ما من مسلم صادق وسليم الطوية إلا وينظر بعين التقدير والإجلال إلى السلف الصالح من أمة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - ويرى الاستغفار لهم والترحم عليهم، واتباع نهجهم دينا يدين الله – عز وجل- به إلى يوم القيامة، فنقرأ في كتاب الله تعالى عن قوم مدحهم سبحانه ووصفهم بقوله: ﴿والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم﴾،1 وهؤلاء هم أهل "المنهج السلفي الحق"،فإن كان الأمر كذلك، فلم تُصَوب سهام النقد إلى اتجاه – داخل أهل السنة- حاد عن ذلك المنهج، ونسب نفسه إلى السلف، وصادق وعادي على أساس الموافقة أو المخالفة لهم؟ وما نظرة هذا الاتجاه لقضية التقريب بين الشيعة وأهل السنة؟ وأين يتجلى التصحيح في نقد علماء أهل السنة له؟ وما هي معالم الخطاب السلفي؟ لعل في التعريف بهذا الاتجاه وبمقالاته، وفي عرض جوانب من الردود التصحيحية عليه ما يجيب عن هذه الأسئلة - وغيرها- ،ونقدم لذلك بالتنبيه على أن المسطور في هذه المقالة يناقش الأفكار لا الأشخاص،فمنهم الذين أفضوا إلى ما قدموا فحسابهم على الله،ومنهم من ينتظر،وهؤلاء فيهم الظالم لنفسه،وفيهم المقتصد،وفيهم السا.بق بالخيرات،ولذلك آثرنا الحديث عن خطاب بدرجة من النسبية لا التنميط المقترن بالتعميم. الاتجاه السلفي: الهوية والخطاب أولا:سؤال التعريف إن الجنوح إلى مسالك التعسير في الأحكام والفقه، والتشدد في مقتضيات التوحيد والعقيدة، والشدة على أهل الذنوب والمعاصي، والتوسع في التكفير وسم أفرادا وجماعات منذ ظهور الخوارج، فقد حكي ابن الأثير في حوادث سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة (323 ه) عن الحنابلة أنهم "قويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعامة، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلات الغناء، واعترضوا ما لا يقرون من أنواع البيع والشراء، كما اعترضوا مشي الرجال مع النساء والصبيان، وإذا رابهم شيء من أحد سألوا عن الذي معه ماهو؟ فأخبرهم وإلا شهدوا عليه الفاحشة (...) وزاد شرهم وفتنتهم واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد، فكان إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به أولئك العميان، فيضربونه بعصيهم حتى يكاد يموت"،2 وقد أراد الحاكم العباسي الراضي (محمد بن المقتدر)3 أن يصد فتنة هؤلاء المتشددين من الحنابلة فأصدر منشورا يقرأ عليهم جاء فيه: "... تزعمون أن صورة وجوهكم السمجة على مثال رب العالمين، وهيئتكم الرذيلة على هئيته (...) ثم طعنكم على خيار الأئمة، ونسبه شيعة آل محمد – صلى الله عليه وسلم - إلى الكفر والضلال (...) وإنكاركم زيارة قبور الأئمة، وتشنيعكم على زوارها بالابتداع (...) وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم، ومعوج طريقتكم، ليوسعنكم ضربا شديدا"4، كما صدر في عهده نداء "في الجانبين من بغداد ألا يجتمع اثنان من أصحاب أبي محمد البربهاري الواعظ الحنبلي، وحبس من أصحابه جماعة"،5 وقد قال ابن كثير عن البربهاري (ت 329 ه): "وكان شديدا على أهل البدع والمعاصي".6 وإذا تأملنا في منشور الراضي أمكننا التنبيه على بعض مظاهر الغلو والتشدد منها: 1- عدم تنزيه الباري جل وعلا عن التشبيه والتجسيد. 2- الطعن على العلماء وخيار الأئمة. 3- نسبة الشيعة- وإن تنزهوا عن مقالات الرفض- إلى الضلال والكفر. 4- إنكار زيارة القبور ونسبة زوارها إلى الابتداع. ولا يتأتى الحديث عن أسباب ظهور التمذهب بالسلفية دون الرجوع إلى الحركة الوهابية 7 التي اشتركت معها حركة الإصلاح الديني في مصر بزعامة محمد عبده والأفغاني في محاربة البدع والشركيات، مما جعل كلمة السلف تتحول "من شعار أطلق على حركة إصلاحية للترويج لها والدفاع عنها إلى لَقَب لُقِّب به مذهب يرى أصحابه أنهم دون غيرهم من المسلمين على حق، وأنهم دون غيرهم الأمناء على عقيدة السلف، والمعبرون عن مذهبهم في فهم الإسلام وتطبيقه"،8 وأصبح السلفي هو من "تمسك بقائمة من الآراء الاجتهادية المعنوية ودافع عنها، وسفه الخارجين عليها، ونسبهم إلى الابتداع سواء منها ما يتعلق بالأمور الاعتقادية أو الأحكام الفقهية والسلوكية".9 وعرف المنتسبون إلى السلفية بأسماء مختلفة، فسموا في بعض البلدان "بالسلفيين"،10 وفي أخرى "بأنصار السنة"،11ومنهم من تسموا "بأهل الحديث".12 ولقد كثر الحديث عن "الاتجاه السلفي" في السنين الأخيرة، نظرا لتطورات محلية وإقليمية وعالمية،مما يستدعي ذكر معالم الخطاب السلفي. ثانيا: معالم الخطاب السلفي يسلم هذا الخطاب – في البدء- بالانحراف الذي حدث في تاريخ المسلمين في شتى النواحي والمجالات، ومن ثم فإنه لم يتردد في وضع تصوره لسبل النهوض والتغيير، ولم يختلف المعنيون بالعمل الإسلامي والإصلاح الديني مع الاتجاه المذكور في الكثير من عناوين ذلك التصور، وإنما اختلفوا معه في التفاصيل والأساليب والأولويات. 