لا ينبغي أن يتجاوب التيار الإسلامي مع ضغط الصراع اليومي حتى ينسى هويته وطبيعته التي تميزه. إن حقل المدافعة السياسية كثيرا ما يضمر البعد الإصلاحي للحركة الإسلامية، ومطلوب منها ألا تخفي هذا البعد وألا تؤجله. فالحركة الإسلامية هي حركة إصلاحية تتوخى إحداث جملة من التغييرات النفسية والسلوكية لدى الفرد. وتتحدد الغاية النفسية في الباعث والوازع الذي يعتبر منطلق العمل وأساسه، إن البواعث الدنيوية والوازع الأرضي لا مكان له في تصور الحركة الإسلامية.
أخلاق التزكية ..المهمة الدائمة
والمهمة التي ينبغي أن تكون حاضرة في خطابها هو نقل الوجهة النفسية لدى الفرد والمجتمع من مستوى الحاجات اليومية الاستهلاكية إلى مستوى الانسلاك في خط التزكية النفسية والسمو النفسي، ولا يتصور ذلك إلا بطرح مفهوم التربية الربانية والتزكية النفسية. لا ينبغي أن تخجل الحركة الإسلامية من طرح هذا المفهوم في كل المحافل والتذكير بأساسات المعتقد ومفاصله، لأن ذلك يعتبر من مقوماتها ومن مبررات وجودها. إن قضية المعتقد والتربية والتزكية النفسية لهي الكفيلة بمعالجة مشكلة السلوك في الراهن الحالي. ولا ينبغي أن ينفرد علم النفس وعلم الاجتماع بمناقشة قضية السلوك الاجتماعي دون أن يكون للوجهة الإسلامية نظر وتقويم، وطبيعة الحركة الإسلامية الإصلاحية تجعل أي ضمور لهذا المعطى أو تأجيل يضعف من حضورها ويصنفها ضمن الحركات التغييرية الدنيوية. أمر آخر يعتبر من مقتضيات البعد الإصلاحي هو المسألة الأخلاقية. إن المجتمع بحكم سيادة مجموعة من الظواهر الأخلاقية التي أسهمت في تفكيك العلاقات الاجتماعية لفي حاجة إلى استقبال خطاب أخلاقي نظيف قادر على معالجة هذه الظواهر. والحركة الإسلامية تملك هذا الخطاب بل تمتاز به. وفي تصوري فطبيعة الرسالة المحمدية هي طبيعة أخلاقية في جوهرها. وإنما فشلت مجموعة من التيارات لعدم إيلائها أهمية للمسألة الأخلاقية، غير أنه يجمل بنا أن نسجل ملاحظة مهمة: ذلك أنه ينبغي أن تحكم الحركة الإسلامية النظرة المتوازنة في الخطاب الأخلاقي. فالتركيز على موضوعات أخلاقية دون أخرى قد يخلق نوعا من التصنيف المجتمعي الطائفي. وهذا ما يحدث حين تركز حركة إسلامية على قضية الزي بقدر وازن في حين لا تأخذ الموضوعات الأخرى نفس القدر، فينظر إلى الحركة الإسلامية على أساس أنها حركة تغيير شكلي. والواقع أن تركيز الحركة الإسلامية على الموضوعات الأخلاقية بشكل متوازن مستجيب للحاجات الواقعية وضغط بعض الظواهر الاجتماعية يمكن أن يؤكد الصفة الإصلاحية للحركة الإسلامية التي تعتبر من أقوى عوامل قوتها وحضورها الجماهيري. وأكبر ما يتهدد الحركة أن تنساق بفعل المدافعة السياسية إلى جو تفقد فيه بعض أخلاقيات الدعوة: الهوية الحقيقية للحركة. ومطلوب منها خصوصا في هذا الحقل أن تكون أكثر حرصا على صفتها الإصلاحية ومنطقها الدعوي حتى تكون وفية لخطها لا يثنيها عنه ضغط يومي ولا حاجة أرضية. ونخلص من كل هذا أن قضية المعتقد والتربية والتزكية النفسية والمسألة الأخلاقية كل ذلك يعتبر من صميم الخطاب الإسلامي الحركي، وهو الذي يعطي للبعد الإسلامي مضمونه الحقيقي. وهو أيضا الذي يميز الحركة الإسلامية ويحمي حتي كسبها السياسي.
