"الماطادور" فخ الأدرينالين والمغامرة بالاقتراب من الغوايات نظمت جمعية إشعاع للثقافات والفنون بالعرائش، حفل تقديم وتوقيع رواية "الماطادور" للمسرحي والروائي "أنس العاقل" بالمركز الثقافي ليكسوس باب البحر، بحضور بادخ وأنيق سافر به على أجنحة الإبداع والجمال، وفي نهاية اللقاء خصص ل"العلم" وقتا للحديث عن تجربته الروائية الثانية بعد "هكذا تحدثت الشجرة"، فكان هذا الحوار: يلاحظ أن سجلك الإبداعي والمعرفي والمهني كذلك تميل كفته ناحية المسرح والدراماتورجيا، فكيف حصل هذا الانقلاب نحو كتابة الرواية ؟ تعود علاقتي بالرواية إلى مرحلة المراهقة، حيث تشكلت من خلال قراءة الأدب العالمي، العربي، والمغربي. ففي تلك الفترة قرأت أعمال دوستويفسكي، وروائع غابرييل غارسيا ماركيز، وأعمال ماكسيم غورغي وروايات نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، حنا مينا، الطيب صالح... وبعض أعمال الكتاب المغاربة كعبد الكريم غلاب، محمد شكري، والطاهر بنجلون...كنت مدمنا على قراءة الأدب الروائي. كما أنني عشت طفولة قوامها الأدب الشفهي، فقد كان والدي رحمه الله راويا بارعا ينقل لنا الأدب من خلال الرواية الشفهية وجلسات السمر الليلي مع الحكي، تارة من ألف ليلة وليلة، وتارة أخرى من كليلة ودمنة، وفي الكثير من الأحيان كان يستلهم مادته الحكائية من الأدب الشعبي المغربي. كنت خلال تلك المرحلة أقرأ أيضا في مجال الشعر، وأكتب الشعر، والكتابة هي التي دفعتني إلى اجتياز مباراة المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، حيث كنت أرغب في متابعة دراستي في مجال الكتابة الدرامية. لكن، هذه الشعبة لم تكن متوفرة بالمعهد، لذلك اخترت تخصص التشخيص. بعدها، ستتاح لي الفرصة كي أدرس الأدب بشكل أكاديمي، أثناء دراستي العليا بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، حيث تابعت دراستي العليا في تخصص الأدب والفنون الحديثة، وهناك تعرفت على مناهج تحليل الأعمال الروائية، واطلعت على أبحاث مدرسة كونسطانس الألمانية في مجال جمالية التلقي. لكن، مرحلة الإنتاج الروائي فرضتها ظروف الحياة، حيث اشتغلت بميدان التعليم في منطقة نائية بالجنوب المغربي، قضيت هناك مدة أربع سنوات، كانت فيها الكتابة تسليتي الوحيدة وترفي الذي أمارسه في خلوتي، وهناك بدأت كتابة روايتي الأولى "هكذا تحدثت الشجرة". لم أكن يوما أفكر بأنني سأصبح روائيا، ولم أختر هذا المسار، فقد كنت قد اخترت التمثيل، ولكن أحيانا، ثمة مسارات في الحياة لا نختارها، بل هي التي تختارنا. يمكن أن نقول بأنني لم أختر الكتابة، لكنها هي التي اختارتني. منذ البداية شدني عنوان "الماطادور" واعتقدت أن أحداث الرواية وشخوصها ستسافر بي كقارئ إلى حلبة الكوريدا، بكل ما تحمله من عنف مصارعة الثيران وما يبديه الماطادور من فنون الرقص والمراوغة واللعب على حبال المخاطرة، وقد توثبت دماؤه الساخنة في شهوة الموت الأحمر، لكنني عند تصفحي للرواية لم أجد أثرا للمصارعة كما تصورتها ، فما السر وراء هذا العنوان المخادع ؟ نعم. العنوان مخادع، لكنه في نفس الوقت يعبر ببلاغة عن أحداث الرواية. إنه يشكل لك أفق توقع، لكنه سرعان ما يخرقه عندما تبدأ في الغوص داخل أحداث الرواية. ف"الماطادور" بالإسبانية هو مصارع الثيران، ويحيل في نفس الوقت على القاتل. ويحضر مصارع الثيران "أباريتشيو" لكن داخل عالم شخصية حسني، إذ يعشق مصارعة الثيران وبالتحديد شخصية المصارع "أباريتشيو"، والذي يراود الخطر والمجازفة، ويقترب من الثور أقصى مسافة ممكنة، نفس الشيء يفعله حسني، إذ يغامر بالاقتراب من الغوايات، بل ويراودها ثم ينسحب في آخر لحظة. إنه فخ الأدرينالين. لذلك يتقاطع مصير "الماطادور" "أباريتشيو" مع مصير حسني بطل الرواية، ففي الليلة التي يسقط الثور "أباريتشيو" بضربة قاتلة تكاد تصيبه بالشلل الكلي، فإن حسني بدوره يسقط بضربة من ضربات الحياة. الشيء الذي يدفعنا إلى التساؤل، كيف يمكن أن تجتمع الرهافة مع عشق رياضة دموية داخل نفس الشخصية الإنسانية، فحسني فنان موسيقي مرهف الحس، عازف كمان ماهر، وأستاذ للغة الإنجليزية،. ألا يعكس ذلك جانبا حيوانيا في شخصية حسني يواريه خلف قناع؟ كيف يمكن أن تجتمع داخل شخصية الإنسان الرقة والوحشية في نفس الآن؟ إنه الإنسان، مزيج من التناقضات، ولكل امرئ درجته من اللون الرمادي. من جهة ثانية، يعبر العنوان على ذلك الصراع الداخلي الذي تحمله شخصية حسني بداخلها، إنها تصارع ألف غواية وغواية، بل وتتجلى لها تلك الغوايات في هيئة شيطان تتصارع معه وتصرعه. إنها تلك الظلال التي تراودنا كل يوم، محض سراب يستدرجنا لنبرز أسوء ما في نوازعنا الإنسانية. لماذا اختيار لبنان في مستهل الرواية والمفاضلة بينه وبين المغرب ؟ لقد فرضت التيمة الأساسية للرواية هذا الاختيار، وحتى قابلية التصديق التخييلي، إذ يمكن للقارئ أن يصدق ظهور نبي الحب بلبنان، معلم يسمى كامل، وتجتمع عنده جميع الطوائف والمذاهب من المسلمين والمسيحيين بل وحتى من اللادينيين ، ففي مزار سيدة لبنان بمناسبة بشارة مريم يتحقق ذلك بشكل فعلي في كل سنة على مستوى الواقع، حيث يجتمع المسيحيون والمسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم ليقوموا بالاحتفاء بمريم العذراء. إن التيمة فرضت مجتمعا متنوعا من الناحية الطائفية، المذهبية، والدينية. لكن السارد يعرج بعدها على المغرب، حيث تحتل أحداث المغرب نصف الرواية، بينما تدور ربع أحداث الرواية في لبنان، والربع ال0خر يقع بإسبانيا. فالرواية رحلة من الشرق إلى الغرب، ومن شرق المتوسط إلى غربه، وتسمح للقارئ بعقد مقارنة بين الشرق والغرب، وبين شرق المتوسط وغربه، كما تسمح بتوظيف تقنية المرايا السردية. تقع الرواية في 298 صفحة، ورغم طولها نسبيا، فقد شدتني إليها من البداية حتى النهاية، لما تزخر به من تشويق، باعتماد الكاتب لغة سلسة تمزج بين البساطة والعمق، وكذا في التقاطه الذكي للأشياء والحركات والحوادث العادية التي تمر بقربنا، لكننا لا نعيرها في الغالب اهتماما، فيقدمها الكاتب في سياق يمنحها معنى، وأيضا في وصفه الدقيق للفضاءات والأمكنة ونحته للشخصيات وسبره لأغوارها النفسية خلال سرده للأحداث وتفجيره للحوارات بين الشخوص، كما أنه يعتمد نوعا من السخرية المبطنة التي تستنفر العقل وتدفعه للتفكير والضحك في صمت، وإجمالا أود أن أسألك حول الحيل أو الألاعيب السردية، إذا جاز التعبير، والتقنيات الفنية، الأسلوبية والبلاغية، التي يعتمدها أنس العاقل في الكتابة الروائية، والتي تحقق لدى القارئ متعة وجمالية خاصة في التلقي ؟ خلافا لروايتي الأولى "هكذا تحدثت الشجرة"، والتي كتبتها بضمير الغائب أو السارد العليم، فإنني استعملت في رواية "الماطادور" ضمير المتكلم، لأجعل القارئ يسقط في فخ اعتبارها سيرة ذاتية. إننا نتبع خط سير بطل الرواية، فهو السارد وبطل الأحداث في نفس الوقت، وكل ما يقع نراه فقط من وجهة نظره، وهذه هي الصعوبة التقنية المتمثلة في توظيف ضمير المتكلم، والتي تتطلب مهارة كبيرة من الكاتب. إن السارد بضمير المتكلم يتيح خلق علاقة حميمة مع القارئ، بل ويمكن أن يجعله يتماهى مع الأحداث. من جهة أخرى هناك مسرود له داخل الرواية، ولا نكتشفه إلا في آخر صفحات الرواية. وربما في آخر جملة. والرواية تغير أسلوب الكتابة بين الفصل الذي يحدث في لبنان، والفصل الذي يحدث في المغرب. ففي الفصل الذي يدور بلبنان نوظف لغة شاعرية تمتح من البلاغة التعبيرية، وذلك لأن الأحداث والفضاءات تفرض ذلك، فثمة أمسية شعرية يحضرها حسني في بيت شاعرة لبنانية، وثمة محاورة مع روائية يقرأ لها كثيرا، وثمة فعاليات روحية في إطار بشارة مريم يشارك فيها البطل حسني رفقة بعض الشخصيات اللبنانية. إن العالم التخييلي الذي تدور فيه الأحداث يفرض طبيعة المعجم والأسلوب اللغوي. بالمقابل، فإن الخطاب اللغوي للشخصيات يصبح حجاجيا عندما ينتقل سرد الأحداث إلى المغرب. هكذا يمكننا أن نلمس الفرق بين عالمين، عالم البلاغة اللغوية في شرق المتوسط، وعالم العقلانية البراغماتية في غربه هل يمكن اعتبار رواية " الماطادور" رحلة مضنية في البحث عن المعنى ؟ وفي نفس السياق ثمة مجموعة من الأسئلة ذات طابع فلسفي ووجودي مستلهمة من أفكار نيتشه لا سيما في كتابه " هكذا تكلم ردزرادشت ؟ نعم، يمكنك أن تقول بأن الرواية هي رحلة في الجغرافيا، لكنها في نفس الوقت رحلة معرفية من أجل البحث عن المعنى، ذلك المعنى الذي يتجاوز غرائزنا واحتياجاتنا البيولوجية. إنها رحلة روحية بين الشرق والغرب، لكنها أيضا رحلة الانسياق وراء الشهية الزائدة للحياة. إن السؤال الوجودي الذي تتضمنه الرواية يتمثل في البحث عن المعنى خارج حدود ما وجدنا عليه آباءنا، لذلك يتحول الحجاج داخل الرواية إلى مناظرة حول العزوبية والزواج. إن فلسفة نيتشه تحضر داخل الرواية وتتجلى في شخصية ميكائيل مفتش الفلسفة، والذي يعشق ممارسة فعل المطرقة في سبيل هدم أصنام التفكير الجمعي، كما تحضر داخل شخصية سامي محاولة الجمع بين التفكير الرياضي والإيمان والتسليم. بالمقابل، فإن شخصية حسني تعكس روح الفنان التي تبحث عن الخلاص الروحي. أما الشخصيات النسائية فتحمل الحب وظمأه بين مده والجزر، لكنها في نفس الوقت تحمل معها ندوبها وأعطابها النفسية. لقد حاولنا كتابة تسلية معرفية، شأننا في ذلك شأن كتاب نيتشه "العلم المرح"، فقد ارتبطت المعرفة دوما بالجدية، لذلك ارتأينا أن نقدمها داخل الرواية لكن في إطار قالب من التسلية. لأننا نرى بأن الأدب الروائي إذا لم يحمل إلى القارئ معرفة بالذات الإنسانية، ومعرفة بالعالم المرئي والمحسوس، وحتى عالم ما وراء الطبيعة، فإنه يتحول إلى مجرد تسلية سطحية تصلح للاستعمال مرة واحدة فقط. لقد أردنا أن نكتب عملا روائيا يستطيع القارئ أن يقرأه أكثر من مرة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا عندما يكون العمل الروائي متعدد الطبقات. ولذلك أدعو القارئ إلى استكشاف مختلف طبقات رواية "الماطادور".