مدخل إن هذه المقدمة، في نظرنا، ونحن ندخل عصر ضجيج العولمة، التي لا حظ لنا منها، سوى دفع ثمن رسومها وفوائدها الجمركية، كان لا بد منها، من أجل تقنين بعض الإضافات التوضيحية، للموضوع الذي سنقوم بدراسته، وللأشخاص الذين سنذكرهم، وللرموز والمراجع التي سنعتمدها. لقد كان الدافع الفعلي، من وراء هذا البحث، هو ذاك الغموض الشديد، الذي يكتنف إشكالية العلمانية، ويحوط بمفاهيمها. وكثرة التساؤل من حولها، في أوساط المثقفين. لقد توخينا، من أجل تقديم دراسة وافية، ولو وجيزة لهذا البحث، ملاحقة مفهوم العلمانية في مصادره المؤسسة له، ومتابعة مراحل تكوين خطابه الإيديولوجي. وذلك عبر أهم المراحل التاريخية، التي عاشها الغرب المسيحي، العلماني، في مواجهة الخطاب العربي، الإسلامي. ولقد اعتمدنا، من أجل القيام بدراسة نقدية، نزيهة ومحايدة، استخدام منهجية المقاربة والمقابلة، في مقابل المفارقة والإسقاط. ولقد اعتمدنا بالدرجة الأولى، على المفاهيم التي اصطلحنا على انتقائها، لأسباب موضوعية، تتعلق بطبيعة الدراسة. وهذه الوحدات النموذجية المعتمدة، قد تساعدنا في بحثنا، خصوصا حين نعمد إلى مقابلة الخطاب العلماني، بالخطاب الإسلامي. ولمعرفة فيما إذا كان إدخال الغرب للعلمانية، إلى حظيرة العالم الإسلامي، قد جاء من باب الاقتراح والتشاور، أم قد أدخل عنوة، وفرض على مؤسساتها بالقوة. هذه القوة، التي كانت تتمثل، في الخطاب العسكري، الاستعماري، (المَرْكَزَ-عِرْقي)، الأحادي البعد. أما الأشخاص، الذين اعتمدنا على شهاداتهم، المستشرقون منهم خصوصا، فلم تكن بنا حاجة علمية، إلى مرجع خطابهم (الفيلولوجي = الفقه لغوي)، المتميز بلا علميته، بقدر ما كانت حاجتنا، للإدلاء بآرائهم وشهاداتهم، المعادية أساسا، لهذه الحضارة الإسلامية، التي كانوا يستهدفون اختراقها، وزرع الفوضى فيها. أما بخصوص الرموز المستخدمة، فعلى القارئ الكريم الاطلاع عليها، في ملحق المراجع والهوامش، التي أوردناها مفصلة، في آخر هذه الدراسة. -1- الاستعمار الأوربي بين المِخْيال الصليبي والرؤية المستقبلية إن الأزمة التي تتخبط فيها حاليا، مجموع الدول الإسلامية، بما فيها العربية، واللاّعربية بشكل خاص، ليست وليدة ظروف بنيوية، أفرزتها مسألة مدى إمكانية نقل (التِّقانَة) ومقوماتها الآلية، إلى هذا البلد أو ذاك. أو هل يمكن ذاك، وكيف، ومتى، أم لا؟ أو أن هذه الأزمة، تكمن في كيفية الوصول، إلى توازن اجتماعي، ديمقراطي، بلغة الغرب، كمساهمة منه، في بناء حوار سياسي معقول، بين القمة والقاعدة. أو بعبارة أخرى، بين النموذج الحضاري القائد، والنسخة المقلدة التابعة. وبهذه المناسبة، إعادة توزيع الثروات الضخمة، في أيدي فآت ضئيلة، لهذه الدول التابعة، بغية إيجاد أرضية شافية،لنقل متطلبات اقتصادها، والمناسبة، تربة خصبة، لتثبيت مقوماتها الثقافية، كنموذج حضاري حالي، ومستقبلي. وفي الوقت نفسه، طمأنة أمن الضمير الأوربي، الصانع للقرارات الدولية، من الخطر الإقليمي