الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات توقيف في حق نتانياهو وغالانت والضيف    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    رفع العقوبة الحبسية في حق رئيس المجلس الجماعي لورزازات إلى 18 شهرا حبسا نافذا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    المغرب يستضيف أول خلوة لمجلس حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الإقليمي بالناظور    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية        عجلة البطولة الاحترافية تعود للدوران بدابة من غد الجمعة بعد توقف دام لأكثر من 10 أيام    دراسة: تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    جمعويون يصدرون تقريرا بأرقام ومعطيات مقلقة عن سوق الأدوية    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علم الكلام" صحراء ملآى بالعظام اليابسة!
(هذه المقالة مُهداة إلى محمد أركون)
نشر في طنجة الأدبية يوم 24 - 01 - 2011


"إنني في كل مرة يدنو مني اليأس
لا البث أن أحس يداً حنوناً تربت كتفي
وأخري تملأ سراجي زيت
وإذا بنوره يتجدد ويتألق ويتمدد
وإذا بي أبصر اثار أقدام
هنا وهناك
فتستأنس روحي وتتجدد عزيمتي وتشتد
وأدرك أنني لست وحدي في الطريق!"
ميخائيل نعيمة

ما أشد تشوه وقُبح فهم أبناء أمتنا للحرية! وما أخبث التخلف الذي انفق رواد فكرنا الأنسني النبلاء أعمارهم في منازلته(1)! انه تنين عديد الرؤوس، كثير البراثن وحاد الأنياب! انه تنين عظيم جداً! انه تنين مزدوج مشترك من آخرية عربية/محلية لا تتورع عن تكريس اغتراب شعوبنا ثقافياً(2)، ومن آخرية غربية/عالمية تتحالف بدم بارد مع ميراثنا المُر، تنساب في أرضنا كأفعى، تستأصل بدربة ما تبقى في نفوسنا من مروءة وشرف! "يالذل قوم لايعرفون ما هو الشرف وما هو العار!"، مقولة رائعة للمفكر السوري أنطون سعادة(3)، وصف فيها بدقة خنوثة التخلف العربي.
ثمة بون شاسع وفرق عظيم فيما يرى سعادة بين الحياة والعيش! الحياة لا تكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرق بين العز والذل، وما أكثر العيش في الذل حولنا! فكرنا الأنسني بدوره يرى ان الحضارة هي ما يُفكر فيه الناس ويُحسون به ويفعلونه، وهي القيم التي يضفونها على ما يُفكرون فيه ويحسون به ويفعلونه. صحيح ان أفكارهم ومختلف إحساساتهم وقيمهم يمكن أن تنتهي إلى أعمال تؤثر تأثيراً عميقاً في استعمالهم للأشياء المادية، غير أن الحضارة المادية أقل جانب من جوانب الحضارة أهمية. فالسمو الحضاري لا يبلغ ذروته إلا في عقول الناس وأفئدتهم(4)!

قال حكيم: إن الجهلاء هم الذين يظنون أن المباني الجميلة ومباهج الحياة وألوان الترف إن هي توافرت هي التي تشهد برقي الحضارة. شعور الفرد بحريته وكرامته الإنسانية، هو برهان علو الحضارة دائماً وأبداً، هو ذلك الشيء الفذ الذي يجب الاهتمام به وتنميته إلى أقصى حد! وليس هناك ما يؤدي إلى مثل هذا الرقي ك"التربية الخلاقة"، وتزويد الفرد بالقدرة على قراءة الأمور بطريقة أمينة ومنظمة، تجعله قادراً على النقد والابتكار. حق الإنسان في الحياة هو حقه في دفعها للأمام.
مثل هذه "التربية الخلاقة" لا توجد للأسف الشديد في مجتمعاتنا الموغلة في التخلف! فنظمنا التربوية المُغرضة تستأصل بكل دربة ودأب من عقول وقلوب النشء ملكة النقد والابتكار! غرس اليقين في العقول والقلوب صيرنا "أمة من غنم"!

ولمن يسأل: كيف يمكن إذن تفسير ذلك التعامي الواضح، من جانب القائمين على تدريس الفلسفة عندنا، عن هذا التجفيف المنهجي المُستدام لمنابع التفكير الفلسفي في مجتمعاتنا، بل وذهابهم في هذا التعامي إلى حد "التنطع"؟! وهل ثمة إمكانية للحديث عن وجود "تواطؤ" ما؟! في هذه المقالة أحاول قدر جهدي التحقق من مدى وجاهة طرح مثل هذه التساؤلات، عبر استكشاف "علم الكلام"! فعلى ما يبدو، ثمة تيه في صحراءه ضُرب على معلمي "الفلسفة" في بلادنا، كل ما أخشاه أن يكون أبدياً!

مُصطلح "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
يُستخدم مصطلح "الكلام" الذي يعني حرفياً "الحديث" أو "اللفظ المنطوق" في الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية للتعبير عن المصطلح اليوناني "لوجوس Logos" بكل معانيه المتنوعة الدالة على: "الكلمةWord " و"العقل Reason" و"الحُجة Argument". ويُستخدم مُصطلح "الكلام" في تلك الترجمات العربية كذلك للدلالة على أي فرع من فروع التعليم. واسم الفاعل "متكلمون"(في صيغة الجمع، والمفرد منه: "متكلم") يُستخدم للدلالة على الشيوخ الممثلين لأي فرع مخصوص من فروع التعليم. من هنا ظهرت ترجمات عربية(عن اليونانية) من قبيل: الكلام الطبيعي، أصحاب الكلام الطبيعي، المتكلمون في الطبيعيات، أصحاب الكلام الإلهي، المتكلمون في الإلهيات،..الخ. وبهذا المعنى أصبح مصطلح "الكلام" يُستخدم عند من يكتبون بالعربية أصلاً، ربما بتأثير من هذه الترجمات العربية عن اليونانية.
على هذا النحو وطبقاً للمستشرق ولفسون(5) يتحدث يحيي بن عدي عن المتكلمين المسيحيين. ويتحدث الشهرستاني عن كلام إمبدوقليس وكلام أرسطوطاليس وكلام المسيحيين في كيفية التجسد والاتحاد. ويتحدث يهودا اللاوي عن قوم ينتمون إلى نفس مدرسة المتكلمين أمثال أصحاب مدرسة فيثاغورس ومدرسة إمبدوقليس ومدرسة أرسطو ومدرسة أفلاطون، أو عن الرواقيين وعن فلاسفة آخرين وعن المشائين الذين ينتمون إلى مدرسة أرسطو. ويتحدث ابن رشد عن المتكلمين من أهل ملة الاسلام ومن أهل ملة النصارى أو على حد تعبيره المتكلمون من أهل الملل الثلاث. ويتحدث موسى بن ميمون عن المتكلمين الأُول من اليونانيين المتنصرين ومن المسلمين. ويتحدث ابن خلدون عن كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات..
إضافة إلى هذا كله طُبق مصطلح "الكلام" دونما تقييد على نسق مُعين من التفكير في الحضارة الإسلامية ظهر قبل ظهور الفلاسفة، سُمي أعلامه ب"المتكلمين"، وكانوا على النقيض من أولئك المفكرين الذين أطلق عليهم ببساطة منذ زمان أبو يوسف الكندي اسم الفلاسفة(6). فكيف ظهر في ثقافتنا العربية هذا النسق من التفكير الذي يوصف ببساطة بأنه "كلام"؟ وما الكتابات التي تتناول تاريخه ويمكن أن تُضم معاً؟ الأفكار كالبشر، لحظات الميلاد ومراحل التطور هما السبيل لمن أراد فهمها!
في كتابه القيم "فلسفة المتكلمين في الإسلام"، وُفق هاري ولفسون في ضم كتابات الشهرستاني وابن خلدون(7)، وخرج لنا بعرض وافٍ لتطور علم الكلام في الحضارة الإسلامية، اعتمد عليه أساساً هنا، لخلو مكتبتنا العربية على ما يبدو من دراسات تُماثل في قيمتها، أو على الأقل تقترب من عمل ولفسون الموسوعي المهيب. ولشد ما يُخجلني استقرار مفاتيح إرثنا الحضاري في يد المستشرقين! كل ما املكه هو توخي الحذر قدر المستطاع، فولفسون وأمثاله إنما يخدمون حضارتهم!

ظهور وتطور "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
"السلف" مُصطلح أطلق على صحابة النبي محمد(570632م) وعلى التابعين الذين صحبوا الصحابة. وما وافق عليه هؤلاء السلف يُعد أساساً للعصر الأول للحضارة الإسلامية. وسوف نُشير هنا إلى "السلف" إما على أنهم الأتباع الأول لدين الإسلام أو على أنهم أصحاب الفهم الصحيح للدين. كلٌ حسبما يقتضيه السياق.
يشتمل الأصل الديني للاسلام الذي تشكل من تعاليم القرآن على نوعين من التكاليف، وفق ما يرى ابن خلدون: الأول التكاليف البدنية، والثاني التكاليف القلبية.
يحتوي القسم الأول على الأحكام الإلهية التي تحدد تكاليف أبدان المسلمين وهذا هو الفقه. هو مصطلح يفيد في معناه الأصلي الفهم والمعرفة، واستخدم في أول الأمر بمعنى محدود هو الاجتهاد، أي استعمال الرأي الخاص لتقرير مسائل شرعية في غياب أي سابقة تنطبق على الحالة موضوع المسألة، لكنه اكتسب فيما بعد المعنى الأشمل للدلالة على التشريع الإسلامي القائم على: القرآن، السنة، القياس، الإجماع.
القسم الثاني من التكاليف يتعلق بالإيمان الذي يُعرف بأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان. ويتكون من عقائد ست تقررت في الدين تبعاً لحديث النبي نفسه حينما سُئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. مُناقشة تلك العقائد الإيمانية هي التي تُشكل "علم الكلام".
[1] مرحلة علم الكلام السابق على الاعتزال:
لا يوجد فيما يرى ولفسون ما يجعلنا نعرف على وجه الدقة متى أصبح لفظ "الكلام" يُستخدم بهذا المعنى الاصطلاحي. غير أننا وبحسب ولفسون نفهم من عبارات الشهرستاني انه كان هناك "علم كلام" سابق على نشأة الاعتزال على يد واصل ابن عطاء(699748م) وأن رونق الكلام ابتدأ من عهد هارون الرشيد(786809م).
وربما يمكن أيضاً الاستدلال على وجود كلام سابق على الكلام الاعتزالي من استخدام مصطلح "المتكلمين" عند ابن سعد(764/765854م) في الإشارة إلى أولئك الذين كانوا يناقشون وضع مرتكبي الكبيرة في الإسلام الذي أثارته فرقة المرجئة السابقة على الاعتزال. ومن استخدام مصطلح "يتكلم" عند ابن قتيبة(828889م) فيما يتعلق بمناقشة مسألة حرية الإرادة عند غيلان الدمشقي السابق على المعتزلة.
في سياق توضيحه لكيفية تأسس "علم الكلام" عند أولئك المتكلمين الذين ازدهروا قبل قيام الاعتزال، وعلى أي نحو كان ذلك التأسيس، يصف لنا ولفسون استناداً إلى ابن خلدون الأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الإسلامية قبل المعتزلة بقوله ان الاختلافات حول مسائل العقائد أدت إلى قيام "علم الكلام"، فالمشاركون في مناقشة مشكلات من قبيل: التشبيه، والقدر، ومرتكب الكبيرة، وموقف "أصحاب الجمل" من الفريقين، بدلاً من مجرد اقتباس نصوص من القرآن والسنة دفاعاً عن آرائهم، استخدموا منهجاً معيناً في الاستدلال، توصلوا به إلى استدلالات من نصوص القرآن والسنة تلك. كان ذلك المنهج الاستدلالي مُستعاراً من الفقه، حيث كان مستخدماً فيما يتعلق بمسائل الشرع التى كانت تحكم الفعل، وكان معروفاً بمنهج القياس "بمعنى المماثلة". أما بالنسبة لمسائل الاعتقاد التى أصبح يطبق عليها حديثاً منهج القياس هذا فكانت مسائل تتصل ب"الكلمة المنطوقة"، وأصبح هذا التطبيق الحادث لمنهج القياس يسمى "الكلام"، أى ما يُقصد حرفياً من "الكلام المنطوق". والمنهج قائم، سواء في الفقه أو الكلام، على مجرد التشابه وأدلته مستمدة من النقل.
الفرق التى ظهرت في حضارتنا الاسلامية كثيرة، وأكثر منها الاختلافات حول مسائل العقيدة. غير أن ولفسون، ولأغراض دراسته لفلسفة المتكلمين في حضارتنا، تناول اختلافات بعينها، تتعلق بمسألتين ايمانيتين: الايمان بالله، أى الايمان بالتصور الصحيح عن الله. والايمان بالقدر، أى الايمان بسلطان الله على الأفعال الانسانية. فلقد ظهرت، فيما يتعلق بهاتين المسألتين الايمانيتين، اختلافات في حضارتنا حتى قبل قيام الاعتزال، وهي الاختلافات التي أدت إلى مجالات عُرفت اصطلاحاً ب"الكلام".
وبحسب ابن خلدون، كانت اختلافات السابقين على المعتزلة عن التصور الصحيح عن الله هي تلك التى تتعلق بآيات التشبيه في القرآن. وكان مصدر الاختلافات الأوصاف التى وُصف الله بها في القرآن. فمن ناحية ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في أكثر من آية، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها(8). ومن ناحية أخرى، وردت في القرآن آي أخرى توهم التشبيه. هذه الآيات والتى قد يراها البعض متباينة أدت بحسب ابن خلدون إلى آراء ثلاثة: أولاً، سلم السلف الذين غلبوا أدلة التنزيه بآيات التشبيه في القرآن، فلم يتعرضوا لمعناها بتأويل، لأنهم فيما يرى ابن خلدون علموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. ثانياًً، بجانب أولئك الذين تبنوا الرأي السابق، وُجدت قلة من "المبتدعة"(9). منهم فرقتان رئيسيتان: توغلت الأولى في التشبيه الصريح مخالفة بذلك آي التنزيه المطلق. أما الثانية فحاولت التوفيق، ومن هنا ظهر التأويل من خلال صيغة: جسم لا كالأجسام.
الاختلاف الثاني الذى ظهر قبل نشأة المعتزلة هو فيما يرى الشهرستاني وابن خلدون ما كان يتعلق بالاعتقاد بقدرة الله. وهذا الاختلاف نتج أيضاً عن الآيات القرآنية حول قدرة الله. فمن ناحية، توجد آيات تقرر أن هناك بعض وقائع الحياة الانسانية وبعض أفعال الانسان مقدرة من الله سلفاً، على حين توجد آيات تقرر أن الانسان يتمتع بحرية معينة يمارس بها أفعاله، من ناحية أخرى. ووفقاً لما يقرره الشهرستاني فإن الرأي الأصيل فى الاتباع تمثل في اتباع تلك الآيات التى تُظهر أن القدرة المهيمنة على الفعل الانساني مرجعها إلى الله. وفي أواخر عهد الصحابة، حدثت بدعة معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري في القول بالقدر وانكار إضافة الخير والشر إلى القدر. ولأنهم حولوا القدر من الله إلى الانسان زاعمين أن الانسان، وليس الله هو الذى يحدد أفعاله الخاصة، عُرفوا ب"القدرية". وعلى ذلك، يشير ولفسون إلى هاتين الفرقتين على أنهما: فرقة القائلين بالاختيار "القدريين"، وفرقة القائلين بالجبر "سبق التقدير". والفرقتان حاولتا تفسير الآيات المعارضه لهما.
قارئي الكريم، في مسيره الشاق والمُرهق نحو اللحظة الراهنة، مر علم الكلام بأكثر من مرحلة، تميزت شخصية كل منها عن الأخرى. البداية وكما سنرى لاحقاً كانت مع علم الكلام المعتزلي(بفترتيه: غير الفلسفية، والفلسفية)، ومن بعده جاءت محاولات الخلفاء لحمل أئمة السلف على الاعتزال وهو ما عُرف ب"المحنة" ، ثم ردود الفعل على هذه المحاولات العنيفة وظهور علم الكلام الأشعري، وما طرأ عليه بعد ذلك من تغييرات أحدثها الباقلاني والغزالي، وأخيراً نهوض ابن تيمية وابن القيم لاحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة غلو الغالين في خلط الفلسفة.
[2] مرحلة علم الكلام المعتزلي:
لشد ما يصعب بحسب المستشرق نلينو(10) معرفة لأى سبب وبأي معنى أطلق لفظ "المعتزلة" أول ما أطلق على أصحاب المذهب الذى كان في القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة خصماً خطراً لمذهب أهل السنة في "الكلام". ذلك لأنه يتوقف على مثل هذه المعرفة حل مسألة من أهم المسائل التاريخية، وهي مسألة أصول حركة المعتزلة، وطابعها الأصلي. نلينو يُعرفنا بأشهر الآراء في هذا الصدد(11):
الرأي الأول: رواية نُسج حولها طائفة من الأقاصيص، يشتق أصحابها اسم المعتزلة من اعتزال واصل ابن عطاء الغزال(أو اعتزال عمرو بن عبيد بن باب في رواية أخرى) للحسن البصري(642728م) أو اعتزاله للجماعة عموماً في مسألة مرتكب الكبيرة: مؤمن هو أم كافر؟ والتفاصيل تختلف قليلاً باختلاف الروايات. فعلى حسب بعضها، جاء اسم المعتزلة من العبارة التي قالها الحسن في تلك المناسبة لتلميذه القديم: "اعتزل عنا". وعلى حسب البعض الآخر، كان قتادة بن دعامة المتوفي عام 117ه أو 118ه المحدث أول من وضع هذا الاسم، مشيراً إلى عمرو بن عبيد وإلى نفر من اتباعه بسبب اعتزالهم الحسن. وعلى كل حال، فمهما يكن من اختلاف الروايات، فإن هذه الروايات في مجملها تعتبر أن لفظ "المعتزلة" اسم أطلقه عليهم أهل السنة، وأنه يتضمن نوعاً من الذم واتهاماً واضحاً بالخروج على السنة والجماعة.
الرأي الثاني: المستشرق اشتينر(12)، واعتماداً على نصوص عربية متأخرة عن القرن الثالث الهجري تسمي المعتزلة أحياناً باسم "القدرية"، يرى أن المعتزلة اسم عام لفئة انفصلت عن الجمهور وانشقت عليه، ولكن بمضي الزمن أصبح هذا الاسم في أوائل القرن الثاني للهجرة علماً على مذهب خاص. وهو ما قد يُفسر على أن هذه الفرقة كانت من بين فرق الاسلام أهمها وأكبرها خطراً. أيضاً يبدو لاشتينر أن هذه التسمية قد انتشرت انتشاراً بطيئاً. إذ يتكلم ابن قتيبة المتوفي 889م عند ذكره لمذاهب عصره لا عن المعتزلة بل عن "القدرية". مع أنه عرف اسم المعتزلة. وعلى ذلك فالنواة الأولى لمذهب المعتزلة كانت اذاًً انكار القدر المطلق، ويشير لفظ "القدرية" إلى مضمون المذهب، فهو من الناحية الظاهرية الشكلية إذاً أكثر تحديداً وأوضح دلالة من لفظ "معتزلة". ثم لما أظهروا آراء مخالفة في مسائل عديدة أخرى مثل صفات الله، وطبيعة القرآن، والوعد والوعيد، ومسائل ثانوية أخرى، بدت هذه التسمية "القدرية" غير كافية، لذا استبدل بها لفظ "معتزلة"، ولم تعد بعد ذلك تستعمل شيئاً فشيئاً.
الرأي الثالث: المستشرق اجنتس جولدتسهير(13) يشير كما يشير المؤرخون ، بمناسبة بن عطاء وزميله بن عبيد ومعتزلين آخرين متأخرين كذلك، إلى ميولهم الصوفية وزهدهم، أى إلى بعدهم عن زخرف الدنيا وشهواتها، ويورد شاهداً قديماً على استعمال لفظ "معتزل" بمعنى زاهد أو متعبد. يقول جولدتسهير: "معنى هذه الكلمة(المنشقون). ولست أريد أن أكرر هنا الأسطورة التى عني الناس بروايتها من أجل تبرير هذه التسمية، وانما أريد أن أقرر أن التفسير الحقيقي لهذه التسمية هو أن البذور الأولى لهذا المذهب كانت دوافع صادرة عن التقوى والتعبد وكان الباعثون على هذه الحركة رجالاً متعبدين، زهاداً معتزلين(زاهدين) ثم اتصلت الحركة بالدوائر العقلية، فاتخذت شيئاً فشيئاً موقف المعارضة بإزاء المعتقدات الدينية السائدة"
الرأي الرابع وهو رأي نلينو نفسه: اختار المعتزلة الأولون هذا الاسم، أو على الأقل تقبلوه، بمعنى "المحايدين" أو "الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين(أهل السنة والخوارج) على الآخر" في المسألة الدينية الخطيرة، مسألة "الفاسق". وما دامت هذه المسألة قد أخذت حظها من الأهمية بسبب المنازعات السياسية والحروب الأهلية في القرن الأول للهجرة، فمن الطبيعي أن يكون اسم المعتزلة قد أُخذ عن لغة السياسة في ذلك العصر. فكان المعتزلة الجدد المتكلمون في الأصل استمراراً في ميدان الفكر والنظر، للمعتزلة السياسيين أو العمليين. كانت الجماعة الأولى من المعتزلة المتكلمين تشمل على وجه الاحتمال أشخاصاً اختلفت آراؤهم حول بعض المسائل الدينية الأخرى. حتى انه في القرن الأول وأوائل القرن الثاني كانت بعض المسائل الدينية(مثل الجبر والاختيار) غير واضحة المعالم والحدود، ولم يكن من المستطاع القطع بأي الآراء المتعارضة يجب اعتباره من أقوال أهل السنة أو أقوال غيرهم. فلم يكن الاجماع قد تم في هذا الباب بطريقة قطعية. فكان اسم المعتزلة المتكلمين في الأصل يشير إذاً إلى النقطة الوحيدة المميزة لمذهبهم عن مذهب أهل السنة والجماعة. وهذه النقطة قد فقدت أهميتها من بعد بانقضاء الحروب الأهلية بالنسبة لمسائل الخلاف الدينية الأخرى(القدرة، الصفات، خلق القرآن، النقل والعقل)، التى رسخت شيئاً فشيئاً، وطغت على تلك النقطة من جراء رد الفعل المتزايد ضد ثبات أهل السنة ورسوخه. أو بعبارة أخرى كانت هذه التسمية تسمية جزئية في وقت من الأوقات مثل تلك التى اتخذها المعتزلة من بعد أحياناً للدلالة على بعض النقط الخاصة في تعاليمهم دلالة خاصة، مثل "القدرية"، "العدلية"، "الموحدة".
على أية حال، وبدون التوقف كثيراً عند هذه الآراء المتباينة حول أصل تسمية المعتزلة، يرى ولفسون أن مرحلة علم الكلام المعتزلي غير الفلسفي دامت قرابة القرن، من وقت ظهور المعتزلة وحتى ظهور ترجمة الاعمال الفلسفية اليونانية الى اللغة العربية في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي. ثم حدث، بعد انقضاء قرن على زمن بن عطاء، أن تأثرت المعتزلة بالفلسفة اليونانية واكتسبت طابعاً جديداً.
"ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة، حين فُسرت أيام المأمون. فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنا من العلم وسمتها باسم الكلام. إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام فسُمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق. والمنطق والكلام مترادفان(كما أن الكلمة اليونانيةLogos ، أي العقل والمنطق، تعني أيضاً الكلام)".
يُلاحظ في فقرة الشهرستاني هذه أن مذهب الاعتزال يتوزع بين فترتين: فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية. في الفترة الأولى السابقة على التأثر بالفلسفة اليونانية استخدم المعتزلة ما يوصف بأنه مناهج الكلام. والتى يرى ولفسون أن الشهرستاني يشير بها إلى تلك التطبيقات المتنوعة للقياس الفقهي على الاختلافات التى ظهرت، في نطاق ما يُسمى بالكلام قبل الاعتزال، حول مسألتين: الأولى، مسألة التصور الصحيح عن الله، خاصة مشكلة التشبيه. الثانية، مسألة الاعتقاد في القدرة.
رأي ولفسون هذا يتسق مع وصفه للأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الاسلامية قبل قيام الاعتزال، ذلك الذى أوردناه فيما سبق بشيء من التفصيل، في سياق عرضنا لكيفية تأسس علم الكلام عند متكلمي ما قبل الاعتزال.
أما مناهج الفلاسفة التي يشير الشهرستاني في حديثه إلى خلط المعتزلة اياها بمناهج الكلام، فيرى ولفسون امكانية الزعم بأن الشهرستاني كان يقصد بها أمرين:
أولاً، ربما كان يقصد أن المعتزلة بتأثير من الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية ، قد بدأوا يستخدمون مصطلح القياس المرادف لكلمة syllogism(14)، أما عن مصطلح القياس بالمعنى القديم للمماثلة analogy المستخدم في الفقه فإنهم أحلوا محله مصطلح التمثيل. تبرير هذا الافتراض هو أن آخرين من الذين خضعوا لتأثير هذه الترجمات من المسلمين قد بدلوا معنى القياس الذى يدل عليه لفظ المماثلة analogy إلى القياس الذى يدل عليه لفظsyllogism . وأحلوا محل القياس بمعناه الفقهي القديم مصطلح التمثيل.هكذا نجد ابن سينا والغزالي على سبيل المثال، يستخدمان القياس بمعنى syllogism والتمثيل بمعنى الanalogy الذى يقوم استخدامه في الفقه على أساس التشابه بين الأشياء . وبعد ذكر مصطلح التمثيل يلاحظ ابن سينا أن هذا هو الذى عرفه أهل زمانه بالقياس، ويلاحظ الغزالي أن هذا هو الذى يسميه شيوخ الفقه وشيوخ الكلام القياس.
ثانياً، يمكن افتراض أن الشهرستاني كان يقصد بكلامه أيضاً أن المعتزلة المتفلسفين قد أصبحوا على دراية بتصور أرسطو للanalogy وهو ما عُبر عنه في العربية ب"المساواة"، وخلطوه بالقياس الفقهي الذى أصبح المصطلح العربي الجديد الدال عليه هو "التمثيل"، أى التشابه. المماثلة عند أرسطو لم تكن قائمة، كما هو الشأن في الفقه، على مجرد التشابه بين الأشياء. فالمماثلة عنده هي المساواة في النسب(أو العلاقات)، والتي يصورها بأنه عندما يُحمل مصطلح الخير على العقل وعلى البصر، فإن ذلك يكون على طريق المشاكلة analogy بمنزلة ما أن العقل في النفس كقياس البصر في البدن. ما يريد الشهرستاني بحسب ولفسون قوله هو ان المعتزلة المتفلسفين خلطوا التمثيل المُستخدم في الفقه، والذى يقوم على مجرد التشابه، بالتمثيل الذى يستخدمه أرسطو بمعنى التساوي في النسب أو العلاقات..

