الإطار المفاهيمي لإدماج الشباب عن طريق الثقافة: باتت العوامل غير الاقتصادية من المحددات الأساسية للتنمية الشاملة، فالحافزية المعنوية والشعور بالانتماء للوطن وللإنسانية، وتبني قيم التعاون والاحترام المتبادل والسلم والتفتح ونبذ الكراهية، وغيرها من كل مكونات الوجود الإنساني هي التي تحدد السلوكات الفردية والجماعية بشكل إيجابي في حالة التمتع بالحقوق الثقافية أو بشكل سلبي في حالة العكس. ولأن وراء كل فاعلية إنسانية كائن ثقافي، فإن البديل التنموي المؤسس بالعلاقة الجدلية القائمة بين الأسس الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وبين الأبعاد الثقافية والإبداعية للتنمية صار يشكل أقرب الطرق لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. ومن هذا المنطلق تندرج الثقافة ضمن آليات إدماج الشباب داخل المجتمع، حيث يشكل مفهوم «الإدماج الثقافي» جزء لا يتجزأ من الإدماج الاجتماعي، وهو يمس مجالات عديدة في الحياة العامة من ضمنها الوضع الاقتصادي والتعليمي للأفراد. ويعتبر الإدماج الثقافي ضمانا لمشاركة جميع أفراد المجتمع في الحياة الثقافية، بحيث يكون لجميع الأفراد الحق في اختيار وتشكيل وتذوق ونشر إنتاجاتهم الفنية والثقافية واختيار أسلوب عيشهم، لكن من دون الانغلاق داخله كي لا يكون الفرد معزولا عن محيطه. وإذا كان مفهوم الإدماج الثقافي يشجع على الحفاظ على الثقافة الأم وتطويرها في المجتمعات المتنوعة ثقافيا، فهو يساعد في الوقت نفسه على قبول ثقافة الآخر المختلف والحفاظ عليها وإغنائها. ويشمل مفهوم الإدماج الثقافي مصطلح «الديمقراطية الثقافية» الذي يشير إلى حق الجميع في النفاذ إلى الثقافة مثلما يعني حق كل التعبيرات الثقافية في النفاذ إلى الجمهور، بحيث يستدمج الحقل الثقافي فاعلين وذوي مصالح متناقضين عمريا وسياسيا وإيديولوجيا واثنيا وجندريا، وبما يضمن اشتغال آليات السلطة والسلطة المضادة. وبهذا المعنى لا تظل الثقافة مجرد تراكم لأعمال فنية وفعاليات تنتجها النخبة الثقافية، لكنها تغدو في الوقت نفسه وسيلة للتفاعل المتبادل بين المنتج للثقافة والمتلقي من خلال الانفتاح على مكونات المجتمع المختلفة والمهمشة تحديدا، وتهيئة الظروف التي تمكن العاملين في الحقل الثقافي والفني من تفكيك آليات الإقصاء، وخلق برمجة ثقافية وفنية شاملة للجميع تراعي التنوع الثقافي وتضمن حق الإنسان في اختيار أسلوب العيش في مجتمعه. لكن على الرغم من انتشار مفهوم الديمقراطية الثقافية، فإن الثقافة لا تزال إلى اليوم انتقائية، إذ تبقى ممارسة الأنشطة الثقافية المختلفة مقتصرة على أقلية مع أن هذه الأنشطة يجب أن تكون حاضرة في البرامج التعليمية في المدارس. إن مسؤولية وضع سياسات الإدماج الثقافي تقع على عاتق المؤسسات الثقافية الحكومية والمؤسسات الخاصة الربحية منها وغير الربحية التي يتوجب عليها إتاحة نشاطاتها الثقافية أمام جميع أفراد المجتمع وعلى اختلافاتهم، واحترام رغبات واحتياجات جميع الفئات ومراعاة جميع الأذواق. وتمثل المشاركة الثقافية مفتاح التفاهم المشترك بين الأفراد المختلفين ثقافيا واجتماعيا، ويمكن للتنوع أن يخلق ثقافة جديدة ناشئة عن الاختلافات في العرق واللغة والعمر والتعليم والدخل والدين والجنس تحترم التنوع الثقافي المشكل لها. وإذا كان أهم مدخل لإدماج الشباب يبدأ بالتربية والتكوين ويتعزز بالتشغيل، فإن هناك مداخل أخرى مصاحبة وعلى رأسها إدماج الشباب عن طريق الثقافة باعتبارها أفقا متعدد المصادر والمجالات، أفق يشكل رافعة تسمح بجعل