1- المرجعية الفكرية والتربوية: يحدد الخطاب السلفي مرجعيته الفكرية والتربوية في "أهل الحديث" إذ إن "المتتبع لأحداث الزمن على مر العصور يرى بجلاء ووضوح أن أشد الناس تمسكا بسبيل أهل القرون الثلاثة التي شهد لها النبي – صلى الله عليه وسلم - الخيرية هم أهل الحديث، فإذا عرفنا ذلك ووعته قلوبنا، وعقلته أفهامنا لا بد أن نعرف كيفية سلوك هذا السبيل"،13 وقليل هم الذين اهتدوا لهذا السبيل (!) "إذ معظم الحركات الإسلامية، وسائر الجماعات الدعوية هذه تدعى دونما تطبيق لها ودونما معرفة عملية لكيفية سلوك هذا السبيل".14 ولهذا السبيل نهج ورجال " فالناظر في سير علماء أهل الحديث على مر الأعصار، وفي مختلف الأمصار يرى أنهم كانوا يتبعون نهجا متشابها في الدعوة إلى الله، وهو نهج العلم والتعلم (...) وصورة هذا النهج تبدو جلية واضحة – على سبيل المثال- في شخصين عظيمين في التاريخ الإسلامي: - الشخصية الأولى: الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله-. - الشخصية الثانية: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني – رحمه الله-".15 2- سبل التغيير والإصلاح: يتم التغيير وفقا لنهج "أهل الحديث" على مرحلتين: تسمى الأولى "تصفية" أي "تصفية الإسلام بسائر مجالاته مما هو غريب عنه"،16 وتسمى الثانية "تربية" أي "تربية الأجيال المسلمة المعاصرة والناشئة على هذا الإسلام المصفى".17 ومجالات التصفية ثمانية هي: أولا: العقيدة "إذ لابد من تصفية العقيدة الإسلامية السمحة مما علق بها من شرك وتأويل"،18 وقد غلا الاتجاه السلفي وتشدد في مقتضيات العقيدة الصحيحة، فنقل مسائل النذر، والذبح، والتوسل، والشفاعة، وزيارة القبور، والبناء عليها، وغير ذلك إلى أبواب التوحيد، وقعد ذلك النقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونسب من خالفه في تلك المسائل إلى الشرك،19 فذكر أربعة قواعد "من قواعد الدين يميز بهن المسلم دينه من دين المشركين: - القاعدة الأولى: أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كانوا مقرين بتوحيد الربوبية (!) يشهدون أن الله هو الخالق الرزاق المحيى المميت المدبر لجميع الأمور، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام (...). - القاعدة الثانية: إن الكفار الذين قاتلهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ما أرادوا ممن تصدوا إلا قربة وشفاعة - القاعدة الثالثة: إن الله بعث النبي – صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الأرض وهم على أديان مختلفة، وعبادات متفرقة، منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد النبيئين الصالحين، ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار، وقاتلهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ولم يفرق بينهم. - القاعدة الرابعة: إن الكفار الذين قاتلهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كانوا يخلصون في الشدة، ويشركون في الرخاء (...) وأهل زماننا هذا يشركون في الشدة وفي الرخاء كذلك".20 وبناء على هذه القواعد يُلحق المسلمين الذين يقولون بالشفاعة أو زيارة القبور بالكفار، ويَعُد عشرة مسائل من نواقض الإسلام ذكر منها: "أولا: الشرك في عبادة الله، ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعا. الثالث: من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر".21 ثانيا: التحاكم "فلا حكم بحق إلا لله، ولا احتكام بحق إلا إلى الله، فقد انزل الله سبحانه كتابه للناس كافة ليكون هو مصدر التشريع، وإليه الرجوع عند التنازع والاختلاف، وليكون حكما عادلا في كل شأن من شؤون الحياة".22 ثالثا: السنة: "فلابد من تكاثف الجهود العلمية لتصفية كتب السنة مما هو دخيل عليها"،23ويشيد الاتجاه السلفي في هذا الباب بجهود الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في تصفية الأحاديث من الروايات الضعيفة والمكذوبة، فظهرت له: سلسلة الأحاديث الصحيحة، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء على الأمة. رابعا: الفقه: "فواجب تصفية الفقه الإسلامي مما شابه من اجتهادات مخالفة للكتاب أو السنة"،24 ويدخل في تصفية الفقه عدم إلزام الناس باتباع المذاهب الأربعة المعروفة، وقد صنف الشيخ محمد بن سلطان المعصومي لإثبات ذلك كراسا سماه (هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة؟)، اعتبر فيه المذاهب مجرد "آراء أهل العلم وأفهامهم في بعض المسائل واجتهاداتهم، وهذه الآراء والاجتهادات لم يوجب الله تعالى ولا رسوله على أحد إتباعها"،25 واعتقد "أن المذهب الحق الواجب الذهاب إليه والاتباع له هو مذهب سيدنا محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ثم مذهب خلفائه الراشدين – رضي الله عنهم-"،26 ويتساءل: "فمن أين جاءت هذه المذاهب، ولماذا شاعت وأُلزمت على ذمم المسلمين؟"