مع وصف الشهرستاني لنشأة الاعتزال يتفق ابن خلدون، فاشارة الأخير إلى التمييز بين فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية في تاريخ الاعتزال، واضحة في وصفه منذ البداية ببساطة لواصل ابن عطاء عندما يرد اسمه بأنه واحد منهم، أي من المعتزلة. لكن اسم أبي الهذيل(15)، فإنه يصفه بأنه اتبع رأي الفلاسفة، وبالمثل اسم النظام(16) يصفه بأنه طالع كتب الفلاسفة. ابن خلدون يتابع الشهرستاني فيعطي ذات السببين اللذين من أجلهما تبنى متفلسفة المعتزلة الاسم القديم "كلام" لمذهبهم. يقول ابن خلدون: "وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الذى يسمى كلاماً، وإما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام أي قِدم القرآن ".
[3] محاولات حمل أئمة السلف على الاعتزال:
مع قيام فرقة المعتزلة التي استخدمت على نحو ما ذكرنا منهج الكلام واستبقت لمذهبها اسم "الكلام" حتى عندما أصبح طابع مذهبهم فلسفياً، أصبح مصطلح "الكلام" بالتدريج علماً على المعتزلة. الشهرستاني وابن خلدون يرويان لنا كيف تبنى بعض الخلفاء الاعتزال وحملوا أئمة السلف عليه وهو ما عُرف بال"محنة" ، وكيف أدى رد فعل السلف على هذا القمع إلى قيام علم كلام سني يناهض المعتزلة.
تضييق الخلفاء المعتزلة على السلف يخبرنا عنه الشهرستاني في فقرتين قصيرتين: في احداهما، وبعد أن يذكر اسم أبي موسى المزدار(17) راهب المعتزلة بما هو واحد من شيوخ الاعتزال، يضيف قائلاً: "وفي أيامه جرت أكثر التشديدات على السلف لقولهم بقدم القرآن". وفي فقرة أخرى وهو يتحدث عن المعتزلة يقول: "ونصرهم..جماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن".
مع فقرتي الشهرستاني يتفق هذا القول الخلدوني: "ولُقنها أي عقيدة الاعتزال بعض الخلفاء عن أئمتهم، فحمل الناس عليها، وخالفهم أئمة السلف، فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودمائهم". وثمة اشارات إلى ثلاث حقائق تاريخية تشي بها فقرتي الشهرستاني: 1 اصدار الخليفة المأمون سنة 827م لمرسوم أعلن فيه أن الاعتزال عقيدة رسمية للدولة، واتهم أهل السلف بالابتداع. 2 اصداره لمرسوم آخر في سنة 833م، سنة وفاته، تم بموجبه امتحان أهل السلف في عقيدتهم. 3 استمرار المحنة أثناء حكم الخليفة المعتصم وحتى السنة الثانية من حكم المتوكل سنة 847م.
قارئي الكريم، قد يكون ملائماً وقبل المضي قدماً القاء الضوء على ما عُرف ب"المحنة"، لأهمية ذلك الحدث وخطورته. ما حدث هو أن البحث فيما يراد باتصاف الله بالكلام أصبح موضوعاً له خطره في باب الجدل، حتى أفضى ذلك آخر الأمر إلى قضاء الهيئة الحاكمة على المعتزلة، أولئك الذين ذهبوا إلى القول بأن الكلام إذا كان صفة لله فلابد أن يكون أزلياً قديماً موجوداً قبل العوالم كلها، وإلا فإن الله إذا كان قد تكلم في الزمان فقد مسه سبحانه وتعالى التغيير وصار مالم يكنه من قبل. ولا يجوز أن تحمل الاستحالة على الله، وعلى هذا فان الكلام إذا كان صفة لله وكان القرآن تسجيلاً لهذا الكلام، فلابد أن يكون على هذا الاعتبار قديماً لأنه كلام الله.
وقد ذهب الخليفة المأمون المعتزلي إلى أن اعتبار القرآن مخلوقاً في الزمان امتحان لا يجوزه إلا ثابتو الإيمان. واشتد لسوء الحظ تعصب المعتزلة لآرائهم أيام سلطانهم وقد قاسوا كثيراً ولاقوا عنتا شديداً فيما بعد من جراء اضطهادهم لأهل السلف الذين تمسكوا تمسكاً شديداً بالمذهب القائل بقدم القرآن، ولم يسرفوا في تفسيره حرفياً وأقروا عدداً جماً من السنن التى ذاعت في الناس. على أنه قد أصبح واضحاً جد الوضوح إبان القرن الرابع للهجرة ألا مفر من بعض التسليم بما ذهب إليه المعتزلة، إذ تبلبلت أفكار الناس ومست الحاجة إلى تعزيز قواعد الدين من جديد على ضوء الأفكار الشائعة. وقد اضطلع بهذا الأمر الخطير رجلان: الأول، أبو الحسن الأشعري(873935م). والثاني، أبو منصور الماتريدي المتوفي سنة 944م(18).
وها هو ابن خلدون يوجز لنا رد فعل السلف بازاء ال"محنة" بقوله: "وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعاً في صدور هذه البدع". وفي ظل ما يراه ولفسون من أن تعبير الاحتجاج بالعقل يستخدمه ابن خلدون للدلالة على منهج القياس التمثيلي الفقهي القائم على معطيات نقلية والذى استخدم في وقت سابق على قيام الاعتزال واكتسب اسم الكلام، يكون واضحاً تماماً أن ما يعنيه ابن خلدون بهذه العبارات هنا هو أن أئمة السلف، قد تبنوا في استدلالاتهم، نتيجة للمحنة، منهج القياس الكلامي السابق على المعتزلة. ابن خلدون بالفعل يشير، بعد هذه الفقره تماماً، إلى أهل السنة هؤلاء بأنهم "المتكلمون". ويُدخل فيهم ابن كلاب والقلانسي والمحاسبي، وهي الأسماء التي توصف من جانب الشهرستاني بأنها "أمتن كلاماً"، وذلك في إشارة إلى نمط الكلام غير الفلسفي السابق على الاعتزال.
المتكلمون المذكورة أسمائهم تواً جماعة واحدة فقط من جماعات ثلاث للسلف ناضلت عقب المحنة فيما يتعلق بمشكلة الصفات، بما في ذلك "قدم القرآن". غير أنها، ورغم كونها من جملة السلف، باشرت علم الكلام وأيدت عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية، مما يعني استخدامها منهج المماثلة الكلامي السابق على المعتزلة.
من جهة أخرى، يصف الشهرستاني الجماعتين الأوليين من هذه الجماعات الثلاث بأنهما ناهضتا المعتزلة لا على قانون كلامي أي بدون استخدام منهج القياس الذى كان مستخدماً قبل قيام المعتزلة عند بعض السلف ، بل على قول اقناعي، بمعنى أنهما تشبثتا بمنهج المسلمين الأوائل وتعلقتا بظاهر الكتاب والسنة. تعبير على قول اقناعي يشير برأي ولفسون إلى ما يسميه أرسطو بالقول الخطابي، فالخطابة عنده ملكة اكتشاف الوسائل الممكنة للاقناع بالاشارة إلى أي موضوع كان.
هكذا انقسم السلف في حوالي منتصف القرن التاسع حول مشكلة آيات التشبيه في القرآن إلى جماعات ثلاث. الأولى: جماعة الحنابلة، الذين رفضوا على حين أنكروا التشبيه مناقشة آياته الواردة في القرآن. الثانية: جماعة من الحشوية الذين رفضوا وقد أخذوا آيات التشبيه على ظاهرها مناقشة تلك الآيات التي تحظر التشبيه. الثالثة: جماعة الكلابية الذين أولوا آيات التشبيه في القرآن طبقاً للمنهج الكلامي، أي منهج القياس التمثيلي على نحو ما هو مستخدم في الفقه وعبروا عنه بصيغة "جسم لا كالأجسام". ومن قلب هذه الجماعة الكلابية انبثق علم الكلام الأشعري بعد قرن من الزمان، وذلك في عام 912م. وكما قرر الشهرستاني: "فان جماعة يقصد الكلابية باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية وصنف بعضهم ودرس بعض، حتى جرى بين الأشعري وبين أستاذه الجبائي مناظرة في مسئلة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة الكلابية فأيد مقالتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة".
[4] علم الكلام الأشعري:
في فقرة لابن خلدون، وبعد أن يقرر أن الأشعري كان إمام المتكلمين يقصد الفرقة المكونة من الجماعات الثلاث السالفة الذكر ، يصفه بأنه توسط بين الطرق ونفى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ماقصره السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، ثم يضيف على ذلك أنه أثبت جميع الصفات، بطريق النقل والعقل. ولفسون يرى أن ما يقصده ابن خلدون من عبارته طريق النقل والعقل هو نفسه الجدل القائم على العقل مضافاً إليه الدليل المستمد من النقل، المستخدم وصفاً للمنهج القياسي في الفقه. أيضاً نجد عند ابن خلدون وصفاً لتطور الكلام الأشعري.
يبدأ ابن خلدون بتحديد عام لخصائص الكلام في فقرة أخرى يقول فيها، بعد أن قرر أن المذهب الأشعري على نحو ما أكمله أتباعه أصبح واحداً من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية: "إلا أن صور الأدلة فيها في طريقة الأشاعرة جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي أي جاءت غير مطابقة لقواعد البرهان المنطقي ، لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التى تسير بها الأدلة وتعتبر الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك".
يُلاحظ هنا أن ابن خلدون لا يقول لنا إن المذهب الأشعري لم يعتمد في صياغة أدلته على الفلسفة ولا يقول إن أدلته صائبة منطقياً في بعض الأحيان. كل ما يقوله هو أن أدلته جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي، والمقصود بقوله بعض الأحيان: عندما كان يمكن أو عندما كان يلزم أن تكون الأدلة مقدمة في صيغة منطقية أي قياسية، فإنها لم تقدم على هذا النحو، وربما كان في ذهن ابن خلدون هذا الدليل الكلامي على حدوث العالم، الذى وصفه مؤخراً بأنه دليل من حدوث الأعراض المكونة لأجزاء العالم. ويأتي هذا الدليل، كما صاغه عديد من المتكلمين، كلهم من الأشاعرة، في صيغة غير قياسية، غير أن ابن سوار المسيحي عندما عرضه على لسان المتكلمين رتبه في صيغة منطقية. ثم أبدى ملاحظة قال فيها: هذا قياسهم إذا نُظم النظم الصناعي. ابن خلدون أيضاً يذكر تغييرين حدثا في علم الكلام الأشعري:
التغيير الأول: أحدثه الباقلاني المتوفي عام 1013م. وإذ يبدأ الباقلاني بمقدمة، من الواضح انها تشير إلى رأي أرسطو في أنه من الممكن أحياناً أن نصل إلى نتائج صحيحة من مقدمات زائفة، فإنه يقرر أن أدلة العقائد الايمانية تتوقف على وجوب الاعتقاد بمقدمات هذه العقائد بمعنى أن بطلان الأدلة يؤذن ببطلان المدلولات. وهكذا انتهى إلى أن لأدلة العقائد أو المقدمات التي تقوم عليها الأدلة نفس المكانة أو أنها تابعة للعقائد الايمانية في وجوب اعتقادها، حتى ان الهجوم عليها هو هجوم على العقائد الايمانية. بناء علي هذا، فإن ما يقوله ابن خلدون من أن الباقلاني أكد وجود الجوهر الفرد والخلاء، ينبغي أن يُفهم بمعنى ان المذهب الذري الذى كان لفترة طويلة جزءاً من النظرية الفلسفية لعلم الكلام واستخدم قاعدة للتدليل على بعض المعتقدات الدينية قد أصبح عند الباقلاني جزءاً رئيسياً من المعتقدات الدينية ذاتها.
التغيير الثاني: أحدثه الغزالي(1059م 1111م)، ويمكن وصفه بأنه جعل نمط الكلام الأشعري كلاماً فلسفياً. فعلى خلاف الباقلاني الذى وصفه ابن خلدون بأنه تلميذ الأشعري وبه تمت طريقة الأشعرية، يصف ابن خلدون الغزالي بأنه الذى أدخل طريقة المتأخرين. ويوجز ابن خلدون طريقة المتأخرين هذه على النحو التالي: أولاً، إنهم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التى أدتهم إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والالهيات، والمعروف أن الغزالي أحجم عن اتخاذ المذهب الذري دليلاً على مسائل الاعتقاد بحجة أنه يتضمن صعوبات يطول الكلام في حلها. ثانياً، نبذ أولئك المتأخرون رأي الباقلاني في أن بطلان الدليل، يؤذن ببطلان المدلول. وهو ما يعني بحسب ولفسون ان قول أرسطو بامكانية الوصول إلى نتائج صحيحة من مقدمات زائفة، يمكن اتخاذه سبيلاً للبرهنة على أمور العقيدة. ثالثاً، إن طريقة المتأخرين ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الايمانية.
الخاصية الأولى والخاصية الثالثة لطريقة المتأخرين التي قدمها الغزالي تعكس وصفه لموقفه من علم الكلام في سيرته الذاتية "المنقذ من الضلال" وفي مبادرته إلى القول إنه ابتدأ بطلب علم الكلام فحصله وعقله. وعلى حين يمدح الغزالي المتكلمين لدفاعهم عن عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة، إلا أنه يخطئهم باعتبارين: الأول، إنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها: إما التقليد، أو إجماع الأمة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وبلا ريب فإن المذهب الذري هو ما كان يعنيه الغزالي هنا. والثاني، قوله: إن الذين اشتغلوا بالرد على الفلاسفة من المتكلمين لم يصرفوا عنايتهم للوقوف على منتهى علومهم، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار بها بغافل عامي فضلاً عمن يُدعى دقائق العلوم. وقد حاول هو أن يعالج في "تهافت الفلاسفة" هذا القصور.
ابن خلدون لم يعرض لنهوض ابن تيمية(12631328م) وتلميذه ابن قيم الجوزيه(12921350م) لاحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة غلو الغالين في خلط الفلسفة. المقريزي يقول في خططه: إن مذهب الحنابلة الذى أحياه ابن تيمية كان له أنصار بمصر. ثم ضعفت الهمم عن الدراسات القوية لعلم الكلام ولم يبق بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ وتنافر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور. محمد عبده في رسالة التوحيد يتفق مع هذا الرأي. الوجود الراهن لعلم الكلام يقوم على التنافس بين مذهب الأشعرية، ومذهب ابن تيمية. أنصار هذا الأخير يسمون أنفسهم اليوم بالسلفية(19).
ملاحظات حول المنبت الحضاري ل"علم الكلام":

"حيثما تكون الأفكار الحاكمة زائفة فمن الغباء أن يملك المرء نفساً حرةً"، "من الأفكار الزائفة ما تبدو نعيماً سابغاً بحيث يُستحسن أن ندعها وشأنها"، ...الخ. مثل هذه الأقوال الرائجة بقوة في مجتمعاتنا المتخلفة لا تخلو من نفع، بل هي عين النفع، حين يستجير بها المُستضعفون، ويُمكِن لها عبيد المصالح، وخونة الأوطان!
الأنسني وعلى خلاف هؤلاء جميعاً لا يملك ترف احتمال زيف الأفكار الحاكمة أو حتى التعامي عنه، وكيف يفعل وقد عاهد ربه ونفسه أن ينشد الحقيقة بأمانة ونزاهة وأن يذود بشرف عن الحرية هدية الله ، حتى يُمكِن لها في الأرض أو يذوق الموت دونها! الأنسني لا يُجيد "فن الطاعة"، ولا يقبل أن يكون ذئباً لأخيه الانسان! كما أن حضارتنا في أمس الحاجة لقلق الأنسنيين وتساؤلاتهم. غليل الأنسنيين لا يشفيه الماء قدر ما يشفيه الظمأ! نبع الماء لا ينشده إلا من ذاق الظمأ!
من هنا، أستأذن قارئي الكريم في ابداء بعض الملاحظات حول المنبت الحضاري لعلم الكلام، وأعني به حضارتنا! ملاحظاتي هذه قد تبدو للبعض ساذجة أو حتى مُستفزة بعض الشيء، غير أني لا أبغي من ورائها سوى فضح زيف بعض الأفكار الحاكمة "المسكوت عنها بوعي أو بلاوعي"، في مجتمعاتنا! فأى فكرة أو معتقد ، لا تلبث أن تقوى وتنتشر، بغض النظر عن درجة الخطأ الكامنة فيها، متى وُصِف أنصارها بأنهم "جماعة"، وهو ما يُطلق عليه لوبون "العدوى النفسية"(20).
ولشد ما تتشابه ظاهرة "العدوى النفسية" عند لوبون، ب"الاغتراب الثقافي" في قكرنا الأنسني. ففي تثمينها لقدر الإنسان في الذود بشرف عن حرية عقله وقلبه، تذهب رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني إنما يُعد نتاجاً لصراع طويل ومرير بين إنسان(ذات) لا يملك سوى حرية عقله وقلبه التي وهبه الخالق إياها، ليستعين بها على ترويض الحياة، وبين(آخر) يُصر على الاستئثار بالحرية، ليتسنى له العبث بمقدرات رفاق الحياة! ف(الآخر)، في فكرنا الأنسني، عادة ما يعمد إلى آليات بعينها لتكريس تنازل أخيه(الذات) عن حقه في نقد وتطوير ثقافته أعني طريقة حياته الشاملة ليظل هذا الأخ المسكين(الذات) مغترباً ذليلاً طيلة مقامه في ضيافة الحياة، يستهلك فقط ما يجود عليه به (الآخر) عبد المصلحة، حتى أنه بمرور الزمن، يفقد المغترب قدرته على النقد والتطوير، ولا يملك إلا الانتظار!
لا فرق في فكرنا الأنسني بين آخر عربي أو صهيوني أو أمريكي أو سعودي أو هندي أو ..الخ! تشويه النفوس واسترقاقها لا يخفف من فداحته وكارثية تبعاته، أن يقف وراءه أخ مُسلم أو عربي أو صهيوني أو غربي..الخ. اغتصاب الحق المُقدس في الحرية هدية الله للبشر ، لا تُجيزه قرابة حضارية أو دينية أو قومية..الخ!
وعليه، أعمد في هذه الجزئية لحرث المنبت الحضاري لعلم الكلام، ليس فقط بهدف تطهيره مما نبت فيه من أفكار حاكمة زائفة، تُعيق التمكين لغرسنا الأنسني، ولكن أيضاً لتعرية الآخرية المحلية، فهي بحق قيء حضارتنا وعارها الثقيل.
على أية حال، لنبدأ حرثنا من بواكير انفتاح حضارتنا على النُشدان الحُر للحقيقة، وسنجد أنه ليس هناك ما يدعو إلى الظن بأن العرب الذين ائتلفت منهم جيوش الخلفاء الأول الظافرة يختلفون عن عرب اليوم اختلافاً بيناً. أسلافنا لم يؤرقهم على نحو ما هو حاصل معنا اليوم(21) حب الحقيقة ونُشدانها من خلال البحث والتقصي، ولم يكن ثمة بُد من أن يوجد باعث قوي يدفعهم إلى هذا الفضاء الرحب.
التوسع والانتشار الاسلامي المُلفت تبعه تحول الكثيرين من المسيحيين واليهود إلى دين الاسلام. وبذلك تعرض العرب المسلمون لفكر آخر من مفكرين ينتمون لعقائد وايديولوجيات أخرى في تناولهم للتساؤلات الأساسية عن الانسان والوجود.
ولقد وجدت فئة من أبناء حضارتنا الاسلامية الوليدة انه من الممكن أن تتقدم ويتطور فكرها، أو على الأقل يصبح أكثر ترتيباً وانتاجية إذا تقبلت وطوعت بعضاً من عمليات التفسير والتقسيمات الطبيعية والنظرية التى كانت موجودة قبلها بقرون.
وهكذا، راقت لهذه الفئة المُجتهدة من أسلافنا أعمال فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو..الخ، واكتشفت فيها ذخيرة فكرية قد تراكمت، فشعرت حيالها بامكانية، بل وجوب، تزخيم حضارتها الناشئة بها. أيضاً وبشكل كبير أثرت انجازات قدماء المصريين وبلاد ما بين النهرين والفرس والهنود، في كل التطور الفكري خلال القرون الأولى لحضارتنا. ومن اللافت للانتباه بوجه عام، فيما يرى تيرنر(22)، الترحيب الذى احتضن به العلماء المسلمون التراث المتنوع الذى اكتشفوه في ممتلكاتهم الجديدة، حيث حظي هذا التراث بالاحترام ونُظمت وسائل للاستفادة منه.
مدينة جند دشابور في جنوب غرب فارس، والتى فتحها العرب وقعت في قبضتهم عام 836م أصبحت مركزاً لنشر المعارف العلمية والفلسفية للاغريق وآخرين في جميع أنحاء الامبراطورية الاسلامية. وقد انتعش فيها مجتمع كبير من النسطوريين وهم أعضاء طريقة مسيحية اتهمت بالهرطقة وأجبرت على الفرار من الأراضي المسيحية في نهاية القرن الخامس الميلادي. استضافت المدينة ولفترة طويلة مجموعة متميزة من المفكرين والأطباء، كان الكثير منهم يتكلم الاغريقية والسنسكريتية والسريانية وهي لهجة آرامية كانت منتشرة في تلك المنطقة. وقد عرفت هذه المجموعة اللغة العربية بعد قدوم العرب مباشرة. الخلفاء المسلمون دعموا برنامجاً مكثفاً لترجمة مخطوطات "الفلسفة" و"الطب" وبقية العلوم إلى اللغة العربية.
كانت كمية الترجمة التى انجزت في جند شابور حدثاً غير مسبوق في التاريخ ويمثل منذ بدايته جهداً على المستوى العالمي. انخرط فيه كثير من المسيحيين واليهود إلى جانب المسلمين. وفي أغلب الأحيان كان ذلك يتم اعمالاً لقرارات ملكية تعكس اهتمام الخلفاء وأعضاء الحاشية والحكومة ليس فقط بالعلوم العملية مثل الطب والفلك ولكن أيضاً بالموضوعات الأقل تداولاً مثل التنجيم والسيمياء. القرون الأولى لحضارتنا شهدت أيضاً تأسيس مكتبات عظمى ومراكز للتعليم، في كل مكان. وقد قامت أشهر هذه المراكز في مواقع السلطة. على سبيل المثال، ازدهر بيت الحكمة في القرن التاسع في بغداد، حيث لم يكن مركزاً للترجمة فحسب، بل للدراسات أيضا.
هكذا، وفي أقل من أربعة قرون من التوسع الاسلامي، كان الفلاسفة وعلماء الرياضة وعلماء النبات والأطباء والجيولوجيون والسيميائيون وزملاؤهم في العلوم الأخرى، العاملون في جميع الأنحاء الاسلامية، قد أتموا عملاً فذاً في الكشف عن التراث الثقافي المهول الذى وصل إليهم من الحضارات الأخرى السابقة عليهم. وكما هو متوقع أثار هذا الانفتاح المعرفي الهائل على الموروث الانساني مخاوف فئة أخرى من أسلافنا، لابد وأنها ضمت بين صفوفها عناصر حسنة النية، راودها القلق على خصوصية حضارتنا الوليدة آنذاك ، ولا مشكلة في هذا! على العكس، كانت الخشية كل الخشية لو أن مثل هذا الاختلاف الخصب، إزاء مسألة الانفتاح المعرفي، قد غاب! فلا أحط من أن تُستنسخ الرؤى، أو أن يُعاد تدويرها!
بيد أن قلق أصحاب النوايا الحسنة من أسلافنا الأول إزاء هذا الانفتاح المعرفي الهائل، لم يلبث أن وجد من يُزايد عليه، ويُنادي بفكرة "النقاء الحضاري المُطلق"! فكرة خطيرة كهذه، ساعد على تمريرها رغم استحالتها نظرياً أمور عديدة، من بينها: 1 أن للانسانية تراثاً غزيراً من المعتقدات والقيم قد يكون متبايناً في ظاهره، في حين أنه يعبر في صميمه عن وجهات نظر، تدافع بطرائقها الخاصة عن حرية الانسان وكرامته(23). 2 اقتران الانفتاح المعرفي بانبهار مُربك وتكالب مُستفز على المُحاكاة وليس النقد والتطوير، على ما يبدو لعدم امتلاك أسلافنا تجارب سابقة في نُشدان الحقيقة من خلال البحث والتقصي(24). 3 وفود علوم سيئة السمعة كالسحر والتنجيم. 4 اشتغال جُل أنصار الانفتاح المعرفي بالفقه، وتورطهم بالرأي في مسائل دينية شائكة(25). 5 الخوف من شيوع القول بانه لو كان "الهام النبوة" حقاً لما اختفى على مُحبي الحقيقة، وبالتالي شيوع الاشتغال بالبحث والتقصي(26). 6 المُزايدة على الانفتاح المعرفي من جانب عبيد المصالح وخاصة أولي الأمر، ونجاح هؤلاء في تغليف مُزايدتهم برقائق دينية، عبر تكريس ذلك الخلط المُربك بين الاسلام كحضارة أنتجها بشر ومن ثم يحق لهم نقدها ودفعها للأمام، والاسلام كأصل ديني مُكتمل، "حقيقة مُلهمة" للنبي، لا يجوز لبشر إلى أبد الآبدين، تعهدها بنقد أو تطوير.

عبيد المصالح في مساعيهم الآثمة والدءوبة الرامية لاسدال الستار الحديدى الخانق على عقول وقلوب أبناء حضارتنا ، لم يقنعوا أو يكتفوا بالتمكين لفكرة "النقاء الحضاري المُطلق"! بل أرادوا فكرة أخرى على النسيج نفسه، تُعضد الأولى وتشد من أزرها! وبالطبع، لم يكن ثمة فكرة أنسب ولا أفضل من المناداة ب "عصمة الأسلاف وبلوغهم حد الكمال"! فكرة كهذه، فضلاً عن اتساقها وتناغمها مع ميراث العصبية والتفاخر بالأنساب قبل الاسلام، كانت كافية لاحاطة تاريخنا الحضاري بسياج من التوقير والقداسة(27). فما صنعته يد الأسلاف "المعصومين عملياً وليس نظرياً "، لا سبيل لنقده وتطويره! أليسوا الأمناء على الهام النبوة والأقرب إلى رضوان الله.
وللمصادرة على مطالبة أنصار الانفتاح المعرفي آنذاك بالحق في التعايش مع مناوئيهم من أنصار الستار الحديدي، كان لابد من "ضربة استباقية"، استهدفت التشهير بهم وتحقيرهم في عيون أبناء حضارتهم، وهو ما تم بالفعل على نحو غاية في الاتقان، بحسب ما تشي روايات المؤرخين المُحايدين والموثوق بهم. فقد شاعت وراجت مُسميات لم تخل من غرض، كال"الفئة الصالحة"، و"الفئة الضالة/أهل البغي"، و"الفتنة"..الخ(28). وزاد الطين بلة، ما شهدته مسيرتنا الحضارية الطويلة والمريرة من توظيف لهذه المُسميات ضد كل من سول له ضميره الاشتغال، أو حتى المُطالبة بحق أبناء حضارتنا في الاشتغال، بنُشدان الحقيقة، عبر البحث والتقصي!
وهكذا، وعلى الرغم مما لقيته علوم الأوائل أو القدماء(وهو اسم أُطلق على تلك العلوم التي نفذت إلى المنبت الحضاري الاسلامي بتأثير المؤلفات المأخوذة عن الكتب اليونانية تأثيراً مباشراً أو غير مباشر في مقابلة علوم العرب خاصة الفقه) من عناية كبيرة في صدر حضارتنا الاسلامية على نحو ما ذكرنا ، حث عليها الخلفاء العباسيون وشملوها برعايتهم، فقد ظل هناك دائماً انصار العزلة ينظرون في شيء من الشك وعدم الثقة أو الاطمئنان إلى دارسي علوم الأوائل. وكلما ازدادت شوكة هذه الفئة المناهضة للانفتاح المعرفي، كان عدم الثقة لدى البيئات الاسلامية بإزاء الاشتغال بعلوم الأوائل أشد وأعنف. وأقدم مثل لذلك ما شعر به الفيلسوف الكندي من قلق وخوف بعد عودة سلطان هؤلاء في عهد المتوكل. هذا النحو من عدم الثقة لم يقتصر على "التفلسف" بمعناه الدقيق، بل امتد إلى كل ما يُنشد خارج اطار الحقيقة المُلهمة التى مصدرها الوحيد المُؤتمن هو المصحف المُقدس وسنة النبي(29).
المسلم الصالح، فيما يرى أنصار العزلة، عليه أن يتجنب الانفتاح المعرفي أشد التجنب، باعتباره خطراً على دين الاسلام. فكل انحراف عن طريق المرشدين الدينيين الرئيسيين كان القوم يعزون السبب فيه إلى الانفتاح المعرفي، إذا كان صاحب هذا الانحراف قد اتصل بها عن قرب أو عن بعد. فتاج الدين السبكي يرى أن السبب الذى جر الخليفة المأمون إلى القول بخلق القرآن هو هذا المقدار الضئيل الذى عرفه من علوم الأوائل. ويذكر لنا أن العامة يرجعون أقوال الغزالي في مسائل كثيرة بما لا يتفق ومذهب أهل السنة في عصره إلى تأثره بعلوم الأوائل والغزالي لم يستطع مطلقاً أن يتحلل من اهتمام بالفلسفة، على الرغم من أقواله . من هنا، يسهل تفهم كيف أن الكثيرين، ممن كانوا يحرصون على حسن السمعة، كانوا يسبلون قناعاً على دراساتهم الفلسفية، مظهرين اشتغالهم بها تحت ستار علم من العلوم الحسنة السمعة.
وأوضح مثال لهذا، وإن لم يكن هو المثال الوحيد، محمد بن على بن الطيب المتوفي سنة 436. فيذكرون عنه أنه "كان إماماً عالماً يعلم كلام الأوائل"، إلا أنه خشي أهل زمانه فلم يشأ الظهور صراحة بمظهر الفيلسوف، فأخرج مذهبه في صورة "علم الكلام"، التي لم تكن مع ذلك حائزة لرضى أهل السنة في عصره هي الأخرى. ولكنها كانت نسبياً أقل خطراً من التفلسف، كونها نمت في تربة فقهية.
ومن أجل هذا كله، فقد كان مما يثير الغبطة ويبعث على الرضا، أن يُقال إن واحداً من الفلاسفة قد رجع ساعة موته أو في شيخوخته عن ضلالات الفلسفة وأكاذيبها، وأنكر التفلسف حب الحقيقة ونشدانها الذى استهداه طوال محياه. مثل هذا يُروى في لهجة يُمازجها سرور المنتصر الظافر، عن عالم كفيف البصر، هو حسن ابن محمد بن نجاء الأربلي المتوفي سنة 660، الذى عاصر ابن خلكان، وجرت بينه وبينه مقابلة لم تكن طيبة. كان حسن هذا اماماً عالماً بعلوم الأوائل، بيد انه كان يتقي أهل زمانه بالتنكر لها، فأخرج ما عنده في صورة "الكلام"! وفي دمشق كان يجتمع خلق كثير من المسلمين وأهل الكتاب وأتباع الفلسفة كي يأخذوا عنه. ويروون أن آخر كلمة قالها ساعة الموت هي: "صدق الله العظيم، وكذب ابن سينا"!
ثمة حادثة أخرى طريفة لشد ما ترتبط بحديثنا أشد الارتباط، في تفاصيلها المُضحكة المُبكية تتجلى سطوة الأفكار الزائفة على نحو فج وصارخ! كلنا يعرف الثائر المعروف بجمال الدين الأفغاني، وكلنا يعلم قدر الرجل ومدى تأثيره ونفوذه في ثقافتنا العربية المعاصرة، ففي مصر مثلاً تتلمذ على يديه ونهل من معارفه رواد ما اصطُلح على تسميته بعصر النهضة، كمحمد عبده، مصطفى كامل، قاسم أمين..الخ!
إلى هذه الدرجة الشديدة العلو وصل تأثير الرجل ونفوذه! ولقد وقعت اثناء اعدادي لهذه الدراسة وبالصدفة البحتة على كتاب وثائقي خطير، بعنوان: "جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني كما يقدمه ابن أخته ميرزا لطف الله خان"، مُترجم عن الفارسية! الكتاب يحكي بالوثائق سيرة جمال الدين، ويُعضد في مجمله زعمنا بوقوع أبناء أمتنا في أسر أفكار زائفة كالنقاء الحضاري وعصمة الأسلاف.
خلاصة الكتاب ان الثائر الطموح جمال الدين ايراني الأصل وأنه لما صمم على السفر والطواف بالبلاد الاسلامية لايقاظها من سباتها وجد أن انتسابه إلى ايران سيقف عائقاً دون دخوله هذه البلاد، ودون القيام بالدعوة فيها، فلقب نفسه ب"الأفغاني"، حتى يتمكن من أن يجد أذناً صاغية بين الشعوب السنية التى يزورها والتى تشكل أغلبية العالم الاسلامي ، ولم يكن أمام جمال الدين لقب آخر يستطيع أن يحتمي به غير "الأفغاني"، لأنه فضلاً عن أن أفغانستان بلاد سنية، وأن لغتها هي الفارسية كلغته هو ، فإن مذهبها هو المذهب الحنفي الذى كان المذهب الرسمي في الدولة العثمانية. فالتعصب المذهبي كان على أشده، خصوصاً في عصري السلطان عبد الحميد في تركيا والشاه ناصر الدين في إيران، ولولا صنيع جمال الدين هذا ما تيسر له وياللسخرية أن يحظى بثقة الأزهريين في مصر وهو شيعي(30).
وطبقاً للكتاب نفسه، حقق انتساب السيد جمال الدين إلى الأفغان هذا الغرض، بل حقق له نفعاً آخر هو أنه جعله بعيداً عن متناول ممثلي إيران وقناصلها في الخارج، لأن أفغانستان لم يكن لها تمثيل في الخارج في ذلك الوقت، كما كان للانجليز نفوذ كبير فيها، فكانوا يرعون اتباعها في الخارج. يسر هذا للسيد جمال الدين مهمة السفر إلى الأقطار السنية، كما يسر له الاقامة فيها بعد طرده من إيران.
وقد ازداد اصرار جمال الدين على أنه أفغاني حينما ساءت علاقاته بحكام ايران حتى يبعد الشر عن أسرته في أسد آباد، إذ جرت العادة في ذلك الوقت وكما يحدث اليوم في بلادنا أن تؤخذ الأسرة بجرم أى فرد منها، ولو أن هذا لم يغن أسرة جمال الدين فتيلاً ولم يبعد عنها الشر بعد اتهام جمال الدين بالاشتراك في تدبير قتل ناصر الدين شاه. وفي تفسيره الوجيه لما اكتنف موت جمال الدين في الآستانة من غموض، أوضح الكتاب أن عريضة وصلت عن طريق علاء الملك سفير إيران في تركيا، على خلفية الاتهام المُشار إليه تواً، كشفت حقيقة أصل جمال الدين عند السلطان العثماني بالدلائل القاطعة! ظهر للسلطان أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغانيين، ويتخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به، فدبر دس السم له، وكانت هي طريقة الخلفاء العثمانيين للتخلص من غير المرغوب في وجودهم في الحياة!
"الأفغاني" ثائر عظيم، لا شك في ذلك، ولولا أنواره، لكان الحال في مجتمعاتنا الكسيرة فيما أرى أكثر انحطاطاً مما هو عليه! رحم الله ذلك الثائر "الفارسي"! الفزع يصيبني حين أفكر فيما كان سيحصل لو أن الأفغاني لم يفطن لمخازي أمتنا وانسياقها غير المحسوب بفضل عبيد المصالح وراء أفكار زائفة كالنقاء الحضاري المُطلق، وعصمة الأسلاف. كانت ثورته حتماً ستُرفض، وتُرمى بكل ما يُنفر منها!
الأكثر إثارة للدهشة كما للأسف هو عدم انكار الأفغاني لما احتال هو نفسه لتلافيه، فها هو شكيب أرسلان يزوره ويدور الحديث بينهما حول ما رُوي عن عبور العرب المحيط الأطلنطي قديماً واكتشافهم أمريكا، فيقول السيد الأفغاني(31):
"إن المسلمين أصبحوا كلما قيل لهم الانسان كونوا بني آدم أجابوه إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من الخمول والضعة. إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالاً، ولكنكم أنتم أولاء كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آباؤكم إلا أن تفعلوا فعلهم".
كلام الأفغاني، وهو ما يضاعف أسفي، لا يخلو من اقرار ضمني بتنزيه الماضي وتمجيده، ولا يخلو أيضاً من دعوة مألوفة في أدبياتنا التنويرية لاستعادة ذلك الماضي الزاهر، دون أدنى تنبيه لحتمية تجنب ما عكر صفوه من أفكار زائفة. فهل نسي الأفغاني على ما عُرف عنه من ثورة ونُبل أم أنه تناسى كون بناة حضارتنا بشر مثلنا، أدوا دورهم وامتلكوا الجرأة على أن يحيوا تجربتهم الخاصة، بما لها وما عليها، وانه استنسرت بين ظهرانيهم أكاذيب كالنقاء المُطلق وكمال الأسلاف.
لسنا استثناءًا من ناموس الحياة! لم توجد قط على ما هو معروف حضارة بعينها تفردت بالابداع أو النقل أو خلت من سمة تميزها عن غيرها من الحضارات. حتى الحضارة الغربية نفسها بكل زخمها لم تشذ عن هذا الناموس، ولولا خروج هذه المسألة عن نطاق البحث الماثل، لتناولتها بشيء من التفصيل(32).
الأحداث الجارفة التى تثيرها دوافع الهيمنة والاستغلال قد تُعرض سمات الأصالة للحضارات للطمس، غير أن هذه السمات أو هذا الجوهر الانساني المشترك يظل حياً يتمثل في طرائق الحياة، ويتردد صداه في الجهد الذى يبذله الانسان لكي يفهم محيطه ونفسه، ولكي يعين الطريق الذى سيتبعه من قوى الطبيعة، ولكي يسيطر بالتعاون مع أمثاله، على الطبيعة وعلى أعماله ذاتها وعلى تعابيره، ولجعلها متلائمة مع القيم والغايات التي يكتشفها. هذه الوجوه الانسانية هي من الوضوح في كبريات الأعمال الأصيلة، حتى لتُنسى بسهولة جملة العوامل الثقافية المؤثرة في عمل المبدع الذى يُنتج ، لأول مرة، شكلاً من الابداع مُختلفاً عن القديم. أو يعرض لأول مرة مشكلة ما يحلها بطريقة مُبتكرة تكشف عن أخطاء الحلول القديمة ونقائصها. ومع ذلك فإن هذا المُبدع قد استفاد من التراث الانساني، مُمثلاً في المواد التى اُنضجت سابقاً والاهتمام الذى تركز على القضايا المُعالجة والجهود المبذولة للفهم وحاجات المعاصرين وتقديرهم. والواقع أن الاطار الذى ينبسط فيه مثل هذا الجهد الابداعي هو من الأهمية، بحيث كثيراً ما يحدث أن يكثر في عصر إلى الدرجة التي تُميزه بقوة.
نشر المعرفة بمثل هذه الأمور والتنقيب عما تتميز به الحضارات من سمات الأصالة سيؤدي، إن هو حدث، إلى اضعاف نزعات المزايدة والتمييز، بين أبناء الحضارات المختلفة أو حتى بين أبناء الحضارة الواحدة. لسنا في الشرق والغرب إلا حضارت متنوعة على كوكب واحد، نهر واحد تعددت روافده، من نبع واحد أتينا، وفي المصب نفسه تُسكب أعمارنا القصيرة. أقول هذا لأبين مدى زيف فكرة "النقاء الحضاري المُطلق"، وإن وجدت من يُزايد عليها، داخل حضارتنا وخارجها.
حضارتنا الاسلامية، ورغم اقراري بسمو قصد روادها الأول، لم تبدأ من العدم، فالبدء من العدم امتياز لله وحده! ولم تك انقطاعاً معرفياً عما سبقها، حتى في حياة النبي محمد، وهو واضع اللبنة الأولى! يكتشف هذا بسهولة ويسر فقط أولئك الذين يملكون القدرة على القراءة الأمينة والمُنظمة لتاريخ الانسان على الأرض..
الزمن ليس في انحدار كما علمونا(33)، ولا يسير من سيء لأسوأ كما ألقوا في روعنا منذ نعومة أظافرنا! حاضرنا وإن كان غير مُرضٍ ، يظل أفضل من الماضي وإن عظم شأنه ، فهو ملك خالص لنا! انه هدية ثمينة منحنا الله إياها على نحو ما منح أسلافنا العظام، لاثراء حضارتنا والحياة ودفعهما إلى الأمام! فرصتنا لنكون أنفسنا لا مجرد نُسخ مُكررة ومُعادة! فرصتنا للاسهام بقوة وشرف في تنقية الماضي وانتاج الحاضر والمستقبل، لا أن نكتفي باستهلاك ما أنتجه أسلافنا أو أبناء الحضارات الأخرى! لا أمر من الندم على الحياة، فلندافع عن وجودنا وحقنا فيها! ولنمح عن أنفسنا ما نُعير به، وهو اننا أمة من غنم، شكوانا الأبدية يقف وراءها أن عصى الراعي غليظة! وأن ما يوضع أمامنا من علف وإناث لا يُوزع بيننا، بالقسط! وأن حريتنا(!!) لا تتجاوز ما يسمح به طول "الحبل" الذي يُحيط بمصائرنا!
في مقالة سابقة لي ناقشت باسهاب ذلك الإخفاق "المُستدام" من جانب أبناء حضارتنا في ادارة عملية الانفتاح المعرفي منذ جرت أول محاولة بعد رحيل النبي للانفتاح على الموروث الإنساني(34) ، وخلصت إلى ان مجتمعاتنا اليوم، وكما كانت في الماضي، ليست فقط عاجزة عن التعاطي مع الوافد المعرفي من خارجها، بل هي عاجزة أيضاً على نحو مضحك مبك عن التعاطي مع ميراثها الذاتي، أعني الوافد المعرفي من العصور الماضية، داخل حضارتنا نفسها! خلصت كذلك في المقالة نفسها إلى أن الانفتاح "النقدي" على الوافد المعرفي الخارجي والداخلي ، كفيل بمحو أو على الأقل لجم هذا الاخفاق المُستدام في تعاطي أبناء حضارتنا مع اشكالية كهذه!