الشباب في قلب معادلة السياسات العمومية ومبادرات المجتمع المدني، وذلك من خلال استيعاب الطبيعة المركبة للإدماج الثقافي، والتي تتجلى في ثلاثة آفاق رئيسية تتحرك وتنتقل فيها الثقافة، فالأفق الأول يعبر عن ثقافة جماعة تعتمد في تبادلها على الشفوي، وتندرج هنا كل أشكال الثقافة الشعبية. والأفق الثاني يظهر بواسطة الكتابة وتدخل هنا مختلف مستويات الثقافة العالمة. ثم الأفق الثالث وهو الذي تمثله الثقافة الوسائطية بمختلف وسائلها وتقنياتها وتأثيراتها، وتضطلع فيها التكنولوجيات الجديدة بأدوار حاسمة في صياغة مضامينها، وتبليغ رسائلها ورموزها. والواقع أن البنيات التي تنتج الثقافة في مغرب اليوم قد تغيرت، كما تغيرت مسالك إنتاجها وتداولها وتصريفها، لذلك يجب القيام بتشخيص واقع الحال وتجميع المعطيات عن السياسات والمشاكل والعوائق التي تحول دون توفير شروط إدماج الشباب عن طريق الثقافة، والوقوف عند الممكنات والوسائل التي تتيح هذا الإدماج. لذلك فالتفكير في موضوع حضور الشباب في السياسات الثقافية يضعنا أمام قضية مركبة تجمع بين الثقافة، الشباب، التعليم، التنمية المستدامة، وأدوار التكنولوجيات الحديثة لتيسير إدماج الشباب عن طريق الثقافة. ويظهر الطابع المركب لهذه القضية من خلال الإشكاليات التيتؤطر ضمنيا تشخيص واقع حال الشباب والثقافة من جهة، وتقديم قراءة في حصيلة موقع الشباب في السياسات الثقافية من جهة ثانية. ويمكن تحديد هذه الإشكاليات في الأسئلة التالية: هل يملك المغرب مشروعا مجتمعيا يتكئ على تصور ثقافي إدماجي للشباب بشكل واضح؟، وإن وجد فما هي مقوماته وأسسه الفكرية والثقافية؟ هل يمكن الحديث عن وجود سياسة ثقافية عمومية في المغرب؟ كيف أثرت التحولات الكبرى التي عاشها المغرب على علاقة الشباب بالثقافة؟ ما هي المؤسسات والأطر المنتجة اليوم للثقافة في المغرب؟، وهل للشباب مكانة في برامجها وأنشطتها؟ العلاقة بين الشباب والثقافة؛ الواقع ومنطلقات التشخيص: يجب التأكيد في البداية أن هناك ندرة كبيرة لدراسات ميدانية في المغرب تشخص العلاقة بين الشباب والثقافة، والتحولات التي تعرفها مظاهر إدماجهم أو عدم إدماجهم في المجتمع عن طريق الثقافة، وتحاول فهم الممارسات والتعبيرات الثقافية الشبابية الجديدة، وتمثلاتها في مختلف أنشطة الاستهلاك والمشاركة الثقافية والفنية التي يتعاطاها الشباب المغربي. وهذه الندرة في الدراسات والأبحاث تصعب على القطاعات الحكومية المعنية والباحثين والمجتمع المدني إمكانية تشخيص العلاقة بين الشباب والثقافة، من أجل بناء تصور ثقافي إدماجي شمولي يمنح للشباب مكانة مركزية في برامجه وأنشطته، وهو ما يستدعي الإدماج المستدام والإدراج التلقائي للعوامل والرافعات الثقافية في السياسات العمومية الموجهة للشباب. ولا يخفى على أي أحد اليوم أن عملية تشخيص تصورات المجتمع المغربي للثقافة ولمختلف تعبيراتها ورموزها تنعكس بالضرورة على مختلف مستويات الحياة والعلاقات الاجتماعية، وتؤثر حتما في طرق النظر إلى المؤسسات وأنماط اشتغالها. وهذه التصورات هي الأكثر رواجا للثقافة داخل المجتمع والأكثر رسوخا في أذهان الناس، وقد أنتجت هذه التصورات خصاصا ملموسا في الثقافة والمعرفة، وانفصاما بين الخطاب الرسمي حول الثقافة وبين الانشغالات الواقعية للشباب المغربي، وانعكس هذا الوضع على الأسرة، المدرسة، الجامعة، والمجال العام. ويمكن تحديد التصورات السائدة في المجتمع المغربي للثقافة في خمسة مواقف: أولا: النظر إليها بوصفها «ترفا فكريا» وقطاعا ثانويا لا يملك