بدَا طرحًا استعراضيًا أكثر منه تحليليًا لمفاهيم "المثقف"، ومالَ في أغلبه إلى تعميم وتذويب ما يبدو خللا محليا بين المثقف والسياسة في المغرب ضمن هلامية أنه ناتج عن "ظاهرة" عزوف الجماهير عن السياسة في العالم بشكل عام. هذه أول ملاحظة جالت في خَلَدي وأنا أتابع عن بُعد ما قدّمه المتحدّثون الثلاثة في ندوة حزب التقدّم والاشتراكية حول موضوع "المثقّف والسّياسي: أيّة علاقة؟" وانطوى الحديث على تنميطٍ غير منهجيٍ عند تعويم "المحلّي" في ثنايا "الدولي" بتبسيط تلقائي متساهل. بل كان من المتوقّع إنصافُ حالة المغرب ضمن جدلية المثقّف والسياسة حسب تعقيداتها، وتفاعل عناصرها، وكوابحها، وتغيّرها الذاتي حسب مستحقاتها من التشريح والاستنتاج ضمن الثقافة السياسية المحلية. يُعزى اهتمامي أساسًا إلى مدى اجتهاد المتحدّثين في تناول ما يمكن الاعتداد به كجدلية صحّية مُنتجة بين المثقف والسياسي تبعًا لما يعتري جسد السياسة المغربية حاليا، وتحديد ما خلف تآكل رأس المال السياسي للدولة والأحزاب في أعين المجتمع، فضلا عن ترهّلهما وانفصامهما إلى حدّ معين عن قضاياه الحيوية. وهل يسبر المتحدثون غور العتمة داخل المثلّث الحيوي الذي يجمع السياسة والثقافة والمجتمع. وقد أشار سي محمد الشيكر في البداية إلى استفهام حيوي بشأن "الوصاية"، ومن يتولّى هذه الوصاية على غيره: أهو السياسي أم المثقف؟ وفي أواخر الجلسة، أثار سي نور الدين الودغيري سؤال قياسيًا مهمّا في منحاه البرغماتي: ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفّر في المثقف حاليا في 2025؟ مغبة تذويب المحلّي في الدّولي من يُدرك مدى التباين بين بنية السياسة ومدى انفتاحها أو انحسارها بين فئات معينة في السياق المغربي مقابل سياق دول أخرى، لا يستسيغ منطلق التعميم والتدويل كمسلك لتفادي التشريح الصريح للحالة المغربية، أو الزعم بأن هناك قرينة "عضوية" متخيّلة بين إشكالية المثقف والسياسة في المغرب وما تشهده في بقية دول العالم، وكأنّها تُجاري بالدّقة ذاتها كيف تتفاعل نخب المثقفين مع تدبير السياسات العامة في ألمانيا أو بريطانيا أو اليابان مثلا. ويبدو أن هذا المنطق الذي يتمسّك بهذه القرينة، وكأنها هي لبّ السببية، يجازف بفقدان توازنه، عندما يعمد أي محاضر أو كاتب إلى توظيف منطق التبرير وإيجاد تأويلات انطباعية، وليس تفسيرات متنورة، بين الخلل المحلي والاكتفاء بربطه بمفهوم "ظاهرة" في بقية دول العالم سواء بذريعة "عزوف عن السياسة"، أو "موت أو نهاية السياسة"، أو "لحظة شعبوية". أسهب سي حسن أوريد في تعويم ما هو خاصّ محلّي (الحالة المغربية) في ما هو عامّ دولي (وإن كانت شعبوية دونالد ترمب في الولاياتالمتحدة أو فكتور أورين في المجر ليست مدّا عالميًا حتميًا في بقية الدول المائتين وستة الأخرى). هل هي فرضية علمية تحققت صحتُها أم أنها فرضية تظل انطباعية عندما يقول إنّ: "أزمة الفعل السياسي أو أزمة المثقفين لا تعتبران شأناً مغربيًا خالصًا"، ويضيف إسقاطًا آخر بأن يعزوها إلى تداعيات "ظاهرة كونية تُطبع بالضرورة بخصوصية مغربية." هي تكرار لازمة متواترة لدى سي أوريد في تعويم أو تطبيع الخلل محليًا بالسعي لتبريره بما يتخيّله في سياق إقليمي أو دولي. في نقاش سابق حول دراسة نشرتُها بعنوان "الجامعة المغربية من النبوغ إلى الانحطاط.. المسار والتداعيات" (عربي 21 – 2 أبريل 2019)، جادلتُ بأنه "على خلاف التنافس في نشر أفضل كتاب أو أهم دراسة أو أن يكون المرء النجم الأكاديمي في جامعته، أصبحت مقاييس النجاح لدى أغلب هؤلاء الأساتذة والعمداء هي قيمة المزرعة وعدد العقارات ونوعية السيارات التي يملكها هو وذريته، وحرصه على أن يشتري كلّ طالب نسخة من كتابه أو مجموعة نصوص أعدّها كمقرّر للمادة التي يدرّسها في الكلية. وتظل المفارقة التي توصل إليها عالم الاجتماع محمد الشرقاوي (تشابه أسماء بالصدفة) مدوية إذ أن "أكثر من 55 في المائة من أساتذة الجامعات المغربية لم ينشروا ولو سطرًا واحدًا طيلة حياتهم." وهذا يستحضر المبدأ المتداول في الجامعات الغربية Publish or Perish (إمّا أن تنشر أوتندثر!)