،27 بينما أمر الاجتهاد – في رأيه- سهل "لا يحتاج أكثر من الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود وجامع الترمذي والنسائي، وهذه الكتب معروفة مشهورة يمكن تحصيلها في أقرب مدة، فعليك بمعرفة ذلك، وإذا لم تعرف ذلك وسبقك إليه بعض إخوانك، وفهمك باللسان الذي أنت تعرفه لم يبق لك عذر".28 خامسا: التفسير: فكتب التفسير "بحاجة ماسة إلى تصفية، ويدخل في التصفية لكتب التفسير الرد على مخالفي الحق من المفسرين كما فعل كثير من دعاة أهل الحديث"،29 منهم "الألباني والرازي والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ سفر الحوالي والشيخ محمد زينو وغيرهم"،30 أما الثعلبي والرازي والبيضاوي والنسفي وأبو السعود وسيد قطب وفريد وجدي والصابوني والمراغي وغيرهم "فهؤلاء كلهم ذوي تفاسير مخالفة لمنهج السلف الصالح".31 سادسا: التزكية: ومجالها قلب المؤمن ليحصل له القرب من خالقه ويعمل على طاعته، وقد وضح سبيلها صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم بما لا مزيد عليه لأحد، وما "دخل في التزكية من أباطيل وخرافات صوفية فلسفية يجب تصفيتها وتنقيتها حتى ترجع التزكية سبيلا واضحا لا لبس فيه ولا غبار عليه".32 سابعا: الفكر: يؤمن الخطاب السلفي أن انحراف الفكر حصل بسبب الابتعاد "عن نهج أهل الحديث في فهم الدين والدعوة، فيكون مقدار انحرافه بقدر بعده عن ذلك النهج السديد في فهم الدين"،33 ويعتبر من أمثلة الفكر المنحرف "الذي قد يصل إلى درجة الردة فكر الشيعة الاثنا عشرية الروافض ومن على شاكلتهم".34 ثامنا: التاريخ: فيتعين تصفيته من "القصص المخترعة التي فيها القدح المقذع بعلماء الإسلام وهداة الأنام، وذلك بتأصيل القواعد، وتثبيت الأسس حتى لا تنفذ من بين هذه القواعد والأسس فرية أو خرافة تؤجج نارا أو تشعل فتنة.35 وبعد التصفية التي تتناول هذه المجالات الثمانية تأتي التربية التي هي إنشاء أجيال على هذه المعاني الصحيحة والصافية.36 وكثر التصنيف في كل مجال من المجالات المذكورة، فصدرت الكتب تباعا ضمن سلسلات عديدة عن أفراد أو عن مؤسسات ولجان، وقد رأى أصحابها أنهم يتبعون في تأليفها "منهج السلف الصالح" لأن "من ينحو في الاعتقاد منحى السلف ينفض يديه من المبتدعة ويغسل كتبه من الخلفية"،37 وهي كتب تصدر في طبعات فاخرة تشد الأنظار، ويتميز أغلبها بصغر الحجم وبساطة الأسلوب مما يسهل عليها التواصل مع فئات واسعة من المسلمين ذوي الثقافة المتوسطة، والبضاعة القليلة في العلوم الدينية، فأول ما يقع عليه بصر الشاب أو الشابة ذوي العهد الحديث بالتوبة في المكتبات تلك الكتب، فيخرجان – إن لم يجدا المرشد- على المجتمع بالتكفير والتبديع.38 وقد حظي تصنيف الكتب في التوحيد والعقيدة بالأهمية القصوى منها: العقيدة الصحيحة وما يضادها،39 أضواء على كتب السلف في العقيدة،40 وقفات مع عقيدة السلف،41 حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد،42 الإرشاد إلى توحيد رب العباد.43 وصدرت كتب أخرى تشيد بأعلام الخطاب السلفي وترد على مخالفيه منها : الممتاز في مناقب ابن باز،44 كلمة حق في الدفاع عن علم الأمة محمد ناصر الدين الألباني،45 نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين،46 الكشاف عن ضلالات حسن السقاف،47 تحذير الإخوان من انحرافات عبد الرحيم الطحان.48 3- المسألة المذهبية: لقد حدد الخطاب السلفي مواقفه من الشيعة والتشيع، وعرف بخصومته الشديدة لهم، انطلاقا من التركيز على الفترات السوداء والمظلمة في تاريخ العلاقة بين الشيعة وأهل السنة، واستغل وجود بعض العقائد التي هي محل خلاف بين جمهور المسلمين والشيعة لينتصر لرأيه القائل بالاستحالة المطلقة للتقريب معهم،49 وشكل كتاب ابن تيمية (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) القاعدة النظرية التي ينطلق منها الاتجاه السلفي في حملاته على "ضلالات الشيعة وبدعهم"،ومن قَبْلُ تم السعي إلى فرض التصور الوهابي للدين وقضايا التوحيد على الجميع بمن فيهم الشيعة باعتبارهم كلهم"رافضة"، ففي عام 1927 أصدر خمسة عشر عالما سعوديا بيانا جاء فيه : "...أما الرافضة فقد افتينا للامام ابن سعود ان يُلزمهم البيعة على الاسلام ، ويمنعهم من اظهار شعائر دينهم الباطل ، و على الامام ان يلزم نائبه في الاحساء ان يحضرهم عند الشيخ (ابن بشر) و يبايعوه على دين الله و رسوله... و يلزمهم بتعليم (ثلاثة الأصول) – وهو كتاب للشيخ عبد الوهاب – و مَن أبى قبول ذلك ينفى من بلاد المسلمين...و أما رافضة العراق الذين انتشروا وخالطوا بادية المسلمين فأفتينا الامام بكفهم عن الدخول في مراعي المسلمين و أرضهم "50 وصدرت في هذا المضمار – أيضا- كتب بأسماء حقيقية ومستعارة تدلي برأيها في الشأن المذهبي والشيعي منها: (وجاء دور المجوس) و(أمل والمخيمات الفلسطينية) لمؤلفهما عبد الله الغريب (!)، يحمل الكتاب الأخير على غلافه صورة لخريطة إيران ترى فيها النار منبعثة من طهران، وصدر للدكتور عبد المنعم النمر كتاب (المؤامرة على الكعبة) يصف فيه تحرك الشيعة بعد الثورة الإيرانية وإبان الحرب التي شنها العراق بأنه "تحرك دولة الشيعة الاثنا عشرية، دولة الخميني الذي بدأ منذ ولي حكم إيران يتحرش بحكام العرب وبالعراق العربي ليؤسس فيه دولة شيعية تحت سلطانه، ومن العراق تنساب جيوشه على الجنوب، ليُخضع الدول العربية السنية إلى سلطانه ويفرض عليها مذهبه"،51 وصدر ضمن سلسلة 'لكي لا نخدع' للشيخ محمود سعد ناصح كتاب (موقف الخميني من الشيعة والتشيع) طبع على نفقة دار النشر السلفية بالكويت بموافقة الدكتور تقي الدين الهلالي الذي أوضح المراد من إصدار الكتاب بقوله: "ومراد جماعة دار السلفية في الكويت تنبيه إخوانهم في المغرب ويحذرونهم من الوقوع في حبائل الدعوة الخمينية، فجزاهم الله عن إخوانهم أهل المغرب أحسن الجزاء"،52 ويخلص مؤلف الكتاب إلى القول: "إن الباحث المتعمق في دراسة مذهب أهل السنة والجماعة، والشيعة الجعفرية الإمامية، لابد وأن يصل إلى نتيجة حتمية