ما يلزم من الأهمية لجعله مكونا مؤسسا وقاعدة لتشكيل التمثلات وأنماط السلوك والأحكام والأذواق. ثانيا: التعامل المحدود مع الثقافة من زاوية اعتبارها قطاعا مخصوصا ومنحصرا في التراث واختزالها في إطار «شبه فولكلوري»، وفي مجال رمزي وتاريخي ضيق. ثالثا: سيطرة الهاجس الهوياتي باسم الدين، أو التاريخ أو اللغة، أو الجغرافيا، في النظر إلى الثقافة والاستثمار الجزئي والمحدود جدا في مجالات التعبير الثقافية الحديثة. رابعا: التوجه المبالغ فيه للمركز وإهمال الأطراف والجهات مما خلق تفاوتات كبرى على صعيد الاستثمارات الثقافية على تواضعها أو توسيع دائرة استعمال التكنولوجيات الحديثة. خامسا: غلبة التصور التقني الضيق على السياسات في المجال الثقافي، واستبعاد مستلزمات التقعيد الثقافي العصري في وضع الخطط وتنفيذ السياسات المتعلقة بالتعليم، الشباب، إعداد التراب، وبناء أماكن العيش. ساهمت هذه التصورات في بروز تمثلات سلبية للثقافة تجلت في ضعف الاستثمار العمومي في الحقل الثقافي، في الوقت الذي يفترض فيه أن حضور الهوية الوطنية بأبعادها وروافدها وتنوعها الثقافي والحضاري في الدستور المغربي، كان يجب أن يخلق وعيا جديدا بأهمية المسألة الثقافية في السياسات العمومية، وبأدوارها في إدماج الشباب في الحياة العامة كما في التماسك الوطني. وقد أفرزت لنا هذه التصورات تباينا كبيرا بين تحديث المغرب لبنياته التحتية والمؤسساتية، وبين الخصاص الظاهر في الثقافة، هذا في الوقت الذي كان من المفترض أن تواكب مجهودات التحديث المادية نهضة ثقافية عصرية تبدأ بالتربية والأسرة لتمتد إلى المجال العام في شكل سلوكات مدنية. وهكذا دفعت التمثلات السلبية للثقافة الباحثين والفاعلين في الحقل الثقافي إلى طرح تساؤل جوهري: هل هناك سياسة ثقافية عمومية في المغرب تمتلك شروط ووسائل جذب الشباب إلى برامجها، وتيسر لهم ولوج استعمال خدماتها وعروضها؟ فمن المعروف أن هناك برامج عمومية تضعها وتنفذها قطاعات حكومية معنية بقضايا الشباب، كما تقوم بتوفير بنيات تحتية على قلتها موجهة بالأساس إلى الشباب، إلا أن هناك تباينا واضحا بين العرض والاحتياجات الكبيرة للشباب من المنتوج الثقافي، ويعزى ذلك إلى مجموعة من التحولات الاجتماعية والتكنولوجية التي عرفها المجتمع المغربي وأثرت بشكل مباشر على الممارسات والتعبيرات الثقافية الشبابية، ويمكن تلخيصها حسب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في التحولات التالية: تعميم التعليم وخصوصا في المجال الحضري منذ الثمانينات ثورة الإعلام السمعي البصري، وولوج قنوات فضائية دولية وعربية في أواسط التسعينات. الثورة الرقمية والتوسع التدريجي لولوج تكنولوجيات الإعلام والاتصال في أواسط العقد الأول من هذه الألفية. هذا التشابك والتداخل الذي حصل بين التحولات الثلاثة أثر في الهوية الثقافية للشباب التي تعرضت إلى تغيرات جذرية، حيث خلخلت وسائل التكنولوجيا الحديثة علاقته بالمكان والزمان والصورة وأنماط الاستهلاك الثقافية، لدرجة أصبح لكل شاب من خلال هذه الوسائل إمكانية خلق عالمه الثقافي الخاص الواقعي أو الافتراضي. وقد ساهم التحول الهوياتي في إنتاج ممارسات وتعبيرات ثقافية جديدة في أوساط الشباب، حيث تمكن الشباب المغربي من ابتداع ممارسات فنية وثقافية انتزعت اهتمام عدد كبير من الباحثين والمهتمين بالمسألة الشبابية. لكن المشكل الكبير الذي يواجه البحث في الممارسات الثقافية الجديدة للشباب يتمثل في ندرة المعلومات والدراسات التي ترصدها من حيث