إذا كان المغرب قد انتعش ثقافيا وأدبيا وفنيا منذ السبعينيات من القرن العشرين بفضل مجموعة من الشخصيات المبدعة التي أقامت معارض فردية وجماعية داخل الوطن وخارجه . وبالتالي، تميزت بمكانة عالمية في مجال التصوير والتشكيل كعفيف بناني، وفريد بلكاهية، والشعبية طلال... وعبد اللطيف الزين، ومحمد شبعة، وأحمد بن يسف، ومحمد القاسمي، فإن منطقة الريف لم تشهد انطلاقتها التشكيلية إلا مؤخرا على الرغم من وجود بعض الفنانين التشكيليين الذين عاشوا مابين الاحتلال والاستقلال ، بيد أن رسوماتهم كانت فطرية تلقائية تنقصها الدراية الأكاديمية والمعرفة النظرية بقواعد الرسم وآليات التشكيل باستثناء الرسامة مريم أمزيان التي تلقت فن الرسم ومكوناته النظرية والتطبيقية في معاهد إسبانيا. ومن هنا، فالحركة التشكيلية بمنطقة الريف لم تنطلق إلا في سنوات الألفية الثالثة مع مجموعة من الرسامين الشباب، فاتخذت من ثم طابعا أمازيغيا في مختلف تمظهراتها الفنية والجمالية والوظيفية. أ- مرحلة الترهيص أو البدايات الجنينية: عرفت منطقة الريف إرهاصات جنينية في مجال الفنون التشكيلية تمثلت في الوشم الذي كان يستعمل من قبل المرأة الأمازيغية للتزيين والتجميل والتعبير عن هويتها وكينونتها الوجودية وتمسكها بإرثها الحضاري والثقافي. ومن ثم، فقد كانت هذه المرأة الأمازيغية تتخذ هذا الوشم لتزيين وجهها وتشكيل جسدها وتلوين رجليها تعبيرا عن حالة فرح أو حالة حزن. و يتجلى المظهر الفني والتشكيلي والجمالي أيضا في استعمال حروف تفيفيناغ وتوظيف الأشكال الهندسية في رسم الوشم وتخليده جسديا مع اختيار الألوان المناسبة في غرز الرسوم التشكيلية ورسم هندستها الفضائية. كما كانت هذه المرأة تستعين بالحناء في تشكيل مجموعة من اللوحات الفطرية وهندسة مجموعة من الأشكال الفنية التي كانت تعبر عن مستوى وعي المرأة الأمازيغية بمنطقة الريف على غرار لوحات الحناء للفنانة المغربية الشعيبية طلال والتطوانية فاطمة حسن. ومن مظاهر التشكيل كذلك خياطة الزرابي التي كانت معروفة لدى الأمازيغيين، وتعد من مظاهر حضارتهم الموروثة أبا عن جد، وكانت مزخرفة بدقة تشكيلية قائمة على التكرار والتناظر والتماثل والتناوب والتطابق والتقابل والتوازي، واستعمال الأشكال الهندسية كالمستطيل والمعين والدائرة والمربع والمثلث، وتنويع ألوان الخيوط مع استعمال الخطوط الأفقية والعمودية والمائلة والمغلقة والمنفتحة. هذا، وتحمل هذه الزرابي في طياتها حروف تيفيناغ بأشكالها التصويرية وعلاماتها الأيقونية ودلالاتها التعبيرية التي كانت تجسد في اللاشعور الجمعي الكينونة الأنتروبولوجية للإنسان الأمازيغي عبر تاريخه الطويل. زد على ذلك أن هذه الزرابي كانت تحمل ألوانا ساخنة زاهية من أحمر وبرتقالي وأصفر ، ويتخللها في بعض الأحيان الأسود والأبيض والأزرق باعتبارها ألوانا ثانوية. ويعني هذا أن الزربية الأمازيغية بهذه الألوان المزركشة تنفع كثيرا في التدفئة والاحتماء من قسوة القر وشدة البرودة وامتصاص أشعة الشمس الوهاجة. ومن