السياسة والدعوة: مرجعية واحدة وخطاب مختلف لا يجادل أحد في أن منطق السياسة يختلف عن منطق الدعوة وإن تقاطعا في المقاصد والغايات. ذلك أن السياسة بمفهومها الأشمل لا تشتغل بعيدا عن الواقع. وطبيعة السياسة تجعل من النزوع إلى الحكم برنامجا وغاية للعمل السياسي، وإذا كان التصور الإسلامي أضفى على السياسة مضمونا عقديا، وجعلها تأخذ قدرها داخل المشروع الإسلامي، باختلاف في التقدير بين تيارات الحركة الإسلامية فإن العمل السياسي بمضمونه الدعوي لا ينفك عن طبيعته ميدانيا. وإذا كان الاعتقاد سائدا لدى الحركة الإسلامية بتجديد مفهوم العمل السياسي وتنزيهه عن الممارسة السياسوية المعروفة عند أهل الدجل السياسي، فإن التصور الإسلامي الحركي لم يضف على السياسة إلا الارتباط المرجعي، وتخليق الوسائل والمسالك، وتبقى السياسة بذات المشروع المجتمعي الذي تحمله غير منفكة بحال عن طبيعتها بما هي السعي الحثيث لكسب مزيد من المواقع... مواقع التأثير والتمكين. بهذا المعنى يختلف منطق السياسة عن منطق الدعوة... فالدعوة تلتقي مع السياسة في المرجعية، وتفترق معها عند الواقع وفي الخطاب، فطبيعة الدعوة، بما هي ربط الناس بالخالق وتذكير بالمصير الأخروي، ترفض الطابع التصنيفي للمجتمع لأنها قائمة أساسا على خلفية توحيد كل الشرائح الاجتماعية على مضمون عقدي تربوي سلوكي، في حين منطق السياسة تحكمه التصنيفات الاجتماعية والسياسية والطبقية أحيانا، وإن كان المضمون العقدي يتدخل فيها، لكن منطق السياسة وطبيعة العمل السياسي الميداني يفرض ذلك منذ بدء أول ممارسة سياسية في التاريخ. منطق الدعوي أعم وأشمل من الخطاب السياسي، وإن كان العمل السياسي بحكم التقاطع في المرجعية يستثمر آثار الخطاب الدعوي، فتظهر السياسة وكأنها أنتجت كل شيء.
