"، وينبّه إلى "إشكالات التعدد اللغوي في المغرب رغم الغنى، رسمية وأجنبية... فلا يمكن الحديث عن مترجم متخصص دون امتلاك قاعدة لغوية صعبة"، والواقع يعرف "وصول الطلبة إلى التعليم العالي وهم يفتقرون للغة والتعبير فضلا عن الترجمة... فيما في الأقسام التحضيرية يُطرح إشكال موقع المادة ضمن الهيكل البيداغوجي فتدرس كمادة تابعة". هذا ما يفسر إرادة الموعد النقاش للانتقال من "واقع الإهمال والحضور الهامشي للترجمة، وتحويلها إلى رافعة حقيقية للتنمية"؛ لأنها "نافذة على عالم معقد"، لا ينبغي أن تبقى حبيسة "تمارين مدرسية سطحية، وتكوينات مهنية وأكاديمية تفتقد للتجانس والهدف، رغم تزايد الحاجة إليها"، بل الحاجة ماسةٌ إلى وضعها "في صلب السياسات الثقافية والتعليمية، فهي مراهَنة على مجتمع المعرفة، ومحاورة العالم بلغاته، وتأسيس نهضته بفكره ووعيه. والترجمة في النظام التعليمي تعيد (...) الجوهري: تعلم التفكير قبل القول، وتعلم الفهم قبل التعبير؛ لأن وراء كل لغة فلسفة صامتة، فتصير الترجمة أداة للفلسفة وتعزيز القدرة على التفكير والتمحيص العميقين والشك الإيجابي، وأداة تفكير ومساءلة"، علما أن "ترجمة العالم ليست ترجمة لغاته فقط، بل ترجمة مفاهيمه وأسئلته وقلقه وتقدمه". في انتظار هندسة لغوية منسجمة خالد الصمدي، أستاذ التعليم العالي وكاتب دولة سابق مكلف بالتعليم العالي السابق وعضو المجلس الأعلى للتربية والتعليم سابقا، تطرق إلى الترجمة ووضعها المرتبط بوضع لغات التدريس، وتدريس اللغات في المرحلة ما قبل الجامعية، في ظلّ التطلّع الملكي ل"هندسة لغوية منسجمة"؛ وهو ما جعل مداخلته تقديما للإصلاحات، ومضامين الرؤى، وجلسات الاستماع، والمعلومات حول عدد المسالك المتخصصة، من أجل الخروج بتوصيات. وذكر الصمدي أن العرض البيداغوجي يعرّف مهام الترجمة بمد جسور التقارب والتواصل والتفاهم بين الحضارات والثقافات، وتيسير الاشتغال في مختلف مجالات التنمية المالية والقانونية والتجارية والدبلوماسية، وتكوين متخصصين في الترجمة المهنية التحريرية والفورية، وتكوين متخصصين في الترجمة العلمية الأكاديمية المتخصصة، عبر 25 مسلك تكوين في الترجمة، و6 دبلومات تقنية للترجمة التقنية والتحريرية كلّها بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة، ثم 13 إجازة في الترجمة، منها إجازةٌ للتميز بجامعة محمد الخامس بالرباط، مع وجود مسالك للماستر المتخصص. أما تحديات التكوينات الجامعية في مجال الترجمة، فهي "ضعف التكوين في اللغات في التعليم ما قبل الجامعي"، وفق الهيئة الوطنية للتقييم لدى المجلس الأعلى للتربية والتكوين؛ "مما يتطلب تسريع تنزيل الهندسة اللغوية حول تدريس اللغات ولغات التدريس"، وإخراج مرسومها التطبيقي. كما توجد تحديات "بنيات المؤسسات الجامعية التقليدية"، مثل استمرار "كلية الآداب وكليات الحقوق وكليات العلوم. رغم حركية اعتماد جيل جديد، مثل كليات اللغات والفنون، في مدينتَي القنيطرة وأكادير". ومن التحديات "البينة البيداغوجية على مستوى الشُّعب، دون استطاعة الأساتذة خلق شعب مندمجة تأخذ بعين الاعتبار التكامل المعرفي بين العلوم، والنقص الحاد في الأساتذة المتخصصين في اللغات... لتعليم الطلبة الجامعيين اللغات"؛ مما يتطلب "تقوية تجربة المراكز الجامعية للّغات"، علما أن "كلية الآداب بنمسيك قد أحدثت مسلكا بالعربية بعنوان الترجمة والذكاء الصناعي يواكب التحديات الجديدة. وينبغي دخول هذا التخصص في مختلف مجالات التكوين بما في ذلك الترجمة، مع الانضباط للضوابط القانونية والتشريعية"، ومد جسور مختبرات البحث بين التخصصات. إشكالٌ تعلُّميّ عبد القادر سبيل، عميد كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية ومدير مختبر اللغات والفنون والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الأول بسطات، ذكر "أننا نعيش يوميا في الترجمة؛ فهي وسيلة أساسية للتلاقح بين الشعوب، وجسر للتواصل بين الثقافات والحضارات. وتنقل إيديولوجيات معيّنة؛ وللترجمة غايات يحددها إطار سياسي معين دون غيره". وزاد: "من الضروري تعزيز البرامج الدراسية المتخصصة، وتوسيع الاهتمام باللغات المتنوعة، والاهتمام بقضايا من بينها الترجمة والذكاء الاصطناعي (...) ويمكن أن تلعب الجامعة دور التكوين ببرامج أكاديمية متكاملة، تجمع بين المعرفة النظرية والجانب التطبيقي؛ لأن الغالب علينا الآن هو الجانب النظري". وسجل الأكاديمي أن "الجامعة المغربية غير مواكبة بشكل كبير للتقنيات المعاصرة للترجمة. وتفتقر إلى العدد الكافي من الأساتذة المتخصصين في الترجمة". أما "الاهتمام كله" فينبغي عليه "أن ينصب على التكوين اللغوي؛ فالإشكال تعلُّمي في مرحلة ما قبل الجامعة، لأن الطالب صار لا يتقن اللغة، فيما عدا في المدارس الخاصة التي تولي اهتماما كبيرا لتعلم اللغات على حساب أمور أخرى (...) وضعف المعرفة باللغات الأجنبية يحد من الترجمة، فالترجمة في البداية كتابة وإعادة كتابة، وتحتاج قدرة على الفهم وصياغة المعنى في اللغة الهدف بشكل سليم (...) كما أن عدم الاكتراث بالمكتبة خطر هوياتي ولغوي"، ومن الضرورة "التعليم العمليّ للترجمة". مولاي محمد الإدريسي، أستاذ مكون بمركز تكوين المفتشين، قدّم مداخلة فؤاد شفيقي حول "تحقيب الترجمة" و"حتمية الاهتمام بالحقل المعرفي الأكاديمي للترجمة، بأجوبة أكثر براغماتية للّحاق، بعيدا عن كل انحياز لغوي وهوياتي"؛ فيما تطرق إدريس اليعقوبي، مدير التنسيق البيداغوجي السابق بوزارة التربية الوطنية، إلى عدم حضور الترجمة في منهاج التكوين المهني، ولو مورست عمليا بصيغة غير مهنية لا تعتمد بقواعدها، من قِبَل كل المكونين بالعربية والترجمة للفرنسية والإنجليزية، في ظلّ ضابط "استجابة التكوينات للحاجيات" الملموسة "من حيث العدد والجودة"؛ لأن هذا القطاع "ممول أساسا من الضريبة المهنية". تاريخ الترجمة بالمغرب عبد الإله مصدق، مدير سابق لمركز تكوين مفتشي التعليم ومفتش عام سابق لوزارة التربية الوطنية، قدم عرضا حول تاريخ الترجمة ليصل إلى واقعها، قائلا إن الترجمة بالمغرب بدأ تدريسها في المدرسة الحسنية للسلطان الحسن الأول لتكوين الطلبة المتوجهين إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، وهذه من بين "مبادرات كثيرة في عهد السلطانين محمد الرابع والحسن الأول، يبخسها البعض؛ في حين يعتبرها عبد الله العروي ثورة بالقياس لما عرفه المغرب آنذاك، وكانت تململا وتحركا من الركود لما يجري في البلاد من أبحاث ونقاشات في مجال التعليم". وتابع: "في العقد الأول قبل الحماية، في عشرية القلاقل، كان نشاطٌ متميز في مجال التعليم، وأبو عبد الله السليماني في "اللسان المُعرب" عبّر عن رؤية متقدمة للتعليم، ونادى بتمويله من الحكومة بضريبة يؤديها كل مغربي، ودعا إلى تعلم اللغات الأجنبية؛ لأن الترجمة فقط غير كافية لملاحقة ما يجري في العالم (...) مما يعني أنه كانت فعالياتٌ تصبو للخروج من الوضع الذي كان فيه المغرب. لكن توحّش (...) الغالبِ آنذاك أجهض المبادرات، وفرض الحماية الفرنسية والإسبانية على المغرب"، وفي ذلك العهد أسّست أولى مدرسة في عهد الحماية تكوّن المترجمين بالمغرب. تجربة الترجمة وُجدت لاحقا في مدرستين وطنيتين بفاس والرباط قبل الاستقلال، وكانتا تدرّسان بالعربية فقط؛ لكن تُروجِع عن القرار بعد سنة. كما كانت هناك "الازدواجية النضالية" للغات عند تعلّمها مثل ما عبّر عنه المفكر عبد السلام بنعبد العالي الذي درس في "ثانوية النهضة" بسلا وزامله المحاضر في الباكالوريا، حيث تحدث في شهادة عن نضال الأساتذة للترجمة إلى العربية ونضال التلاميذ بمواصلة تكوينهم باللغة الأجنبية آنذاك. ونبّه المتدخل هنا إلى أن هاتين الترجمتين لم تستمرّا نظرا لاستنفاد مهمّتهما؛ فالحماية احتاجت تطبيق سياستها والإعداد لما بعد الحماية، وواقع "النضال" لدى الوطنيّين في عهد الاحتلال الأجنبي لا يستمرّ إلى ما لا نهاية. وبعد تقديم واقع التعليم بأنواعه بين الحماية ومدارس الأعيان ومدارس الوطنيين والمدارس التقليدية، ذكر المحاضر أن "النخبة التي أفرزتها الحماية تنوّعت من الفقهاء المتزمتين إلى خرّيجي المدارس الفرنسية؛ وهي نخبةٌ كان عليها تسيير البلاد، ونفهم بسرعة الارتباك الكبير للتعليم في سنواته الأولى، وانعكاساته لا تزال إلى وقتنا الحاضر". وعكس الفكرة المتداولة، قدّر المسؤول السابق أن "التعريب لم يكن مرتجلا وأخذ 12 سنة منذ سنة 1978، رغم بعض الأخطاء منها أن المعروف أن التلاميذ الذين وصلوا إلى الثانوي سيكملون في الجامعة بالفرنسية. علما أن هذا المسلسل كان له معارضون طيلة سنوات تطبيقه، وكاد أن يتوقف في مناسبات عديدة". ثم أردف قائلا: "الازدواجية لا تكتسب في نهاية الأسلاك التعليمية؛ بل تبنى من الأساس. ومعدّو برامج العربية والفرنسية والأمازيغية كل منهم في بحر، مع العلم أن المشترك هو المهم، وأنه ينبغي تقديم نصوص بشكل متناسق للتلاميذ، لا أن نجد أناسا يدرسون المسيرة الخضراء والآخرين في الفصول... بل ينبغي تدريس الموضوع نفسه في الأسابيع نفسها، بلغات مختلفة (...) والأساتذة ولو كانوا مختلفين سيربط التلاميذ بين ما يجري"، كما طرح إشكال كون "برامجنا موحدة بالنسبة لجميع التلاميذ" دون أخذ الوضعية الاجتماعية والجهوية والوسط الذي يعيش فيه التلاميذ بعين الاعتبار.