مداها، نوعيتها، مضامينها، متلقيها، وكيفيات التجديد فيها. فهناك نقص كبير في معرفة الواقع الحقيقي للممارسات الثقافية التي سمحت بها الثورة الرقمية، وإلى أي حد أسهمت في مجهودات إدماج الشباب في المجتمع أو في تشجيع الفردنة والانعزال. يمكن تأريخ البدايات الأولى لظهور التعبيرات الثقافية الشبابية الجديدة مع نهاية تسعينات القرن الماضي عندما بدأ الشباب المغربي في ابتداع ممارسات ثقافية وفنية خاصة به ابتدأت بالهواية ثم اتخذ بعضها إطارا منتظما بل وشبه مؤسسي، إذ كانت في البداية عبارة عن أنشطة وممارسات تحركها ميولات شبابية من أجل المتعة، وفي إطار دائرة محدودة من المتابعين يعبرون من خلالها عن هواجسهم ومواقفهم من المجتمع والعالم. هذه الممارسات الثقافية الشبابية احتضنتها في البداية بعض المنابر الإعلامية «المستقلة» مثل لوجورنال وتيل كيل، ثم دعمتها جهات ومؤسسات رسمية التقطت أهمية ودلالات هذه الممارسات الثقافية الجديدة، خاصة أنها انبثقت في سياق تاريخي وسياسي هام تميز بحدثين صنعهما شباب عبر بطريقته عن نوع من «الثقافة المضادة» لما هو سائد اجتماعيا، وشكلا منعطفين في تطور نظرة المجتمع إلى شبابه، وأحدثا صدمة عميقة في المجتمع المغربي، ودفعا الفاعلين في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي إلى الانتباه للتحولات العميقة التي يعيشها المجتمع المغربي، وإعادة التفكير في مسألة قيم وثقافة الشباب حيث ظهر للعيان أن الحقل الشبابي يعيش مخاضا، وتوترات تصعب مسار إدماج الشبيبة المغربية في المجتمع. فقد كانت الدارالبيضاء سنة 2003 مسرحا لحدثين؛ الأول تمثل في اعتقال ومحاكمة 14 شابا يمارسون موسيقى الروك ووجهت إليهم اتهامات بأنهم من «عبدة الشيطان»، وترتب عن اعتقالهم والمحاكمة تعبئة شبابية وإعلامية وفنية غير مسبوقة أدت إلى إطلاق سراحهم. وساهم هذا الحدث في فتح نقاش ثقافي حول الأذواق الموسيقية الجديدة لشريحة من الشباب المغربي المتأثر بتيارات موسيقية عالمية. والحدث الثاني الصادم هو الأحداث الإرهابية يوم 16 ماي 2003، عندما قام 14 شابا ينتمون إلى أحياء فقيرة ومهمشة في الدارالبيضاء بعمليات انتحارية ذهب ضحيتها ما يقارب 40 شخصا في أماكن متفرقة بالمدينة. في هذا السياق التاريخي انطلقت حركة «نايضة» وهي حركة فنية وثقافية شبابية أحدثت ثورة فنية بداية الألفية الجديدة وحولت شوارع الدارالبيضاءوالرباط إلى منصات يعتليها الشباب لتقديم فنونهم «الغريبة» عن الثقافة المغربية ليس فقط في الجانب الموسيقي، بل تعدى التأثير إلى الفن التشكيلي والرقص المعاصر. وقد انبثقت إرهاصاتها الأولى منذ التسعينات مع مهرجان «لبولفار L'Boulevard»، وهو مهرجان لفنون الشارع موجه للشباب بشكل خاص انطلقت نسخته الأولى سنة 1999 بموقع المسالخ القديمة بالدارالبيضاء، حيث اتخذ شكل مباريات تنافسية بين الفرق الموسيقية الشبابية من مختلف الأنواع ورسامي الغرافيتي. كما تطور مع نسخه المتكررة ليتحول إلى مناسبة موسيقية وطنية ودولية لمختلف ألوان الموسيقى (راب، كناوة، تكنو، روك…). وبذلك شكل «لبولفار» تجربة ثقافية فنية رائدة تكونت انطلاقا منها مجموعات شبابية امتدت إلى مدن مغربية أبرزها (هوبا هوبا سبيريت، دارغا، أش كاين…)، فأيقن العديد من الفنانين والصحفيين بظهور مزاج عام أطلقوا عليه اسم «نايضة» والتي كانت تعبيرا مغربيا جديدا للدلالة على المشهد الموسيقي الوليد الذي جرى تشكيله في عام 2006 من خلال ملف لمجلة تيل كيل الأسبوعية، ثم الفيلم الوثائقي «كازا نايضة» سنة 2007 الذي كتبته دومينيك