تجليات الفن التشكيلي في منطقة الريف تصميم أزياء أمازيغية ملونة بشكل مثير وجذاب ، مع العلم أن اللون الذي كان مفضلا عند الأمازيغيين طوال تاريخهم هو اللون الأزرق. بيد أن الأمازيغيين مع دخول الإسلام سيعوضونه باللون الأبيض دلالة على تمثل دين الإسلام و الانسياق وراء مقومات الطهارة والصفاء والسلام . كما تشكل حروف تفيناغ كذلك ميسما فنيا وجماليا وكاليغرافيا وفضاء تشكيليا رائعا بخطوط هذه الحروف وحمولاتها الثقافية والهوياتية والحضارية. وعلى العموم، تتمثل المرحلة الجنينية الأولى بمنطقة الريف في التشكيل الأنتروبولوجي الجماعي، واعتماد رسومات ذات الأسلوب الفطري القائم على العفوية والتلقائية والتحرر من القوالب الأكاديمية الجاهزة حيث يقترب من رسوم الأطفال وأعمال الحرفيين وينبع من القلب والغريزة مباشرة. أي إن الفنان التشكيلي الفطري يرسم لوحاته بالفطرة دون خلفية نظرية أو تكوين فني، ويبدع أعمالا تعشقها العين وترتاح لها النفس الرائية. ومن المعلوم أيضا أن فناني منطقة الريف ورساموها قد تعرفوا مجموعة من اللوحات التشكيلية الأجنبية ذات البعد الاستمزاغي أو الاستشراقي إبان الاستعمار، وكان تأثير الفنانين الأجانب على رسامي المنطقة تأثيرا إيجابيا وسلبيا في آن واحد، فالإيجابي يتجلى في تشجيع الرسامين الأجانب لرسامي المنطقة على محاكاة الواقع ودفعهم إلى نقل الحياة اليومية للبيئة التي يعيشون فيها من خلال تصور فطري وعبر رؤية فلكلورية وسياحية وإثنوغرافية سطحية، والمظهر السلبي يكمن في كونهم تأثروا بطريقة الرسامين الأجانب في الرسم، فابتعدوا عن التأصيل الفني الحقيقي للوحة التشكيلية المغربية مضمونا وشكلا. ويقول محمد شبعة في كتابه:” الوعي البصري بالمغرب” :” وجد من الرسامين الأجانب من أثر تأثيرا سيئا في ظهور اللوحة عندنا، إذ لم يكونوا يهتمون في تصويرهم إلا بمظاهر الحياة اليومية المغربية، مما أعطى لرسومهم صبغة سياحية وثائقية، وترتب على ذلك أن نسج الرسامون المغاربة على منوالهم،مما أفقد لوحاتهم أصالتها المغربية الجوهرية.” هذا، وقد كلف الإسبان ماريانو بيرتوشي Mariano Bertuchi (1884-1955م) بتأسيس مدرسة الفنون الجميلة بتطوان سنة 1947م ؛ فترك أسلوبه في الرسم بصماته الفنية والجمالية على الفن التشكيلي المغربي بمنطقة الشمال. وفي هذا الصدد يقول محمد شبعة:” في الشمال كان الرسام الإسباني برتوطشي مكلفا من طرف الحماية الإسبانية بالسهر على الفنون الجميلة، ومن أهم مبادراته تأسيس مدرسة الفنون الجميلة بتطوان ومدرسة الفنون الإسلامية، وقد كان لمدرسة الفنون الجميلة دور هام: أعدت رسامين ونحاتين مغاربة لمتابعة دراستهم بالخارج، بإسبانيا على الخصوص. كما ساهمت مدرسة الفنون الإسلامية في إحياء الفنون الوطنية بالشمال، بتشجيع الحفر على الخشب والمعدن والجبس، والخزف والفسيفساء. أما في الجنوب، فيمكن أن نذكر ما قام به الرسام الفرنسي ماجوريل بمراكش، لإبراز التأثير المباشر وغير المباشر الذي كان له في ظهور اللوحة بالجنوب