وليس لقارئي الكريم أن يخلط بين دعوة فكرنا الأنسني لحتمية اقتران الانفتاح المعرفي بنفوس حُرة قادرة على النقد والتطوير، وبين دعاوي "ضِرارية" للانفتاح المعرفي، كتلك التي تجري بسخاء على الألسنة في الندوات والمؤتمرات الأكاديمية، في أرجاء عالمنا الإسلامي، والتي لا هم لأصحابها وفي مقدمتهم دكاترة القانون المقدس إلا المُزايدة، والتخفي المُتقن وراء مسوح الاستنارة والحمية المعرفية!

يقول عبد الرحمن بدوي، في تقديمه لكتاب "روح الحضارة العربية"(35):
"أهمية التراث اليوناني بالنسبة إلى دراسة الحضارة العربية أكبر بكثير جداً من أهميته بالنسبة إلى الحضارة الغربية الأوروبية الفاوستية، بالرغم مما قد يبدو في هذا القول ظاهرياً من غرابة. ذلك أن مصير الحضارة العربية كان أوثق ارتباطاً وبدرجة هائلة بالتراث اليوناني من ارتباط الحضارة الأوروبية بهذا التراث، اذ هو الذى قسر الحضارة العربية على الدخول في قالبه وهي لا تزال في مستهل نشأتها، فانطبعت بطابعه قبولاً أو نفوراً، وكلاهما هنا سواء بكل وضوح بحيث لم يعد من الممكن محو هذا الطابع عنها ولا الانفكاك من أسره.
"أما الحضارة الأوروبية المعاصرة والحديثة فقد اتخذت منه مجرد تكأة للوثوب، حتى انها لم تكد تتم الوثبة الا وطرحته ظهرياً. وما هذه الحركات التي تدعى النزعات الانسانية المحدثة والتى نراها تتجدد أو تتردد من حين الى آخر في تاريخ الحضارة الأوروبية الحديثة من عصر النهضة مارين بفورة فنكلمن وجته حتى نصل إلى النزعة الانسانية المحدثة التى يمثلها فرنر ييجر، العالم الألماني المعاصر آنذاك وصاحب مجلة "الحضارة القديمة"، ومن التف حوله وكتب في مجلته هذه، ثم جماعة جيوم بيديه في فرنسا، نقول ان هذه الحركات نفسها والشعور بالحاجة إلى بعثها انما هو أبلغ دليل على نسيان الحضارة الاوروبية لهذا التراث، بوصفه عاملاً لا يزال يحيا بكل قواه فيها، وهذه الحركات انما يقصد منها إلى تذكير تلك الحضارة به حين تنساه حتى تتخذ منه مرة أخرى تكآت للوثوب حينما يشعر أبناء تلك الحضارة بأنهم في حاجة إلى تلك التكآت. أما في الحضارة العربية فإن القوم لم يكونوا بحاجة إلى شيء من ذلك، لأنهم لم ينسوا التراث اليوناني أبداً، وكيف ينسونه وهو عنصر فعال دائم الحياة في كل ما يفكرون فيه ويشعرون به ويقدرونه! ماذا أقول! بل كانوا على العكس من ذلك في حاجة الى من ينسيهم اياه، او يخفف عنهم ثقل وطأته، أو يرشدهم إلى ينبوعهم الأصيل. ويمثل هذه الأحوال الثلاث على التوالي: أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، وأبو عثمان الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، ثم يمثل هذه الحالة الثالثة أعني الارشاد إلى الينبوع الاصيل شهاب الدين يحيى بن حبس السهروردي المقتول، وهو الذى دعا إلى نزعة انسانية تصعد عن الروح العربية الأصيلة.
"وإذا كان سيقدر لنا معشر العرب اليوم أن ننشيء حضارة جديدة، فان مشكلتنا اليوم مع الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة وهي الآن في دور النهاية وافساح الطريق لحضارة مقبلة سيبزغ فجر ربيعها في نهاية هذا القرن أو مطلع الألف الثالث هي بعينها نفس المشكلة التى عاناها أسلافنا الذين أنشأوا تلك الحضارة العربية. فهل لنا أن نستنبط العبرة من تلك التجربة الأليمة البائسة؟ التى عاناها أولئك الأسلاف؟".
إلى هنا ينتهي كلام العملاق عبد الرحمن بدوي، وهو يُعضد في مجمله وعلى نحو شديد الوضوح دعوة فكرنا الأنسني لحتمية اقتران الانفتاح المعرفي بنفوس حُرة قادرة على التثمين، يزدهر معها هذا الانفتاح ويؤتي ثماره الحُلوة. كلام بدوى أيضاً يعضد زعمنا ب"ضِرارية" دعاوي الانفتاح المعرفي التي تجري بسخاء على الألسنة في الندوات والمؤتمرات، والتى لا تتجاوز كونها "خطط اشغال"، فأصحابها يتعامون بدربة مُخيفة عما هو حاصل في مجتمعاتهم المُتخلفة من تجفيف لمنابع التفكير الفلسفي وتدجين مُخز لعقول وقلوب النشء. أين حُمرتك أيها الخجل!

قارئي الكريم، تزويد أبناء مجتمعاتنا بنفوس حُرة قادرة على النقد والتطوير هو فيما أرى السبيل الوحيد لاحراز انفتاح خصب، يصير معه الوافد المعرفي، من داخل حضارتنا أوخارجها، رافد الهام، وتكأة نحو المستقبل، لا قالباً صلباً ندخل إليه، ونُطبع بطابعه قبولاً أو نفوراً ، على نحو ما حصل مع أسلافنا، في القرون الأولى.
دعوة "أنسنية" كدعوتنا لانفتاح معرفي خصب لابد وأنها وجدت على مر تاريحنا الطويل، من يتحمس لها ويناضل في سبيل التمكين لها. التدجين المُستدام لعقول وقلوب أبناء حضارتنا لابد وأنه أيضاً وجد من ينبه إلى تداعياته الكارثية! ثمة تعامي إذن، بل "صمت فرعوني"، من جانب بُناة الوجدان الاسلامي المعاصر وفي مقدمتهم أساتذة الفلسفة، كونهم الأمناء على النُشدان الحر للحقيقة ، عما يجري من تشويه منهجي لهذا الوجدان، أفضى إلى عزوف "مُخيف" عن الحقيقة وعن نُشدانها.
ولسوف أحاول فيما يلي تفسير هذا التعامي أو "الصمت الفرعوني"، مُستفيداً مما أوردته سلفاً بشأن "علم الكلام"! فعلى ما يبدو، ثمة تيه في صحراءه ضُرب على دارسي ومعلمي الفلسفة في دوائرنا الفكرية والأكاديمية كل ما أخشاه أن يكون أبدياً!
صحراء "علم الكلام" وتيه لا يرحم!

قلت في صدر الجزئية السابقة ان ثمة امكانية في فكرنا الأنسني للحديث عن آخرية محلية في مختلف الحضارات! آخرية لا تغفل عن مناهضة امتلاك الذات لنفس حُرة، قادرة على النهوض بمسئوليات التفكير الفلسفي. وضربت مثلاً ب"حضارتنا"!
في التفكير الفلسفي بطبيعة الحال تهديد لمصالح "الآخرية المحلية" عندنا. فلن يكون بمقدورها مثلاً الاستفادة على نحو واسع النطاق من التأثير الواسع للمُرشدين الدينيين الرئيسيين والذين دائماً ما تربطهم، بحسب تجربتنا الحضارية المريرة، صلات بالهيئات الحاكمة قبولاً أو رفضاً، وكلاهما سواء ! استشهد هنا بالإمام أبي حنيفة، وهو يعبر بكلمات قليلة عن معنى الطاعة في أعماقه للهيئة الحاكمة. فلقد منعه المنصور من الإفتاء. وفي إحدى الليالي جُرح إصبع ابنته فجاءت تسأله عن تأثير الدم على وضوئها، فقال(36): "اسألي حماداً، فلقد منعني أميري من الإفتاء، وما كنت لأعصى أميري بالغيب"! تصرف كهذا(من فقيه عظيم)، لا يستسيغه الفلاسفة!
ثمة تمييز مُلهم، أورده ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، بين العلوم "الفلسفية" و "النقلية"، أدخل فيه تحت هذه الأخيرة كلا من الفقه والكلام، واصفاً الفقه بأنه أصلها، وقائلاً عن العلوم الفلسفية: إن موضوع كل علم من هذه العلوم ومشكلاته التي يعالجها، ومناهج الاستدلال التي يستخدمها في حل هذه المشكلات، كل ذلك أصله طبيعة الوجود الإنساني من حيث أن الإنسان كائن عاقل. أما بالنسبة للعلوم النقلية فإنه لا مجال فيها للعقل، فيما عدا أن العقل يمكن استخدامه في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، أي النقل الكلي. ابن خلدون أيضاً يصف نتائج هذا الاستخدام التقليدي للعقل بأنها "الأدلة العقلية" المستخدمة في علم الكلام فيما يتصل بمسائل الاعتقاد.
وفي قراءته لمغزى مقابلة ابن خلدون بين "العلوم النقلية" و"العلوم الفلسفية"، يقول المستشرق ولفسون: هذان النوعان من العلوم يحاولان استخراج شيء مجهول من شيء معلوم، أو باستخدام مصطلحات الكلام يحاولان استخراج الغائب من الشاهد. المجهول في العلوم الفلسفية يُسمى مطلوباً، والمعلوم فيها يُسمى مقدمة. على خلاف الحال في العلوم النقلية، حيث يُسمى المجهول فرعاً، والمعلوم أصلاً أو سنة عامة. المقدمة في العلوم الفلسفية هي معنى كلي يكونه العقل الانساني عن طريق التجريد من الموضوعات الحسية. أما الأصل في العلوم النقلية فهو القرآن والسنة.
النبي محمد رحل عن دنيانا، دون أن يشهد تدوين النص القرآني. ما كان يحدث هو أنه عندما كان النبي ينطق آيات القرآن، كان المسلمون النابهون يسجلونها في رقع ورقية أو جلدية، وألواح حجرية أو عظمية، وعلى سعف النخيل، وغالباً ما كانوا يحفظونها في صدورهم. بعد سنوات من رحيل النبي، جُمع النص القرآني ودُون في "مصحف" مُوحد، أقره المتبحرون من كبار الصحابة، وأرسلته الدولة من "المدينة" إلى "دمشق" و"الكوفة" و"البصرة"، حيث جرى الحفاظ عليه(37). لهذه الدرجة الرفيعة وصلت مكانة النقل أو الرواية في علم القرآن وهو الأشرف عند المسلمين!
من جانبي، أراني قانعاً أن التقسيم الخلدوني للعلوم إلى نقلية وفلسفية، غاية في الروعة والخصوبة، فهو يغري على نحو مدهش باستنطاق أصداءه في وجدان أمتنا، ولسوف أفعل! مع الاحترام لجهود غيرنا، وفي مقدمتهم المستشرقين بطبيعة الحال، فهم وبفضل ما يتمتعون به من حرية لا حياة لبحث نزيه ومنظم دونها أقدر على استنطاق دلالات التراث الانساني، ومنه تراثنا الاسلامي العتيق! ولو أن نواياهم كانت خالصة وهي ليست كذلك للأسف، ولو أنهم آمنوا بأن "في موعد النصر متسع للجمبع"، لحمدنا لهم اسهاماتهم الدؤوبة، ولحلقنا سوياً في الفضاء الانساني الرحب!
قارئي الكريم، للتمييز الخلدوني بين "العلوم الفلسفية" و"العلوم النقلية"، صدى شديد الخصوصية في وجدان أمتنا، فالأذن العربية لا ترتاح كثيراً لكلمة "الفلسفة"، وذلك بفضل زيف بعض الأفكار الحاكمة لمجتمعاتنا والمُشار إليها سلفاً. رغم ان كلمة "الفلسفة" مجرد تسمية يونانية للنضال الحُر من أجل الحقيقة، اصطلح على الأخذ بها على الصعيد الكوني، ربما لاحتضان الحضارة اليونانية لهذا النضال، من حيث هو علم له موضوعه وأسلوبه في البحث وغايته. وذلك على خلاف حضارات سابقة عليها ومعاصرة لها، عرف أبناؤها "الحق المُلهم"، كمصدر وحيد ومقدس للحقيقة. البعض ولست منهم يُريد لما اصطُلح على تسميته في أمتنا بالحكمة، أن يكون البديل للنضال الحُر من أجل الحقيقة! حكمة العرب لا تعدو حيوانية مُطعمة بالعقل!
أن تتفلسف هو أن تُناضل من أجل الحقيقة! والفيلسوف عاشق للحقيقة، ينشدها أينما وُجدت، من خلال البحث والتقصي، رغم اقتناعه باستحالة امتلاكه لها على وجه اليقين! المُربي لسنج يظل أروع من عبر عن عظمة هذا النُشدان الحُر للحقيقة، وذلك بقوله(38): "ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذي يُنمي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولاً، ساكناً، مغروراً..ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه ولو كان في نيته أن يُضلني ضلالاً أبدياً ، ومد نحوي يديه المضمومتين، وهو يقول: اختر بينهما! لركعت أمامه في خشوع وهتفت به وأنا أشير إلى يسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!".
الفيلسوف في المجتمع دليل على رفعة الفكر وسمو مرتبته، فهو يشير إلى كل ما هو خالد في الإنسان، ويثير تعطشنا إلى المعرفة المحض، المعرفة التي لا تهدف إلى مصلحة، والتي هي أعظم وأكثر استقلالاً عن أي شيء نفعي أو مصلحي نستطيع أن نُنتجه أو نبتكره، وكل ما نفعله تابع لها مُلحق بها، لأننا نفكر قبل أن نعمل، ولا شيء يمكن أن يحد من تفكيرنا. فقراراتنا العملية تعتمد على الموقف الذي نتخذه في المسائل التي تستطيع النفس الانسانية أن تسألها! من هنا، تتمتع النظم الفلسفية التي ليست موجهة نحو فائدة عملية أو تطبيقية بتأثير عظيم على التاريخ!
الفلسفة إن هي تنكبت لمهمتها، تُصبح "فلسفة ضِرار"(39)، وينتهي بها الأمر إلى التهافت في دوجماطيقية، في معرفةٍ موضوعة في صيغ، نهائية كاملة، تنتقل من واحد إلى آخر بالتعليم التلقيني! في حين أن الأسئلة في الفلسفة أشد أهمية من الإجابات، فكل إجابة تصبح بدورها سؤالاً جديداً! ذلكم هو التفلسف بمعناه الحقيقي! وهو وكما يشى فضاءنا الحضاري غير مُستساغ، على نحو غاية في التفرد!
إضعاف قيمة وأهمية نُشدان الحقيقة هو الخطر الأعظم الذي يهدد أي مُجتمع. فمن جهة يعتاد أبناء المجتمع التفكير ضمن مدلولات البواعث وردود الفعل، والتكيف مع البيئة، ويسهل إخضاعهم وتسييرهم بأساليب الدعاية والتلقين، وتُراودهم في النهاية فكرة التخلي عن كل اهتمام بنشدان الحقيقة، ويقتصر اهتمامهم على النتائج العملية والتحقيق المادي للحقائق والأرقام! ومن جهة أخرى تتسيد فلسفة الضِرار الدوائر الفكرية والأكاديمية في المجتمع، ويشيع العُقم الفلسفي، فأقصى ما يفعله أصحابها هو فهم الفلسفات القائمة والتشدق بمقولاتها! ولا غرابة في ذلك، ففلسفة الضِرار تلتفت إلى ما يهتم به أبناء المجتمع أو فئة بعينها من المجتمع أو ما تهتم به الدولة، ومن ثم لا تُذكر المجتمع بعظمة نُشدان الحقيقة! ولا تُذكره بأن الحرية هي الشرط الأساسي لنشدان نزيه وخصب. وأنها من متطلبات المصلحة العامة للمجتمع. وأنها لا تلبث أن تتداعى إذا ما سيطر الخوف على الإنسان، واستبد به اليقين. تفعل فلسفة الضِرار ذلك، وأصحابها أدرى من غيرهم، بأن واجب الفيلسوف ألا يهاب انتقاد ما يجتذب الناس من حوله، لأنه إن فعل يتحول إلى كهف مُظلم، تأوي إليه "فلسفة الضِرار"!
ثمة صدى آخر للتمييز الخلدوني بين "العلوم الفلسفية" و"العلوم النقلية"، لشد ما يرتبط بحديثنا السابق عن عدم ارتياح الأذن العربية لكلمة "الفلسفة"، ورسوخ اقتران الفلاسفة في الوجدان الشعبي بالانكار الحتمي للالوهية، واستبدال العقل الجاف بها!
ان تاريخ الشرق هو قبل كل شيء نشوء الأديان في هذا الجزء الخارق من الأرض! وأبناء الشرق ونحن منهم لم يصلوا إلى التوحيد من جهة "البحث الحُر والتقصي" وإنما من جهة "الحق المُلهم"! فالنبي محمد هو من اضطلع بعبء تحويل تلك الفكرة الغامضة والوثنية، لدى أهل مكة، عن "الاله" إلى ذات لها خطر عظيم!