." جاء ردّ سي أوريد بما اعتبره "توصيفا كابيا، بل قاسيا للجامعة المغربية" في مقالته "خريف الجامعة" (القدس العربي 25 فبراير 2020)، وأضاف: "الحكم القاسي، والتجني المجاني على هيئات التعليم، من إدارة وأساتذة وطلبة، ومنهم إداريون أكفاء نزهاء، وجامعيون متجردون، وطلبة مجدون ومثابرون، هناك واقع حال، وهو وضع بنيوي، يجعل الجامعة تتعثر، وتتعثر في دوامة من إصلاح الإصلاح، وطقوس الإصلاح، مما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بالوصفة القاتلة للإصلاح." لكنّ المهم في ردّه هو تحويل وجهة النقد للجامعة المغربية، بما لها وما عليها بالتحديد، ومحاولة تذويبه في معضلات الجامعات العربية بشكل عامّ. فيخرج بالتالي من حرج المحلي من خلال تفريغه في الإقليمي، إذ يقول: "قد يكون لكلّ بلد خصوصيته، ومشاكله، وإنجازاته، لكن الجامعة في العالم العربي، وهي حلقة أساسية من حلقات التعليم والتربية، ليست على ما يرام." ثم يسهب في تحويل الموضوع إلى أن "أول الأشياء أن عالم التربية في العالم العربي، لم يفض إلى تراكم معرفي، باستثناء التقارير التقنية والكتابات التقريرية، أي أنه لم يفرز مربين لهم تصور لمجتمعاتهم.." تتكرّر اللازمة التبريرية ذاتها لديه بأن "الدولي" أو "الإقليمي" يصلح شمّاعة لتبرير ما هو "محلّي" في علاقة المثقف بالسياسة المغربية. ولا يستقيم المعنى بهذا التهافت على تقييد كافة معضلات المغرب بفلك ما قد يعتري مجتمعات أخرى قريبة أو بعيدة، ناهيك عن مدى الاختلافات بين البنى والمرجعيات السياسية والثقافية والمجتمعية بينها. ولا يمكن تفسير تغييب أو غياب المثقف من العمل السياسي في المغرب إلا بالبحث عن سببيات متعددة بتركيبة مغربية خالصة من رحم الواقع المحلي. للأسف، تغيب خصوصية الحالة المغربية سواء في ضعف العلاقة بين المثقف والسياسة، أو في تدنّي مستوى المنحى التكنوقراطي، أو في اعتبار رجل السياسة المثقفين في الغالب أنهم أصوات مزعجة أو مجرد ترف سوفسطائي، ولا تشملها عدسة التحليل في أي ندوة أو أي تقييم، إذا كان سي أوريد يعتدّ جازما: "إنّ القضايا التي نتلظى بها تجد أصولها في الغرب… وعزوف الجماهير عن السياسة ليس قصرا علينا، بل هو ظاهرة عالمية. لذلك، بدل النظر إليه في السياق المغربي، ينبغي في السياق العالمي الذي عرف نوعا من اندحار السياسة وتواري المثقف." معذرة سي أوريد، هذه دعوةٌ تغريبيةٌ تبسيطيةٌ بأن نسلّم إشكالياتنا وتحدّياتنا اعتباطًيا إلى قالب غربي تبريري جاهز، وكفى المغاربة شرّ النقاش! قد يحتاج المرء لقلب تلك البوصلة رأسا على عقب، بأن يكون تحليل الحالة المغربية، ومن أعراضها تشريح معضلة الترهّل السياسي بين النخب السّياسية الحالية سواء في الحكومة أو الأحزاب لعدة أسباب ذهنية وبنيوية ومقاصدية من حيث الفجوة بين الخطاب السياسي والقدرة على تحقيق نتائج ملموسة في الميدان، ومن ضمن ذلك دواعي عدم مساهمة المثقف المغربي في هذه المرحلة. وبعدما تتضح نتيجة التشريح، قد يتوقف المرء عند مكامن الاختلاف أو التشابه بين السياق المغربي