فروق في الخطاب يفترق الخطاب السياسي عن خطاب الدعوة افتراقا جوهريا، فالخطاب السياسي بمضمونه الإسلامي هو خطاب احتجاجي استنكاري يتوافق وأهداف العمل السياسي، ول يجنح الخطاب السياسي يوما أو يستنكف عن تحقيقه للمقصود السياسي. نعم يحدث أن يخضع الخطاب السياسي للمنطق الدعوي بحكم الارتباط المرجعي وكون الخطاب السياسي يمتح من معين الخطاب الدعوي، ولكن ميدانيا ينزع الخطاب السياسي إلى حشد مفاهيم الاحتجاج والتدافع والنقد والتقويم لكي يكون منسجما مع أهدافه بما هي كسب المواقع.. ومعركة التمكين للمشروع الإسلامي. ومهما حاول الخطاب الإسلامي السياسي أن يضمر مقاصد العمل السياسي أو يقلل من سقف مطالبه فإن طبيعة العمل السياسي وساحة التدافع السياسي ستدفعه في هذا الاتجاه وفق المعادلة القائمة وفق الشروط السائدة. الخطاب الدعوي خطاب أبدي لا يهمه كسب المواقع، ولا حتى كسب معركة التمكين.. الخطاب الدعوي يترك المواقع والتمكين للخالق، ويمضي ناشرا مقولاته ومفاهيمه: وصل بالخالق.. وتحذير من المعصية وترغيب في الجنة.. حب لله ورسوله، وارتباط بحبل الله ورسوله وتأسي بالسلف الصالح. خلق وتزكية... معا تكسب الخطاب الدعوي شمولا واستيعابا لشرائح المجتمع.. لطبقات الشعب. بين الخطاب السياسي والخطاب الدعوي تتأرجح الحركة الإسلامية؟ معادلة صعبة داخل واقع معقد التركيبة. بأي أسلوب سيعالج هذا الإشكال؟ ومن أي منطلق نبدأ؟
الدعوة شاملة والعمل السياسي من وسائلها منطلقان إن لم تحسن الحركة الإسلامية تزيلهما انزلقت إلى اجترار تجارب ما زالت الحركة الإسلامية تؤدي ثمنها، وتملأ صفحات النقد بها. فإذا تحددت هوية الحركة الإسلامية وتحدد العمل السياسي كأحد وسائل الاشتغال، فلا ينبغي أن يصير الخطاب السياسي مستحوذا على كل خطابات الحركة الإسلامية. لا نقول طبعا بإلغاء هذا الخطاب، فله قدره وضرورته، ولكن ينبغي أن يبقى متناسبا وحجم الوسيلة التي تنتجه، فإذا كان العمل السياسي لا يشكل سوى جزء داخل واجهات العمل الإسلامي فإن الخطاب السياسي بمضامينه الاحتجاجية والاستنكارية وسعيه لكسب المواقع في معركة التمكين ينبغي أن يبقى خطابا إلى جانب خطابات أخرى تشق طريقها داخل الحركة وفي صفوف المجتمع ينتظمها الخطاب الدعوي الأشمل. سيلتقي الخطاب السياسي بحميمه النقابي وسيزحف على الخطاب الحقوقي وقد ينضم إليه خطاب المحافظة على البيئة.. وخطاب الدفاع عن المعوق.. لينصهر كل ذلك داخل الخطاب السياسي.. وسيضمر الخطاب الدعوي إذ سيفقد مجالات كثير لانسيابه. لابد أن نعيد الموازنة والتقدير داخل الحركة الإسلامية خصوصا في إعلامها لأنه مكان انسياب الخطاب.. لابد أن يتقوى الخطاب الدعوي بمضامينه الإيمانية التبشيرية ويمر عبر حقل الثقافة ويجد أمامه مجالا أوسع لاشتغاله مع المجال الحيوي: العمل الاجتماعي كي ينتظم كل الخطابات الأخرى ضمنه بأقدار موزونة كي تحافظ الحركة الإسلامية على هويتها الدعوية وحتى على مشروعها المجتمعي التي تدعو إليه. خطاب الالتماس واللين والحوار بالتي هي أحسن، خطاب الموعظة والحكمة قد ينفذ حتى داخل الخطاب السياسي، فيقلل من مفاهيم الاحتجاج لصالح تنمية الخطاب الدعوي. موضوع حري بالحركة الإسلامية أن تتأمل فيه، وإلا لصعب التمييز بين الحركة بهويتها الدعوية وأجهزتها التخصصية الشاملة وبين عملها السياسي، وقد تصير وسيلتها الواحدة تمثلها وتجرها إلى موضوعات ومواقف لم تكن مسطرة في جدول أعمالها، فينقلب الفرع على الأصل وإن تحدثت الحركة في منهجيتها وتقصيدها عن أولويات العمل.