كوبيه وأخرجته فريدة بليزيد. ومن المهم جدا ونحن نتحدث عن هذه الدينامية الثقافية والفنية الجديدة إثارة الدور الذي لعبه «مهرجان كناوة» للموسيقى بالصويرة باعتباره أحد أوائل المهرجانات الموسيقية الدولية وقد أنشأته سنة 1998 مجموعة (A3 Communication)، والذي لم يكن مكانا لتلاقي الموسيقيين من الشمال والجنوب فحسب، وإنما كان أيضا مختبرا مفتوحا في الهواء الطلق أمام المواهب الشابة. وفي وقت لاحق بدأت تنبثق في قلب المدن بعض الأماكن حيث يختمر وعي مواطناتي معين من خلال حرية التعبير والأداء الفني العفوي، والفن، والحوار الثقافي. ومن الممكن الإشارة في هذا الصدد إلى العديد من التجارب التي ولدت في لحظات متزامنة من بينها «دابا تياتر المواطن» في الرباط و»مقهى الفلسفة» و»الباطوار» في الدارالبيضاء، وقد بدأت جميعها في سنة 2009من دون تشاور أو رابط مسبق، وجرى تصميمها واشتغلت عبر نقاط دخول كثيرة بوصفها مساحات للإبداع والنقاش العام. وقد شهد الحقل الثقافي المغربي بعد ذلك اضطرادا متواصلا لتعبيرات ثقافية شبابية جديدة حاولت استعادة الفضاء العام وشكلت صدى ثقافيا ل «حركة 20 فبراير»، ومن الديناميات الثقافية التي ظهرت نذكر: الفلسفة فالزنقة، مسرح المحكور، ومبادرات قرائية متعددة هدفت إلى رد الاعتبار للكتاب وجعل الفضاءات العمومية حاضنة له. ويبدو إذن أن هذه الديناميات الثقافية والفنية الجديدة قد منحت لمجموعة من الشباب المغاربة إمكانية أن يصبحوا جزء من فاعلي الحقل الثقافي بطريقتهم الخاصة يطبعون فيه تجاربهم الثقافية بلمسة فنية إبداعية، قد تتعارض مع المتحكمين في الحقل الثقافي وقد تتصارع من أجل البقاء والاستمرارية، لكنها تمكن الباحث من بناء عناصر تفكير تساعده على فهم الأسس التي يمكن أن تنبني عليها «ديمقراطية ثقافية» تتجسد في الفضاء العمومي الذي يتقاسمه فاعلون يختلفون من حيث رؤوس الأموال اللغوية والثقافية والاجتماعية. موقع الشباب في السياسات الثقافية؛ قراءة في الحصيلة: إن تقديم قراءة موضوعية في حصيلة موقع الشباب في السياسات الثقافية بالمغرب يجب أن ينطلق من معرفة انتظارات وتطلعات الشباب في المجال الثقافي. ويمكن استخلاص ذلك من نتائج الاستشارة التي أطلقها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول موضوع «البرامج العمومية الموجهة إلى الشباب»، حيث تصدر موضوع الثقافة نسبة 50٪ ضمن المواضيع التي يتعين أن تحتل حسب المشاركين/ات في هذه الاستشارة مكانة هامة جدا في هذه البرامج. كما أن عمليات الإنصات للشباب التي قامت بها اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي أظهرت اهتماما خاصا لهذه الفئة بموضوع الثقافة من جهة التطلعات لتقوية الفضاءات والأماكن المخصصة للثقافة، ومن جهة أخرى تناول موضوع التعبير الثقافي والفني باعتباره ضمانة لأكبر مشاركة اجتماعية ومواطنة للشباب. وقد تمحورت انشغالات الشباب المشارك في عمليات الإنصات في نقطتين: الأولى عدم وجود مساحات مخصصة للتعبير الثقافي والفني، فالمشاركون/ات في جلسات الإنصات متفقون بالإجماع على أنه إذا خصصت للشباب والأنشطة الاجتماعية والثقافية مؤسسات ومساحات كالمراكز الثقافية ودور الشباب، يكمن المشكل في فعالية عمل المراكز المخصصة للشباب،وفي تجهيزاتها وقدرتها على دمج انتظاراتهم وترجمتها في برامج وأنشطة مناسبة. ومن هذا المنطلق أشار المشاركون/ات في جلسات الإنصات التي نظمتها اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي إلى صعوبات الولوج إلى هذه المساحات بسبب