والسياقات الأخرى. لن يجد سي أوريد في تحوّلات الغرب أو المشرق ولا في "ظواهرهما" ما يساعد في تفسير كيف تغير منسوب المشاركة السياسية للمثقفين في مجلس النواب في الرباط من أغلبية "أساتذة جامعات" إلى أغلبية "أعيان"، كما حدث للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كما أوضحت منية بناني شرايبي في كتابها "الأحزاب والمظاهرات في المغرب: 1934-2020″. ونفس التحليل التغريبي لن يحدّد إجابة كافية لماذا يقبع المغرب في المرتبات السفلى في مؤشر الديمقراطية في العالم: التمثيل السياسي: في المرتبة 111، الحقوق: في المرتبة 81، حكم القانون: في المرتبة 106، والمشاركة السياسية: في المرتبة 111 من أصل 173 دولة. هناك اعتبارات مهمة لا يكشفها الاعتداد بأنها "ظاهرة عالمية" بشأن دواعي عدم رضى نسبة 66٪ من المغاربة عن التوجه العام للمغرب، حسبما توصل إليه استطلاع أجراه المعهد المغربي للتحليل السياسي (MIPA) عام 2023، أو لماذا لا تزيد نسبة ثقة المغاربة بحكومتهم الحالية عن (33%) ورئيس الوزراء عزيز أخنوش (30%)، والبرلمان (38%) والجماعات المحلية (49%) والقضاء (74%) ومنظمات المجتمع المدني (70%)، فيما يشعر العديد من المغاربة بالقلق إزاء القيود المفروضة على حرية التعبير عبر الإنترنت، وخاصة المراقبة والرقابة من قبل حكومتهم (54٪)، ومنصات التواصل الاجتماعي (53٪)، حسب نتائج الباروميتر العربي عام 2024. قد لا يكون من الحكمة تَدْوِيلُ الحالة المغربية أو أقْلَمَتُها (من إقليم) بتبريريْ "ظاهرة كونية" أو "سياق عالمي" عندما يلحّ السؤال حول دور المثقف، سواء كان مغيّبا أو غائبا أو محتشما حاليا في المغرب، منذ تراجع السياسة وتعثرها في مرحلة ما بعد مظاهرات 2011، أو تسوية أزمة الريف المتجددة منذ 2017، أو في حقبة الدولة المغربية التي تتعاقد مع نفسها أو دولة تضارب المصالح منذ سبتمبر 2021، أو عند تواري المثقف عن سجالات علمنة مدونة الأسرة والمسطرة الجنائية وغيرها من التحوّلات المفصلية. يجازف حسن أوريد بالتلويح بما يسميه "نهاية السياسة"، إسوةً بمفهوم "نهاية التاريخ" الذي نادى به فرانسيس فوكوياما عقب انهيار جدار برلين واضمحلال جمهوريات الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات من القرن الماضي. قد تشهد السياسة من حيث لآخر تراجعا في منسوب الفضيلة والأخلاق وبقية عناصر المثالية السياسية. لكن لا تبتعد عن البعد المصلحي وحتى النَفَس الميكيافيلي واستراتيجية القوة وتوظيف التفكير المؤسسي وبقية الأدوات التي تعتمدها الواقعية السياسية ومنطق القوة ذاته الذي هيمين خلال حرب اسبارطة وأثينا قبل 2500 عام، عندما قال المؤرخ الإغريقي توسيدايدس Thucydides: "للأقوياء أن يفعلوا ما يريدون، وعلى الضّعفاء أن يعانوا ما يتحتّم عليهم". وما يمكن التعويل عليه هو استمرار الجدلية مفتوحة بين السياسة بأبعادها المكيافيلية والمصلحية والتبريرية والفضيلة من ناحية، والفضيلة السياسية Political morality وسياسة القيم Moral politics التي حث عليها أرسطو وأفلاطون قديما، ونادى به مهندس الحداثة الغربية إيمانوييل كانط في القرن الثامن عشر. يتداخل مفهوما الأخلاق Ethics مع مفهوم الفضيلة Morality إلى حد معين بين الدلالات الغربية والعربية. وشدّد كانط في كتابه "نقد العقل الخالص" على أنّ استقلالية الإرادة هي "المبدأ الأسمى للفضيلة"، وإن كانت جلّ الترجمات تخلط بين الفضيلة والأخلاق . ويقدم كانط"مبدأ الاستقلال"، المعروف في الأدبيات باسم "صيغة الاستقلال" Formula of Autonomy،كنسخة مناسبة بشكل خاص