المغربي.” وكان بيرتوشي مغرما برسم حياة شمال المغرب (حياة الريف وجبالة)،وتشكيل مناظره الطبيعية عبر صور انطباعية وواقعية، وقد تركت لوحاته تأثيرا كبيرا على الفنانين التشكيليين الذين تخرجوا من مدرسة الفنون الجميلة بتطوان. ومن ثم، كان الفنانون الأمازيغيون والجبليون يرسمون على ضوء قواعد المدرسة البرتوشية أو معايير التشكيل الإسباني كما هو حال التشكيلي أحمد بن يسف. وتعد مدرسة تطوان من أهم المدارس التشكيلية وطنيا ودوليا حيث خرجت مجموعة من الرسامين والفنانين التشكيليين وأطر التدريس في مجال الرسم. ومن بين هؤلاء الذين تخرجوا من هذه المدرسة نذكر: محمد شبعة، وأحمد بن يسف، والمكي مغارة، ومحمد الغناج، ومحمد إدريسي، وبوزيد بوعبيد، ونوار عبد السلام، وعبد الكريم الوزاني، وأحمد العمراني، وبن صالح عبد القادر، وسعد بن سفاج، وبوعرفة أبدور، وسهام حلي... ومن أهم الرسامين الفطريين بمنطقة الريف لابد من ذكر: أحمد القاضي، ومحمد القاضي، ومحمد عجور، ولويزا بوستاش، ومحمد متوكي... 1- محمد متوكي: ولد محمد متوكي ، المبدع الأمازيغي العصامي، بمدينة الناظور سنة 1936م. شارك في عدة معارض فردية وجماعية. واليوم هو جندي متقاعد متفرغ حاليا للرسم والتشكيل. وقد اهتم محمد متوكي اهتماما كبيرا ببيئته الريفية وبمعالم مدينته ، فرسم لوحات جميلة تعكس مقومات الحياة الريفية مثل لوحته:” يوميات لامرأة ريفية”، التي ركز فيها على العمارة الأمازيغية ولباس المرأة البربرية ووشمها وحليها بطريقة إثنوغرافية فطرية تعتمد على العفوية والتلقائية والمباشرة بدون أن يتلقى محمد متوكي أدنى تكوين أكاديمي في الرسم أو في فن التشكيل. كما رسم محمد متوكي الواجهة الرئيسية لبلدية الناظور ما بين1947و1954م لتوثيق المكان والذاكرة تاريخيا وجغرافيا. 2- محمد عجور: يعد محمد عجور من أهم التشكيليين الفطريين العصاميين الأمازيغيين، ولد بالناظور سنة 1931م، شارك في عدة معارض داخل الوطن وخارجه، وساهم في عدة برامج تلفزية ولاسيما المتعلقة بالفنون التشكيلية. كما هو معروف فمحمد عجور منجمي متقاعد متفرغ حاليا للرسم. هذا، وقد اعتمد هذا الفنان على الأسلوب الفطري التلقائي العفوي في رسم لوحاته التي خصصها لنقل الحياة اليومية للإنسان الأمازيغي داخل مناجم الحديد بوكسان كما تعكس ذلك لوحته المسماة:” منظر عام لمنجم وكسان”، ولوحة:” مقطع من لوحة عمال منجم وكسان”. ب- مرحلة التأسيس: نعني بمرحلة التأسيس انتقال التشكيل من المرحلة الفطرية العفوية التلقائية إلى مرحلة التجنيس ورسم لوحات فنية خاضعة للمعايير الأكاديمية وقواعد الرسم المدرسي والتشكيل الفني. ومن رواد هذه المرحلة مريم أمزيان ، وبوعرفة أبدور وغيرهما... 