المعارضة الضارية التى واجهها النبي في مكة والتى لم تلبث أن تحولت على نحو مُلفت، وفي فترة وجيزة نسبياً، إلى يقين راسخ في عقول وقلوب المكيين، تعضد زعمي بأن "العقل الجاف" وعلى خلاف ما تُغذى به الآخرية المحلية الوجدان الشعبي في مجتمعاتنا قوة محافظة أساساً، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتحرض على الاحتفاظ بكل القيم والأطر المهيمنة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير! فالنبي محمد في صدر دعوته كان يعيش وسط أمة تاجرة، كان دخلها الأساسي يتكون من الصدقات المدفوعة في سياق زيارة الأوثان في الكعبة. وكان أولئك الذين يحتلون المكانة الأولى بفعل الثروة أو المرتبة الاجتماعية، قد سارعوا إلى اعتباره بمثابة منافس خطير، من المستحسن آنذاك كسر ارادة التغيير عنده!
حقاً..ما قد يتصوره الانسان ضلالاً يُناهضه، هو في الأغلب "قناعة" الغد! من هنا، جاء وصف جوتييه للاسلام أعتقد كحضارة وليس كأصل ديني بأنه المجهود الأعلى والتعبير التام عن العبقرية العربية! فحضارتنا الإسلامية وكما يشى التاريخ نشأت ونمت في كنف الأصل الديني للاسلام. كما أن الأصل الديني للأسلام نشأ ونما بدوره في "التربة" التى كانت قد أعطت من قبل: "اليهودية" و"المسيحية".
صدىً ثالث ومهم للتمييز الخلدوني بين "العلوم الفلسفية" و"العلوم النقلية"، نجده في ذلك الجدل المُربك والمُرهق حول ما إذا كانت عقولنا وقلوبنا، نحن معشر الساميين، مؤهلة كما هو الحال عند الآريين، لنشدان الحقيقة عبر البحث والتفصي!
تقسيم الناس إلى ساميين وآريين هو وفيما يرى الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا من صنع علماء تاريخ اللغات في القرن التاسع عشر. والسامي منسوب إلى سام على ما جاء في التوراة من أنه كان لنوح أبناء ثلاثة: "سام" و"حام" و"يافث". فسام أبو الإسرائيليين واخوانهم، وحام أبو الزنوج، ويافث أبو بقية البشر. أما الآري فمنسوب إلى آريا، وآريا اسم شعب كان مهده النجد الفارسي من بلاد الأقغان وما إليها، ثم انحدر فيما حوالي 2000 عام قبل المسيح إلى الشمال الغربي من الهند ومعه دين جديد هو "دين الفيديين"، له كتاب مقدس هو مجموع مزامير موجهة إلى الآلهة تسمى فيدا، وهو اليوم دين البراهمة ودين الهندوسيين، لم يدخله إلا تغير يسير(40).
وقد كان لمزامير هذا الدين المقدسة وما ألهمته من فكر أثر كبير في حياة أبناء آسيا ووصل صدى ذلك إلى أوروبا منذ القدم. لذلك لم يكد الاستعمار الأوروبي يستقر في بعض أنحاء الهند حتى أقبل علماء أوروبا على دراسة الفيدا، وقد راعهم ما لاحظوا من التشابه بين اللغة السنسكريتية التى هي لغة الفيدا وبين اللغات الأوروبية.
وهكذا نشأ علم مقارنة اللغات، فصنفت اللغات أصنافاً، ورُدت كل مجموعة منها إلى أصل واحد، ثم جعل العلماء هذه الأنساب اللغوية أنساباً للأمم التى تتكلم بها. ونبتت في القرن التاسع عشر نظرية شعب آري هو أصل للأمم الأوروبية ولبعض الأمم الآسيوية، ممن ترجع لغاتهم إلى أصل واحد، هو اللغة السنسكريتية أو غيرها.
الفيلسوف رنان يُصرح في كتابه "تاريخ اللغات السامية" بأنه أول من قرر أن الجنس السامي دون الجنس الآري! لأن الجنس في مجموعه فيما يرى رنان يجب أن يحكم عليه حسب النتيجة النهائية التى وصل إلى ادخالها على نسيج الشئون الانسانية، وأن الطابع العام للجنس يجب أن يرسم على وفق طابع الأجزاء التى تمثله أتم التمثيل. فالجنس السامي يجب أن نراه ممثلاً في الشعب العربي والشعب اليهودي!
وعمل الجنس السامي، اذا نظرنا إليه في مجموع التاريخ العام، يظهر لنا بوضوح في التبشير بالتوحيد وتأسيسه. فالجنس السامي، أو بعبارة أدق الشعب اليهودي، لم ينتقل مع توالي الأزمنة من الاشراك الأول إلى التوحيد الذى جاء بعده "من جراء تفكير طويل في الشئون الالهية"، أو من جراء "سير بطيء وصل به رويداً رويداً إلى فكرة أكثر نقاء عن العلة الأسمى"، أو من جراء "كشف أو تقدم تم بطريقة علمية"، بل ان التوحيد السامي بحسب رنان هو نتيجة استعداد جنسي خاص!
ولقد جعل رنان من هذا "الاستعداد الجنسي" غريزة سماها "غريزة التوحيد"، وبفضل هذه الغريزة كان من حظ الجنس السامي أن يكون له منذ أيامه الأولى طرازه الخاص من الدين يقوم على فكرة أساسية هي أن السمو والسلطان هما في يد سيد أوحد خلق السماء والأرض. وتلك الغريزة كما يقول رنان ظهرت بشكل "الهام فطري" مماثل لذاك الالهام الذى أدى إلى خلق الكلام في الأجناس كلها. ومذهب رنان في هذه النقطة الأخيرة معروف ومشهور. لقد ظهرت على ما يرى منذ بدء العالم طرز عديدة من اللغات متميزة بعضها عن بعض، ولا ترجع احداها للأخرى، وقد فاضت من أدمغة الأجناس الهامة المختلفة، وكان لها جميعاً قواعد أساسية خاصة بالتصريف والنحو، ثم حدثت تأثيرات مختلفة ترجع إلى الزمان والمكان، فجعلت هذه القواعد تتمثل في اللغات واللهجات المتعددة وإن لم تكون منها إلا تطبيقات خاصة.
هكذا نرى أن رنان توسع فجعل للدين نفس ذلك الفهم، ولنذكر ما يقوله في هذه المسألة: "ففيما يتعلق بالدين، كما فيما يتعلق باللغة، ليس هناك شيء يخترع، فكل شيء هو ثمرة وضع اتخذ في باديء الأمر وظل كذلك دائماً". وقد بذل رنان جهداً بعدئذ في سبيل تخفيف صلابة هذا الفهم وبساطته حين دخل في تفاصيل الموضوع.
لقد قال إنه لا يقصد بما تقدم إن الساميين جميعاً كانوا موحدين. ولكن إذا تعمقنا في دين الساميين الذين كانوا على الوثنية نجد لديهم بحسب رنان سمات عديدة لا يمكن تفسيرها إلا بتصور بدائي للألوهية يختلف اختلافاً جوهرياً عن التصور الذى كان سائداً عند الشعوب الآرية، بمعنى أن ذلك التصور كان يشمل دائماً فكرة الملكية المطلقة. ففي الأزمنة القديمة كان التوحيد عند الشعوب السامية لا نراه متركزاً إلا لدى طبقة أرستقراطية غير محس بها، أما الشعب فكان في عبادته يتجه دائماً نحو الديانات الأجنبية. بل إن التوحيد الحق لم يوجد عند الاسرائيليين أنفسهم إلا في عدد قليل. وهكذا شأن الفكرة الأولى لا تكون ممثلة في أي شعب من الشعوب إلا في أفراد قليلين، ولهذا ينبغي إذا أردنا الحكم على خصائص جنس من الأجناس أن نتخذ الطبقة الأرستقراطية أساساً لحكمنا. بيد أن ارنست رنان لم يلبث، بعد تلك التحفظات، أن عاد وأيد نظريته الأولى القائلة بأن الساميين كانوا موحدين فطريين! تحير كهذا من جانب فيلسوف عظيم كارنست رنان، لا يُحسب عليه، بل يُحمد له!
في كتابه "المدخل إلى الفلسفة"، حاول جوتييه، وهو أحد المتأثرين وهم كُثرُ بآراء رنان، بلورة التمييز بين السامي والآري على نحو أوضح، فقال إن العقلية السامية تميل إلى قرن الأشباه والأضداد، دون ربطها بما يجعل منها وحدة، بل تتركها منفصل بعضها عن بعض ثم تنتقل من احداها إلى الآخر دون واسطة بوثبة فجائية!
أما في العقلية الآرية فالأمر بالعكس، إذ تنزع إلى الربط بين هذه وتلك بوسائط متدرجة، فلا تنتقل من طرف إلى آخر إلا بدرجات لا تكاد تكون مُحساً بها بالقدر الممكن! إنها تسير، فيما يرى جوتييه، على نظام الألوان المُذاب بعضها في بعض!
واقترح جوتييه في الكتاب نفسه، ولحين ايجاد تسمية أكثر دقة في التعبير، تسمية العقلية السامية، ومنها العقلية العربية، بالمذهب "المفرق" كونها تترك الضدين مفترقين لا صلة بينهما، فضلاً عن اقتراحه تسمية العقلية الآرية بالمذهب "المجمع" أو "الموحد" كونها تجمع بين الأضداد بوسائط متدرجة متوالية وتجمعها في كل واحد!
آراء كتلك الخاصة بارنست رنان، ومن تأثروا به كجوتييه وغيره، لا تخلو من وجاهة، فرنان فيلسوف عظيم، تشهد بذلك روائعه العديدة: تاريخ المسيح، مناظرته الشهيره مع الأفغاني، محاوراته الفلسفية، ذكريات شبابه وطفولته، وغيرها الكثير!
آراء رنان إذن لا يصح التعامل معها ببساطة قبولاً أو نفوراً، وكلاهما هنا سواء ، كما فعل آخرون، وفي مقدمتهم الشيخ مصطفى عبد الرازق أول أستاذ مصري للفلسفة بجامعة القاهرة، فقد رمى الشيخ مصطفى دون بحث نزيه أو تقصي، وفي أريحية وبساطة يُحسد عليهما، رنان بالتخفي وراء زينة البلاغة وخيال الشعر ووثبات الحماسة والهوى والتناقض! فرنان برأي الشيخ هو خصيم الجنس السامي والدين الاسلامي جميعاً! لماذا؟ لأنه كان فيما يتعلق بالفلسفة شديد الشكيمة على ما سماه "فلسفة عربية"، لكنه ألين جانباً لما دعاه "فلسفة اسلامية علم الكلام ". ولا أدرى كيف لم يتنبه الشيخ أنه، بادانته للاعلاء الرناني لعلم الكلام، إنما يُدين نفسه!
يقول رنان في كتابه الشهير "ابن رشد والرشدية"(41): "ليس العرق السامي هو ما ينبغي لنا أن نطالبه بدروس في الفلسفة، ومن غرائب النصيب ألا ينتج هذا العرق، الذى استطاع أن يطبع على بدائعه الدينية أسمى سمات القوة، أقل ما يكون من بواكير خاصة به في حقل الفلسفة، ولم تكن الفلسفة لدى الساميين غير استعارة خارجية صرفة خالية من كبير خصب، غير اقتداء بالفلسفة اليونانية". بمثل هذا الوضوح المُفيد أدخل ارنست رنان في الأدبيات المتعلقة بتاريخ الفلسفة عندنا معشر العرب دعوى الطبيعة السامية، وجعلها أساساً للحكم بأبدية العقم الفلسفي لأبناء حضارتنا.
صحيح أن للنفس السامية خواص ليست غريزية كما يقول رنان، وإنما مكتسبة على خلفية التجربة الحضارية في الشرق(42) ، تتجلى في انسياق جارف إلى التوحيد من جهة الدين، وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية! وصحيح أن العرب قبل "الهام النبوة" لم يؤرقهم نُشدان الحقيقة، من جهة البحث والتقصي! وصحيح أيضاً أن إطلاق لفظ "فلسفة عربية"، على فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية، يستفيد من كون حضارتنا في مستهل نشأتها دخلت بنهم في قالب فلسفة اليونان وانطبعت بطابعه قبولاً أو نفوراً، ولم تجعله رافد الهام وتكأة نحو المستقبل.
كل هذا وأكثر صحيح، غير أن الاتفاق مع آراء رنان في مجملها، ينطوي على ظلم فادح لأبناء حضارتنا الكسيرة! فالسامي والآري نقطتي ماء من نبع واحد. كلنا من خلق الله، من نبع صاف أتينا، وفي المصب نفسه تُسكب أعمارنا القصيرة. حديث رنان عن خواص ثابتة وميول فطرية لدى الأجناس يفوح بعنصرية كريهة، قد لا تكون مقصودة، فرنان فيلسوف عظيم، بيد أننى وبحسب تصنيف رنان للبشر، إن جاز مثل هذا التصنيف أنتمي للجنس السامي، فأنا عربي، وكما يقول المثل العربي القديم: أهل مكة أدرى بشعابها! نحن أقدر بالطبع من رنان وغيره على اسكتشاف ذواتنا، ولو كرهت الآخرية العربية/المحلية، التى لا تمل التضييق علينا وحرماننا من حق أصيل لنا، وهو اكتشاف الحياة! الآخر العربي يريدنا دوماً "مهندسي ديكور" بلا ذاكرة، أما حياة العز والشرف، فتأبي إلا أن نكون "علماء آثار"، ننقب في ذواتنا عن تلك الشعلة المقدسة، التى أودعها الله ضمائرنا، لنهتدي بنورها الالهي!
العالم المُعاش شديد الخضوع للأفكار الصحيحة والزائفة على السواء، لدرجة دفعت بعض الظرفاء للقول بوجود تناسب طردي بين الأثر الذي تُحدثه أية فكرة في حياة البشر وبين درجة الخطأ الكامنة فيها! أصحاب البصائر النفاذة هم وحدهم القادرون على إدراك الفاصل بين الصحيح والزائف! وفي مقدمتهم يأتي الفلاسفة، فالفلسفة مُغايرة لغيرها من طرق نُشدان الحقيقة! إنها بحث عن الحقيقة غير النفعية، كونها تتطلب أحياناً من المشتغلين بها وقوفاً أليما في وجه رغباتهم الشخصية!
في علم الكلام تتجسد عبقرية الآخرية المحلية في المُزايدة على حق أبناء حضارتنا الإسلامية في النُشدان الحُر للحقيقة، من خارج "الحق المُلهم"! الاقتصار على التماس الحقيقة من داخل "المقدس"، وكما تشي تجربتنا الحضارية المريرة، لن يخدم سوى مصالح هذه الآخرية الآثمة التى تستغل "المقدس" من أجل تكريس اغتراب الذات وإدامة تنازلها عن حقها في امتلاك ثقافة متطورة. علم الكلام يطرد الفلسفة!
أمور عديدة تعضد مُحاجتي هذه، أتعرض هنا لأهمها بشيء من التفصيل:
أولاً، مازج الفقه بالفلسفة كمازج الزيت بالماء!
"التفكير الفقهي" و"التفكير الفلسفي"، وبوصفهما أبرز الطرق أمام الإنسان لنُشدان الحقيقة، متعارضان أشد التعارض، فالتفقه نُشدان للحقيقة من داخل "الهام النبوة". والنبوة في الغالب، وكما يوضح حسن حنفي في تقديمه ل"رسالة فى اللاهوت والسياسة"(43)، وحي مكتوب، فهي مصدر النص قبل التدوين. وتشمل النبوة جانبين: الأول، صلة النبوة بمصدر الوحي، أى النبوة على المستوى الرأسي كما تحدده صلة النبي بالله. والثاني صلة النبي بالرواة، وانتقال النبوة من رواية إلى رواية، حتى يتم التدوين، ثم انتقال المصاحف من يد إلى يد، حتى يتم التقنين، أى النبوة على المستوى الأفقي، كما يحدده وضعها، وانتقالها في التاريخ. أما التفلسف فهو حب الحقيقة والنُشدان الحُر لها، استناداً إلى روائع التراث الإنساني، والقيم السامية المشتركة!
روائع التراث الانساني ومنها ارثنا الحضاري ليست ملكاً لأبناء حضارة بعينها، فهي بحق ملك لنا جميعاً معشر البشر، في كل زمان ومكان! وها هو الفيلسوف كارل ياسبرز، ينبه في روعة إلى هذه البديهية الغائبة عن أبناء حضارتنا بقوله إن واجب الإنسان، وأياً كانت الثقافة أو الحضارة التي ينتمي إليها، هو أن يتعلم من "الموقظين الكبار أو الفلاسفة العظام" في كل العصور والحضارات، لأنه وبحسب ياسبرز لما كانت الصياغة الواعية لحقيقة النضال من أجل الحقيقة وهدفه لا تكتمل أبداً في صورة نهائية يمكن الإجماع عليها، فلابد لكل منا أن يضطلع بها مرة أخرى وأن يعدها مسئولية يتعين عليه أن يواجهها ويتحمل تبعاتها ما بقي إنساناً!
أنصار التوفيق بين "الهام النبوة" و"النضال من أجل الحقيقة"، يختلفون على مر التاريخ الانساني من جهة عناصر صيغهم التوفيقية، سواء من حيث القدرة على الموائمة بين "النبوة" و"التفلسف"، أو من حيث الفعالية التعبوية لأبناء الحضارات التى ينتمون إليها! بيد أنهم جميعاً ينسبون إلى الأنبياء أفكاراً لم تجل بصدورهم ويلوون عنق "الهام النبوة" في محاولات دؤوبة للالتفاف عليه واخضاعه لتأويلاتهم الطموحة!

منذ فيلون وهو مفكر يهودي ولد بالاسكندرية نحو عام 20 أو 30 ق. م، كان يرى أن التوراة فيها أفكار فلسفية لا تقل مكانة وسمواً عن خلاصة التفكير الاغريقي، وكل ما يجب للوصول إلى هذه الأفكار هو استخلاصها من نصوص التوراة بطريق التأويل المجازي(44) رأى الكثير من أنصار التوفيق في الديانات الثلاث الكبرى ضرورة اصطناع هذا الطريق، طريق التأويل المجازي أو الرمزي! ولسبينوزا يرجع الفضل في اخراج الحضارة الغربية من مثل هذا "التيه"! فها هو ينتهي في رسالته ذائعة الصيت إلى أن حرية التفلسف لا تمثل خطراً على التقوى أو على السلام في الدولة بل ان القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها.
ثانياً، المقدس هو منبع التأمل ومصدر الشرعية!
للرواية كما أوضحنا منزلة عالية وأهمية عظيمة في "العلوم النقلية"، ولهذه الأهمية كان من الضروري أن يبرز ما يُحتاج إليه من وسائل كالإسناد وغيره من قوانين غاية فى الإحكام! وإذا نظرنا إلى الرواية قبل الإسلام لم نجد العرب قد عنوا بها أو بتصحيح الأخبار، وتمحيص المرويات العناية الكاملة، لأن مروياتهم لم يكن لها من القداسة ما يدعو إلى ذلك، ففيها الأساطير والأحاديث المختلفة. أما الرواية في الإسلام، فقد شدد العلماء فيها، وقعدوا لها القواعد، وصاغوا لها الشروط، وأصلوا لها الأصول بعناية هي الأدق، بحسب عمر هاشم، لقول النبي "إن كذباً على ليس ككذب على أحد، فمن كذب على فليتبوأ مقعده من النار". رواه الشيخان(45).

في "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" يقول مصطفى عبد الرازق: "الباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يجب عليه أولاً أن يدرس الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية(!!) منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نسقاً من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده. يجب البدء بهذا البحث لأنه بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، والترتيب الطبيعي يقضي بتقديم السابق على اللاحق، ولأن هذه الناحية أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثراً بالعناصر الأجنبية، فهي تمثل لنا هذا التفكير مخلصاً بسيطاً يكاد يكون مسيراً في طريق النمو بقوته الذاتية وحدها، فيسهل بعد ذلك أن نتابع أطواره في ثنايا التاريخ، وأن نتقصى فعله وانفعاله فيما اتصل به من أفكار الأمم".
وفي كتابه "فيلسوف العرب والمعلم الثاني"، صنف الشيخ مصطفى عبد الرازق في جرأة يُحسد عليه ، "ابن تيمية" ضمن الفلاسفة، جنباً إلى جنب مع "الكندي" و"الفارابي"، وكأنه لم يقرأ لشيخ الاسلام كتابه المهم "الحسبة ومسئولية الحكومة الاسلامية"، وكأنه أيضاً لم يقرأ لابن تيمية "رساله في الرد على الفلاسفة"! ولا ينبغى لقارئي أن يفهم من كلامي هذا، أى تهوين أو نيل من مكانة ابن تيمية، فما قصدت سوى تبرئة الرجل، من أمور لم يستسغها! لا أحط من الكذب على الموتى!
الشيخ مصطفى ولا أدرى أكان فعله هذا بوعي أم بلا وعي الحق بالفلسفة الإسلامية في مصرنا الحبيبة أشد الضرر، فحتى اليوم لا تزال جامعة القاهرة العتيقة تحتضن رؤيته هذه، دون أدنى تحفظ إزاء الطبيعة "النقلية" التي ورثها "علم الكلام" عن "الفقه"، والذي هو برأي الشيخ بداية التفكير الفلسفي في حضارتنا! الغريب أن الشيخ والمتأثرين به، وهم كُثرُ في دوائرنا الفكرية والأكاديمية، لم يكلفوا أنفسهم عبء إفهامنا: كيف للتفكير الفلسفي أن يقوى ويزدهر مع الالتزام على الأقل المُعلن من جانب المتكلمين بالمُقدس، كمنبع للتأمل، ومصدر لشرعية التفلسف!
ثالثاً، طبيعة "نفعية" واشتباك مع الهيئات الحاكمة:
لا يُمارس التفكير الفقهي إلا تحت إكراه التبجيل الدفاعي أو الهجومي أو الاثنين معاً، وذلك طبقاً لأوضاع المجتمع الاجتماعية والقانونية والسياسية..الخ ، فصاحب التفكير الفقهي مُكلف إما بمرافقة إرادات القوة والتوسع، وإما بتدعيم الأطر الثقافية القائمة والمهيمنة، من خلال مقاومة المشاريع المنافسة، وجعل هذه الأطر أكثر تخشباً وصلابة! طبيعة نفعية كهذه للتفكير الفقهي لا تنال بحالٍ من مكانته العظيمة.

علم الكلام موضوع هذه المقالة محض امتداد طبيعي للتفكير الفقهي، حتى أنه اُطلق عليه "الفقه الأكبر"(46)! أورث هذا علم الكلام بالطبع طبيعة "نفعية"!
في "رسالة التوحيد"، يقول الشيخ محمد عبده إن الغاية من هذا العلم "القيام بفرض مُجمَعٍ عليه، وهو معرفة الله تعالى بصفاته الواجب ثبوتها له مع تنزيهه عما يستحيل اتصافه به. والتصديق برسله على وجه اليقين الذي تطمئن به النفس اعتماداً على الدليل، لا استرسالاً مع التقليد، حسبما أرشدنا إليه الكتاب يقصد القرآن ".
محمد عبده أيضاً وبرغم تحفظاتنا على بعض آراءه المشوبه على ما يبدو بشيء من الغموض يكفينا عبء التأكيد على ذلك البون الشاسع الذى يفصل بين "الكلام" و"الفلسفة" من جهة "النفعية"! يقول الشيخ محمد عبده في الرسالة نفسها(47):
"أما مذاهب الفلسفة يقصد الشيخ في حضارتنا الإسلامية ، فكانت تستمد آراءها من الفكر المحض، ولم يكن من هم أهل النظر من الفلاسفة إلا تحصيل العلم والوفاء بما يندفع إليه رغبة العقل من كشف مجهول، أو استكناه معقول، وكان يمكنهم أن يبلغوا من مطالبهم ما شاءوا، وكان الجمهور من أهل الدين يكنفهم بحمايته، ويدع لهم من اطلاق الارادة ما يتمتعون به في تحصيل لذة عقولهم، وإفادة الصناعة، وتقوية أركان النظام البشري، بما يكشفون من مساتير الأسرار المكنونة...

"وما كان عاقل من عقلاء المسلمين ليأخذ عليهم الطريق أو يضع العقاب في سبيلهم إلى ما هدوا إليه .. لكن يظهر أن أمرين غلبا على غالبهم: الأول، الاعجاب بما نُقل إليهم عن فلاسفة اليونان، خصوصاً عن أرسطو وأفلاطون، ووجدان اللذة في تقليدهما لباديء الأمر. والثاني، الشهوة الغالبة على الناس في ذلك الوقت، وهو أشأم الأمرين. زجوا بأنفسهم في المنازعات التى كانت قائمة بين أهل النظر في الدين، واصطدموا بعلومهم في قلة عددهم مع ما انطبعت عليه نفوس الكافة، فمال حماة العقائد عليهم.

"وجاء الغزالي ومن على طريقته فأخذوا جميع ما وجد في كتب الفلاسفة مما يتعلق بالالهيات وما يتصل بها من الأمور العامة أو أحكام الجواهر والأعراض ومذاهبهم في المادة وتركيب الأجسام وجميع ما ظنه المشتغلون بالكلام يمس شيئاً من مباني الدين، واشتدوا في نقده، وبالغ المتأخرون منهم في تأثرهم حتى كاد يصل بهم السير إلى ما وراء الاعتدال، فسقطت منزلتهم من النفوس، ونبذتهم العامة، ولم تحفل بهم الخاصة، وذهب الزمان بما كان ينتظر العالم الاسلامي من سعيهم"
أما بخصوص اشتباك علم الكلام مع الهيئات الحاكمة، فليس ثمة صعوبة تُذكر أمام صاحب القراءة الأمينة والمنظمة، لحوادث تاريخنا الإسلامي، في تبين عمق هذا الاشتباك ومتانته! خذ مثلاً ذهاب الخليفة المأمون المعتزلي إلى اعتبار القرآن مخلوقاً في الزمان امتحان لا يجوزه إلا ثابتو الإيمان، وهو ما عُرف في التاريخ بالمحنة. وخذ أيضاً سنة خلفاء المسلمين في اختيار القضاة من بين الفقهاء والمتكلمين، فقد كان القرآن هو مرجع الشرع والقانون، ومن ثم كان "فقه القانون" فرعاً من الفقه وعلم الكلام. لكن القضاة سرعان ما وجدوا أنفسهم، في مواجهة كثرة الحالات غير المعروفة، مضطرين للاستعانة بالسنة وهكذا صار الحديث المصدر الثاني للتشريع.
ولماذا التاريخ؟! خذ مثلاً ما يحدث في دوائرنا الفكرية والأكاديمية، من جانب بعض القائمين على تدريس "حب الحقيقة والنُشدان الحُر لها" في معاهدنا العريقة! تجد أن تأثر هؤلاء بالتواجد الأخطبوطي لعلم الكلام واضح، وان "النفعية" قد انتقلت إلي نفوسهم، ومن ثم استعصى عليهم التمييز بين أسس التفكير الفقهي ونظيره الفلسفي! يحيي هويدي، أستاذ الفلسفة المرموق بجامعة القاهرة في ستينيات القرن الماضي، أحد هؤلاء الذين انتقلت إلى تفكيرهم الفلسفي "نفعية" التفكير الفقهي، فقد ألف كتيباً صغيراً بعنوان: "حياد فلسفي"، اكتفي هنا باقتباس فقرتين من مقدمته، دون تعليق(48):
"الفكرة الرئيسية التى تدور حولها صفحات هذا الكتاب الصغير، تتلخص في البحث عن امكانية قيام حياد فلسفي يساند، من قريب أو بعيد، الحياد السياسي الذى أصبح شعاراً لنا ولرابطة الشعوب الافريقية الآسيوية في المجال الدولي.
"وأسارع فأطمئن القاريء الأكاديمي الحريص على أن تظل الفلسفة بمنآه عن السياسة، أن هذا الكتاب لن يشتمل على أي إقحام متعمد للفلسفة في السياسة. على الرغم من أن هذا الإقحام ليس في حد ذاته عيباً. فما يجب أن تظل الفلسفة بعيدة عن واقعنا الثورى الذى نعيش فيه. والحق إنني لا أدري لم يستجيب الأدب والفن وجميع فروع الدراسات الانسانية لواقعنا الثوري على هذا النحو الرائع الذى نلمسه، ونطالب به، وننفذه في برامجنا، وتظل الفلسفة وحدها بمفردها بمعزل، مع أنه كان عليها باعتبارها علم المباديء أن تتقدم الصفوف استجابة لتلك الصيحات التى أخذت ترتفع من الكثيرين ومن الأدباء أنفسهم تنادي بضرورة اقدام الفلاسفة على مثل هذه الخطورة. وذلك من أجل أن يوضحوا للجميع بعض الأفكار والمفاهيم الجديدة التى يستخدمها كثير من الناس استخداماً غير موفق، وتتضارب الآراء بشأنها لا لشيء إلا لأنها لم توضع في الاطار الفلسفي المناسب".
رابعاً، الإنسان ليس مجرد حيوان مُطعم بالعقل:
يُعامل الإنسان في مجتمعاتنا الموغلة في التخلف على أنه "مجرد حيوان مُطعم بالعقل"! يعرف هذا بسهولة من يُخالط أبناء عالمنا العربي، بشقيه الفقير والغني ! ألم أقل ان نظمنا التربوية المُغرضة تستأصل، بدربة، من عقول وقلوب النشء ملكة النقد والابتكار! وان غرس اليقين، في العقول والقلوب، صيرنا بحق "أمة من غنم"!
من هنا، وفي ضوء ما نلمسه من تواجد أخطبوطي لعلم الكلام في حضارتنا الإسلامية، ليس أمام المرء سوى التساؤل حول مإذا كان هذا العلم "النقلي" ينظر إلي الانسان على أنه "مجرد حيوان مُطعم بالعقل على الأقل على الصعيد العملي " أم أن الانسان عنده أرقى وأسمى من ذلك؟ تساؤل كهذا، لابد وأن يُزعج عبيد المصالح، لحرصهم على ألا تتجاوز حريتنا ما يسمح به طول "الحبل" الذي يُحيط بمصائرنا!
أذكر أني وعلى غير عادتي ذهبت لحضور ندوة نظمتها "الجمعية الفلسفية المصرية" مشكورة، عن الراحل محمد أركون. وفيها دار نقاش طويل ومُكرر بين المتحدثين والحضور، حول العقل وتعريفه وماهيته وموقف الدين منه و..الخ! أذكر أيضاً أن أحد الحضور لا أذكر اسمه للأسف الشديد تساءل في حياء عن مدى مشروعية اختزال "الصيغة البشرية"، وهي الأرقى والأسمى، في مجرد "حيوانية مُطعمة بعقل استاتيكي جاف"! ولشد ما أدهشني أن كلمات الرجل، ورغم خطورتها وصلتها الوثيقة بفكر "الأنسني" الراحل أركون، لم تستوقف أحداً، لا من المتحدثين ولا من الحضور، بل وجدتهم يمضون قدماً في مناقشة موقف أركون مما أتصوره قضايا كلامية! ساعتها تأكدت من أن علم الكلام يطرد الفلسفة، وأنه بحق "مقبرة الفلاسفة"!
فرق شاسع بين نظرة علم الكلام إلى الانسان، وبين نظرة الفلسفة له! وهو ما يفسر عدم استساغة حضارتنا، وفي ظل التواجد الأخطبوطي لعلم الكلام، من علوم القدماء سوى المنطق، كونه يتعاطى مع العقل الجاف، ولسوف اقتبس هنا تعريف الغزالي لهذا العلم، لدلالته المهمة(49): "هو النظر في طرق الأدلة والمقاييس، وشروط مقدمات البرهان، وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه، وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان. وليس في هذا ما ينبغي أن يُنكر، بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات".
الفلاسفة في حضارتنا الاسلامية ومنهم العملاق ابن رشد ليسوا بعيدين كثيراً عن هذه النظرة الدونية لطبيعة الكائن البشري، كونهم لم يجرؤوا ربما لحداثة تجربتهم، واشتداد سطوة الفقهاء وعلماء الكلام على الذهاب إلى أبعد من الافتتان بأراء فلاسفة كأرسطو وأفلوطين ! هم مثلاً لم يُناهضوا الرق(50)، ولم يعيروا أى اهتمام للأدب اليوناني الخصب، رغم أنهم ورثة الكنز اليوناني الفلسفي العلمي والنظري ، وأنهم من نقلوه إلى أوروبا، بعد اغنائه قدر جهدهم! فالملاحظ أن أعمال الناثرين والمؤرخين، وكذلك الانتاج المسرحي اليوناني الهائل، الذى كان لابد لعصر النهضة الأوروبية من اتخاذه رافد الهام ومتكأ نحو المستقبل، والذى كان في مستطاع أبناء حضارتنا استنهاله بكل سهولة، لم تكن مؤثرة في نفوس مُبدعي حضارتنا(51)!
قارئي الكريم، أوردت في صدر هذه المقالة، قول أحد الحكماء إن الجهلاء هم الذين يظنون أن المباني الجميلة ومباهج الحياة وألوان الترف إن هي توافرت هي التي تشهد برقي الحضارة. وقوله أيضاً إن شعور الفرد بحريته وكرامته الإنسانية، هو برهان علو الحضارة دائماً وأبداً، هو ذلك الشيء الفذ الذي يجب الاهتمام به وتنميته إلى أقصى حد! أوردت أيضاً قول الحكيم نفسه انه ليس هناك ما يمكن أن يؤدي إلى مثل هذا الرقي كالتربية الخلاقة، وتزويد الفرد بالقدرة على قراءة الأمور بطريقة أمينة ومنظمة، تجعله قادراً على التفكير النقدي ودفع الحياة للأمام!
"كيف يمكن تفسير ذلك التعامي الواضح من جانب القائمين على تدريس الفلسفة عندنا عن هذا التجفيف المنهجي المُستدام لمنابع التفكير الفلسفي في مجتمعاتنا، من خلال غرس اليقين في عقول وقلوب النشء، بل وذهاب هؤلاء في تعاميهم إلى حد "التنطع"؟! وهل ثمة إمكانية للحديث عن وجود "تواطؤ" ما؟!". تلك تساؤلات، كنت قد وعدتك، قارئي الكريم، في صدر هذه المقالة، بالتحقق من مدى وجاهة طرحها.
تحقق كهذا الذى وعدت بالسعى لانجازه، لم يكن الاقتراب منه ممكناً، بدون استكشاف دهاليز "التفكير الفقهي"، وليس "الفلسفي"! لأنه لا يوجد "تفكير فلسفي" عندنا، ما يوجد هو "تفكير فقهي"، يُلقى في روع أبناء مجتمعاتنا البائسة أنه "تفلسف أو بحث حُر عن الحقيقة"، تُراعى فيه خصوصيتنا الحضارية!! وراء هذه المغالطة المشئومة وكما تبين صفحات هذه المقالة، يتمترس تجار الآلام وفلاسفة الضرار! وبفضل هذه المغالطة المشئومة يظل الانسان عندنا مسخاً باهتاً، بل وزاهداً في استكشاف نفسه والحياة، كأن عليهما قصاصة ورق تقول: "للمشاهدة فقط..لا تلمس هذه الأشياء"!
ما أقبح هذه المُزايدة الرخيصة والأبدية على خصوصيتنا الثقافية! وما أفبح خنوثة التخلف في مجتمعاتنا، تلك التى لطالما استعصت على التفكيك! الحق أنه لا أمل عندي في خلاص قريب لأبناء حضارتنا، فنفوسهم نزيلة "شرك" لعين غاية في الاحكام والمتانة، استثمر "الآخر المحلي" عبقريته الآثمة في تشييده، عبر مئات السنين، وأراه لم يخسر، لأنه لا خلاص لمسخ، وأبناء أمتنا على نحو ما نرى ، ما بين ممسوخ، أو صانع مسوخ! خاصة في عقود ما بعد الكولونيالية، أعني عقود ما بعد رحيل المستعمر الأوروبي عن بلادنا، وعودة "الآخرية المحلية/العربية"، في أشد صورها "خسة"، إلى الانفراد بمقاليد الأمور، مدعومة بالآخريتين العالمية والاقليمية!
الكتابة والبحث عندي كقتال فُرض على جندي، عليه فقط أن يُقاتل، وليس له أن يسأل عما إذا كان سينتصر أم لا؟ إذ لابد للانسان من قضايا يدافع عنها ويموت من أجلها، لا أن يقنع بحياة ذل، حريته فيها بمقدار ما يسمح به قيد "الآخر" اللعين!
والحمد لله أني أتيت إلى الوجود في هذه المرحلة المتقدمة نسبياً من مسيرة الجنس البشري على طريق الحياة، فما اُحرز من رقي معرفي، وما تركه لنا نبلاء الحضارات المختلفة، من روائع لا تموت، وما بلغه البحث والتقصى عن خبايا لطالما سُكت عنها في عصور الانغلاق والعزلة، على نحو ما حصل معنا، وما أزهق من نفوس طاهرة، سطر أصحابها بدمائهم الذكية وصايا الحرية والشرف والكرامة، كل هذه الأمور وغيرها، لم يعد معها بمقدور بشر أن يزعزع ايماني ب"الله والحرية"!
بقيت لي كلمة أخيرة، ألهمتني اياها أحداث "تونس" الأخيرة والتى سمعت بها بينما كنت أضع اللمسات الأخيرة لمقالتى هذه: إن القارىء النزيه والأمين لتاريخنا وحاضرنا وربما مستقبلنا أيضاً نحن العرب لا يجد ثورات بالمعنى الحقيقي، بل هيجان أغنام ساءها أن عصى الراعي غليظة، وأن ما هو مُتاح أمامها من علف وإناث لا يُوزع بينها بالعدل! هيجان كهذا ورغم احترامنا الكامل لخطورة دوافع أصحابه، تقتصر تداعياته، وكما يحكي التاريخ، على رموز نخبوية بعينها، يُضحى بها، لحماية البنية التحتية للتخلف، والحيلولة دون فتح أبواب الحرية أمام الهائجين!
الثورات الحقيقية، ليست كانقلابات العسكر، أو كهيجان مُتضرري البطالة والغلاء والفساد والمرض، فهي "ثقافية" في جوهرها، ينهض أنصارها، في اصرار وجلد، بعبء تفكيك البنى التحتية للتخلف في مجتمعاتهم! فلا تغيير حقيقي دون موقظين عظام، أعني "فلاسفة"، يعبدوا الطريق، ويحرروا النفوس وليس الأجساد فقط، من تيه لا يرحم، عبر التمكين المنهجي لحب الحقيقة، والنُشدان الحُر لها، في نسيج ثقافتهم المحلية! ولا تغيير حقيقي ما ذاعت دعاوي: التنوير الديني والتجديد الفقهي وتحويل العلوم النقلية إلى فلسفية..الخ(52)، كونها "ضرارية" لذاتها وليس لأصحابها!
التائهون في صحراء "الكلام"، هلموا لقد طال السفر!
"إنني في كل مرة يدنو مني اليأس
لا البث أن أحس يداً حنوناً تربت كتفي
وأخري تملأ سراجي زيت
وإذا بنوره يتجدد ويتألق ويتمدد
وإذا بي أبصر اثار أقدام
هنا وهناك
فتستأنس روحي وتتجدد عزيمتي وتشتد
وأدرك أنني لست وحدي في الطريق!"
ميخائيل نعيمة

ما أشد تشوه وقُبح فهم أبناء أمتنا للحرية! وما أخبث التخلف الذي انفق رواد فكرنا الأنسني النبلاء أعمارهم في منازلته(1)! انه تنين عديد الرؤوس، كثير البراثن وحاد الأنياب! انه تنين عظيم جداً! انه تنين مزدوج مشترك من آخرية عربية/محلية لا تتورع عن تكريس اغتراب شعوبنا ثقافياً(2)، ومن آخرية غربية/عالمية تتحالف بدم بارد مع ميراثنا المُر، تنساب في أرضنا كأفعى، تستأصل بدربة ما تبقى في نفوسنا من مروءة وشرف! "يالذل قوم لايعرفون ما هو الشرف وما هو العار!"، مقولة رائعة للمفكر السوري أنطون سعادة(3)، وصف فيها بدقة خنوثة التخلف العربي.
ثمة بون شاسع وفرق عظيم فيما يرى سعادة بين الحياة والعيش! الحياة لا تكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرق بين العز والذل، وما أكثر العيش في الذل حولنا! فكرنا الأنسني بدوره يرى ان الحضارة هي ما يُفكر فيه الناس ويُحسون به ويفعلونه، وهي القيم التي يضفونها على ما يُفكرون فيه ويحسون به ويفعلونه. صحيح ان أفكارهم ومختلف إحساساتهم وقيمهم يمكن أن تنتهي إلى أعمال تؤثر تأثيراً عميقاً في استعمالهم للأشياء المادية، غير أن الحضارة المادية أقل جانب من جوانب الحضارة أهمية. فالسمو الحضاري لا يبلغ ذروته إلا في عقول الناس وأفئدتهم(4)!