من مفهومه للضرورة المطلقة، ويعتدّ بأنّه "مبدأ إرادة كل إنسان باعتباره إرادة تُشرِّع عالميًا من خلال جميع مبادئها." من روادها الأوائل الفيلسوف البريطاني جيريمي بينثام (1748-1832)، الذي لا تزال كتاباته مراجع أساسية في فلسفة الفضيلة Moral Philosophy، وإن كان بعض المترجمين يعتبرونها "الفلسفة الأخلاقية". كتب في مقدمة كتابه "مبادئ الأخلاق والتشريع" Principles of Morals and Legislation يقول: "لقد وُضعت الطبيعة البشرية تحت حكم سيدين سياديين: الألم والمتعة. وهما وحدهما من يحددان ما ينبغي لنا أن نفعله، وكذلك أن علينا أن نفعله. فمن ناحية، يكون معيار الصواب والخطأ. ومن ناحية أخرى، تكون سلسلة الأسباب والنتائج مثبتة على عرشهما. إنهما يحكماننا في كل ما نفعله، وفي كل ما نقوله، وفي كل ما نفكر فيه: وكل جهد يمكننا بذله للتخلص من خضوعنا، لن يخدم سوى إثباته وتأكيده." ليس القياس بأطروحة جوليان بندا تكرّرت الإشارة خلال الندوة إلى أفكار الفرنسي جوليان باندا Julien Benda (1867-1956)، كمرجع أساسي في دراسة دور المثقف، بمحاولة إسقاط ما انتقده في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في فرنسا بالتحديد على سياقات أخرى. وقد نشر كتابه في الأصل بعنوان "خيانة الكهنة" La Trahison des Clercsعام 1927. وعندما ترجمه ريتشارد ألدينجتون إلى الإنجليزية عام 1928 ، حملت النسخة الأمريكية عنوان "خيانة المثقفين"، بينما صدرت النسخة البريطانية بعنوان "الخيانة العظمى". وأُعيد نشر ترجمة ألدينجتون عام 2006 بعنوان "خيانة المثقفين" بمقدمة جديدة لروجر كيمبال. وجّه بندا وقتها انتقاداته إلى بالأساس رجال الدين أو الكهنة الأوروبيين والذين غالبًا ما فقدوا القدرة على التفكير بموضوعية في المسائل السياسية والعسكرية. لكن انتشر مفهوم الكهنة كناية عن المثقفين، الذين أصبحوا بدلاً من ذلك مدافعين عن القومية الصارخة، والتحريض على الحروب، والعنصرية، وأنهم سواء كانوا من من اليسار واليمين صاروا "مستعدين لدعم أشد أشكال الظلم فظاعة في بلدانهم"، والتخلي عن المبادئ العالمية لصالح الاستثنائية الوطنية، وإعلان "الأخلاق العليا للعنف". خصص بيندا أشد انتقاداته لمواطنيه الفرنسيين تشارلز موراس Charles Maurras وموريس باريه Maurice Barrès، فيما تحدث عمن يدافعون عن القيم الأزلية كالعدل والخير والحق، وهم "عصبة صغيرة من الملائكة– الفلاسفة، الذين يتحلون بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ، ويشكلون ضمير الأمة". ودافع عن النظرة المتزنة والموضوعية للحضارة الكلاسيكية، وعن عالمية المسيحية التقليدية. وقد استعارت آن أبلباوم Anne Appelbaum كلمة "كهنة" "clercs" من بيندا في كتابها الصادر عام 2020 بعنوان "شفق الديمقراطية: الإغراء المغري للاستبداد" Twilight of Democracy: The Seductive Lure of Authoritarianism. تركيبُ غير المُركّب ثمة سؤال حول قيمة النقاشات في ندوة حزب التقدم والاشتراكية، وكيف غلب الطرح العام لدور المثقف سواء من حيث الرؤية المعيارية، أو من حيث قربه أو ابتعاده عن السلطة ومراكز القرار، على حساب تشريح جرّيء لما ينال من تحقيق علاقةٍ منتجةٍ بين المثقف والسياسي في تصحيح بوصلة السياسات العامة وتكريس حداثة حقيقية تعزز غاية البناء الديمقراطي واستمالته في تطور النظام الاجتماعي المغربي. أعود إلى سؤال سي الودغيري حول الشروط التي ينبغي أن تتوفّر في المثقف حاليا في 2025، وألتزم بالبقاء في مثلث محدّد: ماهية المثقف المغربي، وماهية السياسة المغربية، وماهية الزمن