اغتيال الدعوة... موت التربية التربية تمثل لقيم وبناء لشخصية تتوازن فيها منهج الفكر بواقع السلوك، والدعوة عملية تناقل لهذه القيم من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعة.. الدعوة باختصار هي عملية توفير للشروط النفسية والاجتماعية التي تضمن للفرد الرأسمال التربوي الأول... فإذا كانت التربية كسب بشري يتكيف مع المعادلة الاجتماعية وعناصرها، وسعي حثيث لبناء التوازن الإنساني، فإن الدعوة هي وسيلة الوسائل ليتحول الكسب البشري إلى ثقافة ينتظم داخلها الكل. وهي بها المعنى عملية دينامية ضرورية لتفعيل القيم داخل المجتمع وإعادة الاعتبار لها. بهذا المعنى يصبح أي طعن في الدعوة أو إيقاف لعجلتها هو تهديد للتناقل القيمي داخل صفوف المجتمع، لأن الدعوة كما سبق وأن بسطنا الحديث هي التي تحمي قيم الدين، وتدعم التدين في صفوف المجتمع، وإذا توقفت الوظيفة الدعوية تسرب الخلل إلى التدين ولو بعد حين، لأن معاني الدين مفتقرة إلى التأكيد والتذكير لتكون راسخة في الوجدان، ثابتة في الضمير، متحدية لهموم اليوم، وهذه الوظيفة هي اختصاص الدعوة. وقد نفاجأ بالخطاب الذي يلغي وظيفة الدعوة ويغتالها، وهو منطلق من منطقها متكلم باسمها. فالمتحدث عن قضايا السياسة يمارس الدعوة في ثغره السياسي، والمشتغل في قضايا الاقتصاد واقف على هذا الثغر داع إلى الله، والغارق في تلبية مصالح الناس ومطالبهم وحاجاتهم، والمفكر القارئ... لا يجادل أحد في صحة هذا المنطق، إذ أن شمولية الدين تقتضي تفريغ الطاقات والكفاءات وفق تخصصات تستدعيها فريضة الوقت ومواهب الفاعلين. غير أن في هذا المنطق نوعا من التلبيس آن وقت كشفه وبسطه: ليس علمانيا في تصوره من يتهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي المنطلق من مرجعية الإسلام باغتيال الدعوة ولو كان واقفا على ثغره مؤديا لوظيفته التي أنيط بها في تخصصه. ليست الدعوة أن ينبري السياسي في معركة التدافع السياسي لينتصر لقيم الإسلام ويمكن لها ضمن موازين القوى السائدة، إنما الدعوة، فوق كونها تبشر بالعدل الاجتماعي ومناهضة الظلم، ومعرفة الله وشوق إليه ويوم آخر وثواب وعقاب.. وهي مفاهيم تتلاشى في خطاب السياسي المثقل بمفردات المشروع السياسي الإسلامي، وتتضاءل في خطاب الاقتصادي الذي يتغنى بالتكافل والكفاف والعدل في توزيع الثروات... هي مفاهيم تكاد تضمر في كل الخطابات التي أسست مفرداتها ولا شك من مرجعية الإسلام، ولكن مفصولة عن إطارها العقدي الذي انبثقت عنه. تأسست هذه الخطابات في ظروف مواجهة التحديات الفكرية وانساقت في زحام اللجاج والسجال فتضاءلت فيها قيم الغيب وتضخمت فيها قيم الشهادة استجابة لمنطق العقلانية السائدة. وبدأت عملية الاغتيال البطيء للدعوة إذ بدأ الفصل المميت لخطاب السياسة الإسلامي عن مفردات العقيدة... والكلام عن الاقتصاد والاجتماع.. يتشابه. وليس غنيا عن البيان أن اغتيال الدعوة يسبقه بالضرورة موت التربية وانتصار القيم اليومية على قيم الدين.. وما القيم اليومية إلا تلك التي حررها السوق وذكاها الاستهلاك.. وغذا لو اغتيلت الدعوة وماتت التربية تنقلب كل الخطابات التي تمتح من المرجعية الإسلامية ولا يبقى لها من التعلق بها إلا الانتساب الفارغ من كل دلالة، وذلك تاريخنا يشهد علينا وتاريخ من جعل المرجعية الإسلامية منطلقه في تصوره وخطابه وغادرها أو غادرته بعد خذلانها، إذ الأفكار المخذولة تنتقم بتعبير مالك بن نبي.