هي أنه لا يمكن أن يتلاقى المذهبان، ولا يمكن أن يتقاربا، إلا إذا استطعنا أن نجمع بين النقيضين كالجمع بين الليل والنهار، والحر والقر في آن واحد (...) إن دعاة التقريب يعلمون أنه لا سبيل إلى التقريب إلا بأن تتحول السنة إلى شيعة، أو الشيعة إلى سنة، وبغير ذلك فلا تقارب ولا تقريب".53 وجرت إدارة ترجمان السنة54 على نشر كتب للشيخ إحسان إلهي ظهير يعرض فيها للشيعة وتاريخها ومقالاتها في الأصول والفروع، على نحو يؤكد مقالته القاضية باستحالة التفاهم مع الشيعة: من تلك الكتب: الشيعة والسنة، الشيعة وأهل البيت، الشيعة والتشيع، والشيعة والقرآن، فيقول عنها: "ولعلنا لا نكون مخطئين ولا مبالغين عندما نقول إن هذه الكتب الأربعة تغني الكثيرين في معرفة الشيعة والتشيع".55 ولم تفلح محاولات بعض علماء الشيعة الانفتاح على الاتجاه السلفي، بل كانت كثيرا ما تلقى صدودا وإعراضا، فيحكي الشيخ مرتضى العسكري عن احد أسفاره إلى الديار المقدسة بقصد الحج في عهد الملك عبد العزيز آل سعود فيقول: "... وفي المدينةالمنورة بلغ عميد الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز خبر لقاءاتي بالوفود الإسلامية، ورغب في أن أزور عميد الجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة،وكانت جديدة التأسيس،ولما استقر بنا المقام،بدأت بعد حمد الله والثناء عليه بتقديم تحايا علماء المسلمين في العراق لهم، وتهانيهم بتأسيسهم الجامعة الإسلامية في المدنية المنورة (...) وأتممت الحديث وجاء دور مضيفي الشيخ بن باز للحديث، وكان قد أنبئ بأني من أتباع مدرسة أهل البيت، وكان ضريرا لا يبصر، فإذا به يتنحنح ثم يقول بالحرف الواحد: أنتم مشركون (!) أسلموا ثم أطلبوا من المسلمين أن يتحدوا معكم، فثار الدم في عروقي، واشتركت معه في نقاش طويل".56 وبلغ الاصطدام المذهبي أوجه بين الوهابيين والشيعة بوقوع مجزرة كربلاء عام 1802م وقد أرخ لها ابن بشر بالقول:" ان سعود سار بالجيوش المنصورة و الخيل العتاق المشهورة ، من جميع حاضر نجد و باديها ، و الجنوب و الحجاز و تهامة و غير ذلك ، و قصدوا أرض كربلاء و نازل أهل بلد الحسين ، فحشد عليها المسلمون و تسوروا جدرانها ودخلوها عنوة ، و قتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت ، و هدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين ، و أخذوا ما في القبة و ما حولها ، و اخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر و كانت مرصوفة بالزمرد والياقوت و الجواهر ، و أخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الاموال والسلاح واللباس و الفرش و الذهب و الفضة و المصاحف الثمينة و غير ذلك مما يعجز عنه الحصر ولم يلبثوا فيها الا ضحوة و خرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الاموال ، و قتل من أهلها قريب الفي رجل ، ثم ان سعودا ارتحل منها فجمع الغنائم و عزل أخماسها ، و قسم باقيها على المسلمين غنيمة للرجل سهم وللفارس سهمان " .57 وهكذا أراد الاتجاه السلفي لخطابه أن يكون شاملا، يدور حول محور رئيسي هو تقرير أمور التوحيد والعقيدة وفق المنهج الذي أرساه – في نظره- أصحاب الحديث وطوره ابن تيمية، وخرج محمد بن عبد الوهاب على المسلمين بالسيف دفاعا عنه، بشكل صار المخالف لذلك الخطاب "أحد أعداء أهل السنة والجماعة 58 أو متعصبا جائرا".59 وتعقد المشهد السلفي بعد حرب الخليج الأولى التي أعقبت احتلال صدام للكويت،ودخول الجيوش الأمريكية إلى الجزيرة العربية،وتم الاحتجاج على المملكة العربية السعودية بنفس المقولات التي كانت تدعو وتنفق الأموال الطائلة للترويج لها،بدأ الاحتجاج بالخطب والبيانات وتصريحات الشجب والاستنكار من بعض رموز الحركة السلفية كأسامة بن لادن،ولما ظهر لها أن شيئا لم يتحقق اتجهت صوب استعمال القوة،وبدأ الحديث عن تنظيم "القاعدة" الذي تشكلت نواته من"الأفغان العرب"،وصار لكل بلد عربي ومسلم "قاعدته" إما وهميا من صنع الدوائر المخابراتية ،وإما حقيقيا من صنع حب الرئاسة والزعامة والجهل بفقه الأولويات والمقاصد الشرعية،بل إن أهم مرجع للحركة السلفية المعروف بولائه المطلق للسلطات السعودية وهو الشيخ بن باز كاد يصطدم بها أول أمرها في عهد الملك عبد العزيز احتجاجا على ما اعتبره تدخلا سافرا للأمريكان في شؤون البلاد عام 1944 وعبر عن موقفه في خطبة قال في جزء منها:" إن الملك خان الأمانة و باع الوطن للأجنبي ، وقد رأيت بعيني الأمريكان يستولون على الأرض و يزرعونها في الخرج ويسخرون العمال السعوديين ويشقون الطرق ويستعملون الماء النفيس كما يحلو لهم ... فهل من حق الملك أن يبيع بلادنا وميراث أجدادنا للمشركين؟". فبعث إليه الملك واستقبله وقال له: - إذا كان لديك ما تعترض عليه فقله علانية، لأن الإسلام يطلب مواجهة الحاكم لا توجيه الاتهامات من خلف ظهره. فوقف الشيخ وقال أمام الجميع: إن الملك يبيع البلاد والناس للكفار وهذا يخالف التزاماته كحاكم مسلم وحامي الحرمين والمشاعر. ثم قال له الملك: هل قلت كل ما عندك؟ فأجاب بالإيجاب ، عندها نزل الملك عن العرش وتقدم فوقف إلى جانبه قائلا: - أنا لست الآن إلا مجرد مسلم أطلب أن يحكم بيننا بالشرع ، أنا عبد العزيز أطلب من القضاة والعلماء أن يفصلوا فيما بيننا. ثم التفت للعلماء وقال: - أفتوني.. هل استخدم النبي غير المسلمين من أهل الكتاب والمشركين؟ ثم استعرض الملك الحالات التي وردت في السيرة ، فرد العلماء بالإجماع.. إن الملك صادق فيما قال. فعاد الملك يسأل: فهل خرجت أنا على الشرع ، إذا اتبعت سنة رسول الله ، واستخدمت خبراء أجانب للعمل لحسابي تحت توجيهاتي لزيادة موارد البلاد ، ويستخرجون لصالحنا المعادن والنفط و الماء وما سخره الله من خير لبلادنا؟ فرد العلماء: انه لم يخطئ فسأل الملك الشيخ : هل رضيت؟ قال الشيخ: أنا أطيع قرار العلماء ولكن لم يطمئن قلبي قال الملك: لقد احتكمت للشرع ، وقرر علماء الشرع أنني على حق وأنت المخطئ.. فإذا لم تعتذر خلال 24 ساعة فسوف أقطع عنقك. وأخذ الشيخ تحت الحراسة. وانفض المجلس.60 فكيف إذا تصدى علماء وباحثو أهل السنة لنقد الاتجاه السلفي؟ "السلفية" في ميزان التصحيح لقد تصدى علماء كبار من أهل السنة لتفنيذ المفاهيم الخاطئة لمعنى السلفية، والرد على الاتجاه السلفي،سنقتصر على ذكر أسماء أربعة منهم وهم: الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والشيخ محمد الغزالي – رحمه الله- والشيخ يوسف القرضاوي والدكتور حاكم المطيري . 1- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: وهو أكثر من توسع في نقد الاتجاه السلفي، إذ صدر له في هذا الباب كتابان: أولهما كتاب (اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية)،61 وثانيهما (السلفية مرحلة زمنية لا مذهب إسلامي)، وانتهى في الكتاب الأخير إلى حكم حاسم أجمله في قوله: "التمذهب بالسلفية بدعة لم تكن من قبل"،62 أما حيثيات هذا الحكم فذكر منها: أ- إن السلف الصالح لم يتخذوا من كلمة (السلف) علامة لأي وجود فكري أو اجتماعي يميزهم عن باقي المسلمين، بل كانت كلمتا السلف والخلف تعنيان في أذهانهم ما تعنيه كلمتا قبل وبعد.63 ب- بعد ظهور حركة الإصلاح الديني بمصر، راجت كلمة السلف والسلفية بين أتباع المذهب الوهابي، فاستبدلوا بكلمة الوهابية – التي تعني الانتماء إلى محمد بن عبد الوهاب- كلمة "السلفية" وراحوا يروجون هذا اللقب الجديد عنوانا على مذهبهم القديم المعروف، ليوحوا إلى الناس بأن أفكار هذا المذهب لا تقف عند محمد بن عبد الوهاب.64 وتجدر الإشارة إلى أن أشهر من رد على محمد بن عبد الوهاب هو أخوه سليمان بن عبد الوهاب بكتابين اثنين هما: (فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب) و(الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية).65 في الكتاب الأخير يتعقب الشيخ سليمان بن عبد الوهاب بالنقد رأي الوهابيين في بعض المسائل التي ألحقوها بباب التوحيد فيقول: "المطلوب منكم هو الرجوع إلى أهل العلم، والوقوف عند الحدود التي حدوها، فإن أهل العلم ذكروا في كل مذهب الأقوال والأفعال التي يكون بها المسلم مرتدا، ولم يقولوا: من نذر لغير الله فهو مرتد، ولم يقولوا: من طلب من غير الله فهو مرتد، ولم يقولوا: من ذبح لغير الله فهو مرتد، ولم يقولوا: من تمسح بالقبور وأخذ من ترابها فهو مرتد كما قلتم أنتم، (...) ومعلوم عند الخاص والعام أن هذه الأمور ملأت بلاد المسلمين من أكثر من سبعمائة سنة، وإن أهل العلم لم يكفروا أهل هذه الأفاعيل، ولم يجروا عليهم أحكام المرتدين، بل أجروا عليهم أحكام المسلمين".66 ونفى الشيخ سليمان بن عبد الوهاب عن أخيه أهلية الاجتهاد فقال: "يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا ولم يكن فيه خصلة واحدة من خصال أهل الاجتهاد، لا والله عشر واحدة، ومع هذا راح كلامه على كثير من الجهال"67 :"وقال أيضا:" إنكم الآن تكفرون من شهد ان لا اله الا الله وحده وان محمدا عبده ورسوله واقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسوله ملتزما لجميع شعائر الاسلام وتجعلونهم كفار او بلادهم بلاد حرب"68 وقال: :" ياعباد الله تنبهوا و ارجعو الى الحق وامشوا حيث مشى السلف الصالح وقفوا حيث وقفوا ، و لا يستغركم الشيطان ويزين لكم تكفير أهل الاسلام وتجعلون ميزان كفر الناس مخالفتكم وميزان الاسلام موافقتكم "69 ومما أثار على الوهابيين نقمة سائر المسلمين تهديمهم لقبور ومشاهد الصحابة وأئمة أهل البيت والعلماء، يقول الشيخ حسن بن حسن خزبك: "فقد هدموا في مكة مولد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكذلك مولد سيدنا أبي بكر، وسيدنا علي، وبيت السيدة خديجة أم المؤمنين، ثم دار الأرقم، ومسجد الجن، ومسجد الكوثر والقباب الموجودة في المعلى، وأما في المدينة فقد هدمت المزارات الموجودة في البقيع جميعها، وكذا مسجد سيدنا حمزة، والمزاران الكائنان عند جبل أحد".70 أما التوسع في التكفير فيكفي استدلالا عليه وصف ابن بشر لخضوع أهل القصيم للأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود عام 1179ه وكأن الأمر لا يتعلق باقتتال طائفتين من المؤمنين ، فيقول:" "وفد عليه أكثر أهل القصيم فدخلوا في الاسلام وخرجوا مما كانوا فيه من عبادة الأوثان ، فأخذ عبد العزيز عليهم العهد ووضع عندهم معلمين يعلمونهم التوحيد والشرائع والاحكام. وأغار سنة 1184 على المحمرة والحائر ، فلم يجد أهل البلد الا الاذعان ، فدخلوا في الاسلام وبايعوا عبد العزيز والتزموا السمع والطاعة"71. ج- النتائج