المغربي، وإن كان المفهوم النهضوي للمثقف لم يترسخ بعد في الثقافة السياسية في المغرب. وعلى الحد الأدنى، يستشف المفهوم المغربي لمن هو "مثقف" من التصور الفرنسي لمعنى Intellectuel، ويقوم على مزيج من "الفكر" و"العقل"، بأنه من الجدع اللغوي Intellect، أي انتماء هذا الشيء أو ارتباطه بالعقل بصفته ملكة للمعرفة، وبالتالي يكون المثقف هو الشخص الذي "لديه ميل قوي إلى شؤون الفكر ،" كما يعتد به محمد عابد الجابري. تعكس تركيبة المثقّف المغربي عددا من الثنائيات غير المتجانسة لكنها مفروضة عليه بحكم التصور المجتمعي المغربي لما ينبغي أن يكون عليه دور هذا المثقف ضمن أربعة توقّعات رئيسية: أوّلا، ثنائية المثقف المحلي والوسيط مع العالم، وتعتدّ بأن المثقف المغربي شخص متعلم خريج جامعة، وحتى عالم بالمفهوم التقليدي المدرك لطبيعة مجتمعه وتراثه، وهو أيضا الوسيط بين اللغات والمعارف التقليدية لدينا والحديثة في الدول الأخرى. وكان المغاربة يقدرون دور "العَالِم"، وهي كناية محلية عن "المثقف" الذي تبنوه خلال المرحلة الاستعمارية التي استوردوا معها مفهوم I'intellectual من الغرب. وكما جاء في في لسان العرب بمادة ثقف: "حاذق الفهم.. ورجل ثقف إذا كان ضابطاً لما يحتويه قائماً به." يغلب التخيل العام بين المغاربة أن المثقف بمثابة سفير المجتمع في أوساط الفكر، وتجديد المعرفة، والعودة بالفكر والقيم وروح العصر إلى الحيّ والمقهى والحديث في التلفزيون والندوات والجامعة. فهو منذ البداية "الشخص الذي تبنّى علم الغرب وجماليته واقتصاده ونمط حياته وأيديولوجيته،" كما يقول محمد أركون في "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" (ص: 232). ينبغي أن يتّسم المثقف بالقدرة على إنتاج فكري جديد ومشاكسة الأفكار والمؤسسات القائمة. فهو بالأساس "فاعل فكري في المقام الأول، بما يخلق من بيئات فكرية أو عوالم مفهومية تتضاعف معها إمكانيات التفكير والتدبير، فهذه هي مهمته الأصيلة: ترجمة الواقع إلى إشكالات فكرية، أو صوغ العلاقات بالعالم صياغة مفهومية،على نحو يمكن استثماره، سياسياً وعلمياً، في عقلنة السلطات والقرارات والممارسات، أو في صناعة الأحداث والتعامل الفعّال مع الواقع،" كما يقول علي حرب في كتابه "أوهام النخبة أو نقد المثقف" (ص: 148). يظل المثقف أيضا كائنًا حركي النزعة صاحب قوة دفع ذاتية بين المجتمع المحلي والعالم باعتباره "فاعلا اجتماعيا جمعيا، وليس مجموعة أفراد يشتركون في نشاط مهني أو عملي أو ذهني واحد يقرّب في ما بينهم. وعندما نتحدث عن فاعل اجتماعي، فنحن نشير إلى قوة محركة ودينامية اجتماعية لا إلى مبدع فكري،" كما يقول برهان غليون في "المثقف العربي: همومه وعطاؤه" (ص: 86). تقتضي هذه الوساطة بين المثقف والمغاربة البسطاء أيضا أن يتولّى تبيئة المفاهيم والنظريات ومنطلقات التغيير الاجتماعي بين الخارج والداخل وفق تصور الجابري، وأين يجسد هموم البسطاء في مقالاته وكتاباته ومواقفه في المجالس العامة. فتحضر ضمنيا بعض الظلال من قرينة العضوية بين المثقف والمجتمع لدى غرامشي ، وأيضا من ظلال الالتزام القِيَمِي لدى سارتر. ولا تختلف نظرة أغلب المغاربة وتمييزهم بين من هم مثقفون جادّون خُلّص ومن هم مُدّعو ثقافة وراكبُو مطايا انتهازية. ويصنف بنسالم حميش "المثقفين" إلى فئتين: "نزهاء" يسعون جادًّين بعدّتهم المعرفية والفكرية لإيقاظ الهمم والضمائر وتحريك سواكن الغفلة والتلهّي عن قضايا وأوضاع خطرة جسيمة، و"مزيفين" ليسوا من فاعلي الثقافة ومنتجيها. (عن المثقفين وتحوّلات الهيجمونيا، ص: 44). ثانيا، ثنائية