1- مريم أمزيان: ولدت مريم أمزيان بفرخانة سنة 1930م في أسرة أرستقراطية حيث كان أبوها جنرالا عسكريا مقربا من الجنرال الإسباني فرانكو؛ فعاشت مريم أمزيان بمدينة مليلية ، فأتقنت اللغة الإسبانية، ثم انتقلت مع أسرتها إلى مجموعة من المدن المغربية وخاصة الشمالية منها . وقد أنهت دروسها الكلاسيكية بمدينة العرائش. واعتمدت على نفسها في تكوين نفسها بشكل عصامي. فانتقلت إلى مدريد لدراسة الفنون الجميلة ، ونالت من هناك دبلوم أستاذة الرسم والتلوين سنة 1959م. وتمثلت مريم أمزيان عدة مدارس تشكيلية كالمدرسة الواقعية ، والمدرسة الانطباعية، والمدرسة التجريدية. ومن المعلوم أن لوحات مريم أمزيان تنقل لنا بكل جلاء ووضوح ورمزية الحياة المغربية بكل مكوناتها المعيشية وتفاصيلها الموحية. ومن ثم، تتميز لوحاتها كثيرا بالنبرة الواقعية حيث تكاد تنطق بتقاليد المغرب وأصالته وجمالية ألوانه ومشاهده. هذا، وقد اهتمت مريم أمزيان في لوحاتها الفنية بالأشكال الهندسية والمناظر الطبيعية ولاسيما الصحراوية منها والموجودة بناحية ددس وزيز والأطلس الكبير كما يتجلى ذلك في لوحتها “القافلة ” التي رسمتها على قماش من حجم(146/114سم) بصباغة زيتية، فنقلت من خلالها صورة الصحراويين في تنقلاتهم وارتحالهم بريشة واقعية زاهية. وركزت مريم أمزيان على تشكيل لوحات زيتية تعبر فيها عن المرأة الأمازيغية بصفة خاصة والمرأة المغربية بصفة عامة من خلال رؤية إثنوغرافية وحضارية. و تنبني اللوحات النسوية لدى مريم أمزيان على الأزياء والحلي وجمال الوجوه بشكل فلكلوري ثقافي قائم على رصد عادات المرأة الأمازيغية وتقاليدها ومظهرها الخارجي وحالاتها النفسية كما يتجلى ذلك واضحا في لوحتها” أزياء وحلي ” التي رسمتها بصباغة زيتية على مسند القماش إطاره (115/147سم). ومن أجمل لوحات مريم أمزيان لوحة ” حفل العرس” التي رسمتها بالزيت على القماش بأسلوب واقعي موضوعي محايد حيث نقلت فيها مباهج الاحتفال بالعرس المغربي بصورة واقعية دقيقة ركزت فيها على أصالة المرأة المغربية وجمالها وروعة أزيائها وحليها وطريقة الاحتفال بمراسيم الزفاف وتصوير مشهد ” العمارية” تصويرا جذابا مع رصد قاعة الحفلات المزخرفة بالفسيفساء والزليج والعمارة الأندلسية الأصيلة. و ينطبق هذا الحكم أيضا على لوحتها الواقعية ” الموسيقية المتحضرة” التي استعملت فيها صباغة زيتية على القماش، فأظهرت لنا مغنية مغربية أصيلة تحمل بين يديها الكمان لتعزف عليه أغاني الطرب الأندلسي أو الملحون . 2- بوعرفة أبدور: يعد بوعرفة أبدور من الفنانين الأوائل الذين أسسوا معالم فن التشكيل بمنطقة الريف من خلال تدريسه لمادة الرسم بمدارس الناظور ، وتكوين مجموعة من المبدعين الشباب في مجال التصوير الفني وعبر معارضه العديدة التي شارك بها محليا ووطنيا . والفنان كما هو معروف من مواليد بني سيدال بمدينة الناظور سنة 1953م ، درس الابتدائي والإعدادي والثانوي بتطوان. وقد تخرج بعد ذلك من المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان سنة 1974م متأثرا بأساتذته الأجلاء كالمكي مغارة، وسعد السفاج...