قال حكيم: إن الجهلاء هم الذين يظنون أن المباني الجميلة ومباهج الحياة وألوان الترف إن هي توافرت هي التي تشهد برقي الحضارة. شعور الفرد بحريته وكرامته الإنسانية، هو برهان علو الحضارة دائماً وأبداً، هو ذلك الشيء الفذ الذي يجب الاهتمام به وتنميته إلى أقصى حد! وليس هناك ما يؤدي إلى مثل هذا الرقي ك"التربية الخلاقة"، وتزويد الفرد بالقدرة على قراءة الأمور بطريقة أمينة ومنظمة، تجعله قادراً على النقد والابتكار. حق الإنسان في الحياة هو حقه في دفعها للأمام.
مثل هذه "التربية الخلاقة" لا توجد للأسف الشديد في مجتمعاتنا الموغلة في التخلف! فنظمنا التربوية المُغرضة تستأصل بكل دربة ودأب من عقول وقلوب النشء ملكة النقد والابتكار! غرس اليقين في العقول والقلوب صيرنا "أمة من غنم"!

ولمن يسأل: كيف يمكن إذن تفسير ذلك التعامي الواضح، من جانب القائمين على تدريس الفلسفة عندنا، عن هذا التجفيف المنهجي المُستدام لمنابع التفكير الفلسفي في مجتمعاتنا، بل وذهابهم في هذا التعامي إلى حد "التنطع"؟! وهل ثمة إمكانية للحديث عن وجود "تواطؤ" ما؟! في هذه المقالة أحاول قدر جهدي التحقق من مدى وجاهة طرح مثل هذه التساؤلات، عبر استكشاف "علم الكلام"! فعلى ما يبدو، ثمة تيه في صحراءه ضُرب على معلمي "الفلسفة" في بلادنا، كل ما أخشاه أن يكون أبدياً!

مُصطلح "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
يُستخدم مصطلح "الكلام" الذي يعني حرفياً "الحديث" أو "اللفظ المنطوق" في الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية للتعبير عن المصطلح اليوناني "لوجوس Logos" بكل معانيه المتنوعة الدالة على: "الكلمةWord " و"العقل Reason" و"الحُجة Argument". ويُستخدم مُصطلح "الكلام" في تلك الترجمات العربية كذلك للدلالة على أي فرع من فروع التعليم. واسم الفاعل "متكلمون"(في صيغة الجمع، والمفرد منه: "متكلم") يُستخدم للدلالة على الشيوخ الممثلين لأي فرع مخصوص من فروع التعليم. من هنا ظهرت ترجمات عربية(عن اليونانية) من قبيل: الكلام الطبيعي، أصحاب الكلام الطبيعي، المتكلمون في الطبيعيات، أصحاب الكلام الإلهي، المتكلمون في الإلهيات،..الخ. وبهذا المعنى أصبح مصطلح "الكلام" يُستخدم عند من يكتبون بالعربية أصلاً، ربما بتأثير من هذه الترجمات العربية عن اليونانية.
على هذا النحو وطبقاً للمستشرق ولفسون(5) يتحدث يحيي بن عدي عن المتكلمين المسيحيين. ويتحدث الشهرستاني عن كلام إمبدوقليس وكلام أرسطوطاليس وكلام المسيحيين في كيفية التجسد والاتحاد. ويتحدث يهودا اللاوي عن قوم ينتمون إلى نفس مدرسة المتكلمين أمثال أصحاب مدرسة فيثاغورس ومدرسة إمبدوقليس ومدرسة أرسطو ومدرسة أفلاطون، أو عن الرواقيين وعن فلاسفة آخرين وعن المشائين الذين ينتمون إلى مدرسة أرسطو. ويتحدث ابن رشد عن المتكلمين من أهل ملة الاسلام ومن أهل ملة النصارى أو على حد تعبيره المتكلمون من أهل الملل الثلاث. ويتحدث موسى بن ميمون عن المتكلمين الأُول من اليونانيين المتنصرين ومن المسلمين. ويتحدث ابن خلدون عن كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات..
إضافة إلى هذا كله طُبق مصطلح "الكلام" دونما تقييد على نسق مُعين من التفكير في الحضارة الإسلامية ظهر قبل ظهور الفلاسفة، سُمي أعلامه ب"المتكلمين"، وكانوا على النقيض من أولئك المفكرين الذين أطلق عليهم ببساطة منذ زمان أبو يوسف الكندي اسم الفلاسفة(6). فكيف ظهر في ثقافتنا العربية هذا النسق من التفكير الذي يوصف ببساطة بأنه "كلام"؟ وما الكتابات التي تتناول تاريخه ويمكن أن تُضم معاً؟ الأفكار كالبشر، لحظات الميلاد ومراحل التطور هما السبيل لمن أراد فهمها!
في كتابه القيم "فلسفة المتكلمين في الإسلام"، وُفق هاري ولفسون في ضم كتابات الشهرستاني وابن خلدون(7)، وخرج لنا بعرض وافٍ لتطور علم الكلام في الحضارة الإسلامية، اعتمد عليه أساساً هنا، لخلو مكتبتنا العربية على ما يبدو من دراسات تُماثل في قيمتها، أو على الأقل تقترب من عمل ولفسون الموسوعي المهيب. ولشد ما يُخجلني استقرار مفاتيح إرثنا الحضاري في يد المستشرقين! كل ما املكه هو توخي الحذر قدر المستطاع، فولفسون وأمثاله إنما يخدمون حضارتهم!

ظهور وتطور "علم الكلام" في الحضارة الإسلامية:
"السلف" مُصطلح أطلق على صحابة النبي محمد(570632م) وعلى التابعين الذين صحبوا الصحابة. وما وافق عليه هؤلاء السلف يُعد أساساً للعصر الأول للحضارة الإسلامية. وسوف نُشير هنا إلى "السلف" إما على أنهم الأتباع الأول لدين الإسلام أو على أنهم أصحاب الفهم الصحيح للدين. كلٌ حسبما يقتضيه السياق.
يشتمل الأصل الديني للاسلام الذي تشكل من تعاليم القرآن على نوعين من التكاليف، وفق ما يرى ابن خلدون: الأول التكاليف البدنية، والثاني التكاليف القلبية.
يحتوي القسم الأول على الأحكام الإلهية التي تحدد تكاليف أبدان المسلمين وهذا هو الفقه. هو مصطلح يفيد في معناه الأصلي الفهم والمعرفة، واستخدم في أول الأمر بمعنى محدود هو الاجتهاد، أي استعمال الرأي الخاص لتقرير مسائل شرعية في غياب أي سابقة تنطبق على الحالة موضوع المسألة، لكنه اكتسب فيما بعد المعنى الأشمل للدلالة على التشريع الإسلامي القائم على: القرآن، السنة، القياس، الإجماع.
القسم الثاني من التكاليف يتعلق بالإيمان الذي يُعرف بأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان. ويتكون من عقائد ست تقررت في الدين تبعاً لحديث النبي نفسه حينما سُئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. مُناقشة تلك العقائد الإيمانية هي التي تُشكل "علم الكلام".
[1] مرحلة علم الكلام السابق على الاعتزال:
لا يوجد فيما يرى ولفسون ما يجعلنا نعرف على وجه الدقة متى أصبح لفظ "الكلام" يُستخدم بهذا المعنى الاصطلاحي. غير أننا وبحسب ولفسون نفهم من عبارات الشهرستاني انه كان هناك "علم كلام" سابق على نشأة الاعتزال على يد واصل ابن عطاء(699748م) وأن رونق الكلام ابتدأ من عهد هارون الرشيد(786809م).
وربما يمكن أيضاً الاستدلال على وجود كلام سابق على الكلام الاعتزالي من استخدام مصطلح "المتكلمين" عند ابن سعد(764/765854م) في الإشارة إلى أولئك الذين كانوا يناقشون وضع مرتكبي الكبيرة في الإسلام الذي أثارته فرقة المرجئة السابقة على الاعتزال. ومن استخدام مصطلح "يتكلم" عند ابن قتيبة(828889م) فيما يتعلق بمناقشة مسألة حرية الإرادة عند غيلان الدمشقي السابق على المعتزلة.
في سياق توضيحه لكيفية تأسس "علم الكلام" عند أولئك المتكلمين الذين ازدهروا قبل قيام الاعتزال، وعلى أي نحو كان ذلك التأسيس، يصف لنا ولفسون استناداً إلى ابن خلدون الأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الإسلامية قبل المعتزلة بقوله ان الاختلافات حول مسائل العقائد أدت إلى قيام "علم الكلام"، فالمشاركون في مناقشة مشكلات من قبيل: التشبيه، والقدر، ومرتكب الكبيرة، وموقف "أصحاب الجمل" من الفريقين، بدلاً من مجرد اقتباس نصوص من القرآن والسنة دفاعاً عن آرائهم، استخدموا منهجاً معيناً في الاستدلال، توصلوا به إلى استدلالات من نصوص القرآن والسنة تلك. كان ذلك المنهج الاستدلالي مُستعاراً من الفقه، حيث كان مستخدماً فيما يتعلق بمسائل الشرع التى كانت تحكم الفعل، وكان معروفاً بمنهج القياس "بمعنى المماثلة". أما بالنسبة لمسائل الاعتقاد التى أصبح يطبق عليها حديثاً منهج القياس هذا فكانت مسائل تتصل ب"الكلمة المنطوقة"، وأصبح هذا التطبيق الحادث لمنهج القياس يسمى "الكلام"، أى ما يُقصد حرفياً من "الكلام المنطوق". والمنهج قائم، سواء في الفقه أو الكلام، على مجرد التشابه وأدلته مستمدة من النقل.
الفرق التى ظهرت في حضارتنا الاسلامية كثيرة، وأكثر منها الاختلافات حول مسائل العقيدة. غير أن ولفسون، ولأغراض دراسته لفلسفة المتكلمين في حضارتنا، تناول اختلافات بعينها، تتعلق بمسألتين ايمانيتين: الايمان بالله، أى الايمان بالتصور الصحيح عن الله. والايمان بالقدر، أى الايمان بسلطان الله على الأفعال الانسانية. فلقد ظهرت، فيما يتعلق بهاتين المسألتين الايمانيتين، اختلافات في حضارتنا حتى قبل قيام الاعتزال، وهي الاختلافات التي أدت إلى مجالات عُرفت اصطلاحاً ب"الكلام".
وبحسب ابن خلدون، كانت اختلافات السابقين على المعتزلة عن التصور الصحيح عن الله هي تلك التى تتعلق بآيات التشبيه في القرآن. وكان مصدر الاختلافات الأوصاف التى وُصف الله بها في القرآن. فمن ناحية ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في أكثر من آية، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها(8). ومن ناحية أخرى، وردت في القرآن آي أخرى توهم التشبيه. هذه الآيات والتى قد يراها البعض متباينة أدت بحسب ابن خلدون إلى آراء ثلاثة: أولاً، سلم السلف الذين غلبوا أدلة التنزيه بآيات التشبيه في القرآن، فلم يتعرضوا لمعناها بتأويل، لأنهم فيما يرى ابن خلدون علموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. ثانياًً، بجانب أولئك الذين تبنوا الرأي السابق، وُجدت قلة من "المبتدعة"(9). منهم فرقتان رئيسيتان: توغلت الأولى في التشبيه الصريح مخالفة بذلك آي التنزيه المطلق. أما الثانية فحاولت التوفيق، ومن هنا ظهر التأويل من خلال صيغة: جسم لا كالأجسام.
الاختلاف الثاني الذى ظهر قبل نشأة المعتزلة هو فيما يرى الشهرستاني وابن خلدون ما كان يتعلق بالاعتقاد بقدرة الله. وهذا الاختلاف نتج أيضاً عن الآيات القرآنية حول قدرة الله. فمن ناحية، توجد آيات تقرر أن هناك بعض وقائع الحياة الانسانية وبعض أفعال الانسان مقدرة من الله سلفاً، على حين توجد آيات تقرر أن الانسان يتمتع بحرية معينة يمارس بها أفعاله، من ناحية أخرى. ووفقاً لما يقرره الشهرستاني فإن الرأي الأصيل فى الاتباع تمثل في اتباع تلك الآيات التى تُظهر أن القدرة المهيمنة على الفعل الانساني مرجعها إلى الله. وفي أواخر عهد الصحابة، حدثت بدعة معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري في القول بالقدر وانكار إضافة الخير والشر إلى القدر. ولأنهم حولوا القدر من الله إلى الانسان زاعمين أن الانسان، وليس الله هو الذى يحدد أفعاله الخاصة، عُرفوا ب"القدرية". وعلى ذلك، يشير ولفسون إلى هاتين الفرقتين على أنهما: فرقة القائلين بالاختيار "القدريين"، وفرقة القائلين بالجبر "سبق التقدير". والفرقتان حاولتا تفسير الآيات المعارضه لهما.
قارئي الكريم، في مسيره الشاق والمُرهق نحو اللحظة الراهنة، مر علم الكلام بأكثر من مرحلة، تميزت شخصية كل منها عن الأخرى. البداية وكما سنرى لاحقاً كانت مع علم الكلام المعتزلي(بفترتيه: غير الفلسفية، والفلسفية)، ومن بعده جاءت محاولات الخلفاء لحمل أئمة السلف على الاعتزال وهو ما عُرف ب"المحنة" ، ثم ردود الفعل على هذه المحاولات العنيفة وظهور علم الكلام الأشعري، وما طرأ عليه بعد ذلك من تغييرات أحدثها الباقلاني والغزالي، وأخيراً نهوض ابن تيمية وابن القيم لاحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة غلو الغالين في خلط الفلسفة.
[2] مرحلة علم الكلام المعتزلي:
لشد ما يصعب بحسب المستشرق نلينو(10) معرفة لأى سبب وبأي معنى أطلق لفظ "المعتزلة" أول ما أطلق على أصحاب المذهب الذى كان في القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة خصماً خطراً لمذهب أهل السنة في "الكلام". ذلك لأنه يتوقف على مثل هذه المعرفة حل مسألة من أهم المسائل التاريخية، وهي مسألة أصول حركة المعتزلة، وطابعها الأصلي. نلينو يُعرفنا بأشهر الآراء في هذا الصدد(11):
الرأي الأول: رواية نُسج حولها طائفة من الأقاصيص، يشتق أصحابها اسم المعتزلة من اعتزال واصل ابن عطاء الغزال(أو اعتزال عمرو بن عبيد بن باب في رواية أخرى) للحسن البصري(642728م) أو اعتزاله للجماعة عموماً في مسألة مرتكب الكبيرة: مؤمن هو أم كافر؟ والتفاصيل تختلف قليلاً باختلاف الروايات. فعلى حسب بعضها، جاء اسم المعتزلة من العبارة التي قالها الحسن في تلك المناسبة لتلميذه القديم: "اعتزل عنا". وعلى حسب البعض الآخر، كان قتادة بن دعامة المتوفي عام 117ه أو 118ه المحدث أول من وضع هذا الاسم، مشيراً إلى عمرو بن عبيد وإلى نفر من اتباعه بسبب اعتزالهم الحسن. وعلى كل حال، فمهما يكن من اختلاف الروايات، فإن هذه الروايات في مجملها تعتبر أن لفظ "المعتزلة" اسم أطلقه عليهم أهل السنة، وأنه يتضمن نوعاً من الذم واتهاماً واضحاً بالخروج على السنة والجماعة.
الرأي الثاني: المستشرق اشتينر(12)، واعتماداً على نصوص عربية متأخرة عن القرن الثالث الهجري تسمي المعتزلة أحياناً باسم "القدرية"، يرى أن المعتزلة اسم عام لفئة انفصلت عن الجمهور وانشقت عليه، ولكن بمضي الزمن أصبح هذا الاسم في أوائل القرن الثاني للهجرة علماً على مذهب خاص. وهو ما قد يُفسر على أن هذه الفرقة كانت من بين فرق الاسلام أهمها وأكبرها خطراً. أيضاً يبدو لاشتينر أن هذه التسمية قد انتشرت انتشاراً بطيئاً. إذ يتكلم ابن قتيبة المتوفي 889م عند ذكره لمذاهب عصره لا عن المعتزلة بل عن "القدرية". مع أنه عرف اسم المعتزلة. وعلى ذلك فالنواة الأولى لمذهب المعتزلة كانت اذاًً انكار القدر المطلق، ويشير لفظ "القدرية" إلى مضمون المذهب، فهو من الناحية الظاهرية الشكلية إذاً أكثر تحديداً وأوضح دلالة من لفظ "معتزلة". ثم لما أظهروا آراء مخالفة في مسائل عديدة أخرى مثل صفات الله، وطبيعة القرآن، والوعد والوعيد، ومسائل ثانوية أخرى، بدت هذه التسمية "القدرية" غير كافية، لذا استبدل بها لفظ "معتزلة"، ولم تعد بعد ذلك تستعمل شيئاً فشيئاً.
الرأي الثالث: المستشرق اجنتس جولدتسهير(13) يشير كما يشير المؤرخون ، بمناسبة بن عطاء وزميله بن عبيد ومعتزلين آخرين متأخرين كذلك، إلى ميولهم الصوفية وزهدهم، أى إلى بعدهم عن زخرف الدنيا وشهواتها، ويورد شاهداً قديماً على استعمال لفظ "معتزل" بمعنى زاهد أو متعبد. يقول جولدتسهير: "معنى هذه الكلمة(المنشقون). ولست أريد أن أكرر هنا الأسطورة التى عني الناس بروايتها من أجل تبرير هذه التسمية، وانما أريد أن أقرر أن التفسير الحقيقي لهذه التسمية هو أن البذور الأولى لهذا المذهب كانت دوافع صادرة عن التقوى والتعبد وكان الباعثون على هذه الحركة رجالاً متعبدين، زهاداً معتزلين(زاهدين) ثم اتصلت الحركة بالدوائر العقلية، فاتخذت شيئاً فشيئاً موقف المعارضة بإزاء المعتقدات الدينية السائدة"
الرأي الرابع وهو رأي نلينو نفسه: اختار المعتزلة الأولون هذا الاسم، أو على الأقل تقبلوه، بمعنى "المحايدين" أو "الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين(أهل السنة والخوارج) على الآخر" في المسألة الدينية الخطيرة، مسألة "الفاسق". وما دامت هذه المسألة قد أخذت حظها من الأهمية بسبب المنازعات السياسية والحروب الأهلية في القرن الأول للهجرة، فمن الطبيعي أن يكون اسم المعتزلة قد أُخذ عن لغة السياسة في ذلك العصر. فكان المعتزلة الجدد المتكلمون في الأصل استمراراً في ميدان الفكر والنظر، للمعتزلة السياسيين أو العمليين. كانت الجماعة الأولى من المعتزلة المتكلمين تشمل على وجه الاحتمال أشخاصاً اختلفت آراؤهم حول بعض المسائل الدينية الأخرى. حتى انه في القرن الأول وأوائل القرن الثاني كانت بعض المسائل الدينية(مثل الجبر والاختيار) غير واضحة المعالم والحدود، ولم يكن من المستطاع القطع بأي الآراء المتعارضة يجب اعتباره من أقوال أهل السنة أو أقوال غيرهم. فلم يكن الاجماع قد تم في هذا الباب بطريقة قطعية. فكان اسم المعتزلة المتكلمين في الأصل يشير إذاً إلى النقطة الوحيدة المميزة لمذهبهم عن مذهب أهل السنة والجماعة. وهذه النقطة قد فقدت أهميتها من بعد بانقضاء الحروب الأهلية بالنسبة لمسائل الخلاف الدينية الأخرى(القدرة، الصفات، خلق القرآن، النقل والعقل)، التى رسخت شيئاً فشيئاً، وطغت على تلك النقطة من جراء رد الفعل المتزايد ضد ثبات أهل السنة ورسوخه. أو بعبارة أخرى كانت هذه التسمية تسمية جزئية في وقت من الأوقات مثل تلك التى اتخذها المعتزلة من بعد أحياناً للدلالة على بعض النقط الخاصة في تعاليمهم دلالة خاصة، مثل "القدرية"، "العدلية"، "الموحدة".
على أية حال، وبدون التوقف كثيراً عند هذه الآراء المتباينة حول أصل تسمية المعتزلة، يرى ولفسون أن مرحلة علم الكلام المعتزلي غير الفلسفي دامت قرابة القرن، من وقت ظهور المعتزلة وحتى ظهور ترجمة الاعمال الفلسفية اليونانية الى اللغة العربية في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي. ثم حدث، بعد انقضاء قرن على زمن بن عطاء، أن تأثرت المعتزلة بالفلسفة اليونانية واكتسبت طابعاً جديداً.
"ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة، حين فُسرت أيام المأمون. فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنا من العلم وسمتها باسم الكلام. إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام فسُمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق. والمنطق والكلام مترادفان(كما أن الكلمة اليونانيةLogos ، أي العقل والمنطق، تعني أيضاً الكلام)".
يُلاحظ في فقرة الشهرستاني هذه أن مذهب الاعتزال يتوزع بين فترتين: فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية. في الفترة الأولى السابقة على التأثر بالفلسفة اليونانية استخدم المعتزلة ما يوصف بأنه مناهج الكلام. والتى يرى ولفسون أن الشهرستاني يشير بها إلى تلك التطبيقات المتنوعة للقياس الفقهي على الاختلافات التى ظهرت، في نطاق ما يُسمى بالكلام قبل الاعتزال، حول مسألتين: الأولى، مسألة التصور الصحيح عن الله، خاصة مشكلة التشبيه. الثانية، مسألة الاعتقاد في القدرة.
رأي ولفسون هذا يتسق مع وصفه للأحوال الفكرية التي كانت سائدة في الحضارة الاسلامية قبل قيام الاعتزال، ذلك الذى أوردناه فيما سبق بشيء من التفصيل، في سياق عرضنا لكيفية تأسس علم الكلام عند متكلمي ما قبل الاعتزال.
أما مناهج الفلاسفة التي يشير الشهرستاني في حديثه إلى خلط المعتزلة اياها بمناهج الكلام، فيرى ولفسون امكانية الزعم بأن الشهرستاني كان يقصد بها أمرين:
أولاً، ربما كان يقصد أن المعتزلة بتأثير من الترجمات العربية للأعمال الفلسفية اليونانية ، قد بدأوا يستخدمون مصطلح القياس المرادف لكلمة syllogism(14)، أما عن مصطلح القياس بالمعنى القديم للمماثلة analogy المستخدم في الفقه فإنهم أحلوا محله مصطلح التمثيل. تبرير هذا الافتراض هو أن آخرين من الذين خضعوا لتأثير هذه الترجمات من المسلمين قد بدلوا معنى القياس الذى يدل عليه لفظ المماثلة analogy إلى القياس الذى يدل عليه لفظsyllogism . وأحلوا محل القياس بمعناه الفقهي القديم مصطلح التمثيل.هكذا نجد ابن سينا والغزالي على سبيل المثال، يستخدمان القياس بمعنى syllogism والتمثيل بمعنى الanalogy الذى يقوم استخدامه في الفقه على أساس التشابه بين الأشياء . وبعد ذكر مصطلح التمثيل يلاحظ ابن سينا أن هذا هو الذى عرفه أهل زمانه بالقياس، ويلاحظ الغزالي أن هذا هو الذى يسميه شيوخ الفقه وشيوخ الكلام القياس.
ثانياً، يمكن افتراض أن الشهرستاني كان يقصد بكلامه أيضاً أن المعتزلة المتفلسفين قد أصبحوا على دراية بتصور أرسطو للanalogy وهو ما عُبر عنه في العربية ب"المساواة"، وخلطوه بالقياس الفقهي الذى أصبح المصطلح العربي الجديد الدال عليه هو "التمثيل"، أى التشابه. المماثلة عند أرسطو لم تكن قائمة، كما هو الشأن في الفقه، على مجرد التشابه بين الأشياء. فالمماثلة عنده هي المساواة في النسب(أو العلاقات)، والتي يصورها بأنه عندما يُحمل مصطلح الخير على العقل وعلى البصر، فإن ذلك يكون على طريق المشاكلة analogy بمنزلة ما أن العقل في النفس كقياس البصر في البدن. ما يريد الشهرستاني بحسب ولفسون قوله هو ان المعتزلة المتفلسفين خلطوا التمثيل المُستخدم في الفقه، والذى يقوم على مجرد التشابه، بالتمثيل الذى يستخدمه أرسطو بمعنى التساوي في النسب أو العلاقات..