الفكر وسياق المجتمع، وتتلاقى في المثقف مسؤوليات النخبة والأنتلجينسيا، والطليعة، والقاضي الصارم بين العلم والأيديولوجيا. وإذ يتمسك المثقفون بهذه القواعد، فإنهم يتمسّكون بولاءهم الدائم لجوهر المعرفة وحقيقة الأشياء. وهم وكلاء البسطاء وعامة الشعب في تجسيد حاجيات وطموحات الأسفل إلى قرارات وسياسات الأعلى. وقد قال سارتر: "إن المثقف هو الإنسان الذي يدرك ويَعي التعارض القائم فيه وفي المجتمع بين البحث عن الحقيقة العلمية، وبين الإيديولوجيا السائدة". ويعتدّ الجابري بأنه إذا كان الموضوع هو الأفكار والآراء والنظريات التي قال بها مثقفون في زمن مضى، أو في الزمن المعاصر، فإن المثقف هو الذي "يفكر في مثل هذا الموضوع يفعل ذلك في داخل مرجعية ثقافية. أما إذا كان الموضوع من معطيات الواقع فإن التفكير فيها يتم بتوسط مفاهيم ونظريات وآ ليات في التفكير ترتبط بمرجعية معرفية." (المثقفون في الحضارة العربية، ص: 7). ويقترب من هذا المعنى هشام شرابي الذي يصنف المثقفين بأنهم "تلك الفئات التي تهيّأت لها أسباب التعبير والثقافة، وأحيانًا القيادة الفكرية،" (أزمة المثقفين العرب، ص: 14). تجسّد التجربة الذاتية لعبد الله العروي التحدي الواقعي لتركيب المفهوم المغربي أو العربي للمثقف، إلى حد أن بعض الباحثين يعتبرون العروي من يبلور ماهية المثقف بالتوازي مع أزمة المجتمع. هي أزمة يعزوها إلى عاملين أساسيين: ازدواجية التكوين وضعف استيعاب العلوم الاجتماعية. لكنه يتمسك بإرادة الفعل وطموح التغيير في المجتمع للخروج من طوق البؤس والخيبة من خلال المشاركة السياسية المباشرة أو غير المباشرة، وهي ما آلت إليه تجربته الشخصية عندما كان عضوا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وعلاقته الودية مع القصر الملكي أيام الملك الراحل الحسن الثاني. وانتهت القناعة لدى العروي بأن الغاية من دور المثقف ليس مواجهة السلطة والحاكم، بل تحريك الركود المجتمعي، والسعي لما يخدم مصلحة المجتمع. خلص العروي إلى بعض النقذ الذاتي عندما قال عقب تتويجه بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2016-2017 إنه "بدلاً من إلقاء اللوم دائمًا على المسؤولين، الذين لديهم قيود [على الخطاب العام]، ألوم المثقفين مثلي، الذين يتمتعون بالحرية لأن لديهم قلمًا وورقًا لكتابة ما يريدون". وشدد أيضا على ضرورة مراعاة الفروق الدقيقة عند تقييم الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمملكة. "على عكس ما يقوله البعض، أرى أننا تقدمنا في بعض المجالات الاقتصادية والاجتماعية… ومع ذلك، فقد تراجعنا في مجالات أخرى". وبذلك يلوم المثقفين المغاربة لعدم قيامهم بدورٍ كافٍ في توجيه البلاد. تقترن المسؤولية الأخلاقية مع المسؤلية الجمالية في دور المثقف في المغرب المعاصر. وهو المدافع الرئيسي عن القيم العليل في بعديها الأخلاقي والجمالي في آن واحد. "وفي هذا يكون الفرق بين المتخصص الذي وقف عند تخصصه في فرع من العلوم، والمثقف الذي ينشر الفكر ليس لمجرد أنه أي فكر وكفى، ولكن لأنه في نظره هو الفكر الذي ينتج حياة أفضل أو أجمل،" كما يقول زكي نجيب محمود في كتابه "مجتمع جديد أو الكارثة"، (ص: 324). ثالثا، ثنائية الإلتزام والنقد بفرضية أن المثقف هو حاضن هموم المجتمع والناطق بآلامها وأحلامها، وصاحب الأهلية والجرأة النقدية. ويميل المغاربة العاديون إلى الجزم أنه صمام آمان بين السياسة والمجتمع، بين الأيديولوجيا والحقيقة، وبين الانتهازية المصلحية والشرف الأخلاقي. وقد عرّف كل من غرامشي وسارتر المثقف، انطلاقًا