، وقد اطلع بوعرفة أبدور على تاريخ الفن والنحت والتصوير. وعندما تلقى تكوينه ببلجيكا، عاد إلى المغرب ليعين أستاذا بمؤسسة الشريف أمزيان بمدينة الناظور أستاذا لمادة الرسم، وعين بعد ذلك أستاذا بمركز تكوين المعلمين شعبة الفنون التشكيلية بنفس المدينة التي ولد فيها. وقد تلقى أيضا تكوينه في معهد الفنون الجميلة ببلجيكا. وقد شارك في معارض فردية وجماعية كالمعرض الجماعي بمناسبة الملتقى الثاني للتشكيليين بالناظور شهر يوليوز 2008م. ومن المعلوم أن بوعرفة أبدور قد تشرب عدة اتجاهات تشكيلية من واقعية وانطباعية وتعبيرية. ومن أهم لوحاته الفنية لوحة” الصرخة” التي عبر فيها بوحشية تعبيرية عن تآكل الإنسان وذوبانه ذهنيا وجدانيا ، وجسد قبحه بطريقة كاريكاتورية مفزعة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تقزز الفنان من الإنسان المعاصر الذي انحل أخلاقيا وحضاريا، وأصبح كائنا ماديا بدون روح ولا إنسانية. ويعني هذا أن الفنان يلتجئ إلى استخدام أسلوب البشاعة والتشويه والسخرية للحط من الإنسان المعاصر الذي تصبح صرخته بمثابة صوت أخرس بلا جدوى منه في عالمنا المنحط الذي تحول فيه الإنسان إلى كائن رقمي ممسوخ. ومن هنا، يستعمل الكاتب الأسلوب التعبيري الذي :” يلجأ إلى تشويه الواقع عن طريق التبسيط والمبالغة والتفتيت وخلط الواقع دائما بالحلم والرمز واستخدام نبرة انفعالية عالية بحيث تتحول أي رؤية موضوعية إلى رؤية بالغة الذاتية...بالغة الغرابة وفي أحيان كثيرة بالغة القبح!” وتشبه لوحة” الصرخة” التي رسمها بوعرفة أبدور لوحة ” الصراخ” للفنان النرويجي إدفارد مانش الذي رسم عدة لوحات تعبيرية كاريكاتيرية لتشويه الإنسان وتقزيمه. ففي عمله ” الصراخ” الذي قدم للناس سنة 1895م:” نجده يحاول أن يجعل الصرخة المحور الأساسي الذي تلتقي عنده كل الخطوط دون أي اعتبار للواقعية وكأنه يقول إن لحظة الانفعال يمكن أن تزلزل رؤيتنا للواقع من حولنا تماما. أما وجه الإنسان الذي يصرخ في اللوحة فقد صوره مانش في خطوط بسيطة وحادة يغلب عليها طابع المبالغة الشديدة بحيث أصبح تصويرا كاريكاتوريا لوجه ميت أو هيكل عظمي بعينيه الجاحظتين وخدوده الغائرة. كما تعمد مانش أن يترك سبب الصرخة مجهولا مما يزيد من توتر التعبير وأثره على المشاهد لأن الصرخة أصبحت مطلقا مرعبا ليست له حلول أو أسباب يمكن تفاديها. ونتج عن اعتناق الفنان التعبيري لأساليب الكاريكاتير في تصوير رؤياه الخاصة ابتعاده عن الجمال بمفهومه التقليدي. وعندما هاجم النقاد مانش لقبح لوحته قال:” إن صرخة الرعب لايمكن أن تكون جميلة. ولو وجدتموه جميلة في لوحة لي أكون قد كذبت وزينت جوهر الألم”. وهذا التعليق ينطبق أيضا على لوحة الصرخة لبوعرفة أبدور وعلى لوحته الثانية التي خصصها للإنسان الخليجي الذي يتصبب بعرق البترول ويتخذ وشاحا أسود ينم عن حالة القبح والتشويه الكاريكاتوري لهذا الإنسان الذي انغمس في الثراء والترف، وأصبح كائنا ماديا بدون رحمة ولا إنسانية. وتجسد هذه اللوحة رؤية الفنان التعبيرية وموقفه من الإنسان العربي الذي جعله إنسانا منحطا لاقيمة له مادام لايعنى سوى بالمادة والانغماس في الملذات والشهوات على حساب ماهو روحاني ومعنوي. وتعبر صورته التشكيلية” القفة” عن رؤية