التعقيدات البيروقراطية، كما لاحظوا تراجعا في التعبير الثقافي وعزوا ذلك إلى ضعف المساحات والأماكن الثقافية وصعوبات الولوج إليها. أما النقطة الثانية التي أثارت انشغال الشباب هي التمييز الاجتماعي والترابي في سبيل الولوج إلى الفن والثقافة، حيث ركز المشاركون/ات في جلسات الإنصات على الأنشطة الثقافية التي تكاد تكون منعدمة لسكان الأحياء ودواوير العالم القروي وكذلك الأقاليم والجهات البعيدة، كما لاحظ البعض التكلفة الباهظة للتجهيزات لممارسة الفن والرسم بالمغرب وغياب مدارس الموسيقى. وانطلاقا من دراسة ميدانية اشتغلنا عليها خلال الفترة ما بين سنتي 2022-2023شملت ثلاث جهات (درعة – تافيلالت، مراكش – آسفي، وفاس – مكناس) بهدف تشخيص آليات وفرص الإدماج الثقافي للشباب من خلال ورشات عمل مع الشباب والشابات ولقاءات مع فاعلين في الحقل الثقافي على المستوى المحلي والجهوي، يمكن تحديد الإكراهات التي تعيق الإدماج الثقافي للشباب بهذه الجهات في النقط التالية: غياب العدالة المجالية في توزيع البنيات التحتية الثقافية بالجهات. ضعف تكوين وتأطير الأطر العاملة بالمراكز الثقافية والسوسيو تربوية. الهشاشة السوسيو اقتصادية للشباب. البيروقراطية وتعقيد المساطر الإدارية للولوج إلى المرافق الثقافية والفنية. ضعف الميزانية المالية الموجهة لدعم المشاريع والبرامج والجمعيات الثقافية. غياب مواكبة ومتابعة وتقييم المشاريع والبرامج الممولة. ضعف التجهيزات اللوجستيكية بالمؤسسات الحاضنة للأنشطة الثقافية للشباب. انتشار المنطق التجاري في تسويق المادة الثقافية. هذا التشخيص الذي قدمه الشباب والشابات، ومستوى انتظاراتهم وتطلعاتهم في المجال الثقافي يعكس أن هذا المجال لا يحظى بالقدر الكافي من التثمين والتوجيه نحو الشباب، ويتجلى ذلك في غياب برامج موجهة للشباب على وجه الخصوص على الرغم من كونهم هم المستفيدون الرئيسيون من الثقافة. ويمكن استخلاص ذلك بالعودة إلى البرنامج الحكومي للولاية التشريعية (2016-2021)، حيث يلاحظ أن حضور الشباب في المحور الخاص بالثقافة والمعنون ب «تحسين الولوج إلى الثقافة والإعلام والنهوض بهما» شبه منعدم ويقتصر على جملتين: تشجيع الولوج للمتاحف الوطنية والخدمات الثقافية لفائدة الطلبة والتلاميذ. دعم الإنتاجات الفكرية والأدبية للمؤلفين الشباب والمساهمة في إشعاعها. أما في البرنامج الحكومي للولاية التشريعية (2021-2026)، فيحضر الشباب في المجال الثقافي بشكل ضعيف من خلال: جعل الثقافة رافعة للتنمية المجالية ولإدماج الشباب على وجه الخصوص. دمج الرأسمال الثقافي في مؤسسات التنشئة كالمدرسة والإعلام وأماكن العيش. العناية بالشباب في إطار برنامج شمولي متكامل من خلال إحداث «جواز الشباب» لتسهيل الاندماج والتنقل والتمكين الثقافي لهذه الفئة. وهذه الإجراءات الحكومية جدد رئيس الحكومة عزيز أخنوش التأكيد عليها في الجلسة المخصصة للأسئلة الشفوية الشهرية المتعلقة بالسياسة الحكومية في المجال الثقافي يوم الاثنين 31 يناير 2022. وبالعودة إلى مشاريع نجاعة الأداء خلال الولاية الحكومية السابقة (2017-2021) وفي الولاية الحكومية الحالية (2021-2026)، وخاصة في الفترة ما بين 2022-2023 يلاحظ أن قطاع الثقافة يتوفر على ثلاثة برامج رئيسية: التراث الثقافي، الكتاب والقراءة العمومية، والفنون. وإذا كان معدل تحقيق التوقعات السنوية يتأرجح في حدود 70٪ بالنسبة لبرامج التراث الثقافي والكتاب والقراءة العمومية، إلا أنه لا يزال ضعيفا للغاية بالنسبة لبرنامج الفنون الذي لا