الحركة الإسلامية والتخليق لم تكن مفردات الأخلاق والتخليق تنتمي إلى الخطاب العلماني،، ولم تكن المنظومة الأخلاقية في أحسن أحوالها سوى محددات للخطاب الديني الذي تراجع أمام الثورة المفهومة ليترك مكانه لمفاهيم جديدة ومضامين أخرى تعلي من شأن المواطنة والالتزام بالقوانين، وكان الظن سائدا أن شعور الإنسان بقيمته كمواطن وإدراكه لمصلحته ضمن المصلحة العامة يرفض نوعا من الصرامة في التعامل مع المقتضيات القانونية، كان الظن سائدا بناء على قراءة لرصيد التجربة الأوروبية أن الوعي بالتزام القانون هو حصيلة التراكم التاريخي وهو كفيل بتحقيق المصلحة في إطار التعاقد الاجتماعي الذي يجعل من المواطنة منطلق الوعي والحراك الاجتماعي. ونسي الخطاب العلماني أن المواطنة حصيلة صراع تاريخي تفاعل فيه السياسي بالاقتصادي وتموقع الدين ومفاهيم الضمير والأخلاق في خندق المواجهة لا تغنينا المجادلة الفكرية والنظرية بشأن موقع الدين والأخلاق في هذه المعركة لكن الذي تأكد من خلال المعاينة الواقعية لمفردات الخطاب العلماني أنه طعم ذاته وغذاها بمفاهيم كان يعدها في السابق من صميم الخطاب الديني، وليس ذلك في اعتقادي إلا لكون الخطاب العلماني عجز عن تأسيس مفهوم المواطنة في الوعي، كما عجز عن تكريس ثقافة الالتزام بالقانون هذا العجز الخطير يطرح أكثر من سؤال؟ هل يكفي أن تؤسس المواطنة على مفهوم التعاقد الاجتماعي القائم على مفهوم جدل المصلحة الشخصية والمصلحة العامة؟ أيكون الشعور بالمواطنة والوعي بها مدخلا للالتزام بالقانون؟ أيكون الالتزام بالقانون لتحقيق النقلة البعيدة على مستوى التنمية؟ أسئلة معرفية لا يطرحها الخطاب العلماني، لأنه يكتفي باستنساخ التجربة الغربية ويتبنى المفاهيم جاهزة دون أن يسائل نفسه في أي بيئة تتنزل هذه المفاهيم؟ وما هي مقومات شخصية هذا الإنسان الذي يتبنى هذه المفاهيم، وما هو رصيد التجربة التاريخية وحصيلة التراكم الذي شكل وعي وثقافة هذا الإنسان؟ أسئلة يتركها الخطاب العلماني ليجد نفسه محكوما بنظرة واحدة: علاج كل المشكلات. إيجاد المؤسسات الكفيلة بتسجيلها إيجاد ترسانة قانونية تعالجها وهي إذ تبنت هذه الحلول الجاهزة وجدت نفسها مضطرة أمام عجز المؤسسات وعجز القوانين لإعلان إضافة جديدة لخطابها إنه التخليق. حين تغرق المؤسسات التي انشئت بهدف حل المشاكل في بحر الفساد والإفساد، وحين تصبح القوانين وسيلة لإثراء طبقة المفسدين توسيع قاعدتهم المادية، وحين تنتشر ظواهر الفساد حتى يتعفن الأجهزة الإدارية وتصبح قاب قوسين من الانهيار يطر الخطاب العلماني مفهوم التخليق كعنصر جديد ينضاف إلى مفهوم المواطنة ومفهوم القانون، والواقع أن مفهوم الأخلاق بدلالاته وإيحاءاته لم يكن ليشكل ثابتا من ثوابت التفكير العلماني، وإنما استصحب في زمن أصبح فيه الحديث عن القيم أمرا ضروريا ولازما. لقد زدرك الكل أن مشكلة وأسها هو الإنسان، وأنه إن تأطر مفهوم المصلحة فإنه لا يمكن بحال أن يكيفها وفق المصلحة العامة بنظرة إيمان منه بقدسية التعاقد لاجتماعي وقيمة وجوده، من هنا نرى أن استدعاء مفهوم الأخلاق كان لبناء تركيبة جديدة للفكر العلماني: كالإنسان المتخلق، والمصلحة الشخصية، ومقتضيات التعاقد الاجتماعي،والمصلحة العامة.