والآثار الضارة التي ألحقت بالأمة الإسلامية بسبب ظهور التمذهب بالسلفية، ولبيان تلك الآثار اقتصر الدكتور البوطي على ذكر أمرين اثنين هما: الأول: آثارها السلبية على وحدة المسلمين وتماسكهم وتآلفهم وتعايشهم. الثاني: وجد أرباب المذاهب المادية وأصحاب العقليات العلمانية في بروز هذا الاتجاه (السلفي) مرتعا خصبا للترويج لآرائهم القاضية بعدم خلو تاريخ أمة من صراع – ذي خلفيات مادية وإنتاجية- بين أنصار القديم الجامد، والجديد المتحرر والمتطور.72 د- إن الأتباع الصحيح للسلف الصالح هو الالتزام بالمنهج الذي تمسكوا به وسلكوه في فهم الكتاب والسنة، وطور الخلف هذا المنهج بعد أن اكتشفوه اكتشافا، ولم يكن بينهم وبين السلف تناقض أو صراع، فكان يحتكم إلى ذلك المنهج في حال الاتفاق والاختلاف.73 وحدد الدكتور البوطي معالم ذلك المنهج فقسمه إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: عبارة عن جملة قواعد يعرف بها الخبر الصحيح من الضعيف،74 ووضع علماء الحديث – تتمة لتلك القواعد- ضوابط للمعرفة بالرواة في ما سمي بعلم الجرح والتعديل.75 الجزء الثاني: يعتبر بمثابة ميزان لفهم النصوص وتحديد دلالتها، ويشتمل هذا الميزان على ثلاثة عناصر: مدخل وباب وتتمة،76 فالمدخل يبين مصادر أحكام الإسلام ومبادئه،77 والمتفق عليه منها أربعة مصادر وهي: القرآن والسنة والإجماع والاجتهاد،78 واللباب له صلة بتقرير قواعد اللغة العربية المرعية في تفسير النصوص،79 وتشتمل التتمة على شروط المفتي والمستفتي، أي "الشروط التي يبلغ بها المسلم الباحث درجة الاجتهاد، والأحكام المتعلقة به عندما يصل إلى هذه الرتبة، كما تتضمن التعريف بمن لم يبلغ الدرجة، وهو من يسمى بالمتبع أو المقلد".80 ولم يفت الدكتور البوطي في سياق بسطه للمنهج الجامع أن ينبه على جوهر الخلاف بين الشيعة وأهل السنة المتمثل في مسألة الإمامة، فأكد-من أجل قطع الطريق على المكفرين ومسعري نيران النزاع المذهبي- على " أن إنكار إمامة الشيخين، وهو مذهب يراه كثير من الشيعة ليس كفرا، وإن كان خروجا على الإجماع، وخروجا على ما يقتضيه المنهج المحكم".81 ومن المفاهيم الخاطئة التي تصدى للرد عليها الدعوة إلى التعامل المباشر مع كتب السنة المشتملة على أحاديث الأحكام دون النظر إلى المذاهب بدعوى أن "المذهب الحق الواجب الذهاب إليه، والاتباع له هو مذهب سيدنا محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو الإمام الأعظم الواجب الأتباع"،82 فرفض الشيخ البوطي هذا الرأي لأن المسلمين يتبعون الرسول – صلى الله عليه وسلم- لأنه مبلغ عن الله عز وجل، ويأخذون عن الأئمة المجتهدين من حيث كونهم مبلغين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ،83 وينهي عرضه لأجزاء ذلك المنهج الجامع بقوله: "فمن التزم جادة هذا المنهج في اعتقاده وسلوكه كان من أهل السنة والجماعة (...) سواء أكان من الرعيل الأول وسلف هذه الأمة، أم جاء على أعقابهم وعاش مع الخلف أو خلف الخلف".84 لقد تبين بما ذكر إن الدكتور البوطي عالج مسألة السلفية من عدة جوانب: من جانب المعنى الصحيح للتمذهب بالسلفية، ومن جانب بيان المنهج الجامع الذي سار عليه السلف في فهم الكتاب والسنة، واحتكم إليه الخلف بعد أن أضافوا إليه وطوروه، ومن جانب حكم التمذهب بالسلفية. 2- الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله- لهذا الرجل مواقف مشهودة في محاربة الانحراف ، وملاحقة مظاهر التعصب والنزاع المذهبي، وبناء تقاليد أصيلة للنقد الذاتي والتصحيح، وترشيد الصحوة الإسلامية، وتوضيح المفاهيم الصحيحة للسلفية، فدعا إلى سلفية واعية،85 وإلى سلفية في إطارها الصحيح86 بعد أن لاحظ ظهور "نوع آخر من التعصب: جماعة يتسمون "أهل الحديث" يفهم أحدهم في الخبر المروي فهما معينا، فإذا خالفته في فهمه اتهمك بأنك تخالف السنة، أو تخاصم الرسول – صلى الله عليه وسلم -"،87 ويخطئ بعض المفاهيم هذه الجماعة لمعنى السلفية فيقول: "والسلفية ليست فرقة من الناس تسكن بقاعا من جزيرة العرب، وتحيى على نحو اجتماعي معين (...) وقد رأيت أناسا يفهمون السلفية على أنها فقه أحمد بن حنبل – رحمه الله- وهذا خطأ (...) ورأيت ناسا يفهمون السلفية على أنها مدرسة النص، وهذا خطأ".88 والصحيح المعتبر عنده في معنى السلفية أنها "نزعة عقلية وعاطفية ترتبط بخير القرون، وتعمق ولاءها لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتحشد جهود المسلمين المادية والأدبية لإعلاء كلمة الله دون نظر إلى عرق أو لون".89 أما المسائل التي يكثر الخطاب السلفي من ذكرها في باب التوحيد والعقيدة – تبعا للمذهب الوهابي- كالنذر والذبح وزيارة القبور والتوسل وغير ذلك، فللشيخ الغزالي فيها رأي، إذ يقول: "ما يسمى الآن سلفية، ويقترح سبيلا للعودة شيء غريب حقا، لأنه يتضمن جملة ضخمة من القضايا الطفيلية التي كان ينبغي أن تموت مكانها، ولا تكلف الأجيال بدراستها، وإذا جاز تناولها بالشرح فبين بعض الأخصائيين، أو عند شرح طائفة من الأحاديث المروية، أو عند ذكر الأقوال في تفسير آية من الآيات، أما إيهام الجماهير بأن هذه القضايا عقائد من صلب الإيمان، وأن تجاوزها خروج على الدين فذلك باطل".90 ولا يختلف الشيخ يوسف القرضاوي فيما