الجنوبي. أن خطابا كهذا، أو تحويرات خطابية عنه، ليست في الحقيقة، سوى وجها، من وجوه خطاب سياسي (مكيافيللي)، فكر فيه الغرب، برمج له، ووضعه قيد التنفيذ، منذ دخل مستعمرا، إلى الدول الإسلامية التقليدية. فالحروب الصليبية، إذا كانت تاريخيا، قد انتهت بطرد الصليبيين، في أواخر القرن الثالث عشر، من قبل الحكام المماليك. فهي من ناحية أخرى، معنوية هذه المرة، قد ظلت هاجسا لاشعوريا، يستحوذ على الغرب الكاثوليكي، ويشغل عليه كل توجهاته. بل، بما فيها، مِخْيالَه الديني، الذي جعل له من المشرق الإسلامي، نقيضه، وعقدته التاريخية، الخاصة به. وهكذا لغاية ما حقق أمله التوسعي، في نهاية المطاف، بإطاحة رأس الخلافة العثمانية، واستبدالها بالجمهورية العلمانية الكمالية. وراحت على رسلها، مستعمرة لكل الجغرافية الإسلامية، حتى أصبحت بريطانيا، بهذه المناسبة، الإمبراطورية الإسلامية [من حيث عدد المواطنين المسلمين]، التي لا تغرب عنها، الشمس. و لمزيد من الإيضاح، نقترح العودة، إلى المخيال الاجتماعي الأوربي، الذي ذكرناه أعلاه، قارئين إياه هذه لمرة، قراءة تحليلية جديدة، من خلال مقال (آلان دي ليبيرا) الذي صدر في الجريدة الفرنسية (العلم الدبلوماسي،شتنبر، سنة 1993)، تحت عنوان "مرض نسيان مزدوج، يغذي خطاب الغرب الكاره للأجانب". ويقول (دي ليبيرا) عن هذا الفقدان المتعمد للذاكرة، بأن نسيانا كهذا، أو تمارضا بفقدان ذاكرة تاريخية، عربية، إسلامية، تعد حلقة وصل لا محيد عنها في ربط ثقافة القرون الوسطى، بمجموع المحصول الثقافي الكوني. خصوصا بعطاء المفكرين المسلمين، في شتى الميادين الثقافية والعلمية. فهذا الغرب المتمارض، يفضح نواياه علانية، حين يدعي بأن التراث العالمي، قد انحدر إليه، من قبل المعجزة الإغريقية، أي أصوله العرقية، ومراجعه العلمية. وأنه في المقابل، ظهور حضارات، أو ثقافات مشرقية، بما فيها الحضارة العربية الإسلامية، ليست سوى فواصل، وترجمات هامشية، للثقافة اليونانية. هذه الثقافة الإغريقية-اللاتينية العظمى، التي تربط حاضر الغرب بماضيه. وهكذا، انطلاقا من رؤية (مركز-عرقية)، سيعيد الغرب قراءته، وتفسيره للتراث العالمي. وفي أواخر القرن التاسع عشر، حين تمت للغرب السيطرة الاستعمارية، على مجموع البلاد الإسلامية، ستصبح مهمته الأولى في هذه الأثناء، هي محاولة طمس معالم هذه المستعمرات الإسلامية، بمعالم مضادة، هي من وحي،إسقاط الثقافة الغربية الاستعلائية، واختراعها. و يشير (دي ليبيرا)، في المقال المذكور أعلاه، ذاك الموقف المعادي الذي اتخذه القس ( بترارك)، من هذه الثقافة الإسلامية، في القرن الرابع عشر. ويتلخص هذا الموقف، في شخص القس، الذي وقف بالساحة الكبرى، لروما العاصمة، وأعلن شهادة إيمان كاثوليكية (أوتو دافي)، ورمى إلى المحرقة، تحت عيون جماهير ضخمة، لكل من كتب ابن سينا. مشيرا إلى إعادة ربط الثقافة المسيحية، بالثقافة الجرمانية، والتخلي، عن كل ما هو عربي، بيزنطي. فكيف نترجم موقفا مثل هذا؟ في الواقع، إن موقفا عدائيا كهذا، لا يفسره، إلا ذاك الهروب المصطنع، من مجرى التاريخ الحداثي، الواقعي، إلى تاريخ عرقي مغشوش، ومنتحل. ولعل، ما يزيد هذا الموقف إيضاحا، هو ذاك الموقف المتأخر زمنيا، الذي اتخذه المستشرق الفرنسي (جوزيف إرنست رينان 1823-1892)، من الثقافة الإسلامية، التي كان معاديا لها، ومحتقرا لها. ونلخص هذا، حين قال عن ذاك (البترارك)، بأنه كان أول رجل حديث، أو بعبارة أخرى، أول إنسان، ينتمي إلى عصر، وحضارة الأزمنة الحديثة. ويرى (دي ليبيرا) بحق، عبر مقاله السابق الذكر، بأنه في سياق تاريخي معين، يوجهه خطاب مركزي كهذا، لم يكن، إلا ليمهد لسقوط النمط المعاشي، والحضاري المسالم، الذي كان متواجدا بالأندلس، والقضاء بالمناسبة، على الإسلام الحضاري، الذي كان متواجدا بالغرب آنذاك. ونرى من جانبنا، بأن قراءة كهذه، لم تكن لتغيب عن خاطر (ارنست رينان) الذي كان يعتبر نفسه الوريث الشرعي ل(بترارك) في ترويج ثقافته الانتقائية، المركز-عرقية. ولكن نوايا (رينان) وظفت توظيفا لبقا، وجاءت بشكل منظم تنظيما حديثا، وعبر مؤسسة مشروعة، ألا وهي، مؤسسة الإستشراق، الرسمية. ف(رينان) يصرح من كتابه( مسيحية، يهودية - ص 68): "بيننا والمسلمين حرب أبدية، حرب لا يمكن أن تنتهي، إلا من بعدما، يكون آخر أبناء إسماعيل، قد مات من شدة البؤس، أو بعدما نكون، قد حشرناه مذعورا، في الصحراء التي خرج منها لأول مرة". ف(رينان) الذي، وقف موقفا، وضعيا-علمانيا غامضا، من الكنيسة المسيحية نفسها، في الظاهر، كانت له مبرراته الخاصة به. لقد كان في الواقع، يوظف فلسفة (أوغست كونت 1798-1857) الوضعية، توظيفا أيديولوجيا، في ميدان السياسة الاستعمارية، كأداة استعمار مركز-عرقي، بكل ما تحمل الكلمة، من معنى. فبعدما ظهرت الفلسفة الوضعية، إبان القرن التاسع عشر، كمحاولة فلسفية، ذات مشروع نقدي جديد، كان هنالك من مجال لتوظيفها في أفق توسعي جديد. فالطرح الجديد، والتفسير البديل، لفلسفة التاريخ الكوني، الذي يفترض فيه (أوغست كونت)، أنه قد قطع، عبر سيرورته التاريخية، المراحل التاريخية الثلاث: الأسطورية-الدينية، الفلسفية- المثالية، وأخيرا الوضعية-العلمية، سيأتي متزامنا مع متطلبات الخطاب "الفيلولوجي" للمؤسسات الإستشراقية. ومن هنا، نتفهم توظيف (رينان)، لضالته الأيديولوجية المنشودة. أي استخدام هرطقته الرينانية التي تحمل في مظهرها، ملامح الوقار الموضوعي، والخطاب العلمي المحايد، بينما هي في مضمونها، مجموعة أحكام عنصرية مسبقة، لا أساس لها من الصحة. وهي بالمناسبة، كانت موجهة للمخيال الأوربي، الجمعي. وفي هذا السياق الغامض، سيدخل المصطلح الوضعي، إلى حظيرة الثقافة العربية الإسلامية. بل سيقحم إقحاما ملتبسا في صياغة "عِلْمَوِيّة" أو "عَلْمانِيّة"، توحي إلى حد كبير بالتقارب، بين هذا المصطلح المستحدث، ومصدر كلمة "عَلِمَ" التي نحت عليها، واشتق منها. أما المصطلح نفسه، فإنه لم يتعرض للصياغة الملتبسة نفسها، التي وردت، في مراجع اللغات اللاتينية، أو الجرمانية. ففي هذه الأخيرة، جاء مصطلح العلمانية، خارجا عن دائرة مصطلح "العلم"، وبعيدا كل البعد، عن أي تداخل، أو تجانس معنوي. ففي اللغة الفرنسية، كما الإسبانية، أو الإنجليزية، وردت المصطلحات العلمانية بالألفاظ التالية: (laïcité laicidad, secularity)، ويعنى بها في هذه الحالات الثلاث، ما هو مدني من حيث الوظيفة، في مقابل ما هو كنائسي، في وظائفه. وتطور فيما بعد، ليصبح مميزا، لما يدخل تحت القانون المدني، في مقابل ما يدخل تحت الحكم الكنائسي. فلنعد إلى ما سبق وذكرناه أعلاه، بهذا الخصوص، ولنكرر القول مؤكدين، بأن إدخال لهذا المصطلح، الوضعي، العَلْماني، العَلْمَوي، إلى ميدان الثقافة الإسلامية،في قراءة استشراقية،من قبل المستشرقين، لكل من شخصيات، الحلاج، وابن رشد، وابن خلدون، هي قراءة، لها ما يبررها، من توظيف هؤلاء الأعلام، توظيفا استشراقيا. بالفعل، لقد وظف كل واحد منهم، توظيفا استشراقيا خاصا به. فالحلاج وظفت شخصيته، كرمز يهدف، إلى خدمة فكرة تقمص الروح المسيحية، في الثقافة الإسلامية. وموته صلبا، هو في اعتبار المستشرقين،ك (ماكسيم رودنسون 1915-2004) مثلا، حادثة مأسوية، لها القدرة الرمزية، على إعادة إحياء لذكرى السيد المسيح، الذي يكون قد أعيد صلبه من جديد، في شخص الحلاج، من قبل الثقافة الإسلامية. وابن خلدون من جهته، فلقد وظف، لخدمة ظاهرة الحقد العنصري، على العنصر العربي-الأعرابي. وابن رشد، سيصبح في هذه الحالة بامتياز، صاحب تلك النظرية العلمانية بامتياز، أي فصل الدين عن الدولة، التي وقفت في وجه كل الفلسفات الدينية، التلفيقية. فبعدما يكرس (رينان) أطروحة عن ما يدعوه بالمشروع الرشدي العلماني، يكون في الحقيقة، وعبر قراءة هرطقية وليست وضعية، ولا علمية موضوعية، قد قام بإقحام المشروع الإستشراقي في إعادته لقراءة بُنى الإسلام الفكرية، من وجهة نظر مركز-عرقية. ففصل هؤلاء الأعلام والمفكرين المسلمين عن سياق إطارهم التاريخي، وقراءتهم قراءة ذاتية مغشوشة، هي عملية تستهدف فيما تستهدف، بناء أرضية شبه علمية، تكون المروج الأساسي، لمشروع استعماري فكر فيه الغرب، وخطط له منذ قرون، أكان ذلك بشكل واع، أم غير واع، ونقصد به، القضاء على الإسلام السياسي. فابن رشد الفيلسوف، كان في هذا السياق، هو نفسه قاضي قرطبة. وابن خلدون، المفكر الاجتماعي، والواضع لمبادئ علم الاجتماع، يقدم نفسه (في مقدمته)، على أنه وجدوده، ينحدرون من أصول عربية صرفة. والحلاج كان متصوفا مسلما، بالرغم من شطحاته الباطنية. وإذا كان قد أعدم نتيجة هرطقاته، وذلك بعد محاكمة دامت لما يقارب عشر سنين، لم يرتدع خلالها، فإن الغرب الكاثوليكي، قد أعدم مآت الآلاف من أصناف الحلاج، أنظر بهذا الخصوص مذبحة (سانت بارتولومي)، بفرنسا، والطاهريين بجنوبها، والمسلمين بالأندلس، وكل مفكر حرّ لم يتقيد، بسلطة الكنيسة. فلماذا يختزل (رينان) كما غيره، من المستشرقين، تاريخ عظمة الفكر الإسلامي، في "كليشهات"، مثل هذه؟ وإننا لنتساءل، فيما إذا كان (رينان) نموذجا، رجلا متزنا، وعالما موضوعيا، يصدر في كل هذا، عن هاجس البحث عن الحقيقية العلمية؟ أم أنه، كان يخدم مخططا استشراقيا، يصور ويعكس لديه، وبشكل واع، هاجس الغرب المسيحي، ومخياله الاجتماعي البئيس. وهكذا يقودنا (رينان)، وبدون التباس، إلى عمق المسألة. يقول في مستهل المحاضرة، التي ألقاها سنة 1862م، تحت عنوان:(مدى مساهمة الشعوب السامية، في تاريخ الحضارة العالمية):" أيها السادة الكرام ! لغاية لحظتنا الراهنة، من أجل أن يتهيأ لحضارتنا الغربية الانتشار، يجب القضاء وبصفة نهائية، على ذاك الشيء السامي بامتياز [يعني الإسلام وحضارته] القضاء على قوة الإسلام الدينية، والروحية معا. لأن الإسلام، لا يمكنه، إلا أن يتواجد، كدين رسمي للدولة. إننا إذا ما استطعنا، أن نفصل هذا الدين عن دولته، جاعلين منه دينا فرديا حراّ، نكون حينذاك، قد قضينا عليه فعلا". فهذا الخطاب، بدعوته الصريحة، لفصل دين الإسلام عن دولته، أو عن عَلْمَنَتِه، يقودنا مباشرة، إلى الفصل اللاحق من هذا البحث، الذي سنبين فيه، محصلة النتائج الأولى، التي سيسفر عنها، هذا المخطط الإستشراقي المبيتة نواياه، ومقاصده. -2- مرحلة تدويل الحروب الغربية الاستعمارية يخبرنا المؤرخون، بأن الصراع الذي كان دائرا بين فرنسا وإنجلترة، في المشرق الإسلامي، بغية التحكم، في طرق الهند التجارية، سيكون السبب المباشر، الذي سيدفع بالإمبراطور الفرنسي (نابليون بونابارت 1769-1821)، إلى احتلال مصر، سنة 1799م. أو بعبارة أخرى، كما يقول المستشرق (أرتور بليغران 1891-1956)، من كتابه " الإسلام في العالم. الصادر عن دار النشر، بايو، باريس، 1950": " لقد كان لزاما، على الإمبريالية الأوربية، أن توجه الضربة القاضية، للخلافة العثمانية بإسطنبول. ولقد كان (نابليون)، باستيلائه على مصر، ما بين 1791 و 1801م، هو أول من دشن تاريخ الإحتلالات، أي الاستعمار الحديث، أي المشروع، الذي ستمر عبره، الأفكار الغربية. وبالفعل، لقد كانت هزيمة نابليون، في معركة "واترلو سنة 1815"، الضوء الأخضر الذي سيفتح باب أمام القوات الأوربية، وعلى رأسها إنجلترة، لاقتسام الغنيمة. نعم بريطانيا العظمى بمستعمراتها الإسلامية، التي كانت لا تغيب عنها الشمس. وبهذه المناسبة، أدخلت المفاهيم الأيديولوجية الوطنية، التي ستجعل من الجغرافية الإسلامية، رقعة شطرنج، لكل النعرات العرقية والإقليمية الانفصالية. وكان قطع رأس الخلافة الإسلامية بتركيا، واستبدالها بجمهورية علمانية، هو بداية الطريق، لتطبيع سياسة الاستعمار الآني والمستقبلي. ونعتقد بأن (بليغران)، كان يشير إلى هذه الظاهرة، حين قال بصدد مصطفى كمال (أتاتورك = أبو الأتراك)، وجماعته:" بأن هذه النخبة الجمهورية، التي ستقود تركيا العلمانية، قد ربيت هنا عندنا في فرنسا، منذ بداية القرن التاسع عشر". فالغرب، والحالة هذه، كان قد حقق لنفسه، خطوات هامة، من حيث المراحل التاريخية، التي قطعها، في