واقعية إنسانية محورها الإنسان العادي في صراعه الجدلي مع حاجيات حياته اليومية العادية، وهو مرتبط بقفته” السلة” التي يحملها إلى السوق يوميا وهو في صراع سيزيفي مع الأسعار والغلاء الفاحش، كما تعبر اللوحة رمزيا عن الفقر وتناقضات المجتمع والتفاوت الطبقي والصراع الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء المعدمين الذين لايملكون قوت يومهم. فالفراغ الذي تجسده اللوحة ماهو إلا تعبير عن الفراغ الخلقي وتجسيد للفقر المدقع الذي يعيشه المجتمع المغربي على جميع المستويات . 3- عبد الرحمن الصقلي: يعتبر عبد الرحمن الصقلي من أهم التشكيليين الأمازيغيين في مجال التصوير والترميد وتصميم الأغلفة والمجلات، ولد بالناظور سنة 1943م، حصل على الإجازة في علم النفس، فتخرج بعد ذلك من معهد الفنون الجميلة ببلجيكا. ألف عدة كتب في مجال الفن، ورسم عدة أغلفة لمجموعة من المجلات والكراسات، وهو أستاذ مادة الرسم. وقد شارك في عدة معارض فردية وجماعية بالمغرب وأوروبا. ومن أهم كتبه نذكر: المعجم العربي المصور للأطفال، والنساء البربريات(الحلي التقليدي)، وكاليغرافية تيفيناغ ، والشخصيات السياسية البلجيكية، وعجائب الفن الأمازيغي. وتمثل عبد الرحمن الصقلي عدة اتجاهات تشكيلية من كلاسيكية، وواقعية، وكاريكاتورية، وسريالية، مع التركيز على رسم البورتريهات التصويرية المجسدة. بيد أنه انساق وراء المدرسة السريالية التي تعطي أهمية كبرى لللاشعور واللاوعي والثورة على العقل والمنطق متسلحا في ذلك بآراء فرويد وتلامذته النفسانيين. ومن هنا، فالسريالية :” ترتكز على الإيمان بأن الأحلام أقوى من أي شيء آخر وبأن بعض أنماط التداعي الذهني التي لم يعرها أحد اهتماما من قبل قادرة على أن تكشف لنا حقائق أبعد من تلك الحقائق التي نصل إليها عن طريق العقل والمنطق”. وعليه، فقد ضمن عبد الرحمن الصقلي كتابه” عجائب الفن الأمازيغي” مجموعة من اللوحات التشكيلية الرائعة مستعملا في ذلك تقنية الأبيض والأسود مع تشغيل الترميد مركزا في هذه اللوحات على بورتريهات لمجموعة من الفاتنات الأمازيغيات بجمالهن وحليهن ولباسهن الرائع. فالكتاب فريد من نوعه إذ يرصد لنا المرأة الأمازيغية في أزيائها التقليدية وحليها المتنوع ووشمها المعبر عبر امتداد 120 صورة مجسدة. كما شغل الفنان حروف تيفيناغ بطريقة فنية كاليغرافية في تمظهراتها الهندسية والشكلية والجمالية معبرا عن أبعادها السيميائية والأنتروبولوجية والتاريخية والحضارية باعتبارها أس أصالة الإنسان الأمازيغي وجوهر كينونته ورؤيته الوجودية . 4- حفيظ الخضيري: ولد حافظ الخضيري بمدينة الناظور سنة 1973م، وهو باحث عصامي في الميتولوجيا الأمازيغية وحضارة البحر الأبيض المتوسط، وقد شارك في عدة معارض فردية وجماعية تشكيلية تهم الشأن الأمازيغي. وما يلاحظ على حافظ الخضيري أنه رسام أمازيغي حروفي بامتياز يرسم لوحات تشكيلية قوامها حروف تيفيناغ ومقومات الحضارة الأمازيغية من حيوانات وأشياء وأديان وكائنات وظواهر لافتة للانتباه