تراجع العلماني وتقدم الإسلامي نعود بعد ذلك للحديث عن الحركة الإسلامية ليس غريبا أن يكون الخطاب الإسلامي متهما بمعياريته واهتمامه بالتقويم واعتماده مبدأ الخلقية كمعيار لهذا التقويم، لكن الذي يبدو الآن واضحا ن تراجع الخطاب العلماني واستصحابه لمفهوم التخليق بأي مضمون كان يعتبر نصرا للحركة الإسلامية، وتأكيدا لصوابية منطلقها ومنهجها ورؤيتها للواقع، لا يهم الآن مفهوم الأخلاق الذي استدعاه الخطاب العلماني ولا يهم المقدار، إنما تهم اللحظة الزمنية التي جعلت الخطاب العلماني يتراجع، لأن انهيار القيم وازدياد وثيرته في إطار الزمن سيجعل خطاب الأخلاق وخطاب القيم بشكل عام الأكثر حضورا والأكثر جذبا، ذلك لأن العالم اليوم يتجه رويدا رويدا إلى القيم، والحركة الإسلامية حين تجعل من الأخلاق منطلقها ومن الإصلاح والدعوة إلى الخلق هويتها تكون قد كسبت الرهان في مستقبل الغد. نريد أن نفهم العلمانيون أن الحركة الإسلامية حين تطرح مفهوم التربية والسلوك إلى الله وتزكية النفس وحملها على جميل الخلق لا تطرح مفاهيما ميتافيزيقية بعيدة لا أثر لها في الواقع إنما هي تطرح عناصر بناء الشخصية التي لا يستطيع القانون وحده أن يقنعها لتشعر بالمواطنة وتسهم في التنمية لقد علمنا رصد التجربة أن الإنسان هو الذي يحتال على القوانين ويوجهها كيف يشاء لخدمة مصلحة الشخصية، كيف لا يفعل ذلك والمناخ الثقافي يؤسس لمفهوم اللذة الفردية والمصلحة الشخصية. إن الحركة الإسلامية حين تطرح الأخلاق لا تجردها من بعدها الغيبي وجزائها الرباني كما لا تصرفها عن مقاصدها الواقعية المتجلية ابتداء في خلق الباعث الذاتي والاقتناع الشخصي والضمير الإيجابي الذي إن تفاعل مع سلطة القانون مع إحساس بضرورة النهضة شرعيا وواقعيا أمكن الحديث عن تنمية مستقبلية. هكذا يبدو لنا أن تطعيم الخطاب العلماني بمفهوم التخليق ورسوخ مبدأ الأخلاق والقيم في المشروع الإسلامي يدعو أكثر علمانيي اليوم إلى التأمل في حقيقة الخطاب العلماني ومفرداته ورؤيته للعالم والإنسان حتى يتم التواصل أولا ثم الحكم بعد ذلك.