يكتبه حول التصحيح والإصلاح عن الشيخ رمضان البوطي والشيخ محمد الغزالي، فيتحدث عن "لباب المنهج السلفي الحق"، فيقول: "هو منهج يقوم في جملته على أصول ومبادئ هي: أولا: الاحتكام إلى النصوص المعصومة لا إلى أقوال الرجال. ثانيا: رد التشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات. ثالثا: فهم الفروع والجزيئات في ضوء الأصول والكليات. رابعا: الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد، وذم الجمود والتقليد. خامسا: الدعوة إلى الالتزام لا التسبب في مجال الأخلاق. سادسا: الدعوة إلى التيسير لا التعسير في مجال الفقه. سابعا: العناية بغرس اليقين لا بالجدل في مجال العقيدة. ثامنا: الدعوة إلى التبشير لا التنفير في مجال التوجيه. تاسعا: العناية بالروح لا بالشكل في مجال العبادة. عاشرا: العناية بالاتباع في أمور الدين والاختراع في أمور الدنيا"،91 ثم يضيف: "فهذا هو لباب منهج السلف الذي تميزوا به، وتربى في رحابه أفضل أجيال الأمة علما وعملا".92 3- الدكتور حاكم المطيري: لايمكن للمرء أن يتحدث عن السلفية بدون الحديث عن علم من أعلامها المعاصرين الكبار،وهو الدكتور حاكم المطيري الذي عالج مسألة شائكة وحساسة لدى جميع التيارات السلفية وهي قضية "الحكم والحاكم" ،فالمعروف هو أن التصور السلفي العقدي التقليدي هو القول بوجوب الطاعة للحاكم وإن ظلم وجار تبعا للقول المنسوب للإمام أحمد: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به وترك البدع (...) والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين والبر والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة والبر الفاجر لا يُترك"93 وقيمة آراء المطيري التصحيحية تنبع أولا من صفته كأمين عام للحركة السلفية العلمية بالكويت،وثانيا من انطلاقه من أرضية" عقائدية" صلبة يفتل بها في حبل إعادة تشكيل العقل السلفي لاسيما فيما يرتبط بالموقف النظري من أداء الحاكم،وقد ضمن تلك الآراء في كتابه الأول "الحرية أو الطوفان" وفي كتابه الثاني"تحرير الإنسان وتجريد الطغيان"،ومدار الكتابين على الخطاب السياسي الشرعي منذ تنزله الأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم،وما طرأ عليه بعد ذلك من تغير وتبدل،واقتضى منه تبيان كل ذلك رسم أمور: أولا: إن التاريخ الإسلامي عرف ثلاثة أنواع من الخطاب السياسي الشرعي،وكل نوع ساد في مرحلة من مراحل ذلك التاريخ،فيسمي الدكتور حاكم المطيري الخطاب السياسي الشرعي الذي ساد في عهد النبوة والخلافة الراشدة "خطابا سياسيا شرعيا منزلا" ،وهذا الخطاب: 1- هو"الذي يمثل تعاليم الإسلام الحق ،وما عداه إما مؤول أو مبدل يجب رده ورفضه"94،وهو"السنة والسلفية وما سواه هو من البدع التي أحدثها الملوك والأمراء،وتابعهم على أهوائهم العلماء والفقهاء اتباعا منهم لسنن القياصرة والأكاسرة"95 2- إن أهم مباديء الخطاب السياسي الشرعي المنزل هي:"1. ضرورة الدولة للدين وأنه لا دين بلا دولة،2.ضرورة إقامة السلطة وأنه لا دولة بلا إمام،3.ضرورة عقد البيعة فلا إمامة بلا عقد،4.إنه لا عقد بيعة إلا برضا الأمة واختيارها،5.لا رضا بلا شورى بين المسلمين في أمر الإمامة،6.إنه لا شورى بلا حرية،7.إن الحاكمية والطاعة المطلقة لله ورسوله،8.تحقيق مبدأي العدل والمساواة،9.حماية الحقوق والحريات الإنسانية الفردية والجماعية وصيانتها"96،ويعتقد أمين عام الحركة السلفية العلمية بالكويت الدكتور المطيري "أن الدعوة إلى السلفية تقتضي إحياء سنن الخلفاء الراشدين في الحكم وسياسة شؤون الأمة،والاقتداء بهديهم،واتباع طريقهم من رد الأمر شورى،والحيلولة دون توريث الإمامة الذي هو الطريق إلى الاستبداد ومن ثم السقوط"97 . 3- بتولي الأمويين الحكم ظهر ما سماه الدكتور المطيري"الخطاب السياسي الشرعي المؤول"،وأصبح الذين يصدرون عن هذا الخطاب يحتجون لتوريث الحكم ومصادرة حق الأمة في اختيار من يحكمها بنصوص ووقائع من"الخطاب السياسي الشرعي المنزل" بالتعسف في تأويلها كقياس البيعة ليزيد على عهد أبي بكر لعمر،وأفاد الدكتور المطيري أن الصحابة الفقهاء"رفضوا هذا الخطاب السياسي الجديد القائم على التأويل...وأدركوا خطورة هذا الخطاب،وتمسكوا بمباديء الخطاب السياسي الراشدي،وهو أن الأمر للأمة تختار من ترتضيه لقيادتها،وأن الأمر شورى بين المسلمين،وأن ما جاء به بنو أمية إنما هو سنة هرقل وقيصر،لا سنة رسول الله وأبي بكر وعمر"98 ونبه على أهم معالم الخطاب المؤول فذكر منها :"1.مصادرة حق الأمة في اختيار الإمام وتحول الحكم من شورى إلى وراثة،2.مصادرة حق الأمة في المشاركة والشورى،3.غياب دور الأمة في الرقابة على بيت المال،4.تراجع دور الأمة في مواجهة الظلم والانحراف"99 وممن أشاروا إلى مخاطر التعسف في التأويل الإمام ابن القيم إذ قال:"ما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين وإما أن يسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل. فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل؟ حتى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وتبرأ إلى الله من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم. وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضى الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير التأويل؟ حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل. وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلما وعدوانا وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟ وماالذي سفك دم علي رضى الله عنه وابنه الحسين وأهل بيته رضى الله تعالى عنهم غير التأويل؟ وما الذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل؟ وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟ وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟ وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟ وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقا من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل ؟"100 . ويعتقد الدكتور المطيري أن "أسوأ ما في الخطاب السياسي الشرعي المؤول هو مشروعية الاستبداد وجواز توارث الحكم،وحرمة الخروج على السلطة مهما بلغ انحرافها وفسادها،ومهما سفكت من الدماء،وانتهكت من الحقوق والمحرمات"101 ويَعتبِر الماوردي أشهر من قنن الخطاب السياسي الشرعي المؤول في كتابه "الأحكام السلطانية". 4- انتهت مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المؤول بنهاية"الخلافة العثمانية" ،وهذا الخطاب"إذا كان قد حافظ على بعض مباديء الخطاب المنزل كإقامة الملة بتحكيم الشريعة وصيانتها،وحماية الأمة بإقامة الجهاد والذوذ عنها،والمحافظة على وظيفة الخلافة ،حتى وإن كانت صورية لكونها رمزا لوحدة الأمة ،فإن الخطاب في المرحلة الثالثة قد تجاوز ذلك كله ،وبدأ التراجع حتى عن هذه المبادئ تدريجيا،حتى بلغ الانحراف ذروته في أواخر العصر العثماني باستجلاب القوانين الوضعية من أوربا ،ثم بوقوع الأمة الإسلامية كلها تحت الاستعمار الغربي،حيث تمخض ذلك عن ولادة الخطاب السياسي الشرعي المبدل،بظهور كتاب الشيخ علي عبد الرازق(الإسلام وأصول الحكم) ثم بتأييد من شيخ الأزهر بعد ذلك الشيخ المراغي ليتم إضفاء الشرعية على هذا الخطاب الجديد"102 وهكذا منحنا الدكتور المطيري مدخلا تصحيحيا إلى قلب الحركة السلفية وصدرها وبؤبؤها،بدعوة الحركة للرجوع إلى الخطاب السياسي الشرعي المنزل والعدول عن الخطاب السياسي الشرعي المؤول القائم على قاعدة بذل الطاعة المطلقة للحاكم وإن ظلم وجار،وهذا من شأنه أن يمد الحركة بثقافة الوسع الفكري والأخلاقي والمذهبي،ومن ثم الوقوف على أرضية صلبة لبناء جسور التقارب والتواصل بين مختلف مكونات الأمة. بعد الرد العلمي والنظري على الخطاب السلفي ارجع كل من الدكتور رمضان البوطي والشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي مظاهر التعصب ضد المخالفين إلى علل نفسية كامنة في قلوب كثير من الأفراد المنتمين إلى ذلك الاتجاه، مما جعل مرتكزات الفتنة والانحراف وطلب الرئاسة والشفوف على الأقران متجذرة في النفوس،فينصح الدكتور البوطي لتفادي تلك العلل بتوثيق الصلة بالله عز وجل، ليسلم المسلم من آفة التعصب، ويعتقد أنه من المحال أن تذوب الأنانية "إلا في ضرام الإخلاص لدين الله، والالتزام بشرعه المطهر، مع أخذ النفس – على الدوام والاستمرار- بمبادئ التزكية وأسبابها".103 واعتبر الشيخ الغزالي الإخلاص أنجع دواء للانحرافات النفسية، و"أساس الإخلاص ذكر الله، والتمهيد للقائه، وانتظار البشرى السارة عندما يقع هذا اللقاء"،104 أما "الاغترار بالنفس أو الدوران حول الذات لا يبدو في طلب الرئاسة بالأساليب القذرة فحسب، كلا إنه قد يبدو في تنقص رجل معروف، أو اعتناق رأي شاذ، أو المكابرة في حوار أو ما شابه ذلك".105، وبعد أن انتقد الشيخ يوسف القرضاوي "الإتباع الآلي الجاف الصارم"106 وشبهه "بترس في ماكينة يدار فيدور، ولا روح فيه، ولا حياة فيه"107 نادى "بتصويف" السلفية لينشأ جيل ينضبط بضوابط الشرع "ويتمتع بالعاطفة الحارة، والوجدان الحق، والروح الفياضة بالحب والخشية"108 . ولا شيء أنفع في التصحيح من فتح أبواب الحوار مع رموز الاتجاه السلفي وعلمائه ومفكريه، والابتعاد عن المقاربة الأمنية خضوعا لأجندة خارجية واعتماد المقاربة العلمية والتربوية،وإعادة الاعتبار للعلماء الذين ينفون عن الدين تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين،حتى لا تبقى مهمة العلماء محصورة في تقديم"آيات الولاء والإخلاص"،وإن عدم التسرع في التكفير،والتحلي بثقافة الوسع الفكري،وعدم ضيق الصدر بالمخالفين،وعدم إلحاق مسائل فرعية فقهية بالعقيدة،وإصلاح الفكر السياسي النظري باجتناب الرأي القائل بضرورة بذل الطاعة المطلقة لكل حاكم،واجتناب الحكم على النوايا،كل ذلك كفيل بإنجاز تصحيح حقيقي على صعيد العقل "السلفي" السني،بدأت تباشيره تتبدى في صورة تراجعات ومراجعات واسعة تجري داخل الكثير من التنظيمات السلفية،ولأن الحَرْفية عطب يلحق جميع المدارس الفكرية والدينية فإن مشهد التصحيح في سياق العقل لن يكتمل إلا بإعادة تشكيل العقل الشيعي التقليدي لدى اتجاه اعتبر الشهيد مرتضى المطهري الكثير من أفراده "وهابيي المسلك" 109،ويعملون على. قطع جميع سبل التواصل مع "العامة"،وسنبسط في المقالة القادمة الحديث عن الجهود التصحيحية التي تمت لتفنيد مقالات ذلك الاتجاه. أنقر هنا لمطالعة وتحميل المقالة مرفقة بهوامشها