يتجاوز 27٪ بسبب إلغاء المساعدات للعديد من مجالات الموسيقى وفنون الكوريغرافيا. وفي معرض تقديمها لاستراتيجية قطاع الثقافة في تقارير نجاعة الأداء منذ 2018 إلى 2023 تستعرض الوزارة الوصية بشكل واضح العديد من المعيقات التي تعترض السياسات العمومية في مجال الثقافة ولا تتيح تلبية انتظارات الشباب، وهي: ضعف الميزانية المخصصة لقطاع الثقافة. خصاص في الموارد البشرية. تعدد أشكال التدخل والدعم للقطاع الثقافي. ضعف المؤسسات الثقافية القائمة. خصاص هائل في جرد وتقييد وترتيب المواقع التاريخية والتحف الفنية وعناصر التراث اللامادي. وعلى الرغم من الجهود المبذولة في هذا المجال، وأمام قلة الموارد المالية والبشرية المخصصة للقطاع يظل من الصعب الاستجابة بشكل كاف ومناسب لاحتياجات وانتظارات الشباب في مجال الثقافة، فضعف الاستثمار العمومي في مجال الثقافة يمثل أكبر دليل على غلبة التمثلات السلبية أو الضيقة لها، في الوقت الذي يفترض الإقرار بالتنوع الثقافي وعيا جديدا بأهمية المسألة الثقافية في السياسات العمومية، وبأدوارها في إدماج الشباب في الحياة العامة كما في التماسك الوطني. ويلاحظ أيضا أن البرنامج القطاعي لوزارة الثقافة حين يستحضر الشباب فإن هذا الحضور لا يغطي المجال الجغرافي بالمغرب في تعدده وتنوعه، حيث يبدو الحضور والاهتمام بالشباب في المجال القروي محدودا وغائبا. فالبرامج الثقافية ما يزال المستهدف بها هو الشباب في المجال الحضري، وهو ما يستوجب تدارك هذا الخصاص الكبير في الاهتمام بالشباب في المجال القروي. كما أن وسائل وآليات حكامة الحقل الثقافي مع حماية حق الشباب في الثقافة في حاجة إلى مزيد من التطوير، إضافة إلى أن حق الشباب في الإبداع والإسهام في الحياة الثقافية لم يحظ بالدعم الكافي وما زال يواجه صعوبات على أرض الواقع. هذه الحصيلة المتواضعة لموقع الشباب في السياسات العمومية الثقافية تؤكدها معطيات البحث الميداني حول «الممارسات الثقافية للمغاربة» الذي أنجزته جمعية جذور، حيث أن أكثر من نصف الشباب (58.21٪) لم يحضر عرضا موسيقيا بين 2015 و2016، وأن 14.31٪ فقط حضر مرة واحدة لعرض موسيقي. وفي ما يتعلق بالسينما أجاب 79.47٪ من الشباب أنهم لم يزوروا قاعة السينما في فترة 2015-2016، بينما نسبة 6.39٪ فقط حضرت مرة واحدة عرضا في قاعة السينما، وهو ما يؤكد بشكل ملموس أن فئة الشباب تعاني دائما من الإقصاء الاجتماعي، وقليلا ما تلج إلى البنيات التحتية الثقافية. وبعد تقديم صورة شاملة لموقع الشباب في السياسات الثقافية يلاحظ أن الدولة لا زالت طاغية على الحقل الثقافي من خلال سياسة الوزارة الوصية على القطاع، في حين أن الجماعات الترابية لا تتدخل بشكل كبير في القطاع الثقافي، ونظرا لضعفها لم تنقل لها الدولة مسألة بناء وتدبير البنيات الثقافية، بحيث أصبحت الجهات تقوم بعملية التنشيط الثقافي على مستوى البرمجة لكنها لا تقوم بتطوير البنيات التحتية. كما أننا نسجل وجود قوانين تتعلق بعملية التدبير الثقافي لا يتم تنفيذها، إضافة إلى وجود ولوجية متفاوتة للثقافة، وهذا يعني أنها ليست مسألة استراتيجية بالنسبة للمسؤولين، فتأهيل البنية مهم لكن تطوير المحتوى الثقافي يجب أن يحظى أيضا بنفس الدرجة من الأهمية، حيث تعتبر الثقافة ركيزة أساسية لتطوير المجتمع وجذب الموارد المالية. نخلص هنا إلى أن الثقافة هي مكون أساسي للهوية الاجتماعية ويجب أن تتبوأ مكانة هامة مثل باقي القطاعات، وهذا من شأنه أن يطور الصناعة الثقافية لتساهم في الإنتاج الداخلي الخام للبلاد. فالتنوع