إعادة هيكلة مجتمعه، وتدعيم بنياته العسكرية، والسياسية، والاقتصادية. ونذكر موقفا من هذا المسار على سبيل المثال، ويتمثل في السيطرة على غرناطة، سنة 1492م كآخر معقل، من معاقل المسلمين بالأندلس. مما طرح التساؤل، حول مدى إمكانية التعايش، بين الإسلام والمسيحية في الغرب. ولقد عقب هذا الحدث التاريخي، في أوربا نفسها، الاصطدام الدموي، بين الكنيسة البابوية، وحركات الإصلاح المنشقة عنها. وبدأت حروب المائة سنة، وحروب الثلاثين، التي خلفتها، تضع أوزارها، لتكرس من بعد ذلك، جهودها من أجل التوجه إلى العالم الخارجي. وهكذا جاء مؤتمر (فيينا سنة 1814-1815 )، الذي اقتضت الدول الأوربية بموجبه،بعد الإطاحة ب(نابليون بونابارت)، وضع حد لحروبها الداخلية، العودة إلى حدودها الشرعية، وتكثيف قواها، لضرب دولة الخلافة الإسلامية، المتمثلة في الإمبراطورية العثمانية. واعتبارا من هذه اللحظة، أصبح الاستعمار الأوربي، العالمي، ضرورة تاريخية مشروعة. ولعل الحدث التاريخي الهام هو انعقاد مؤتمر (برلين سنة 1878). ففي هذا المؤتمر اجتمعت أوركسترا أمم الغرب، لاقتسام العالم، وتحويله إلى سوق للمضاربة. وهكذا بدأت الضربات الموجهة، إلى دولة الخلافة تنهال عليها من كل حدب وصوب. ويقول (بليغران) بهذا الخصوص، من كتابه الذي ذكرناه أعلاه:" لقد كان الأتراك، هم سادة العالم الإسلامي، لغاية القرنين، السادس، والسابع عشر، ومن بعدئذ وقفت أوربا في صف واحد، موحدة قواها، في مواجهة خطر الإسلام. فالنمسا، وهنغاريا، بولونيا، والبندقية، وروسيا، مجتمعين أحيانا، ومفترقين، قاموا بمحاولة هائلة، ألا وهي رمي الأتراك خلف البوسفور". وهكذا توالت الضربات، على دولة الخلافة العثمانية، لغاية هزيمتها الكبرى، سنة 1827م، في معركة (نافارين)، حين توحدت في وجهها، الأساطيل الثلاث: الإنجليزية، والفرنسية، والروسية، وأنزلت بها هزيمة منكرة. وهكذا توالت عليها الضربات، وبدأت جغرافية العالم الإسلامي، تفصل تفصيلا اعتباطيا، حسب طموحات المستعمر، حالاته النفسيه، وعقد مخياله المركز-عرقي. فاستعمرت الجزائر سنة 1830م، وتونس سنة 1881م، ومصر سنة 1882 م، وفصلت عنها بلاد السودان، ككيان منفصل في السنة نفسها. ثم ألحقت بها في الفترة نفسها، باقي الخريطة الإسلامية، التي فصلت بدورها، على شاكلة أقاليم، ودويلات وطنية مستحدثة، ومصطنعة. وهكذا دواليك، لغاية الحرب الأوربية الأولى، كما اصطلح على تسميتها، المفكر العربي، المهدي المنجرة. وانظر بهذه المناسبة كتابه" الحرب الحضارية الأولى". وكانت محصلة هذه الحرب، التي دَوّلَتْها أوربا، أن هزمت فيها تركيا كمعقل للخلافة الإسلامية. وكان الثمن التاريخي، الذي يستوجب عليها أن تؤديه للغرب المستعمر، هو تنازلها عن إسلامها الحضاري، إعلانها لموت الخلافة الإسلامية، وترحيبها بذاك الحيوان الخرافي، المتمثل في الدساتير العلمانية. فمعاهدة (لوزان) سنة 1923م، لم تكن مجرد صدفة تاريخية، وإنما كانت تصب، في مشروع القالب الإستشراقي (الريناني). بالفعل لقد استخدم مصطفى كمال لتمرير المخطط العلماني، الذي بشر به (رينان)، والإطاحة بدولة الإسلام، وإلغاء التراث العربي الإسلامي، واستبداله بالتراث الاستعماري الغربي، اللاتيني. فعقدة الغرب من الإسلام، وخوفه منه، كانت ولسوف تظل، دائما وأبدا، خوفه من قوته الروحية المتمثلة، في تداخل دينه بدولته. فالهدف إذن واضح، اختراق المجتمعات الإسلامية، عبر تكثيف ثقافي علماني مقنع، في بضائع، وأشخاص، ومؤسسات تبشيرية، وخيرية، لا حكومية، بغية إفراغها من روحانيتها، وتطعيمها بمادية حضارية مغشوشة. وبهذا الخصوص يقول (بليغران) من المرجع نفسه:" بمجرد ما أعلن (مصطفى كمال، أتاتورك، 1881-1938)الجمهورية التركية العلمانية، حتى بدأت تتقاطر على تركيا، موجات هائلة من البعثات المسيحية التبشيرية، بمختلف مراجعها الكنائسية، قادمة حتى من الولاياتالمتحدة، لغاية ما اضطرت الحكومة العلمانية، إلى اتخاذ وسائل قمعية، بما فيها، الإبعاد المباشر لمواجهتها، وتهدئة غضب، الرأي الإسلامي العام". فاستبدال دولة الخلافة الإسلامية، بالدولة العلمانية، هو في الحقيقة، ما يمكن أن نسميه، بالمرحلة المصيرية، التي ستحدد مصير مجموع الويلات الإسلامية المستحدثة، والتكتلات الأثنية، الواقعة في فلكها الحضاري. لقد كان فضيلة الشيخ، محمد رضا، محقا في هذه الفترة، بالرغم من تفرد صوته، حين أدان بشدة، هذه الكارثة العلمانية، وذلك في كتابه (الخلافة، سنة 1922م)، حين قال:" إن المدنية لا تبقى إلا بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين، ولا يوجد دين، يتفق مع العِلم والمدنية، إلا الإسلام". لقد كان الشيخ محمد رضا، محقا بإدراكه لذاك المشروع العلماني، الذي كان الاستعمار الغربي، بصدد إدخاله عنوة إلى الحظيرة الإسلامية. ونرى بهذا الصدد، بان ما حققه الاستعمار في تركيا الكمالية، لا يمكن اعتباره، بخاتمة المشروع، وإنما نموذجا مختبراتي، راحت عبره مؤسسة الغرب الاستعمارية، بجيوشها الغازية، مطبقة له هنا وهناك، عبر مؤسسات، وأحزاب سياسية ساهمت في تشكيلتها ومنحها صلاحيتها، ومصداقيتها. ونصادف في هذا السياق مثلا، ظهور تشكيلات سياسية، على غرار النموذج الكمالي، في كل من تونس، والجزائر، ومصر، وسوريا، ولبنان، والعراق. هذا بالإضافة إلى تشكيلات حزبية شيوعية، في مجموع هذه البلدان التي ذكرناها، ضف عليها المغرب في الأربعينات. وليس من باب المصادفة، أن العناصر اليهودية، والمسيحية، والكردية، هي التي كانت، من وراء إنشاء هذه الأحزاب الشيوعية، في الوطن العربي، عموما. وهكذا، نكون قد كونا لأنفسنا، فكرة واضحة، عن هذه النخب، التي جيء بها، إلى سدة الحكم آنذاك، عبر طرق ملتوية، ثم أسندت إليها مهام صنع القرارات السياسية، في هذه الدويلات، المفصلة حدودها، تفصيلا عشوائيا، عن شجرتها الأم، التي كانت تسمى بدار الإسلام. ...
يمكن المشاركة في الموضوع على الرابط التالي: http://arforum.aladabia.net/viewtopic.php?id=77