كالشمس والعين، وتشغيل الخط الأمازيغي بتشكيلات هندسية رائعة مع المزج بين الألوان الساخنة والباردة على غرار الفنان عبد الرحمن الصقلي. كما يهتم بالمرأة الأمازيغية من حيث أزياؤها وحليها وما يحيط بها من أشياء ومكونات حضارية تعبر عن الخصوصية الأمازيغية والكينونة البربرية. وتحمل لوحاته التشكيلية إحالات سيميائية وأيقونية وأسطورية عميقة تحتاج لتفكيكها وتركيبها إلى نقاد متخصصين في الميتولوجيا الأمازيغية القديمة. وقد رسم الفنان عدة لوحات بمثابة أغلفة لمجموعة من الدواوين الشعرية الأمازيغية وخاصة ديوان كريم كنوف ” جار أسفاظ ذءوسنان/ بين الشوك والتوهج). 5- سعاد شكوتي: ولدت سعاد شكوتي بمدينة الحسيمة سنة 1976م، وهي مبدعة عصامية، شاركت في عدة معارض تشكيلية فردية وجماعية، وساهمت بجدية في تنشيط ورشات فن الرسم بمدينتها الساحلية. وتهتم سعاد شكوتي اهتماما كثيرا بالقالبين: الفطري والواقعي في رسم البيئة الأمازيغية على غرار مريم أمزيان ، فتعنى بالمرأة الأمازيغية في لوحتها:” ثمغارث ن تمورث”، وبالإنسان الطوارقي في لوحته:” توارك”. وبالتالي، فهي ترسم بورتريهات ولوحات شخوصية مصورة وبيئات طبيعية تحيلنا على الثقافة الأمازيغية وحضارة الإنسان البربري ، كما تعكس لنا في لوحاتها جمال المرأة الأمازيغية في أحلامها وعلاماتها الموشومة وأزيائها الرائعة. 6- عبد العالي بوستاتي: يعد عبد العالي بوستاتي من التشكيليين الأمازيغيين الشباب، ولد بمدينة الناظور سنة 1980م، مبدع عصامي، أسس جريدة أمنوس، وقد شارك في عدة معارض تشكيلية فردية وجماعية، وله مساهمات معتبرة في الرسم الكاريكاتوري. ومن أهم لوحاته التشكيلية لوحة ” نظرة أمازيغية” ، فقد رسمها بالطريقة التي يستعملها عبد الرحمن الصقلي في رسم بورتريهاته التجسيدية، كما رسم لوحة ” منظر عائلي” بريشة أمازيغية معبرة عن بساطة الإنسان الأمازيغي وتشبثه بمقومات حضارته وأصالته الثقافية. ج- مرحلة التجريب: بعد مرحلتي الترهيص والتأسيس يمكن الحديث عن مرحلة التجريب التجريدي مع مجموعة من الباحثين التشكيليين الذين درسوا بالمعاهد العليا للفنون التشكيلية . وقد تأثروا بالاتجاهات التجريدية العالمية كما لدى كادينسكي وبيكاسو وغيرهما. ولايمكن الحديث عن تجريدية واحدة بل هناك تجريديات متعددة كالتجريدية الغنائية، والتجريدية المفارقية، والتجريدية الهندسية، والتجريدية السيميائية، والتجريدية الإلصاقية، والتجريدية السوريالية. وما يلاحظ على التشكيليين الأمازيغيين أنهم ينتقلون من مدرسة إلى أخرى ومن الصعب تأطيرهم بشكل فني دقيق لكونهم يجربون أساليب وتقنيات كل المدارس الفنية المعروفة في الغرب كما هو حال بوعرفة أبدور، وسهام حلي، وعبد الرحمن الصقلي. ومن بين التشكيليين التجريبيين الذين اهتموا بالفن التجريدي المناقض للواقع نذكر: الرسام الحسيمي شعيب ولحاج، والتشكيلية الناظورية حلي سهام. 1- شعيب ولحاجي: ولد ولحاجب شعيب بمدينة الحسيمة سنة 1978م، حصل على بكالوريا الفنون الجميلة ، جمع في جعبته