الثقافي الذي يزخر به المغرب يعتبر مسألة أساسية لخلق التوازن والتماسك الاجتماعي ودعم النشاط الاقتصادي، وهذه القضية ترتبط أساسا بقبول الشباب لهذا التنوع والعمل على تطويره وترسيخ ثقافة قبول الآخر، حتى تكون الهوية المغربية قوية وقادرة على التفاعل مع التحولات العالمية الكبرى. البيبليوغرافيا: المملكة المغربية، رئيس الحكومة، البرنامج الحكومي تطبيقا لأحكام الفصل 88 من الدستور، الولاية التشريعية 2016-2021، أبريل 2017. البرنامج الحكومي 2021-2026، أكتوبر 2021. الجريدة الرسمية للبرلمان؛ المدة النيابية 2021-2026؛ السنة التشريعية الأولى: دورة أكتوبر 2021، السنة الأولى، عدد 143، 9 فبراير 2022. مشاريع نجاعة الأداء لقطاع الثقافة، مشاريع قوانين المالية 2018-2019-2020-2021-2022-2023. المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي: التقرير السنوي 2011. إدماج الشباب عن طريق الثقافة، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة ذاتية رقم 3/2012. اقتصاديات الثقافة، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة ذاتية رقم 25/2016. نجاعة البرامج الموجهة للشباب خلال الفترة ما بين 2016-2021، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة رقم 34/2022. نتائج الاستشارة التي أطلقها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول موضوع البرامج العمومية الموجهة إلى الشباب. مقترحات وتوصيات لتعزيز فعلية الحقوق ضمن السياسات العمومية، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أكتوبر 2021. تقديم نتائج الاستماعات والمساهمات المنظمة من طرف اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، الملحق رقم 1، أبريل 2021. المسح الاستكشافي للسياسات الثقافية في المغرب: قام بتنفيذ المسح عام 2009 سلامة الغيام وفاطمة الزهراء الشعباني، وقام بتحديث المسح عام 2014 مراد القادري، مؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة، المورد الثقافي، برنامج السياسات الثقافية في المنطقة العربية. الإدماج عن طريق الثقافة والفنون: نماذج من سياسات الإدماج في مدينة مونتريالكندا، ورقة بحثية من إعداد يزن الشريف، سلسلة المرصد 3، مؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة. السياسات العمومية الثقافية في المغرب، منشورات معهد بروميثيوس للديمقراطية وحقوق الإنسان ومؤسسة نسيج – موارد للتنمية الشبابية المجتمعية في الوطن العربي، ط 1، الرباط، مطابع الرباط نت، دجنبر 2015. الثقافة والتنمية والتحول المجتمعي نحو الديمقراطية؛ التقرير النهائي، شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية. لماذا الثقافة هي الحل؟: وضع الثقافة في المغرب، تونس، مصر، ولبنان، جمعية جذور، دجنبر 2017. تقرير تقييم السياسات العمومية ذات الصلة بالشباب، الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، يونيو 2010. فاتن مبارك وياسين أغلالو: التعبيرات الشبابية والديمقراطية الثقافية؛ دراسة مقارنة لموسيقات الشارع بعد 2011 بين المغرب وتونس، تونس، منشورات جمعية نشاز، 2020. إدريس كسيكس: الحصيلة الثقافية ل «20 فبراير»؛ المكونات والامتدادات الإعلامية والثقافية لحركة ذات حمولة سياسية، ضمن كتاب: 20 فبراير ومآلات التحول الديمقراطي في المغرب، تحرير وتقديم: مراد دياني، تمهيد: جون واتربوري، ط 1، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نونبر 2018. *باحث في قضايا الشباب وحقوق الإنسان