من أدواره التاريخية ووظيفته المجتمعية، بالمفهوم Status ومما يجب أن يكون، في حين يمكن تعريفه انطلاقًا مما هو عليه وضعه السوسيولوجي. وهو صاحب الموقف الملتزم والمنحاز إلى القيم والعدل والحق والنيّات الحسنة، قبل أن يكون تقنيًا ومتخصصًا بفروع العلم وفنانًا،" كما يقول سارتر في كتابه "دفاع عن المثقفين". يؤمن إدوارد سعيد أن الخيار الذي يواجهه المثقف هو "إما أن يتحالف مع استقرار المنتصرين والحكام، وإما يعتبر أن الاستقرار حالة طارئة تهدد الأقل حظاً بخطر الانقراض الكامل.. فالمثقف الحقيقي، يقف بالضرورة على الضفة المقابلة للسلطة، يقف بسلمية وحيداً بصدره العاري، يصرخ في وجهها بالحقائق التي تعجبها ولا تعجب جمهورها الذي ينساق خلف دعايتها المضللة حول الأمن والوحدة والدين ومقامة الإرهاب". (صورة المثقف، ص: 37/38). ويتداخل بالتالي مقام المثقف مع مقام النخبة أو الطليعة التي تضم مجموعة بشرية "تتميز عن غيرها بأنها تجعل من التفكير في الواقع، والمصلحة العامة عموماً أحد همومها الرئيسة وتشارك في الصراع الاجتماعي والسياسي من أجل دفع هذا الواقع حسب الرؤى التي تراها مشاركة، وقد تتخذ أشكالاً مختلفة سياسية وفكرية،" كما يقول برهان غليون في كتابه "الأنتلجنسيا والسياسة والمجتمع"، (1989، ص: 17). وبين غايات الثقافة والنخبة والطليعة يتلاقى فكر ثلاثة مثقفين من جغرافيات وأزمنة متباعدة: أنطونيو غرامشي وجوليان بندا وإدوارد سعيد عندما ينادون بالدور الاجتماعي الإصلاحي للمثقفين. وهم بالتالي حسب تقدير سعيد "المتمكنون من قول الحقيقة بوجه السلطة بصلابة وشجاعة وبلا مواربة وببلاغة، وبذلك لا يرى المثقف حرجًا في نقد أي سلطة مهما طغت وتجبّرت." Edward Said and the Style of a Public Intellectual، (ص: 7). وسط النزعة المحافظة للتاريخ السياسي المغربي، ظل دور العلماء (اصطلاح الأمس) أو المثقفين (اصطلاح اليوم) منقسما بين الموالين والمنتقدين ضمن أدبيات الشورى بين السلاطين والعلماء. وثمة جملة عينات من التقريظ السياسي في الثرات المغربي، كما تجسده الرسائل الشهيرة بين السلطان إسماعيل وأبي علي اليوسي (1630-1691) ، وخاصة "براءة اليوسي". وقد تمسك اليوسي بأن يصدع العلماء بكلمة الحق قائلا: "لاشك أنه يجب على أهل العلم أن يتكلموا على الحق، ويبينوا الحلال والحرام، لكن فيما يظن قبوله ولا يخشى عليه فتنة، أما ما لا يقبل وتقع الفتنة به، فساقط عنهم.." ويوجه نداءه إلى السلطان إسماعيل قائلا: "فليعلم سيدنا –نصره الله– أن الأرض وما فيها ملك لله تعالى لا شريك له، والناس كلهم عبيد له، وسيدي واحد من العبيد، وقد ملكه الله تعالى رقاب عبيده ابتلاء وامتحانا، فإن قام عليهم بالعدل والرحمة والإنصاف والإصلاح فهو خليفة الله في أرضه، وظل الله في عباده... وإن قام بالجور والعنف، والكبرياء والطغيان والفساد، فهو متجاسر مع مولاه، ومتكبر في الأرض بغير الحق، ومتعرض لعقوبة الله تعالى الشديدة وسخطه." ترتفع وتيرة التقريظ السياسي لدى اليوسي في رسالته إلى السلطان بقوله: "فلينظر سيدنا، فإن جباة مملكته قد جروا ذيول الظلم على الرعية، فأكلوا اللحم وشربوا الدم، وامتشوا العظم، وامتصوا المخ، ولم يتركوا للناس دينا ولا دنيا.. فليتق الله سيدنا وليتق دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب، وليجتهد في العدل، فإنه قوام الملك وصلاح الدين والدنيا." رابعا، المثقف رقيب على الفضيلة السياسية وحكامة السلطة. لا يزال السؤال عالقا في الأذهان عما يمكن أن يقدمه المثقفون المغاربة عندما تسوء أحوال السياسة وتتوالد