مع وصف الشهرستاني لنشأة الاعتزال يتفق ابن خلدون، فاشارة الأخير إلى التمييز بين فترة غير فلسفية وأخرى فلسفية في تاريخ الاعتزال، واضحة في وصفه منذ البداية ببساطة لواصل ابن عطاء عندما يرد اسمه بأنه واحد منهم، أي من المعتزلة. لكن اسم أبي الهذيل(15)، فإنه يصفه بأنه اتبع رأي الفلاسفة، وبالمثل اسم النظام(16) يصفه بأنه طالع كتب الفلاسفة. ابن خلدون يتابع الشهرستاني فيعطي ذات السببين اللذين من أجلهما تبنى متفلسفة المعتزلة الاسم القديم "كلام" لمذهبهم. يقول ابن خلدون: "وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الذى يسمى كلاماً، وإما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام أي قِدم القرآن ".
[3] محاولات حمل أئمة السلف على الاعتزال:
مع قيام فرقة المعتزلة التي استخدمت على نحو ما ذكرنا منهج الكلام واستبقت لمذهبها اسم "الكلام" حتى عندما أصبح طابع مذهبهم فلسفياً، أصبح مصطلح "الكلام" بالتدريج علماً على المعتزلة. الشهرستاني وابن خلدون يرويان لنا كيف تبنى بعض الخلفاء الاعتزال وحملوا أئمة السلف عليه وهو ما عُرف بال"محنة" ، وكيف أدى رد فعل السلف على هذا القمع إلى قيام علم كلام سني يناهض المعتزلة.
تضييق الخلفاء المعتزلة على السلف يخبرنا عنه الشهرستاني في فقرتين قصيرتين: في احداهما، وبعد أن يذكر اسم أبي موسى المزدار(17) راهب المعتزلة بما هو واحد من شيوخ الاعتزال، يضيف قائلاً: "وفي أيامه جرت أكثر التشديدات على السلف لقولهم بقدم القرآن". وفي فقرة أخرى وهو يتحدث عن المعتزلة يقول: "ونصرهم..جماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن".
مع فقرتي الشهرستاني يتفق هذا القول الخلدوني: "ولُقنها أي عقيدة الاعتزال بعض الخلفاء عن أئمتهم، فحمل الناس عليها، وخالفهم أئمة السلف، فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودمائهم". وثمة اشارات إلى ثلاث حقائق تاريخية تشي بها فقرتي الشهرستاني: 1 اصدار الخليفة المأمون سنة 827م لمرسوم أعلن فيه أن الاعتزال عقيدة رسمية للدولة، واتهم أهل السلف بالابتداع. 2 اصداره لمرسوم آخر في سنة 833م، سنة وفاته، تم بموجبه امتحان أهل السلف في عقيدتهم. 3 استمرار المحنة أثناء حكم الخليفة المعتصم وحتى السنة الثانية من حكم المتوكل سنة 847م.
قارئي الكريم، قد يكون ملائماً وقبل المضي قدماً القاء الضوء على ما عُرف ب"المحنة"، لأهمية ذلك الحدث وخطورته. ما حدث هو أن البحث فيما يراد باتصاف الله بالكلام أصبح موضوعاً له خطره في باب الجدل، حتى أفضى ذلك آخر الأمر إلى قضاء الهيئة الحاكمة على المعتزلة، أولئك الذين ذهبوا إلى القول بأن الكلام إذا كان صفة لله فلابد أن يكون أزلياً قديماً موجوداً قبل العوالم كلها، وإلا فإن الله إذا كان قد تكلم في الزمان فقد مسه سبحانه وتعالى التغيير وصار مالم يكنه من قبل. ولا يجوز أن تحمل الاستحالة على الله، وعلى هذا فان الكلام إذا كان صفة لله وكان القرآن تسجيلاً لهذا الكلام، فلابد أن يكون على هذا الاعتبار قديماً لأنه كلام الله.
وقد ذهب الخليفة المأمون المعتزلي إلى أن اعتبار القرآن مخلوقاً في الزمان امتحان لا يجوزه إلا ثابتو الإيمان. واشتد لسوء الحظ تعصب المعتزلة لآرائهم أيام سلطانهم وقد قاسوا كثيراً ولاقوا عنتا شديداً فيما بعد من جراء اضطهادهم لأهل السلف الذين تمسكوا تمسكاً شديداً بالمذهب القائل بقدم القرآن، ولم يسرفوا في تفسيره حرفياً وأقروا عدداً جماً من السنن التى ذاعت في الناس. على أنه قد أصبح واضحاً جد الوضوح إبان القرن الرابع للهجرة ألا مفر من بعض التسليم بما ذهب إليه المعتزلة، إذ تبلبلت أفكار الناس ومست الحاجة إلى تعزيز قواعد الدين من جديد على ضوء الأفكار الشائعة. وقد اضطلع بهذا الأمر الخطير رجلان: الأول، أبو الحسن الأشعري(873935م). والثاني، أبو منصور الماتريدي المتوفي سنة 944م(18).
وها هو ابن خلدون يوجز لنا رد فعل السلف بازاء ال"محنة" بقوله: "وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعاً في صدور هذه البدع". وفي ظل ما يراه ولفسون من أن تعبير الاحتجاج بالعقل يستخدمه ابن خلدون للدلالة على منهج القياس التمثيلي الفقهي القائم على معطيات نقلية والذى استخدم في وقت سابق على قيام الاعتزال واكتسب اسم الكلام، يكون واضحاً تماماً أن ما يعنيه ابن خلدون بهذه العبارات هنا هو أن أئمة السلف، قد تبنوا في استدلالاتهم، نتيجة للمحنة، منهج القياس الكلامي السابق على المعتزلة. ابن خلدون بالفعل يشير، بعد هذه الفقره تماماً، إلى أهل السنة هؤلاء بأنهم "المتكلمون". ويُدخل فيهم ابن كلاب والقلانسي والمحاسبي، وهي الأسماء التي توصف من جانب الشهرستاني بأنها "أمتن كلاماً"، وذلك في إشارة إلى نمط الكلام غير الفلسفي السابق على الاعتزال.
المتكلمون المذكورة أسمائهم تواً جماعة واحدة فقط من جماعات ثلاث للسلف ناضلت عقب المحنة فيما يتعلق بمشكلة الصفات، بما في ذلك "قدم القرآن". غير أنها، ورغم كونها من جملة السلف، باشرت علم الكلام وأيدت عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية، مما يعني استخدامها منهج المماثلة الكلامي السابق على المعتزلة.
من جهة أخرى، يصف الشهرستاني الجماعتين الأوليين من هذه الجماعات الثلاث بأنهما ناهضتا المعتزلة لا على قانون كلامي أي بدون استخدام منهج القياس الذى كان مستخدماً قبل قيام المعتزلة عند بعض السلف ، بل على قول اقناعي، بمعنى أنهما تشبثتا بمنهج المسلمين الأوائل وتعلقتا بظاهر الكتاب والسنة. تعبير على قول اقناعي يشير برأي ولفسون إلى ما يسميه أرسطو بالقول الخطابي، فالخطابة عنده ملكة اكتشاف الوسائل الممكنة للاقناع بالاشارة إلى أي موضوع كان.
هكذا انقسم السلف في حوالي منتصف القرن التاسع حول مشكلة آيات التشبيه في القرآن إلى جماعات ثلاث. الأولى: جماعة الحنابلة، الذين رفضوا على حين أنكروا التشبيه مناقشة آياته الواردة في القرآن. الثانية: جماعة من الحشوية الذين رفضوا وقد أخذوا آيات التشبيه على ظاهرها مناقشة تلك الآيات التي تحظر التشبيه. الثالثة: جماعة الكلابية الذين أولوا آيات التشبيه في القرآن طبقاً للمنهج الكلامي، أي منهج القياس التمثيلي على نحو ما هو مستخدم في الفقه وعبروا عنه بصيغة "جسم لا كالأجسام". ومن قلب هذه الجماعة الكلابية انبثق علم الكلام الأشعري بعد قرن من الزمان، وذلك في عام 912م. وكما قرر الشهرستاني: "فان جماعة يقصد الكلابية باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية وصنف بعضهم ودرس بعض، حتى جرى بين الأشعري وبين أستاذه الجبائي مناظرة في مسئلة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة الكلابية فأيد مقالتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة".
[4] علم الكلام الأشعري:
في فقرة لابن خلدون، وبعد أن يقرر أن الأشعري كان إمام المتكلمين يقصد الفرقة المكونة من الجماعات الثلاث السالفة الذكر ، يصفه بأنه توسط بين الطرق ونفى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ماقصره السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، ثم يضيف على ذلك أنه أثبت جميع الصفات، بطريق النقل والعقل. ولفسون يرى أن ما يقصده ابن خلدون من عبارته طريق النقل والعقل هو نفسه الجدل القائم على العقل مضافاً إليه الدليل المستمد من النقل، المستخدم وصفاً للمنهج القياسي في الفقه. أيضاً نجد عند ابن خلدون وصفاً لتطور الكلام الأشعري.
يبدأ ابن خلدون بتحديد عام لخصائص الكلام في فقرة أخرى يقول فيها، بعد أن قرر أن المذهب الأشعري على نحو ما أكمله أتباعه أصبح واحداً من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية: "إلا أن صور الأدلة فيها في طريقة الأشاعرة جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي أي جاءت غير مطابقة لقواعد البرهان المنطقي ، لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التى تسير بها الأدلة وتعتبر الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك".
يُلاحظ هنا أن ابن خلدون لا يقول لنا إن المذهب الأشعري لم يعتمد في صياغة أدلته على الفلسفة ولا يقول إن أدلته صائبة منطقياً في بعض الأحيان. كل ما يقوله هو أن أدلته جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي، والمقصود بقوله بعض الأحيان: عندما كان يمكن أو عندما كان يلزم أن تكون الأدلة مقدمة في صيغة منطقية أي قياسية، فإنها لم تقدم على هذا النحو، وربما كان في ذهن ابن خلدون هذا الدليل الكلامي على حدوث العالم، الذى وصفه مؤخراً بأنه دليل من حدوث الأعراض المكونة لأجزاء العالم. ويأتي هذا الدليل، كما صاغه عديد من المتكلمين، كلهم من الأشاعرة، في صيغة غير قياسية، غير أن ابن سوار المسيحي عندما عرضه على لسان المتكلمين رتبه في صيغة منطقية. ثم أبدى ملاحظة قال فيها: هذا قياسهم إذا نُظم النظم الصناعي. ابن خلدون أيضاً يذكر تغييرين حدثا في علم الكلام الأشعري:
التغيير الأول: أحدثه الباقلاني المتوفي عام 1013م. وإذ يبدأ الباقلاني بمقدمة، من الواضح انها تشير إلى رأي أرسطو في أنه من الممكن أحياناً أن نصل إلى نتائج صحيحة من مقدمات زائفة، فإنه يقرر أن أدلة العقائد الايمانية تتوقف على وجوب الاعتقاد بمقدمات هذه العقائد بمعنى أن بطلان الأدلة يؤذن ببطلان المدلولات. وهكذا انتهى إلى أن لأدلة العقائد أو المقدمات التي تقوم عليها الأدلة نفس المكانة أو أنها تابعة للعقائد الايمانية في وجوب اعتقادها، حتى ان الهجوم عليها هو هجوم على العقائد الايمانية. بناء علي هذا، فإن ما يقوله ابن خلدون من أن الباقلاني أكد وجود الجوهر الفرد والخلاء، ينبغي أن يُفهم بمعنى ان المذهب الذري الذى كان لفترة طويلة جزءاً من النظرية الفلسفية لعلم الكلام واستخدم قاعدة للتدليل على بعض المعتقدات الدينية قد أصبح عند الباقلاني جزءاً رئيسياً من المعتقدات الدينية ذاتها.
التغيير الثاني: أحدثه الغزالي(1059م 1111م)، ويمكن وصفه بأنه جعل نمط الكلام الأشعري كلاماً فلسفياً. فعلى خلاف الباقلاني الذى وصفه ابن خلدون بأنه تلميذ الأشعري وبه تمت طريقة الأشعرية، يصف ابن خلدون الغزالي بأنه الذى أدخل طريقة المتأخرين. ويوجز ابن خلدون طريقة المتأخرين هذه على النحو التالي: أولاً، إنهم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التى أدتهم إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والالهيات، والمعروف أن الغزالي أحجم عن اتخاذ المذهب الذري دليلاً على مسائل الاعتقاد بحجة أنه يتضمن صعوبات يطول الكلام في حلها. ثانياً، نبذ أولئك المتأخرون رأي الباقلاني في أن بطلان الدليل، يؤذن ببطلان المدلول. وهو ما يعني بحسب ولفسون ان قول أرسطو بامكانية الوصول إلى نتائج صحيحة من مقدمات زائفة، يمكن اتخاذه سبيلاً للبرهنة على أمور العقيدة. ثالثاً، إن طريقة المتأخرين ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الايمانية.
الخاصية الأولى والخاصية الثالثة لطريقة المتأخرين التي قدمها الغزالي تعكس وصفه لموقفه من علم الكلام في سيرته الذاتية "المنقذ من الضلال" وفي مبادرته إلى القول إنه ابتدأ بطلب علم الكلام فحصله وعقله. وعلى حين يمدح الغزالي المتكلمين لدفاعهم عن عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة، إلا أنه يخطئهم باعتبارين: الأول، إنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها: إما التقليد، أو إجماع الأمة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وبلا ريب فإن المذهب الذري هو ما كان يعنيه الغزالي هنا. والثاني، قوله: إن الذين اشتغلوا بالرد على الفلاسفة من المتكلمين لم يصرفوا عنايتهم للوقوف على منتهى علومهم، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار بها بغافل عامي فضلاً عمن يُدعى دقائق العلوم. وقد حاول هو أن يعالج في "تهافت الفلاسفة" هذا القصور.
ابن خلدون لم يعرض لنهوض ابن تيمية(12631328م) وتلميذه ابن قيم الجوزيه(12921350م) لاحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة غلو الغالين في خلط الفلسفة. المقريزي يقول في خططه: إن مذهب الحنابلة الذى أحياه ابن تيمية كان له أنصار بمصر. ثم ضعفت الهمم عن الدراسات القوية لعلم الكلام ولم يبق بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ وتنافر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور. محمد عبده في رسالة التوحيد يتفق مع هذا الرأي. الوجود الراهن لعلم الكلام يقوم على التنافس بين مذهب الأشعرية، ومذهب ابن تيمية. أنصار هذا الأخير يسمون أنفسهم اليوم بالسلفية(19).
ملاحظات حول المنبت الحضاري ل"علم الكلام":

"حيثما تكون الأفكار الحاكمة زائفة فمن الغباء أن يملك المرء نفساً حرةً"، "من الأفكار الزائفة ما تبدو نعيماً سابغاً بحيث يُستحسن أن ندعها وشأنها"، ...الخ. مثل هذه الأقوال الرائجة بقوة في مجتمعاتنا المتخلفة لا تخلو من نفع، بل هي عين النفع، حين يستجير بها المُستضعفون، ويُمكِن لها عبيد المصالح، وخونة الأوطان!
الأنسني وعلى خلاف هؤلاء جميعاً لا يملك ترف احتمال زيف الأفكار الحاكمة أو حتى التعامي عنه، وكيف يفعل وقد عاهد ربه ونفسه أن ينشد الحقيقة بأمانة ونزاهة وأن يذود بشرف عن الحرية هدية الله ، حتى يُمكِن لها في الأرض أو يذوق الموت دونها! الأنسني لا يُجيد "فن الطاعة"، ولا يقبل أن يكون ذئباً لأخيه الانسان! كما أن حضارتنا في أمس الحاجة لقلق الأنسنيين وتساؤلاتهم. غليل الأنسنيين لا يشفيه الماء قدر ما يشفيه الظمأ! نبع الماء لا ينشده إلا من ذاق الظمأ!
من هنا، أستأذن قارئي الكريم في ابداء بعض الملاحظات حول المنبت الحضاري لعلم الكلام، وأعني به حضارتنا! ملاحظاتي هذه قد تبدو للبعض ساذجة أو حتى مُستفزة بعض الشيء، غير أني لا أبغي من ورائها سوى فضح زيف بعض الأفكار الحاكمة "المسكوت عنها بوعي أو بلاوعي"، في مجتمعاتنا! فأى فكرة أو معتقد ، لا تلبث أن تقوى وتنتشر، بغض النظر عن درجة الخطأ الكامنة فيها، متى وُصِف أنصارها بأنهم "جماعة"، وهو ما يُطلق عليه لوبون "العدوى النفسية"(20).
ولشد ما تتشابه ظاهرة "العدوى النفسية" عند لوبون، ب"الاغتراب الثقافي" في قكرنا الأنسني. ففي تثمينها لقدر الإنسان في الذود بشرف عن حرية عقله وقلبه، تذهب رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني إنما يُعد نتاجاً لصراع طويل ومرير بين إنسان(ذات) لا يملك سوى حرية عقله وقلبه التي وهبه الخالق إياها، ليستعين بها على ترويض الحياة، وبين(آخر) يُصر على الاستئثار بالحرية، ليتسنى له العبث بمقدرات رفاق الحياة! ف(الآخر)، في فكرنا الأنسني، عادة ما يعمد إلى آليات بعينها لتكريس تنازل أخيه(الذات) عن حقه في نقد وتطوير ثقافته أعني طريقة حياته الشاملة ليظل هذا الأخ المسكين(الذات) مغترباً ذليلاً طيلة مقامه في ضيافة الحياة، يستهلك فقط ما يجود عليه به (الآخر) عبد المصلحة، حتى أنه بمرور الزمن، يفقد المغترب قدرته على النقد والتطوير، ولا يملك إلا الانتظار!
لا فرق في فكرنا الأنسني بين آخر عربي أو صهيوني أو أمريكي أو سعودي أو هندي أو ..الخ! تشويه النفوس واسترقاقها لا يخفف من فداحته وكارثية تبعاته، أن يقف وراءه أخ مُسلم أو عربي أو صهيوني أو غربي..الخ. اغتصاب الحق المُقدس في الحرية هدية الله للبشر ، لا تُجيزه قرابة حضارية أو دينية أو قومية..الخ!
وعليه، أعمد في هذه الجزئية لحرث المنبت الحضاري لعلم الكلام، ليس فقط بهدف تطهيره مما نبت فيه من أفكار حاكمة زائفة، تُعيق التمكين لغرسنا الأنسني، ولكن أيضاً لتعرية الآخرية المحلية، فهي بحق قيء حضارتنا وعارها الثقيل.
على أية حال، لنبدأ حرثنا من بواكير انفتاح حضارتنا على النُشدان الحُر للحقيقة، وسنجد أنه ليس هناك ما يدعو إلى الظن بأن العرب الذين ائتلفت منهم جيوش الخلفاء الأول الظافرة يختلفون عن عرب اليوم اختلافاً بيناً. أسلافنا لم يؤرقهم على نحو ما هو حاصل معنا اليوم(21) حب الحقيقة ونُشدانها من خلال البحث والتقصي، ولم يكن ثمة بُد من أن يوجد باعث قوي يدفعهم إلى هذا الفضاء الرحب.
التوسع والانتشار الاسلامي المُلفت تبعه تحول الكثيرين من المسيحيين واليهود إلى دين الاسلام. وبذلك تعرض العرب المسلمون لفكر آخر من مفكرين ينتمون لعقائد وايديولوجيات أخرى في تناولهم للتساؤلات الأساسية عن الانسان والوجود.
ولقد وجدت فئة من أبناء حضارتنا الاسلامية الوليدة انه من الممكن أن تتقدم ويتطور فكرها، أو على الأقل يصبح أكثر ترتيباً وانتاجية إذا تقبلت وطوعت بعضاً من عمليات التفسير والتقسيمات الطبيعية والنظرية التى كانت موجودة قبلها بقرون.
وهكذا، راقت لهذه الفئة المُجتهدة من أسلافنا أعمال فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو..الخ، واكتشفت فيها ذخيرة فكرية قد تراكمت، فشعرت حيالها بامكانية، بل وجوب، تزخيم حضارتها الناشئة بها. أيضاً وبشكل كبير أثرت انجازات قدماء المصريين وبلاد ما بين النهرين والفرس والهنود، في كل التطور الفكري خلال القرون الأولى لحضارتنا. ومن اللافت للانتباه بوجه عام، فيما يرى تيرنر(22)، الترحيب الذى احتضن به العلماء المسلمون التراث المتنوع الذى اكتشفوه في ممتلكاتهم الجديدة، حيث حظي هذا التراث بالاحترام ونُظمت وسائل للاستفادة منه.
مدينة جند دشابور في جنوب غرب فارس، والتى فتحها العرب وقعت في قبضتهم عام 836م أصبحت مركزاً لنشر المعارف العلمية والفلسفية للاغريق وآخرين في جميع أنحاء الامبراطورية الاسلامية. وقد انتعش فيها مجتمع كبير من النسطوريين وهم أعضاء طريقة مسيحية اتهمت بالهرطقة وأجبرت على الفرار من الأراضي المسيحية في نهاية القرن الخامس الميلادي. استضافت المدينة ولفترة طويلة مجموعة متميزة من المفكرين والأطباء، كان الكثير منهم يتكلم الاغريقية والسنسكريتية والسريانية وهي لهجة آرامية كانت منتشرة في تلك المنطقة. وقد عرفت هذه المجموعة اللغة العربية بعد قدوم العرب مباشرة. الخلفاء المسلمون دعموا برنامجاً مكثفاً لترجمة مخطوطات "الفلسفة" و"الطب" وبقية العلوم إلى اللغة العربية.
كانت كمية الترجمة التى انجزت في جند شابور حدثاً غير مسبوق في التاريخ ويمثل منذ بدايته جهداً على المستوى العالمي. انخرط فيه كثير من المسيحيين واليهود إلى جانب المسلمين. وفي أغلب الأحيان كان ذلك يتم اعمالاً لقرارات ملكية تعكس اهتمام الخلفاء وأعضاء الحاشية والحكومة ليس فقط بالعلوم العملية مثل الطب والفلك ولكن أيضاً بالموضوعات الأقل تداولاً مثل التنجيم والسيمياء. القرون الأولى لحضارتنا شهدت أيضاً تأسيس مكتبات عظمى ومراكز للتعليم، في كل مكان. وقد قامت أشهر هذه المراكز في مواقع السلطة. على سبيل المثال، ازدهر بيت الحكمة في القرن التاسع في بغداد، حيث لم يكن مركزاً للترجمة فحسب، بل للدراسات أيضا.
هكذا، وفي أقل من أربعة قرون من التوسع الاسلامي، كان الفلاسفة وعلماء الرياضة وعلماء النبات والأطباء والجيولوجيون والسيميائيون وزملاؤهم في العلوم الأخرى، العاملون في جميع الأنحاء الاسلامية، قد أتموا عملاً فذاً في الكشف عن التراث الثقافي المهول الذى وصل إليهم من الحضارات الأخرى السابقة عليهم. وكما هو متوقع أثار هذا الانفتاح المعرفي الهائل على الموروث الانساني مخاوف فئة أخرى من أسلافنا، لابد وأنها ضمت بين صفوفها عناصر حسنة النية، راودها القلق على خصوصية حضارتنا الوليدة آنذاك ، ولا مشكلة في هذا! على العكس، كانت الخشية كل الخشية لو أن مثل هذا الاختلاف الخصب، إزاء مسألة الانفتاح المعرفي، قد غاب! فلا أحط من أن تُستنسخ الرؤى، أو أن يُعاد تدويرها!
بيد أن قلق أصحاب النوايا الحسنة من أسلافنا الأول إزاء هذا الانفتاح المعرفي الهائل، لم يلبث أن وجد من يُزايد عليه، ويُنادي بفكرة "النقاء الحضاري المُطلق"! فكرة خطيرة كهذه، ساعد على تمريرها رغم استحالتها نظرياً أمور عديدة، من بينها: 1 أن للانسانية تراثاً غزيراً من المعتقدات والقيم قد يكون متبايناً في ظاهره، في حين أنه يعبر في صميمه عن وجهات نظر، تدافع بطرائقها الخاصة عن حرية الانسان وكرامته(23). 2 اقتران الانفتاح المعرفي بانبهار مُربك وتكالب مُستفز على المُحاكاة وليس النقد والتطوير، على ما يبدو لعدم امتلاك أسلافنا تجارب سابقة في نُشدان الحقيقة من خلال البحث والتقصي(24). 3 وفود علوم سيئة السمعة كالسحر والتنجيم. 4 اشتغال جُل أنصار الانفتاح المعرفي بالفقه، وتورطهم بالرأي في مسائل دينية شائكة(25). 5 الخوف من شيوع القول بانه لو كان "الهام النبوة" حقاً لما اختفى على مُحبي الحقيقة، وبالتالي شيوع الاشتغال بالبحث والتقصي(26). 6 المُزايدة على الانفتاح المعرفي من جانب عبيد المصالح وخاصة أولي الأمر، ونجاح هؤلاء في تغليف مُزايدتهم برقائق دينية، عبر تكريس ذلك الخلط المُربك بين الاسلام كحضارة أنتجها بشر ومن ثم يحق لهم نقدها ودفعها للأمام، والاسلام كأصل ديني مُكتمل، "حقيقة مُلهمة" للنبي، لا يجوز لبشر إلى أبد الآبدين، تعهدها بنقد أو تطوير.

عبيد المصالح في مساعيهم الآثمة والدءوبة الرامية لاسدال الستار الحديدى الخانق على عقول وقلوب أبناء حضارتنا ، لم يقنعوا أو يكتفوا بالتمكين لفكرة "النقاء الحضاري المُطلق"! بل أرادوا فكرة أخرى على النسيج نفسه، تُعضد الأولى وتشد من أزرها! وبالطبع، لم يكن ثمة فكرة أنسب ولا أفضل من المناداة ب "عصمة الأسلاف وبلوغهم حد الكمال"! فكرة كهذه، فضلاً عن اتساقها وتناغمها مع ميراث العصبية والتفاخر بالأنساب قبل الاسلام، كانت كافية لاحاطة تاريخنا الحضاري بسياج من التوقير والقداسة(27). فما صنعته يد الأسلاف "المعصومين عملياً وليس نظرياً "، لا سبيل لنقده وتطويره! أليسوا الأمناء على الهام النبوة والأقرب إلى رضوان الله.
وللمصادرة على مطالبة أنصار الانفتاح المعرفي آنذاك بالحق في التعايش مع مناوئيهم من أنصار الستار الحديدي، كان لابد من "ضربة استباقية"، استهدفت التشهير بهم وتحقيرهم في عيون أبناء حضارتهم، وهو ما تم بالفعل على نحو غاية في الاتقان، بحسب ما تشي روايات المؤرخين المُحايدين والموثوق بهم. فقد شاعت وراجت مُسميات لم تخل من غرض، كال"الفئة الصالحة"، و"الفئة الضالة/أهل البغي"، و"الفتنة"..الخ(28). وزاد الطين بلة، ما شهدته مسيرتنا الحضارية الطويلة والمريرة من توظيف لهذه المُسميات ضد كل من سول له ضميره الاشتغال، أو حتى المُطالبة بحق أبناء حضارتنا في الاشتغال، بنُشدان الحقيقة، عبر البحث والتقصي!
وهكذا، وعلى الرغم مما لقيته علوم الأوائل أو القدماء(وهو اسم أُطلق على تلك العلوم التي نفذت إلى المنبت الحضاري الاسلامي بتأثير المؤلفات المأخوذة عن الكتب اليونانية تأثيراً مباشراً أو غير مباشر في مقابلة علوم العرب خاصة الفقه) من عناية كبيرة في صدر حضارتنا الاسلامية على نحو ما ذكرنا ، حث عليها الخلفاء العباسيون وشملوها برعايتهم، فقد ظل هناك دائماً انصار العزلة ينظرون في شيء من الشك وعدم الثقة أو الاطمئنان إلى دارسي علوم الأوائل. وكلما ازدادت شوكة هذه الفئة المناهضة للانفتاح المعرفي، كان عدم الثقة لدى البيئات الاسلامية بإزاء الاشتغال بعلوم الأوائل أشد وأعنف. وأقدم مثل لذلك ما شعر به الفيلسوف الكندي من قلق وخوف بعد عودة سلطان هؤلاء في عهد المتوكل. هذا النحو من عدم الثقة لم يقتصر على "التفلسف" بمعناه الدقيق، بل امتد إلى كل ما يُنشد خارج اطار الحقيقة المُلهمة التى مصدرها الوحيد المُؤتمن هو المصحف المُقدس وسنة النبي(29).
المسلم الصالح، فيما يرى أنصار العزلة، عليه أن يتجنب الانفتاح المعرفي أشد التجنب، باعتباره خطراً على دين الاسلام. فكل انحراف عن طريق المرشدين الدينيين الرئيسيين كان القوم يعزون السبب فيه إلى الانفتاح المعرفي، إذا كان صاحب هذا الانحراف قد اتصل بها عن قرب أو عن بعد. فتاج الدين السبكي يرى أن السبب الذى جر الخليفة المأمون إلى القول بخلق القرآن هو هذا المقدار الضئيل الذى عرفه من علوم الأوائل. ويذكر لنا أن العامة يرجعون أقوال الغزالي في مسائل كثيرة بما لا يتفق ومذهب أهل السنة في عصره إلى تأثره بعلوم الأوائل والغزالي لم يستطع مطلقاً أن يتحلل من اهتمام بالفلسفة، على الرغم من أقواله . من هنا، يسهل تفهم كيف أن الكثيرين، ممن كانوا يحرصون على حسن السمعة، كانوا يسبلون قناعاً على دراساتهم الفلسفية، مظهرين اشتغالهم بها تحت ستار علم من العلوم الحسنة السمعة.
وأوضح مثال لهذا، وإن لم يكن هو المثال الوحيد، محمد بن على بن الطيب المتوفي سنة 436. فيذكرون عنه أنه "كان إماماً عالماً يعلم كلام الأوائل"، إلا أنه خشي أهل زمانه فلم يشأ الظهور صراحة بمظهر الفيلسوف، فأخرج مذهبه في صورة "علم الكلام"، التي لم تكن مع ذلك حائزة لرضى أهل السنة في عصره هي الأخرى. ولكنها كانت نسبياً أقل خطراً من التفلسف، كونها نمت في تربة فقهية.
ومن أجل هذا كله، فقد كان مما يثير الغبطة ويبعث على الرضا، أن يُقال إن واحداً من الفلاسفة قد رجع ساعة موته أو في شيخوخته عن ضلالات الفلسفة وأكاذيبها، وأنكر التفلسف حب الحقيقة ونشدانها الذى استهداه طوال محياه. مثل هذا يُروى في لهجة يُمازجها سرور المنتصر الظافر، عن عالم كفيف البصر، هو حسن ابن محمد بن نجاء الأربلي المتوفي سنة 660، الذى عاصر ابن خلكان، وجرت بينه وبينه مقابلة لم تكن طيبة. كان حسن هذا اماماً عالماً بعلوم الأوائل، بيد انه كان يتقي أهل زمانه بالتنكر لها، فأخرج ما عنده في صورة "الكلام"! وفي دمشق كان يجتمع خلق كثير من المسلمين وأهل الكتاب وأتباع الفلسفة كي يأخذوا عنه. ويروون أن آخر كلمة قالها ساعة الموت هي: "صدق الله العظيم، وكذب ابن سينا"!
ثمة حادثة أخرى طريفة لشد ما ترتبط بحديثنا أشد الارتباط، في تفاصيلها المُضحكة المُبكية تتجلى سطوة الأفكار الزائفة على نحو فج وصارخ! كلنا يعرف الثائر المعروف بجمال الدين الأفغاني، وكلنا يعلم قدر الرجل ومدى تأثيره ونفوذه في ثقافتنا العربية المعاصرة، ففي مصر مثلاً تتلمذ على يديه ونهل من معارفه رواد ما اصطُلح على تسميته بعصر النهضة، كمحمد عبده، مصطفى كامل، قاسم أمين..الخ!
إلى هذه الدرجة الشديدة العلو وصل تأثير الرجل ونفوذه! ولقد وقعت اثناء اعدادي لهذه الدراسة وبالصدفة البحتة على كتاب وثائقي خطير، بعنوان: "جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني كما يقدمه ابن أخته ميرزا لطف الله خان"، مُترجم عن الفارسية! الكتاب يحكي بالوثائق سيرة جمال الدين، ويُعضد في مجمله زعمنا بوقوع أبناء أمتنا في أسر أفكار زائفة كالنقاء الحضاري وعصمة الأسلاف.
خلاصة الكتاب ان الثائر الطموح جمال الدين ايراني الأصل وأنه لما صمم على السفر والطواف بالبلاد الاسلامية لايقاظها من سباتها وجد أن انتسابه إلى ايران سيقف عائقاً دون دخوله هذه البلاد، ودون القيام بالدعوة فيها، فلقب نفسه ب"الأفغاني"، حتى يتمكن من أن يجد أذناً صاغية بين الشعوب السنية التى يزورها والتى تشكل أغلبية العالم الاسلامي ، ولم يكن أمام جمال الدين لقب آخر يستطيع أن يحتمي به غير "الأفغاني"، لأنه فضلاً عن أن أفغانستان بلاد سنية، وأن لغتها هي الفارسية كلغته هو ، فإن مذهبها هو المذهب الحنفي الذى كان المذهب الرسمي في الدولة العثمانية. فالتعصب المذهبي كان على أشده، خصوصاً في عصري السلطان عبد الحميد في تركيا والشاه ناصر الدين في إيران، ولولا صنيع جمال الدين هذا ما تيسر له وياللسخرية أن يحظى بثقة الأزهريين في مصر وهو شيعي(30).
وطبقاً للكتاب نفسه، حقق انتساب السيد جمال الدين إلى الأفغان هذا الغرض، بل حقق له نفعاً آخر هو أنه جعله بعيداً عن متناول ممثلي إيران وقناصلها في الخارج، لأن أفغانستان لم يكن لها تمثيل في الخارج في ذلك الوقت، كما كان للانجليز نفوذ كبير فيها، فكانوا يرعون اتباعها في الخارج. يسر هذا للسيد جمال الدين مهمة السفر إلى الأقطار السنية، كما يسر له الاقامة فيها بعد طرده من إيران.
وقد ازداد اصرار جمال الدين على أنه أفغاني حينما ساءت علاقاته بحكام ايران حتى يبعد الشر عن أسرته في أسد آباد، إذ جرت العادة في ذلك الوقت وكما يحدث اليوم في بلادنا أن تؤخذ الأسرة بجرم أى فرد منها، ولو أن هذا لم يغن أسرة جمال الدين فتيلاً ولم يبعد عنها الشر بعد اتهام جمال الدين بالاشتراك في تدبير قتل ناصر الدين شاه. وفي تفسيره الوجيه لما اكتنف موت جمال الدين في الآستانة من غموض، أوضح الكتاب أن عريضة وصلت عن طريق علاء الملك سفير إيران في تركيا، على خلفية الاتهام المُشار إليه تواً، كشفت حقيقة أصل جمال الدين عند السلطان العثماني بالدلائل القاطعة! ظهر للسلطان أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغانيين، ويتخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به، فدبر دس السم له، وكانت هي طريقة الخلفاء العثمانيين للتخلص من غير المرغوب في وجودهم في الحياة!
"الأفغاني" ثائر عظيم، لا شك في ذلك، ولولا أنواره، لكان الحال في مجتمعاتنا الكسيرة فيما أرى أكثر انحطاطاً مما هو عليه! رحم الله ذلك الثائر "الفارسي"! الفزع يصيبني حين أفكر فيما كان سيحصل لو أن الأفغاني لم يفطن لمخازي أمتنا وانسياقها غير المحسوب بفضل عبيد المصالح وراء أفكار زائفة كالنقاء الحضاري المُطلق، وعصمة الأسلاف. كانت ثورته حتماً ستُرفض، وتُرمى بكل ما يُنفر منها!
الأكثر إثارة للدهشة كما للأسف هو عدم انكار الأفغاني لما احتال هو نفسه لتلافيه، فها هو شكيب أرسلان يزوره ويدور الحديث بينهما حول ما رُوي عن عبور العرب المحيط الأطلنطي قديماً واكتشافهم أمريكا، فيقول السيد الأفغاني(31):
"إن المسلمين أصبحوا كلما قيل لهم الانسان كونوا بني آدم أجابوه إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من الخمول والضعة. إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالاً، ولكنكم أنتم أولاء كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آباؤكم إلا أن تفعلوا فعلهم".
كلام الأفغاني، وهو ما يضاعف أسفي، لا يخلو من اقرار ضمني بتنزيه الماضي وتمجيده، ولا يخلو أيضاً من دعوة مألوفة في أدبياتنا التنويرية لاستعادة ذلك الماضي الزاهر، دون أدنى تنبيه لحتمية تجنب ما عكر صفوه من أفكار زائفة. فهل نسي الأفغاني على ما عُرف عنه من ثورة ونُبل أم أنه تناسى كون بناة حضارتنا بشر مثلنا، أدوا دورهم وامتلكوا الجرأة على أن يحيوا تجربتهم الخاصة، بما لها وما عليها، وانه استنسرت بين ظهرانيهم أكاذيب كالنقاء المُطلق وكمال الأسلاف.
لسنا استثناءًا من ناموس الحياة! لم توجد قط على ما هو معروف حضارة بعينها تفردت بالابداع أو النقل أو خلت من سمة تميزها عن غيرها من الحضارات. حتى الحضارة الغربية نفسها بكل زخمها لم تشذ عن هذا الناموس، ولولا خروج هذه المسألة عن نطاق البحث الماثل، لتناولتها بشيء من التفصيل(32).
الأحداث الجارفة التى تثيرها دوافع الهيمنة والاستغلال قد تُعرض سمات الأصالة للحضارات للطمس، غير أن هذه السمات أو هذا الجوهر الانساني المشترك يظل حياً يتمثل في طرائق الحياة، ويتردد صداه في الجهد الذى يبذله الانسان لكي يفهم محيطه ونفسه، ولكي يعين الطريق الذى سيتبعه من قوى الطبيعة، ولكي يسيطر بالتعاون مع أمثاله، على الطبيعة وعلى أعماله ذاتها وعلى تعابيره، ولجعلها متلائمة مع القيم والغايات التي يكتشفها. هذه الوجوه الانسانية هي من الوضوح في كبريات الأعمال الأصيلة، حتى لتُنسى بسهولة جملة العوامل الثقافية المؤثرة في عمل المبدع الذى يُنتج ، لأول مرة، شكلاً من الابداع مُختلفاً عن القديم. أو يعرض لأول مرة مشكلة ما يحلها بطريقة مُبتكرة تكشف عن أخطاء الحلول القديمة ونقائصها. ومع ذلك فإن هذا المُبدع قد استفاد من التراث الانساني، مُمثلاً في المواد التى اُنضجت سابقاً والاهتمام الذى تركز على القضايا المُعالجة والجهود المبذولة للفهم وحاجات المعاصرين وتقديرهم. والواقع أن الاطار الذى ينبسط فيه مثل هذا الجهد الابداعي هو من الأهمية، بحيث كثيراً ما يحدث أن يكثر في عصر إلى الدرجة التي تُميزه بقوة.
نشر المعرفة بمثل هذه الأمور والتنقيب عما تتميز به الحضارات من سمات الأصالة سيؤدي، إن هو حدث، إلى اضعاف نزعات المزايدة والتمييز، بين أبناء الحضارات المختلفة أو حتى بين أبناء الحضارة الواحدة. لسنا في الشرق والغرب إلا حضارت متنوعة على كوكب واحد، نهر واحد تعددت روافده، من نبع واحد أتينا، وفي المصب نفسه تُسكب أعمارنا القصيرة. أقول هذا لأبين مدى زيف فكرة "النقاء الحضاري المُطلق"، وإن وجدت من يُزايد عليها، داخل حضارتنا وخارجها.
حضارتنا الاسلامية، ورغم اقراري بسمو قصد روادها الأول، لم تبدأ من العدم، فالبدء من العدم امتياز لله وحده! ولم تك انقطاعاً معرفياً عما سبقها، حتى في حياة النبي محمد، وهو واضع اللبنة الأولى! يكتشف هذا بسهولة ويسر فقط أولئك الذين يملكون القدرة على القراءة الأمينة والمُنظمة لتاريخ الانسان على الأرض..
الزمن ليس في انحدار كما علمونا(33)، ولا يسير من سيء لأسوأ كما ألقوا في روعنا منذ نعومة أظافرنا! حاضرنا وإن كان غير مُرضٍ ، يظل أفضل من الماضي وإن عظم شأنه ، فهو ملك خالص لنا! انه هدية ثمينة منحنا الله إياها على نحو ما منح أسلافنا العظام، لاثراء حضارتنا والحياة ودفعهما إلى الأمام! فرصتنا لنكون أنفسنا لا مجرد نُسخ مُكررة ومُعادة! فرصتنا للاسهام بقوة وشرف في تنقية الماضي وانتاج الحاضر والمستقبل، لا أن نكتفي باستهلاك ما أنتجه أسلافنا أو أبناء الحضارات الأخرى! لا أمر من الندم على الحياة، فلندافع عن وجودنا وحقنا فيها! ولنمح عن أنفسنا ما نُعير به، وهو اننا أمة من غنم، شكوانا الأبدية يقف وراءها أن عصى الراعي غليظة! وأن ما يوضع أمامنا من علف وإناث لا يُوزع بيننا، بالقسط! وأن حريتنا(!!) لا تتجاوز ما يسمح به طول "الحبل" الذي يُحيط بمصائرنا!
في مقالة سابقة لي ناقشت باسهاب ذلك الإخفاق "المُستدام" من جانب أبناء حضارتنا في ادارة عملية الانفتاح المعرفي منذ جرت أول محاولة بعد رحيل النبي للانفتاح على الموروث الإنساني(34) ، وخلصت إلى ان مجتمعاتنا اليوم، وكما كانت في الماضي، ليست فقط عاجزة عن التعاطي مع الوافد المعرفي من خارجها، بل هي عاجزة أيضاً على نحو مضحك مبك عن التعاطي مع ميراثها الذاتي، أعني الوافد المعرفي من العصور الماضية، داخل حضارتنا نفسها! خلصت كذلك في المقالة نفسها إلى أن الانفتاح "النقدي" على الوافد المعرفي الخارجي والداخلي ، كفيل بمحو أو على الأقل لجم هذا الاخفاق المُستدام في تعاطي أبناء حضارتنا مع اشكالية كهذه!

وليس لقارئي الكريم أن يخلط بين دعوة فكرنا الأنسني لحتمية اقتران الانفتاح المعرفي بنفوس حُرة قادرة على النقد والتطوير، وبين دعاوي "ضِرارية" للانفتاح المعرفي، كتلك التي تجري بسخاء على الألسنة في الندوات والمؤتمرات الأكاديمية، في أرجاء عالمنا الإسلامي، والتي لا هم لأصحابها وفي مقدمتهم دكاترة القانون المقدس إلا المُزايدة، والتخفي المُتقن وراء مسوح الاستنارة والحمية المعرفية!

يقول عبد الرحمن بدوي، في تقديمه لكتاب "روح الحضارة العربية"(35):
"أهمية التراث اليوناني بالنسبة إلى دراسة الحضارة العربية أكبر بكثير جداً من أهميته بالنسبة إلى الحضارة الغربية الأوروبية الفاوستية، بالرغم مما قد يبدو في هذا القول ظاهرياً من غرابة. ذلك أن مصير الحضارة العربية كان أوثق ارتباطاً وبدرجة هائلة بالتراث اليوناني من ارتباط الحضارة الأوروبية بهذا التراث، اذ هو الذى قسر الحضارة العربية على الدخول في قالبه وهي لا تزال في مستهل نشأتها، فانطبعت بطابعه قبولاً أو نفوراً، وكلاهما هنا سواء بكل وضوح بحيث لم يعد من الممكن محو هذا الطابع عنها ولا الانفكاك من أسره.
"أما الحضارة الأوروبية المعاصرة والحديثة فقد اتخذت منه مجرد تكأة للوثوب، حتى انها لم تكد تتم الوثبة الا وطرحته ظهرياً. وما هذه الحركات التي تدعى النزعات الانسانية المحدثة والتى نراها تتجدد أو تتردد من حين الى آخر في تاريخ الحضارة الأوروبية الحديثة من عصر النهضة مارين بفورة فنكلمن وجته حتى نصل إلى النزعة الانسانية المحدثة التى يمثلها فرنر ييجر، العالم الألماني المعاصر آنذاك وصاحب مجلة "الحضارة القديمة"، ومن التف حوله وكتب في مجلته هذه، ثم جماعة جيوم بيديه في فرنسا، نقول ان هذه الحركات نفسها والشعور بالحاجة إلى بعثها انما هو أبلغ دليل على نسيان الحضارة الاوروبية لهذا التراث، بوصفه عاملاً لا يزال يحيا بكل قواه فيها، وهذه الحركات انما يقصد منها إلى تذكير تلك الحضارة به حين تنساه حتى تتخذ منه مرة أخرى تكآت للوثوب حينما يشعر أبناء تلك الحضارة بأنهم في حاجة إلى تلك التكآت. أما في الحضارة العربية فإن القوم لم يكونوا بحاجة إلى شيء من ذلك، لأنهم لم ينسوا التراث اليوناني أبداً، وكيف ينسونه وهو عنصر فعال دائم الحياة في كل ما يفكرون فيه ويشعرون به ويقدرونه! ماذا أقول! بل كانوا على العكس من ذلك في حاجة الى من ينسيهم اياه، او يخفف عنهم ثقل وطأته، أو يرشدهم إلى ينبوعهم الأصيل. ويمثل هذه الأحوال الثلاث على التوالي: أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، وأبو عثمان الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، ثم يمثل هذه الحالة الثالثة أعني الارشاد إلى الينبوع الاصيل شهاب الدين يحيى بن حبس السهروردي المقتول، وهو الذى دعا إلى نزعة انسانية تصعد عن الروح العربية الأصيلة.
"وإذا كان سيقدر لنا معشر العرب اليوم أن ننشيء حضارة جديدة، فان مشكلتنا اليوم مع الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة وهي الآن في دور النهاية وافساح الطريق لحضارة مقبلة سيبزغ فجر ربيعها في نهاية هذا القرن أو مطلع الألف الثالث هي بعينها نفس المشكلة التى عاناها أسلافنا الذين أنشأوا تلك الحضارة العربية. فهل لنا أن نستنبط العبرة من تلك التجربة الأليمة البائسة؟ التى عاناها أولئك الأسلاف؟".
إلى هنا ينتهي كلام العملاق عبد الرحمن بدوي، وهو يُعضد في مجمله وعلى نحو شديد الوضوح دعوة فكرنا الأنسني لحتمية اقتران الانفتاح المعرفي بنفوس حُرة قادرة على التثمين، يزدهر معها هذا الانفتاح ويؤتي ثماره الحُلوة. كلام بدوى أيضاً يعضد زعمنا ب"ضِرارية" دعاوي الانفتاح المعرفي التي تجري بسخاء على الألسنة في الندوات والمؤتمرات، والتى لا تتجاوز كونها "خطط اشغال"، فأصحابها يتعامون بدربة مُخيفة عما هو حاصل في مجتمعاتهم المُتخلفة من تجفيف لمنابع التفكير الفلسفي وتدجين مُخز لعقول وقلوب النشء. أين حُمرتك أيها الخجل!

قارئي الكريم، تزويد أبناء مجتمعاتنا بنفوس حُرة قادرة على النقد والتطوير هو فيما أرى السبيل الوحيد لاحراز انفتاح خصب، يصير معه الوافد المعرفي، من داخل حضارتنا أوخارجها، رافد الهام، وتكأة نحو المستقبل، لا قالباً صلباً ندخل إليه، ونُطبع بطابعه قبولاً أو نفوراً ، على نحو ما حصل مع أسلافنا، في القرون الأولى.
دعوة "أنسنية" كدعوتنا لانفتاح معرفي خصب لابد وأنها وجدت على مر تاريحنا الطويل، من يتحمس لها ويناضل في سبيل التمكين لها. التدجين المُستدام لعقول وقلوب أبناء حضارتنا لابد وأنه أيضاً وجد من ينبه إلى تداعياته الكارثية! ثمة تعامي إذن، بل "صمت فرعوني"، من جانب بُناة الوجدان الاسلامي المعاصر وفي مقدمتهم أساتذة الفلسفة، كونهم الأمناء على النُشدان الحر للحقيقة ، عما يجري من تشويه منهجي لهذا الوجدان، أفضى إلى عزوف "مُخيف" عن الحقيقة وعن نُشدانها.
ولسوف أحاول فيما يلي تفسير هذا التعامي أو "الصمت الفرعوني"، مُستفيداً مما أوردته سلفاً بشأن "علم الكلام"! فعلى ما يبدو، ثمة تيه في صحراءه ضُرب على دارسي ومعلمي الفلسفة في دوائرنا الفكرية والأكاديمية كل ما أخشاه أن يكون أبدياً!
صحراء "علم الكلام" وتيه لا يرحم!

قلت في صدر الجزئية السابقة ان ثمة امكانية في فكرنا الأنسني للحديث عن آخرية محلية في مختلف الحضارات! آخرية لا تغفل عن مناهضة امتلاك الذات لنفس حُرة، قادرة على النهوض بمسئوليات التفكير الفلسفي. وضربت مثلاً ب"حضارتنا"!
في التفكير الفلسفي بطبيعة الحال تهديد لمصالح "الآخرية المحلية" عندنا. فلن يكون بمقدورها مثلاً الاستفادة على نحو واسع النطاق من التأثير الواسع للمُرشدين الدينيين الرئيسيين والذين دائماً ما تربطهم، بحسب تجربتنا الحضارية المريرة، صلات بالهيئات الحاكمة قبولاً أو رفضاً، وكلاهما سواء ! استشهد هنا بالإمام أبي حنيفة، وهو يعبر بكلمات قليلة عن معنى الطاعة في أعماقه للهيئة الحاكمة. فلقد منعه المنصور من الإفتاء. وفي إحدى الليالي جُرح إصبع ابنته فجاءت تسأله عن تأثير الدم على وضوئها، فقال(36): "اسألي حماداً، فلقد منعني أميري من الإفتاء، وما كنت لأعصى أميري بالغيب"! تصرف كهذا(من فقيه عظيم)، لا يستسيغه الفلاسفة!
ثمة تمييز مُلهم، أورده ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، بين العلوم "الفلسفية" و "النقلية"، أدخل فيه تحت هذه الأخيرة كلا من الفقه والكلام، واصفاً الفقه بأنه أصلها، وقائلاً عن العلوم الفلسفية: إن موضوع كل علم من هذه العلوم ومشكلاته التي يعالجها، ومناهج الاستدلال التي يستخدمها في حل هذه المشكلات، كل ذلك أصله طبيعة الوجود الإنساني من حيث أن الإنسان كائن عاقل. أما بالنسبة للعلوم النقلية فإنه لا مجال فيها للعقل، فيما عدا أن العقل يمكن استخدامه في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، أي النقل الكلي. ابن خلدون أيضاً يصف نتائج هذا الاستخدام التقليدي للعقل بأنها "الأدلة العقلية" المستخدمة في علم الكلام فيما يتصل بمسائل الاعتقاد.
وفي قراءته لمغزى مقابلة ابن خلدون بين "العلوم النقلية" و"العلوم الفلسفية"، يقول المستشرق ولفسون: هذان النوعان من العلوم يحاولان استخراج شيء مجهول من شيء معلوم، أو باستخدام مصطلحات الكلام يحاولان استخراج الغائب من الشاهد. المجهول في العلوم الفلسفية يُسمى مطلوباً، والمعلوم فيها يُسمى مقدمة. على خلاف الحال في العلوم النقلية، حيث يُسمى المجهول فرعاً، والمعلوم أصلاً أو سنة عامة. المقدمة في العلوم الفلسفية هي معنى كلي يكونه العقل الانساني عن طريق التجريد من الموضوعات الحسية. أما الأصل في العلوم النقلية فهو القرآن والسنة.
النبي محمد رحل عن دنيانا، دون أن يشهد تدوين النص القرآني. ما كان يحدث هو أنه عندما كان النبي ينطق آيات القرآن، كان المسلمون النابهون يسجلونها في رقع ورقية أو جلدية، وألواح حجرية أو عظمية، وعلى سعف النخيل، وغالباً ما كانوا يحفظونها في صدورهم. بعد سنوات من رحيل النبي، جُمع النص القرآني ودُون في "مصحف" مُوحد، أقره المتبحرون من كبار الصحابة، وأرسلته الدولة من "المدينة" إلى "دمشق" و"الكوفة" و"البصرة"، حيث جرى الحفاظ عليه(37). لهذه الدرجة الرفيعة وصلت مكانة النقل أو الرواية في علم القرآن وهو الأشرف عند المسلمين!
من جانبي، أراني قانعاً أن التقسيم الخلدوني للعلوم إلى نقلية وفلسفية، غاية في الروعة والخصوبة، فهو يغري على نحو مدهش باستنطاق أصداءه في وجدان أمتنا، ولسوف أفعل! مع الاحترام لجهود غيرنا، وفي مقدمتهم المستشرقين بطبيعة الحال، فهم وبفضل ما يتمتعون به من حرية لا حياة لبحث نزيه ومنظم دونها أقدر على استنطاق دلالات التراث الانساني، ومنه تراثنا الاسلامي العتيق! ولو أن نواياهم كانت خالصة وهي ليست كذلك للأسف، ولو أنهم آمنوا بأن "في موعد النصر متسع للجمبع"، لحمدنا لهم اسهاماتهم الدؤوبة، ولحلقنا سوياً في الفضاء الانساني الرحب!
قارئي الكريم، للتمييز الخلدوني بين "العلوم الفلسفية" و"العلوم النقلية"، صدى شديد الخصوصية في وجدان أمتنا، فالأذن العربية لا ترتاح كثيراً لكلمة "الفلسفة"، وذلك بفضل زيف بعض الأفكار الحاكمة لمجتمعاتنا والمُشار إليها سلفاً. رغم ان كلمة "الفلسفة" مجرد تسمية يونانية للنضال الحُر من أجل الحقيقة، اصطلح على الأخذ بها على الصعيد الكوني، ربما لاحتضان الحضارة اليونانية لهذا النضال، من حيث هو علم له موضوعه وأسلوبه في البحث وغايته. وذلك على خلاف حضارات سابقة عليها ومعاصرة لها، عرف أبناؤها "الحق المُلهم"، كمصدر وحيد ومقدس للحقيقة. البعض ولست منهم يُريد لما اصطُلح على تسميته في أمتنا بالحكمة، أن يكون البديل للنضال الحُر من أجل الحقيقة! حكمة العرب لا تعدو حيوانية مُطعمة بالعقل!
أن تتفلسف هو أن تُناضل من أجل الحقيقة! والفيلسوف عاشق للحقيقة، ينشدها أينما وُجدت، من خلال البحث والتقصي، رغم اقتناعه باستحالة امتلاكه لها على وجه اليقين! المُربي لسنج يظل أروع من عبر عن عظمة هذا النُشدان الحُر للحقيقة، وذلك بقوله(38): "ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذي يُنمي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولاً، ساكناً، مغروراً..ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه ولو كان في نيته أن يُضلني ضلالاً أبدياً ، ومد نحوي يديه المضمومتين، وهو يقول: اختر بينهما! لركعت أمامه في خشوع وهتفت به وأنا أشير إلى يسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!".
الفيلسوف في المجتمع دليل على رفعة الفكر وسمو مرتبته، فهو يشير إلى كل ما هو خالد في الإنسان، ويثير تعطشنا إلى المعرفة المحض، المعرفة التي لا تهدف إلى مصلحة، والتي هي أعظم وأكثر استقلالاً عن أي شيء نفعي أو مصلحي نستطيع أن نُنتجه أو نبتكره، وكل ما نفعله تابع لها مُلحق بها، لأننا نفكر قبل أن نعمل، ولا شيء يمكن أن يحد من تفكيرنا. فقراراتنا العملية تعتمد على الموقف الذي نتخذه في المسائل التي تستطيع النفس الانسانية أن تسألها! من هنا، تتمتع النظم الفلسفية التي ليست موجهة نحو فائدة عملية أو تطبيقية بتأثير عظيم على التاريخ!
الفلسفة إن هي تنكبت لمهمتها، تُصبح "فلسفة ضِرار"(39)، وينتهي بها الأمر إلى التهافت في دوجماطيقية، في معرفةٍ موضوعة في صيغ، نهائية كاملة، تنتقل من واحد إلى آخر بالتعليم التلقيني! في حين أن الأسئلة في الفلسفة أشد أهمية من الإجابات، فكل إجابة تصبح بدورها سؤالاً جديداً! ذلكم هو التفلسف بمعناه الحقيقي! وهو وكما يشى فضاءنا الحضاري غير مُستساغ، على نحو غاية في التفرد!
إضعاف قيمة وأهمية نُشدان الحقيقة هو الخطر الأعظم الذي يهدد أي مُجتمع. فمن جهة يعتاد أبناء المجتمع التفكير ضمن مدلولات البواعث وردود الفعل، والتكيف مع البيئة، ويسهل إخضاعهم وتسييرهم بأساليب الدعاية والتلقين، وتُراودهم في النهاية فكرة التخلي عن كل اهتمام بنشدان الحقيقة، ويقتصر اهتمامهم على النتائج العملية والتحقيق المادي للحقائق والأرقام! ومن جهة أخرى تتسيد فلسفة الضِرار الدوائر الفكرية والأكاديمية في المجتمع، ويشيع العُقم الفلسفي، فأقصى ما يفعله أصحابها هو فهم الفلسفات القائمة والتشدق بمقولاتها! ولا غرابة في ذلك، ففلسفة الضِرار تلتفت إلى ما يهتم به أبناء المجتمع أو فئة بعينها من المجتمع أو ما تهتم به الدولة، ومن ثم لا تُذكر المجتمع بعظمة نُشدان الحقيقة! ولا تُذكره بأن الحرية هي الشرط الأساسي لنشدان نزيه وخصب. وأنها من متطلبات المصلحة العامة للمجتمع. وأنها لا تلبث أن تتداعى إذا ما سيطر الخوف على الإنسان، واستبد به اليقين. تفعل فلسفة الضِرار ذلك، وأصحابها أدرى من غيرهم، بأن واجب الفيلسوف ألا يهاب انتقاد ما يجتذب الناس من حوله، لأنه إن فعل يتحول إلى كهف مُظلم، تأوي إليه "فلسفة الضِرار"!
ثمة صدى آخر للتمييز الخلدوني بين "العلوم الفلسفية" و"العلوم النقلية"، لشد ما يرتبط بحديثنا السابق عن عدم ارتياح الأذن العربية لكلمة "الفلسفة"، ورسوخ اقتران الفلاسفة في الوجدان الشعبي بالانكار الحتمي للالوهية، واستبدال العقل الجاف بها!
ان تاريخ الشرق هو قبل كل شيء نشوء الأديان في هذا الجزء الخارق من الأرض! وأبناء الشرق ونحن منهم لم يصلوا إلى التوحيد من جهة "البحث الحُر والتقصي" وإنما من جهة "الحق المُلهم"! فالنبي محمد هو من اضطلع بعبء تحويل تلك الفكرة الغامضة والوثنية، لدى أهل مكة، عن "الاله" إلى ذات لها خطر عظيم!

المعارضة الضارية التى واجهها النبي في مكة والتى لم تلبث أن تحولت على نحو مُلفت، وفي فترة وجيزة نسبياً، إلى يقين راسخ في عقول وقلوب المكيين، تعضد زعمي بأن "العقل الجاف" وعلى خلاف ما تُغذى به الآخرية المحلية الوجدان الشعبي في مجتمعاتنا قوة محافظة أساساً، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتحرض على الاحتفاظ بكل القيم والأطر المهيمنة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير! فالنبي محمد في صدر دعوته كان يعيش وسط أمة تاجرة، كان دخلها الأساسي يتكون من الصدقات المدفوعة في سياق زيارة الأوثان في الكعبة. وكان أولئك الذين يحتلون المكانة الأولى بفعل الثروة أو المرتبة الاجتماعية، قد سارعوا إلى اعتباره بمثابة منافس خطير، من المستحسن آنذاك كسر ارادة التغيير عنده!
حقاً..ما قد يتصوره الانسان ضلالاً يُناهضه، هو في الأغلب "قناعة" الغد! من هنا، جاء وصف جوتييه للاسلام أعتقد كحضارة وليس كأصل ديني بأنه المجهود الأعلى والتعبير التام عن العبقرية العربية! فحضارتنا الإسلامية وكما يشى التاريخ نشأت ونمت في كنف الأصل الديني للاسلام. كما أن الأصل الديني للأسلام نشأ ونما بدوره في "التربة" التى كانت قد أعطت من قبل: "اليهودية" و"المسيحية".
صدىً ثالث ومهم للتمييز الخلدوني بين "العلوم الفلسفية" و"العلوم النقلية"، نجده في ذلك الجدل المُربك والمُرهق حول ما إذا كانت عقولنا وقلوبنا، نحن معشر الساميين، مؤهلة كما هو الحال عند الآريين، لنشدان الحقيقة عبر البحث والتفصي!
تقسيم الناس إلى ساميين وآريين هو وفيما يرى الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا من صنع علماء تاريخ اللغات في القرن التاسع عشر. والسامي منسوب إلى سام على ما جاء في التوراة من أنه كان لنوح أبناء ثلاثة: "سام" و"حام" و"يافث". فسام أبو الإسرائيليين واخوانهم، وحام أبو الزنوج، ويافث أبو بقية البشر. أما الآري فمنسوب إلى آريا، وآريا اسم شعب كان مهده النجد الفارسي من بلاد الأقغان وما إليها، ثم انحدر فيما حوالي 2000 عام قبل المسيح إلى الشمال الغربي من الهند ومعه دين جديد هو "دين الفيديين"، له كتاب مقدس هو مجموع مزامير موجهة إلى الآلهة تسمى فيدا، وهو اليوم دين البراهمة ودين الهندوسيين، لم يدخله إلا تغير يسير(40).
وقد كان لمزامير هذا الدين المقدسة وما ألهمته من فكر أثر كبير في حياة أبناء آسيا ووصل صدى ذلك إلى أوروبا منذ القدم. لذلك لم يكد الاستعمار الأوروبي يستقر في بعض أنحاء الهند حتى أقبل علماء أوروبا على دراسة الفيدا، وقد راعهم ما لاحظوا من التشابه بين اللغة السنسكريتية التى هي لغة الفيدا وبين اللغات الأوروبية.
وهكذا نشأ علم مقارنة اللغات، فصنفت اللغات أصنافاً، ورُدت كل مجموعة منها إلى أصل واحد، ثم جعل العلماء هذه الأنساب اللغوية أنساباً للأمم التى تتكلم بها. ونبتت في القرن التاسع عشر نظرية شعب آري هو أصل للأمم الأوروبية ولبعض الأمم الآسيوية، ممن ترجع لغاتهم إلى أصل واحد، هو اللغة السنسكريتية أو غيرها.
الفيلسوف رنان يُصرح في كتابه "تاريخ اللغات السامية" بأنه أول من قرر أن الجنس السامي دون الجنس الآري! لأن الجنس في مجموعه فيما يرى رنان يجب أن يحكم عليه حسب النتيجة النهائية التى وصل إلى ادخالها على نسيج الشئون الانسانية، وأن الطابع العام للجنس يجب أن يرسم على وفق طابع الأجزاء التى تمثله أتم التمثيل. فالجنس السامي يجب أن نراه ممثلاً في الشعب العربي والشعب اليهودي!
وعمل الجنس السامي، اذا نظرنا إليه في مجموع التاريخ العام، يظهر لنا بوضوح في التبشير بالتوحيد وتأسيسه. فالجنس السامي، أو بعبارة أدق الشعب اليهودي، لم ينتقل مع توالي الأزمنة من الاشراك الأول إلى التوحيد الذى جاء بعده "من جراء تفكير طويل في الشئون الالهية"، أو من جراء "سير بطيء وصل به رويداً رويداً إلى فكرة أكثر نقاء عن العلة الأسمى"، أو من جراء "كشف أو تقدم تم بطريقة علمية"، بل ان التوحيد السامي بحسب رنان هو نتيجة استعداد جنسي خاص!
ولقد جعل رنان من هذا "الاستعداد الجنسي" غريزة سماها "غريزة التوحيد"، وبفضل هذه الغريزة كان من حظ الجنس السامي أن يكون له منذ أيامه الأولى طرازه الخاص من الدين يقوم على فكرة أساسية هي أن السمو والسلطان هما في يد سيد أوحد خلق السماء والأرض. وتلك الغريزة كما يقول رنان ظهرت بشكل "الهام فطري" مماثل لذاك الالهام الذى أدى إلى خلق الكلام في الأجناس كلها. ومذهب رنان في هذه النقطة الأخيرة معروف ومشهور. لقد ظهرت على ما يرى منذ بدء العالم طرز عديدة من اللغات متميزة بعضها عن بعض، ولا ترجع احداها للأخرى، وقد فاضت من أدمغة الأجناس الهامة المختلفة، وكان لها جميعاً قواعد أساسية خاصة بالتصريف والنحو، ثم حدثت تأثيرات مختلفة ترجع إلى الزمان والمكان، فجعلت هذه القواعد تتمثل في اللغات واللهجات المتعددة وإن لم تكون منها إلا تطبيقات خاصة.
هكذا نرى أن رنان توسع فجعل للدين نفس ذلك الفهم، ولنذكر ما يقوله في هذه المسألة: "ففيما يتعلق بالدين، كما فيما يتعلق باللغة، ليس هناك شيء يخترع، فكل شيء هو ثمرة وضع اتخذ في باديء الأمر وظل كذلك دائماً". وقد بذل رنان جهداً بعدئذ في سبيل تخفيف صلابة هذا الفهم وبساطته حين دخل في تفاصيل الموضوع.
لقد قال إنه لا يقصد بما تقدم إن الساميين جميعاً كانوا موحدين. ولكن إذا تعمقنا في دين الساميين الذين كانوا على الوثنية نجد لديهم بحسب رنان سمات عديدة لا يمكن تفسيرها إلا بتصور بدائي للألوهية يختلف اختلافاً جوهرياً عن التصور الذى كان سائداً عند الشعوب الآرية، بمعنى أن ذلك التصور كان يشمل دائماً فكرة الملكية المطلقة. ففي الأزمنة القديمة كان التوحيد عند الشعوب السامية لا نراه متركزاً إلا لدى طبقة أرستقراطية غير محس بها، أما الشعب فكان في عبادته يتجه دائماً نحو الديانات الأجنبية. بل إن التوحيد الحق لم يوجد عند الاسرائيليين أنفسهم إلا في عدد قليل. وهكذا شأن الفكرة الأولى لا تكون ممثلة في أي شعب من الشعوب إلا في أفراد قليلين، ولهذا ينبغي إذا أردنا الحكم على خصائص جنس من الأجناس أن نتخذ الطبقة الأرستقراطية أساساً لحكمنا. بيد أن ارنست رنان لم يلبث، بعد تلك التحفظات، أن عاد وأيد نظريته الأولى القائلة بأن الساميين كانوا موحدين فطريين! تحير كهذا من جانب فيلسوف عظيم كارنست رنان، لا يُحسب عليه، بل يُحمد له!
في كتابه "المدخل إلى الفلسفة"، حاول جوتييه، وهو أحد المتأثرين وهم كُثرُ بآراء رنان، بلورة التمييز بين السامي والآري على نحو أوضح، فقال إن العقلية السامية تميل إلى قرن الأشباه والأضداد، دون ربطها بما يجعل منها وحدة، بل تتركها منفصل بعضها عن بعض ثم تنتقل من احداها إلى الآخر دون واسطة بوثبة فجائية!
أما في العقلية الآرية فالأمر بالعكس، إذ تنزع إلى الربط بين هذه وتلك بوسائط متدرجة، فلا تنتقل من طرف إلى آخر إلا بدرجات لا تكاد تكون مُحساً بها بالقدر الممكن! إنها تسير، فيما يرى جوتييه، على نظام الألوان المُذاب بعضها في بعض!
واقترح جوتييه في الكتاب نفسه، ولحين ايجاد تسمية أكثر دقة في التعبير، تسمية العقلية السامية، ومنها العقلية العربية، بالمذهب "المفرق" كونها تترك الضدين مفترقين لا صلة بينهما، فضلاً عن اقتراحه تسمية العقلية الآرية بالمذهب "المجمع" أو "الموحد" كونها تجمع بين الأضداد بوسائط متدرجة متوالية وتجمعها في كل واحد!
آراء كتلك الخاصة بارنست رنان، ومن تأثروا به كجوتييه وغيره، لا تخلو من وجاهة، فرنان فيلسوف عظيم، تشهد بذلك روائعه العديدة: تاريخ المسيح، مناظرته الشهيره مع الأفغاني، محاوراته الفلسفية، ذكريات شبابه وطفولته، وغيرها الكثير!
آراء رنان إذن لا يصح التعامل معها ببساطة قبولاً أو نفوراً، وكلاهما هنا سواء ، كما فعل آخرون، وفي مقدمتهم الشيخ مصطفى عبد الرازق أول أستاذ مصري للفلسفة بجامعة القاهرة، فقد رمى الشيخ مصطفى دون بحث نزيه أو تقصي، وفي أريحية وبساطة يُحسد عليهما، رنان بالتخفي وراء زينة البلاغة وخيال الشعر ووثبات الحماسة والهوى والتناقض! فرنان برأي الشيخ هو خصيم الجنس السامي والدين الاسلامي جميعاً! لماذا؟ لأنه كان فيما يتعلق بالفلسفة شديد الشكيمة على ما سماه "فلسفة عربية"، لكنه ألين جانباً لما دعاه "فلسفة اسلامية علم الكلام ". ولا أدرى كيف لم يتنبه الشيخ أنه، بادانته للاعلاء الرناني لعلم الكلام، إنما يُدين نفسه!
يقول رنان في كتابه الشهير "ابن رشد والرشدية"(41): "ليس العرق السامي هو ما ينبغي لنا أن نطالبه بدروس في الفلسفة، ومن غرائب النصيب ألا ينتج هذا العرق، الذى استطاع أن يطبع على بدائعه الدينية أسمى سمات القوة، أقل ما يكون من بواكير خاصة به في حقل الفلسفة، ولم تكن الفلسفة لدى الساميين غير استعارة خارجية صرفة خالية من كبير خصب، غير اقتداء بالفلسفة اليونانية". بمثل هذا الوضوح المُفيد أدخل ارنست رنان في الأدبيات المتعلقة بتاريخ الفلسفة عندنا معشر العرب دعوى الطبيعة السامية، وجعلها أساساً للحكم بأبدية العقم الفلسفي لأبناء حضارتنا.
صحيح أن للنفس السامية خواص ليست غريزية كما يقول رنان، وإنما مكتسبة على خلفية التجربة الحضارية في الشرق(42) ، تتجلى في انسياق جارف إلى التوحيد من جهة الدين، وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية! وصحيح أن العرب قبل "الهام النبوة" لم يؤرقهم نُشدان الحقيقة، من جهة البحث والتقصي! وصحيح أيضاً أن إطلاق لفظ "فلسفة عربية"، على فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية، يستفيد من كون حضارتنا في مستهل نشأتها دخلت بنهم في قالب فلسفة اليونان وانطبعت بطابعه قبولاً أو نفوراً، ولم تجعله رافد الهام وتكأة نحو المستقبل.
كل هذا وأكثر صحيح، غير أن الاتفاق مع آراء رنان في مجملها، ينطوي على ظلم فادح لأبناء حضارتنا الكسيرة! فالسامي والآري نقطتي ماء من نبع واحد. كلنا من خلق الله، من نبع صاف أتينا، وفي المصب نفسه تُسكب أعمارنا القصيرة. حديث رنان عن خواص ثابتة وميول فطرية لدى الأجناس يفوح بعنصرية كريهة، قد لا تكون مقصودة، فرنان فيلسوف عظيم، بيد أننى وبحسب تصنيف رنان للبشر، إن جاز مثل هذا التصنيف أنتمي للجنس السامي، فأنا عربي، وكما يقول المثل العربي القديم: أهل مكة أدرى بشعابها! نحن أقدر بالطبع من رنان وغيره على اسكتشاف ذواتنا، ولو كرهت الآخرية العربية/المحلية، التى لا تمل التضييق علينا وحرماننا من حق أصيل لنا، وهو اكتشاف الحياة! الآخر العربي يريدنا دوماً "مهندسي ديكور" بلا ذاكرة، أما حياة العز والشرف، فتأبي إلا أن نكون "علماء آثار"، ننقب في ذواتنا عن تلك الشعلة المقدسة، التى أودعها الله ضمائرنا، لنهتدي بنورها الالهي!
العالم المُعاش شديد الخضوع للأفكار الصحيحة والزائفة على السواء، لدرجة دفعت بعض الظرفاء للقول بوجود تناسب طردي بين الأثر الذي تُحدثه أية فكرة في حياة البشر وبين درجة الخطأ الكامنة فيها! أصحاب البصائر النفاذة هم وحدهم القادرون على إدراك الفاصل بين الصحيح والزائف! وفي مقدمتهم يأتي الفلاسفة، فالفلسفة مُغايرة لغيرها من طرق نُشدان الحقيقة! إنها بحث عن الحقيقة غير النفعية، كونها تتطلب أحياناً من المشتغلين بها وقوفاً أليما في وجه رغباتهم الشخصية!
في علم الكلام تتجسد عبقرية الآخرية المحلية في المُزايدة على حق أبناء حضارتنا الإسلامية في النُشدان الحُر للحقيقة، من خارج "الحق المُلهم"! الاقتصار على التماس الحقيقة من داخل "المقدس"، وكما تشي تجربتنا الحضارية المريرة، لن يخدم سوى مصالح هذه الآخرية الآثمة التى تستغل "المقدس" من أجل تكريس اغتراب الذات وإدامة تنازلها عن حقها في امتلاك ثقافة متطورة. علم الكلام يطرد الفلسفة!
أمور عديدة تعضد مُحاجتي هذه، أتعرض هنا لأهمها بشيء من التفصيل:
أولاً، مازج الفقه بالفلسفة كمازج الزيت بالماء!
"التفكير الفقهي" و"التفكير الفلسفي"، وبوصفهما أبرز الطرق أمام الإنسان لنُشدان الحقيقة، متعارضان أشد التعارض، فالتفقه نُشدان للحقيقة من داخل "الهام النبوة". والنبوة في الغالب، وكما يوضح حسن حنفي في تقديمه ل"رسالة فى اللاهوت والسياسة"(43)، وحي مكتوب، فهي مصدر النص قبل التدوين. وتشمل النبوة جانبين: الأول، صلة النبوة بمصدر الوحي، أى النبوة على المستوى الرأسي كما تحدده صلة النبي بالله. والثاني صلة النبي بالرواة، وانتقال النبوة من رواية إلى رواية، حتى يتم التدوين، ثم انتقال المصاحف من يد إلى يد، حتى يتم التقنين، أى النبوة على المستوى الأفقي، كما يحدده وضعها، وانتقالها في التاريخ. أما التفلسف فهو حب الحقيقة والنُشدان الحُر لها، استناداً إلى روائع التراث الإنساني، والقيم السامية المشتركة!
روائع التراث الانساني ومنها ارثنا الحضاري ليست ملكاً لأبناء حضارة بعينها، فهي بحق ملك لنا جميعاً معشر البشر، في كل زمان ومكان! وها هو الفيلسوف كارل ياسبرز، ينبه في روعة إلى هذه البديهية الغائبة عن أبناء حضارتنا بقوله إن واجب الإنسان، وأياً كانت الثقافة أو الحضارة التي ينتمي إليها، هو أن يتعلم من "الموقظين الكبار أو الفلاسفة العظام" في كل العصور والحضارات، لأنه وبحسب ياسبرز لما كانت الصياغة الواعية لحقيقة النضال من أجل الحقيقة وهدفه لا تكتمل أبداً في صورة نهائية يمكن الإجماع عليها، فلابد لكل منا أن يضطلع بها مرة أخرى وأن يعدها مسئولية يتعين عليه أن يواجهها ويتحمل تبعاتها ما بقي إنساناً!
أنصار التوفيق بين "الهام النبوة" و"النضال من أجل الحقيقة"، يختلفون على مر التاريخ الانساني من جهة عناصر صيغهم التوفيقية، سواء من حيث القدرة على الموائمة بين "النبوة" و"التفلسف"، أو من حيث الفعالية التعبوية لأبناء الحضارات التى ينتمون إليها! بيد أنهم جميعاً ينسبون إلى الأنبياء أفكاراً لم تجل بصدورهم ويلوون عنق "الهام النبوة" في محاولات دؤوبة للالتفاف عليه واخضاعه لتأويلاتهم الطموحة!

منذ فيلون وهو مفكر يهودي ولد بالاسكندرية نحو عام 20 أو 30 ق. م، كان يرى أن التوراة فيها أفكار فلسفية لا تقل مكانة وسمواً عن خلاصة التفكير الاغريقي، وكل ما يجب للوصول إلى هذه الأفكار هو استخلاصها من نصوص التوراة بطريق التأويل المجازي(44) رأى الكثير من أنصار التوفيق في الديانات الثلاث الكبرى ضرورة اصطناع هذا الطريق، طريق التأويل المجازي أو الرمزي! ولسبينوزا يرجع الفضل في اخراج الحضارة الغربية من مثل هذا "التيه"! فها هو ينتهي في رسالته ذائعة الصيت إلى أن حرية التفلسف لا تمثل خطراً على التقوى أو على السلام في الدولة بل ان القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها.
ثانياً، المقدس هو منبع التأمل ومصدر الشرعية!
للرواية كما أوضحنا منزلة عالية وأهمية عظيمة في "العلوم النقلية"، ولهذه الأهمية كان من الضروري أن يبرز ما يُحتاج إليه من وسائل كالإسناد وغيره من قوانين غاية فى الإحكام! وإذا نظرنا إلى الرواية قبل الإسلام لم نجد العرب قد عنوا بها أو بتصحيح الأخبار، وتمحيص المرويات العناية الكاملة، لأن مروياتهم لم يكن لها من القداسة ما يدعو إلى ذلك، ففيها الأساطير والأحاديث المختلفة. أما الرواية في الإسلام، فقد شدد العلماء فيها، وقعدوا لها القواعد، وصاغوا لها الشروط، وأصلوا لها الأصول بعناية هي الأدق، بحسب عمر هاشم، لقول النبي "إن كذباً على ليس ككذب على أحد، فمن كذب على فليتبوأ مقعده من النار". رواه الشيخان(45).

في "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" يقول مصطفى عبد الرازق: "الباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يجب عليه أولاً أن يدرس الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية(!!) منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نسقاً من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده. يجب البدء بهذا البحث لأنه بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، والترتيب الطبيعي يقضي بتقديم السابق على اللاحق، ولأن هذه الناحية أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثراً بالعناصر الأجنبية، فهي تمثل لنا هذا التفكير مخلصاً بسيطاً يكاد يكون مسيراً في طريق النمو بقوته الذاتية وحدها، فيسهل بعد ذلك أن نتابع أطواره في ثنايا التاريخ، وأن نتقصى فعله وانفعاله فيما اتصل به من أفكار الأمم".
وفي كتابه "فيلسوف العرب والمعلم الثاني"، صنف الشيخ مصطفى عبد الرازق في جرأة يُحسد عليه ، "ابن تيمية" ضمن الفلاسفة، جنباً إلى جنب مع "الكندي" و"الفارابي"، وكأنه لم يقرأ لشيخ الاسلام كتابه المهم "الحسبة ومسئولية الحكومة الاسلامية"، وكأنه أيضاً لم يقرأ لابن تيمية "رساله في الرد على الفلاسفة"! ولا ينبغى لقارئي أن يفهم من كلامي هذا، أى تهوين أو نيل من مكانة ابن تيمية، فما قصدت سوى تبرئة الرجل، من أمور لم يستسغها! لا أحط من الكذب على الموتى!
الشيخ مصطفى ولا أدرى أكان فعله هذا بوعي أم بلا وعي الحق بالفلسفة الإسلامية في مصرنا الحبيبة أشد الضرر، فحتى اليوم لا تزال جامعة القاهرة العتيقة تحتضن رؤيته هذه، دون أدنى تحفظ إزاء الطبيعة "النقلية" التي ورثها "علم الكلام" عن "الفقه"، والذي هو برأي الشيخ بداية التفكير الفلسفي في حضارتنا! الغريب أن الشيخ والمتأثرين به، وهم كُثرُ في دوائرنا الفكرية والأكاديمية، لم يكلفوا أنفسهم عبء إفهامنا: كيف للتفكير الفلسفي أن يقوى ويزدهر مع الالتزام على الأقل المُعلن من جانب المتكلمين بالمُقدس، كمنبع للتأمل، ومصدر لشرعية التفلسف!
ثالثاً، طبيعة "نفعية" واشتباك مع الهيئات الحاكمة:
لا يُمارس التفكير الفقهي إلا تحت إكراه التبجيل الدفاعي أو الهجومي أو الاثنين معاً، وذلك طبقاً لأوضاع المجتمع الاجتماعية والقانونية والسياسية..الخ ، فصاحب التفكير الفقهي مُكلف إما بمرافقة إرادات القوة والتوسع، وإما بتدعيم الأطر الثقافية القائمة والمهيمنة، من خلال مقاومة المشاريع المنافسة، وجعل هذه الأطر أكثر تخشباً وصلابة! طبيعة نفعية كهذه للتفكير الفقهي لا تنال بحالٍ من مكانته العظيمة.

علم الكلام موضوع هذه المقالة محض امتداد طبيعي للتفكير الفقهي، حتى أنه اُطلق عليه "الفقه الأكبر"(46)! أورث هذا علم الكلام بالطبع طبيعة "نفعية"!
في "رسالة التوحيد"، يقول الشيخ محمد عبده إن الغاية من هذا العلم "القيام بفرض مُجمَعٍ عليه، وهو معرفة الله تعالى بصفاته الواجب ثبوتها له مع تنزيهه عما يستحيل اتصافه به. والتصديق برسله على وجه اليقين الذي تطمئن به النفس اعتماداً على الدليل، لا استرسالاً مع التقليد، حسبما أرشدنا إليه الكتاب يقصد القرآن ".
محمد عبده أيضاً وبرغم تحفظاتنا على بعض آراءه المشوبه على ما يبدو بشيء من الغموض يكفينا عبء التأكيد على ذلك البون الشاسع الذى يفصل بين "الكلام" و"الفلسفة" من جهة "النفعية"! يقول الشيخ محمد عبده في الرسالة نفسها(47):
"أما مذاهب الفلسفة يقصد الشيخ في حضارتنا الإسلامية ، فكانت تستمد آراءها من الفكر المحض، ولم يكن من هم أهل النظر من الفلاسفة إلا تحصيل العلم والوفاء بما يندفع إليه رغبة العقل من كشف مجهول، أو استكناه معقول، وكان يمكنهم أن يبلغوا من مطالبهم ما شاءوا، وكان الجمهور من أهل الدين يكنفهم بحمايته، ويدع لهم من اطلاق الارادة ما يتمتعون به في تحصيل لذة عقولهم، وإفادة الصناعة، وتقوية أركان النظام البشري، بما يكشفون من مساتير الأسرار المكنونة...

"وما كان عاقل من عقلاء المسلمين ليأخذ عليهم الطريق أو يضع العقاب في سبيلهم إلى ما هدوا إليه .. لكن يظهر أن أمرين غلبا على غالبهم: الأول، الاعجاب بما نُقل إليهم عن فلاسفة اليونان، خصوصاً عن أرسطو وأفلاطون، ووجدان اللذة في تقليدهما لباديء الأمر. والثاني، الشهوة الغالبة على الناس في ذلك الوقت، وهو أشأم الأمرين. زجوا بأنفسهم في المنازعات التى كانت قائمة بين أهل النظر في الدين، واصطدموا بعلومهم في قلة عددهم مع ما انطبعت عليه نفوس الكافة، فمال حماة العقائد عليهم.

"وجاء الغزالي ومن على طريقته فأخذوا جميع ما وجد في كتب الفلاسفة مما يتعلق بالالهيات وما يتصل بها من الأمور العامة أو أحكام الجواهر والأعراض ومذاهبهم في المادة وتركيب الأجسام وجميع ما ظنه المشتغلون بالكلام يمس شيئاً من مباني الدين، واشتدوا في نقده، وبالغ المتأخرون منهم في تأثرهم حتى كاد يصل بهم السير إلى ما وراء الاعتدال، فسقطت منزلتهم من النفوس، ونبذتهم العامة، ولم تحفل بهم الخاصة، وذهب الزمان بما كان ينتظر العالم الاسلامي من سعيهم"
أما بخصوص اشتباك علم الكلام مع الهيئات الحاكمة، فليس ثمة صعوبة تُذكر أمام صاحب القراءة الأمينة والمنظمة، لحوادث تاريخنا الإسلامي، في تبين عمق هذا الاشتباك ومتانته! خذ مثلاً ذهاب الخليفة المأمون المعتزلي إلى اعتبار القرآن مخلوقاً في الزمان امتحان لا يجوزه إلا ثابتو الإيمان، وهو ما عُرف في التاريخ بالمحنة. وخذ أيضاً سنة خلفاء المسلمين في اختيار القضاة من بين الفقهاء والمتكلمين، فقد كان القرآن هو مرجع الشرع والقانون، ومن ثم كان "فقه القانون" فرعاً من الفقه وعلم الكلام. لكن القضاة سرعان ما وجدوا أنفسهم، في مواجهة كثرة الحالات غير المعروفة، مضطرين للاستعانة بالسنة وهكذا صار الحديث المصدر الثاني للتشريع.
ولماذا التاريخ؟! خذ مثلاً ما يحدث في دوائرنا الفكرية والأكاديمية، من جانب بعض القائمين على تدريس "حب الحقيقة والنُشدان الحُر لها" في معاهدنا العريقة! تجد أن تأثر هؤلاء بالتواجد الأخطبوطي لعلم الكلام واضح، وان "النفعية" قد انتقلت إلي نفوسهم، ومن ثم استعصى عليهم التمييز بين أسس التفكير الفقهي ونظيره الفلسفي! يحيي هويدي، أستاذ الفلسفة المرموق بجامعة القاهرة في ستينيات القرن الماضي، أحد هؤلاء الذين انتقلت إلى تفكيرهم الفلسفي "نفعية" التفكير الفقهي، فقد ألف كتيباً صغيراً بعنوان: "حياد فلسفي"، اكتفي هنا باقتباس فقرتين من مقدمته، دون تعليق(48):
"الفكرة الرئيسية التى تدور حولها صفحات هذا الكتاب الصغير، تتلخص في البحث عن امكانية قيام حياد فلسفي يساند، من قريب أو بعيد، الحياد السياسي الذى أصبح شعاراً لنا ولرابطة الشعوب الافريقية الآسيوية في المجال الدولي.
"وأسارع فأطمئن القاريء الأكاديمي الحريص على أن تظل الفلسفة بمنآه عن السياسة، أن هذا الكتاب لن يشتمل على أي إقحام متعمد للفلسفة في السياسة. على الرغم من أن هذا الإقحام ليس في حد ذاته عيباً. فما يجب أن تظل الفلسفة بعيدة عن واقعنا الثورى الذى نعيش فيه. والحق إنني لا أدري لم يستجيب الأدب والفن وجميع فروع الدراسات الانسانية لواقعنا الثوري على هذا النحو الرائع الذى نلمسه، ونطالب به، وننفذه في برامجنا، وتظل الفلسفة وحدها بمفردها بمعزل، مع أنه كان عليها باعتبارها علم المباديء أن تتقدم الصفوف استجابة لتلك الصيحات التى أخذت ترتفع من الكثيرين ومن الأدباء أنفسهم تنادي بضرورة اقدام الفلاسفة على مثل هذه الخطورة. وذلك من أجل أن يوضحوا للجميع بعض الأفكار والمفاهيم الجديدة التى يستخدمها كثير من الناس استخداماً غير موفق، وتتضارب الآراء بشأنها لا لشيء إلا لأنها لم توضع في الاطار الفلسفي المناسب".
رابعاً، الإنسان ليس مجرد حيوان مُطعم بالعقل:
يُعامل الإنسان في مجتمعاتنا الموغلة في التخلف على أنه "مجرد حيوان مُطعم بالعقل"! يعرف هذا بسهولة من يُخالط أبناء عالمنا العربي، بشقيه الفقير والغني ! ألم أقل ان نظمنا التربوية المُغرضة تستأصل، بدربة، من عقول وقلوب النشء ملكة النقد والابتكار! وان غرس اليقين، في العقول والقلوب، صيرنا بحق "أمة من غنم"!
من هنا، وفي ضوء ما نلمسه من تواجد أخطبوطي لعلم الكلام في حضارتنا الإسلامية، ليس أمام المرء سوى التساؤل حول مإذا كان هذا العلم "النقلي" ينظر إلي الانسان على أنه "مجرد حيوان مُطعم بالعقل على الأقل على الصعيد العملي " أم أن الانسان عنده أرقى وأسمى من ذلك؟ تساؤل كهذا، لابد وأن يُزعج عبيد المصالح، لحرصهم على ألا تتجاوز حريتنا ما يسمح به طول "الحبل" الذي يُحيط بمصائرنا!
أذكر أني وعلى غير عادتي ذهبت لحضور ندوة نظمتها "الجمعية الفلسفية المصرية" مشكورة، عن الراحل محمد أركون. وفيها دار نقاش طويل ومُكرر بين المتحدثين والحضور، حول العقل وتعريفه وماهيته وموقف الدين منه و..الخ! أذكر أيضاً أن أحد الحضور لا أذكر اسمه للأسف الشديد تساءل في حياء عن مدى مشروعية اختزال "الصيغة البشرية"، وهي الأرقى والأسمى، في مجرد "حيوانية مُطعمة بعقل استاتيكي جاف"! ولشد ما أدهشني أن كلمات الرجل، ورغم خطورتها وصلتها الوثيقة بفكر "الأنسني" الراحل أركون، لم تستوقف أحداً، لا من المتحدثين ولا من الحضور، بل وجدتهم يمضون قدماً في مناقشة موقف أركون مما أتصوره قضايا كلامية! ساعتها تأكدت من أن علم الكلام يطرد الفلسفة، وأنه بحق "مقبرة الفلاسفة"!
فرق شاسع بين نظرة علم الكلام إلى الانسان، وبين نظرة الفلسفة له! وهو ما يفسر عدم استساغة حضارتنا، وفي ظل التواجد الأخطبوطي لعلم الكلام، من علوم القدماء سوى المنطق، كونه يتعاطى مع العقل الجاف، ولسوف اقتبس هنا تعريف الغزالي لهذا العلم، لدلالته المهمة(49): "هو النظر في طرق الأدلة والمقاييس، وشروط مقدمات البرهان، وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه، وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان. وليس في هذا ما ينبغي أن يُنكر، بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات".
الفلاسفة في حضارتنا الاسلامية ومنهم العملاق ابن رشد ليسوا بعيدين كثيراً عن هذه النظرة الدونية لطبيعة الكائن البشري، كونهم لم يجرؤوا ربما لحداثة تجربتهم، واشتداد سطوة الفقهاء وعلماء الكلام على الذهاب إلى أبعد من الافتتان بأراء فلاسفة كأرسطو وأفلوطين ! هم مثلاً لم يُناهضوا الرق(50)، ولم يعيروا أى اهتمام للأدب اليوناني الخصب، رغم أنهم ورثة الكنز اليوناني الفلسفي العلمي والنظري ، وأنهم من نقلوه إلى أوروبا، بعد اغنائه قدر جهدهم! فالملاحظ أن أعمال الناثرين والمؤرخين، وكذلك الانتاج المسرحي اليوناني الهائل، الذى كان لابد لعصر النهضة الأوروبية من اتخاذه رافد الهام ومتكأ نحو المستقبل، والذى كان في مستطاع أبناء حضارتنا استنهاله بكل سهولة، لم تكن مؤثرة في نفوس مُبدعي حضارتنا(51)!
قارئي الكريم، أوردت في صدر هذه المقالة، قول أحد الحكماء إن الجهلاء هم الذين يظنون أن المباني الجميلة ومباهج الحياة وألوان الترف إن هي توافرت هي التي تشهد برقي الحضارة. وقوله أيضاً إن شعور الفرد بحريته وكرامته الإنسانية، هو برهان علو الحضارة دائماً وأبداً، هو ذلك الشيء الفذ الذي يجب الاهتمام به وتنميته إلى أقصى حد! أوردت أيضاً قول الحكيم نفسه انه ليس هناك ما يمكن أن يؤدي إلى مثل هذا الرقي كالتربية الخلاقة، وتزويد الفرد بالقدرة على قراءة الأمور بطريقة أمينة ومنظمة، تجعله قادراً على التفكير النقدي ودفع الحياة للأمام!
"كيف يمكن تفسير ذلك التعامي الواضح من جانب القائمين على تدريس الفلسفة عندنا عن هذا التجفيف المنهجي المُستدام لمنابع التفكير الفلسفي في مجتمعاتنا، من خلال غرس اليقين في عقول وقلوب النشء، بل وذهاب هؤلاء في تعاميهم إلى حد "التنطع"؟! وهل ثمة إمكانية للحديث عن وجود "تواطؤ" ما؟!". تلك تساؤلات، كنت قد وعدتك، قارئي الكريم، في صدر هذه المقالة، بالتحقق من مدى وجاهة طرحها.
تحقق كهذا الذى وعدت بالسعى لانجازه، لم يكن الاقتراب منه ممكناً، بدون استكشاف دهاليز "التفكير الفقهي"، وليس "الفلسفي"! لأنه لا يوجد "تفكير فلسفي" عندنا، ما يوجد هو "تفكير فقهي"، يُلقى في روع أبناء مجتمعاتنا البائسة أنه "تفلسف أو بحث حُر عن الحقيقة"، تُراعى فيه خصوصيتنا الحضارية!! وراء هذه المغالطة المشئومة وكما تبين صفحات هذه المقالة، يتمترس تجار الآلام وفلاسفة الضرار! وبفضل هذه المغالطة المشئومة يظل الانسان عندنا مسخاً باهتاً، بل وزاهداً في استكشاف نفسه والحياة، كأن عليهما قصاصة ورق تقول: "للمشاهدة فقط..لا تلمس هذه الأشياء"!
ما أقبح هذه المُزايدة الرخيصة والأبدية على خصوصيتنا الثقافية! وما أفبح خنوثة التخلف في مجتمعاتنا، تلك التى لطالما استعصت على التفكيك! الحق أنه لا أمل عندي في خلاص قريب لأبناء حضارتنا، فنفوسهم نزيلة "شرك" لعين غاية في الاحكام والمتانة، استثمر "الآخر المحلي" عبقريته الآثمة في تشييده، عبر مئات السنين، وأراه لم يخسر، لأنه لا خلاص لمسخ، وأبناء أمتنا على نحو ما نرى ، ما بين ممسوخ، أو صانع مسوخ! خاصة في عقود ما بعد الكولونيالية، أعني عقود ما بعد رحيل المستعمر الأوروبي عن بلادنا، وعودة "الآخرية المحلية/العربية"، في أشد صورها "خسة"، إلى الانفراد بمقاليد الأمور، مدعومة بالآخريتين العالمية والاقليمية!
الكتابة والبحث عندي كقتال فُرض على جندي، عليه فقط أن يُقاتل، وليس له أن يسأل عما إذا كان سينتصر أم لا؟ إذ لابد للانسان من قضايا يدافع عنها ويموت من أجلها، لا أن يقنع بحياة ذل، حريته فيها بمقدار ما يسمح به قيد "الآخر" اللعين!
والحمد لله أني أتيت إلى الوجود في هذه المرحلة المتقدمة نسبياً من مسيرة الجنس البشري على طريق الحياة، فما اُحرز من رقي معرفي، وما تركه لنا نبلاء الحضارات المختلفة، من روائع لا تموت، وما بلغه البحث والتقصى عن خبايا لطالما سُكت عنها في عصور الانغلاق والعزلة، على نحو ما حصل معنا، وما أزهق من نفوس طاهرة، سطر أصحابها بدمائهم الذكية وصايا الحرية والشرف والكرامة، كل هذه الأمور وغيرها، لم يعد معها بمقدور بشر أن يزعزع ايماني ب"الله والحرية"!
بقيت لي كلمة أخيرة، ألهمتني اياها أحداث "تونس" الأخيرة والتى سمعت بها بينما كنت أضع اللمسات الأخيرة لمقالتى هذه: إن القارىء النزيه والأمين لتاريخنا وحاضرنا وربما مستقبلنا أيضاً نحن العرب لا يجد ثورات بالمعنى الحقيقي، بل هيجان أغنام ساءها أن عصى الراعي غليظة، وأن ما هو مُتاح أمامها من علف وإناث لا يُوزع بينها بالعدل! هيجان كهذا ورغم احترامنا الكامل لخطورة دوافع أصحابه، تقتصر تداعياته، وكما يحكي التاريخ، على رموز نخبوية بعينها، يُضحى بها، لحماية البنية التحتية للتخلف، والحيلولة دون فتح أبواب الحرية أمام الهائجين!
الثورات الحقيقية، ليست كانقلابات العسكر، أو كهيجان مُتضرري البطالة والغلاء والفساد والمرض، فهي "ثقافية" في جوهرها، ينهض أنصارها، في اصرار وجلد، بعبء تفكيك البنى التحتية للتخلف في مجتمعاتهم! فلا تغيير حقيقي دون موقظين عظام، أعني "فلاسفة"، يعبدوا الطريق، ويحرروا النفوس وليس الأجساد فقط، من تيه لا يرحم، عبر التمكين المنهجي لحب الحقيقة، والنُشدان الحُر لها، في نسيج ثقافتهم المحلية! ولا تغيير حقيقي ما ذاعت دعاوي: التنوير الديني والتجديد الفقهي وتحويل العلوم النقلية إلى فلسفية..الخ(52)، كونها "ضرارية" لذاتها وليس لأصحابها!
أيها التائهون في صحراء "الكلام"، هلموا لقد طال السفر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.