الفنية بين التشكيل والتصميم والتنشيط التربوي ، وشارك في عدة معارض فردية وجماعية تشكيلية . وعلى أي، فقد رسم شعيب ولحاجي مجموعة من اللوحات التجريدية التي استعان فيها بحروف تيفيناغ على غرار أحمد الشرقاوي وعبد الرحمن الصقلي . وتتجسد هذه الحروف الكاليغرافية في لوحاته بمثابة علامات رمزية تحيل على الهوية والحضارة الأمازيغية وتعبر عن مدى تشبث الإنسان الأمازيغي بكينونته الأصيلة. كما تتسم تجريدياته بتشغيل الألوان المتقابلة والمفارقة التي تحمل دلالات سيميائية كنائية ورمزية وأيقونية تعبر عن الارتباط الجدلي بين الإنسان الأمازيغي وهويته وتراثه وكينونته الجذرية. 2- سهام حلي: ولدت سهام حلي سنة 1978م بمدينة الناظور ، تخرجت من المعهد العالي للفنون الجميلة بتطوان، وتشتغل اليوم كأستاذة للفن التشكيلي للشباب، وقد شاركت في عدة معارض فردية وجماعية داخل الوطن وخارجه. وقد تأثرت سهام حلي بعدة مدارس فنية كالواقعية والانطباعية والتجريدية. وعلى الرغم من اهتمامها بسحر البيئة وجمال المناظر الطبيعية الانطباعية كما في لوحتها” شجرة اللوز”، فقد أولت عناية كبرى للثقافة الأمازيغية ومكوناتها الحضارية في عدة لوحات أخرى . وللفنانة سهام حلي أيضا لوحات تجريدية بنيوية مركبة قائمة على خاصية التفكيك والتركيب كاللوحة التجريدية التي نسجتها على القماش تجسد سفينة زرقاء توحي بالهجرة والهروب من عالم البر والقمع والقهر والفقر إلى عالم الأمان والغنى والثراء. إنها لوحة سندبادية مليئة بالألوان الباردة الموحية بالأحلام المستقبلية الزاهية . كما تعبر لوحتها ” صومعة” عن عالم العرفان والروحانيات والتشبع بالنظرة الإسلامية الأصيلة. ويعني هذا أن سهام حلي تجمع في لوحاتها بين الفن التجريدي عندما تشكلن الواقع المرئي، والفن الانطباعي عندما ترسم لوحات الطبيعة في تنوعها الشعوري. تلكم – إذا- هي المراحل الفنية التي عرفتها الحركة التشكيلية الأمازيغية بمنطقة الريف منذ الاحتلال الأجنبي للمنطقة حتى مرحلة الألفية الثالثة، ولكن مايلاحظ على هذه الحركة أنها مازالت في بداياتها التأسيسية كما تعرف هذه الحركة الولودة التهميش والإقصاء واللامبالاة من قبل المسؤولين وفعاليات المجتمع المدني وساكنة الريف بسبب انعدام الوعي وغياب الثقافة التشكيلية لدى المواطن الريفي. كما تعرف هذه الحركة أيضا تعثرا كبيرا على مستوى التنظيم، وتدبير المعارض وتمويلها، وغياب الأروقة المخصصة لعرض اللوحات الفنية، وانعدام الدعم المادي والمعنوي، وغياب الحركة النقدية المواكبة للمعارض التشكيلية. الهوامش: - محمد شبعة: الوعي البصري بالمغرب، منشورات اتحاد كتاب المغرب، مطبعة عكاظ، الرباط، يوليوز 2001م، ص:9وما بعدها؛ - محمد شبعة: الوعي البصري بالمغرب، ، ص:9وما بعدها؛ - د.نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى سنة 1986من 74؛ - د.نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة،ص:78-79؛ - د.نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة، ص:60-