بعض التشوهات الخلقية في زواج المال والسلطة. وهو انحرافٌ شاردٌ عن خطّ الحِكامة السياسية Political Governance والفضيلة السياسية Political Morality التي بلورها حكماءُ الإغريق قديما في تركيب أضلاع الديمقراطية قبل ستّة وعشرين قرنا، وعزّزها فلاسفةُ التنوير بضوابط الحداثة السياسية في القرن الثامن عشر. وظلّت الحِكامة والفضيلة السياسية تتحرّكان داخل مثلّث تنافسٍ محتدمٍ يجمع القيمَ السياسية وبقية أخواتها من أخلاقيات الأهلية المعرفية والكفاءة العملية من ناحية، ونفوذَ المال والاقتصاد والمصلحة وبقيةَ الأنساق الميكيافيلية من ناحية أخرى. وقد تمسّك أفلاطون مثلا بأن هدف الحكومة هو تعزيز التميز الإنساني وتكريس الفضيلة الإنسانية. على هدي هذا الجدل اللامتناهي بين الفضيلة والحكامة والمال في توجيه السياسات العامة، لا يزال مشروع الحداثة السياسية في المغرب يجاري التنافس ذاته بين الديمقراطية (كنايةً عن حكم الشعب) والتيموقراطية (في إشارة إلى نفوذ أصحاب المال). ويعرّف أرسطو التيموقراطية (timocracy) في كتابه "السياسة" بأنها دولة لا تجوز فيها المشاركة في الحكومة إلّا لأصحاب الأملاك. وتقضي الأشكال الأكثر تقدمًا من التيموقراطية بأن تُستمَدَّ السلطة بالكامل من الثروة، دون أي اعتبار للمسؤولية الاجتماعية أو المدنية، وتتحوّل في شكلها وتصبح حكم الأثرياء (plutocracy) عندما يهمين أصحاب المال على شؤون الدولة. على خلاف السبعينات والثمانينات، خفت صوت المثقفين وزاد مستوى الغياب أو التغييب الذاتي من الخوض في أمور السياسات العامة. وكما يقول إدوارد سعيد: "الخيار الذي يواجهه المثقف هو إما أن يتحالف مع استقرار المنتصرين والحكام، وإما يعتبر أن الاستقرار حالة طارئة تهدد الأقل حظاً بخطر الانقراض الكامل.. فالمثقف الحقيقي، يقف بالضرورة على الضفة المقابلة للسلطة، يقف بسلمية وحيداً بصدره العاري، يصرخ في وجهها بالحقائق التي تعجبها ولا تعجب جمهورها الذي ينساق خلف دعايتها المضللة حول الأمن والوحدة والدين ومقامة الإرهاب، "صورة المثقف" ص: 37/38). تتقاطع مسؤولين النقد مع مسوؤلية تصحيح المسار وإعادة توجيه البوصلة. وأستحضر بعض ما كتبته سابقا: "في زحمة الوضع الصاخب حاليا، يضعف صوت المثقف والأكاديمي المغربي في ثنايا الخطاب الرسمي، فينزوي كثيرون إلى منطقة الظل أو الاستكانة بما لا يهدد ضمان الراتب الشهري. وقد تأخذني الجرأة إلى استبدال عبارة "موت الإنسان"، الذي بنى عليه ميشيل فوكو كتابه "الكلمات والأشياء"، بعبارة "موت المثقف". يقول فوكو" إلى كل أولئك الذين يريدون الاستمرار في الكلام عن الإنسان، عن نفوذه أو تحريره، إلى كل هؤلاء الذين يريدون الاستمرار في التساؤل حول ماهية الإنسان وجوهره، إلى كل من يريد الانطلاق منه للولوج إلى المعرفة." ويحن كثيرون من المغاربة إلى مقولة الجابري بأن المثقف مثل "المصباح ينير ذاته وينير محيطه، فيهتدي بنوره هو والآخرون معه، في مسيرة يحتل مكان الطليعة فيها." "من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية" (1977، ص: 23). في الختام، ينفتح السؤال من ذاته: من هم اليوم اليوسيون الجدد (من اليوسي) من مثقفي المغرب العاصرين؟ وقد كتبت ذات يوم في الأمس القريب: "أيها الصّاحون إلى مغرب بلا مثقفين: انكسر المصباح والبوصلة وكثر العسس. فهل من يوسي جديد يصدّ الأخنوشيين عن تعسف السلطة والمال. لا أسمعُ صوتًا للمثقفين، بل مهادنةٌ وغرسُ الآذان في الرمال..وامثقّفاه!" أستاذ تسوية الصراعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأممالمتحدة.