نوقشت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأگدال/ الرباط ،صباح يوم الجمعة 26 من مارس 2010 ، ابتداء من الساعة التاسعة وحتى الساعة الواحدة إلا الربع، زوالا، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الآداب : تخصص اللسانيات، فرع «تحليل الخطاب» ، بعنوان: (خطاب «الحركات الاستقلالية المغربية» خلال الأربعينيات والخمسينيات: بنيته ووظيفته في ضوء لسانيات الخطاب)، أنجزها الأستاذ الباحث (محمد البكري) تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمد حساوي. وقد تألفت لجنة المناقشة من الأساتذة :د. محمد الظريف رئيسا؛ ود. محمد حساوي مقررا؛ ود. عبد الغني أبو العزم وعبد الصمد بلكبير ومحمد السيدي؛أعضاء. و قد منحت اللجنة للباحث درجة الدكتورة[ وفق النظام القديم] ، بميزة حسن جدا مع التنويه والتوصية بالطبع.و هذا ملخص الأطروحة سعينا في هذا البحث الجديد، إلى التحقق من فرضية أولية؛ تقول بإمكان استنباط كيفية تََبَنْيُنِ الخطاب السياسي للحركات الاستقلالية المغربية وتوضيح طريقة اشتغاله وأدائه لوظيفتِه التحدُّثية- الخطابية ( والاجتماعية) بواسطة الفرع العلمي المسمّى ب «تحليل الخطاب» . جاعلين موضوع الدرس ومادة المقاربة، إن لم يكن «التحليل»، «الخطابَ السياسي» الناتجَ منذ أن أثارت تلك الحركات «السياسية»، في أول خطاب علني ورسمي لها، على مستوى داخلي ودولي، بتاريخ 18 دجنبر 1942، مسألة استقلال المغرب عن القوى الدولية التي كانت تفرض عليه حمايتها الخاصة و الدولية: خطاب استمر في التوالد والانقطاع والتجدد، حتى توقيع أول وأهم معاهدة لاستقلال المغرب في ثاني مارس .1956 غير أن قطْع المراحل الضرورية، وسلوك السبيل المُؤدية- بدءاً من المنطلق الموسوم حتى الغاية المرسومة له، وهي مسيرة البحث- ليس باليسير ولا الهيّن. تُثْبِت تجربتُنا، بالملموس، أن الحالة التي نواجهها تقع على العكس التام مما هو مألوف، ويجري على منواله العمل في الغالبية العظمى من العلوم التجريبية من جهة، والإنسانية من ناحية أخرى؛ حيث غالبا ما يعتمد الباحث المتمرّس منهجا جاهزاً- سبق تجريبه واستغلاله مراراً- لمعالجة «موضوع» مُعطَى ومحّدّد أجود تحديد مسبقاً. بعبارة أوضح وأوجز وأدلّ : انطلقنا من قناعة ترى أن لا شيءَ قارٌّ ولا ثابت في التاريخ. وأن المراجعة النقدية والتساؤل الدائمين ضروريان. هذا إضافة إلى أن الخطاب السياسي، ككل خطاب، يكمن دوره في الإيهام المؤسس، أولا وأخيرا، بالوضوح والشفافية والنقل المباشر للحقيقة،في حين أن الأمر على العكس من ذلك كليا وجوهريا. لا غرابة أن تتعلق معظم النتائج التي يمكن استخلاصها من هذا البحث بمسائل نظرية ومنهجية وتطبيقية، من ناحية، ومنها أخرى تنتمي إلى قضايا تقاطع التخصصات وتداخل العلوم المتجاورة أو المتنافسة مع تحليل الخطاب. ويتعلق بعضُها الآخر بالخطاب المدروس نفسه. وتؤدي جلها، في نهاية المطاف، إلى إشكالات تتجاوز إطار بحثنا. يمكن تصنيفها وَفْق ثلاثة أصناف، حسب طبيعة المسائل التي يختص بدراستها كل كتاب من الكتب الثلاثة التي تؤلّف البحث؛ أ-»تحليل الخطاب»: مشاكل نظرية ومنهجية المستوى الأول من إشكالات تحليل الخطاب هو الإشكال النظري والمنهجي. يتفرع بدوره إلى مجموعة من المشاكل التي لا يمكن حلُّها إلا بفضل نظرية قوية: أي بالاعتماد على أسس نظرية سليمة. تطمح لأن تقترح حلولاً لغير قليل من المسائل النظرية والعملية، وتوفّر منهجا- جهازا ذا فعالية تحليلية مرضية. مما يؤدي في النهاية إلى تحليل ظاهرة الخطاب وتفسيرها ضمن علاقات استعمالها الحي في الواقع والتاريخ. لكن اللسانيات الحديثة جعلت من شروط وجودها وتقدمها (تأسيسها كعلم عصري مُنْبَنٍِ على القطيعة) إقصاء لظواهر «الخطاب» و «الأسلوب» و «الدلالة» و»الكلام» و»الاستعمال الحي» للغة و «الإنجاز» الخ.. من ثم، لزِم تَتَبُّع المسار الذي سلكتْه اتجاهات في البحث. انشغلت بتجاوز مفارقات وعوائق من هذا النوع، ثم الوصول من صلب اللسانيات الصرفة إلى «عالم الخطاب»؛ وبالتالي العمل من أجل تَبَلْوُر جهاز نظري ومنهجي كاف وضروري لتكوّن لسانيات للخطاب وتأسيس «تحليل الخطاب»، كفرع علمي مقنع بذاته. يحقق في نهاية المطاف بعضا مما رسمه بعض الرواد كمطمح بعيد وضروري للبحث اللسني: في إطار «لسانيات تجاوزية» (م. باختين[1929]: ط.ع. 1986) و «اللسانيات الإنسانية والجامعة» (ل. يالمسليلف: 1943)، أو «التحليل ما بعد اللساني» (إ. بنفينست؛ 1966. ص.237؛ 1977. 43)، أو «لسانيات ما بعد الجملة» (ز. هاريس: ت.الخ. 1952) أو «لسانيات الرسالة» (ر. جاكوبسن:1963،) أو «لسانيات- تجاوزية» ( ر. بارث: 1964-ط.ع. 1986) أو «لسانيات دلائلية» (أ.ج. كَريماس (1966...) كأمثلة عن المنطلق. لقد تبين أن اللسانيات الإنسانية، الجامعة والمعقولة، لم يكن لها من بد، لكي تستمر حيوية وقوية، من أن تواجه موضوع «الخطاب». فكثير من مسائل الجملة أو ما دون الجملة، تبين بجلاء ، لاحقا، أنها غير قابلة للحل بواسطة لسانيات غير نصية ولا خطابية(مثلا فقط: أ. المتوكل: 1993. 131. ، ر. دي بوجراند[النص والخطاب والإجراء]: ط.ع. تمام حسان. 1998). هذا المطمح الذي كان يناصبه البعض موقفا رافضا وإقصائيا عنيفا، أصبح الموضوع المفضل للسانيات أواخر القرن الفارط وبداية القرن الحالي. ب- موضوع «تحليل الخطاب» (ت.الخ) نخلُص مما سبق إلى مقاربة إشكالية «تكوُّن» تحليل الخطاب: وتفحص شروط وجوده وتطوره، نظريا وتطبيقيا، بدْءاً من محاولة تحديد «موضوعه» وضبطه من مختلف وجهات النظر التي قدمت مفاهيم تستحق التأمل والنظر؛ سواء منها تلك التي ربطت البحث في «الخطاب» بالأصل اللساني وجعلت منه امتداداً وتوسيعاً لذلك النوع من البحث إلى ما وراء مستوى الجملة أو تلك التي سعت إلى فك الارتباط به ورفض أي شكل من أشكال التبعية للسانيات، مدعية، في ذات الوقت، أن ت.الخ. قد نضج وأصبح قادراً على الاستقلال بنفسه: له نظري(ا)ته ومن(ا)هجه الخاصة وموضوعه المحصور بدقة. أما أشكال التنوع والتباين وتعدد المقاربات التي تطبع هذا «الحقل» النشيط فليست سوى مظهر من مظاهر حيويته ونشاطه وغنى تراكماته وثراء تراثه. ج - مسائل منهج التحليل وتعدد المقاربات أفضت بنا مراجعة ومناقشة تلك المقدمات النظريةإلى تفحُّص «مسألة المنهج» بوصفه «تحليلاً» أولا وأخيراً. ومن أبرز ما واجهنا هو مشكل تعدّد المقاربات وتنوُّعها وتغيُّرها الدائم عبر تاريخ ت.الخ. القصير، نسبياً. وثاني مشكل كَمُن في تنوّع وتباين «المفاهيم» القاعدية ل «طرق» وعمليات ?تحليل? الخطاب kالتي صاغتها المنظورات الفكرية واللسنية الكبرى المؤسسة له، منذ توزيعية ز. هاريس ومرورا بتجارب واتجاهات التحليل المتعددة التي تبلورت في إطار «المدرسة الفرنسية لتحليل الخطاب»، ومن ضمنها اتجاه «التحليل الآلي للخطاب»؛ وعلى هامشها أو في مقابلها ( «مدرسة باريس لتحليل السرد والخطاب» ، « التحليل النصّي « لدى رولان بارث الخ.. فقد كان لها انعكاس وتأثير عليها، إن بشكل أو آخر). إن تنوُّع المقاربات المنهجية وتعدُّدها وتطوّرها وتشابك مقوّماتها وتعقدها على مستوى التطبيقات و المقارنة بينها، وانتقاد كل واحدة منها للأخرى، أدّى بنا إلى تقديم مقترحات وافتراضات استندت، من وجهة نظرنا، على قاعدة صلبة تعللها وتدعّمها بوضوح ووعي نقديين. تمثّلت في اقتراح منظور للتحليل ينبني على المفهوم المزدوج: ل?التحدث الحديث?، كنظرية لسنية لتحليل الخطاب. د- من أجل نظرية لسنية لتحليل الخطاب اعتقدنا أن من المناسب، إن لم يكن لازما، عرض تلك النظرية بكيفية واضحة وعملية لتدعيم وجهة النظر التحدّثية. فحللنا هذا المفهوم الثنائي من كلتا وِجهتيه: التحدث والحديث. وعالجنا التحدث باعتباره أولاً فعل إنتاج للحديث، ونشاطاً وإنتاجاً وتلقيّاً وتواصلاً وحدثاً ومشهدا ، إن لم نقل مسرحاً. وبما أنه يستحيل درسه في ذاته فليس من وسيلة غير دراستِه من خلال رصد آثار فاعلي الخطاب ( المتكلم- المخاطب الغائب ? أو الموضوع المحال عليه) في «أحاديث- الخطاب». هنا حيث «الحديث» «مسرح» تلعب(تتعارك) فيه الذوات أدوار التحدث بالتناوب (التكلم- التخاطب- الإحالة) وتستحضر العالم والأشياء والذوات ك «غوائب» في الخطاب (بكيفية مباشرة أو غير مباشرة من خلال الخطاب أو الخبر). وناقشنا الحديث? ككيان مُشْكِل - صعب التحديد ومُتأبِّيَ التعريف في ذاته - سواء في استعمالات م. فوكو أو اللِّفاظيين. أو لدى محللي الخطاب؛ وسواء كنموذج أو كمثال فهو مضنَّة لإشكال مضاعف بسبب محاولة ربطه بالذات والذاتية المطلقة خالقة الكل: الذات كمفهوم مثالي- كلي الفعل والحضور، وليس كذات- شكل، بمفهوم نقدي يُنَسْبِنها. ه- علامات التحدّث في (الحديث). يصبح من اللازم، على إثر ما سبق، دراسة العلامات التى يتجلى من خلالها التحدُّث في الحديث. ففضلاً على أنها الوسيلة التي يتحول بواسطتها «النظام» اللساني إلى «كلام» و «السليقة» إلى «إنجاز»، فهي التي تربط الحديث بخصوصية مقامه. وليست تلك العلامات- الأدوات اللفظية- سوى ما كنا نطلق عليه أدوات الوصل والفصل ( ونعني بها ، هنا، ضمائر التكلم- الخطاب )في مقابل (ضمائر الإحالة إلى الغائب) والموصول والعائد وظروف الزمان والمكان وأدوات الإشارة إليهما، إضافة إلى أزمنة الفعل وجهاته وغير ذلك من المسائل، الوثيقة الصلة بهذه الأدوات والصيغ التي تربط الحديث بالمقام، إضافة إلى محورية «حاضر التحدث» ومركزيته، ومسألة الزمن و السياق، ومطابقة الزمن للحظة التحدث ومفارقته لها، والزمن و الثقافة... و- بنية التحدّث وأشكال صوغ الأحاديث أدى بنا تحليل «التحدث»، كمنظور خاص يتقاطع مع (التداولية- الذريعية)، إلى اقتراح تمثيل لبنية عميقة (صورية) تصف عملية التحدث في صورة جملة عليا (أصلية) تتفرع عنها مجموع أنماط «الجمل» وأساليبها وأصناف الأحاديث وأنماط صياغتها الممكنة(ص. 140): بنية تمثّل عملية التفاعل الخطابي. وتصلح منطلقا لوصف الخطاب وتحليله من جهة إنتاجه وحتى من حيث استهلاكه واستقبال المتقبِّل له وإدراكه له والرد عليه؛ ومن حيث مجموع عوامل اشتغاله وعلاقاته بالمقام والآثار التي يتركها في «ذاكرات» المشاركين، وانتقاله وتوالده بواسطة الرواية إلى الغائبين وترسّبه للعمل في التشكيلات الخطابية في تراث وذاكرة الجماعات. من ثم أمكننا تعيين مواقع التحدّث وتقديم تعريف «للفعل» ومَفْهَمته ليشمل مختلف أنماط «الفعل» وأصنافه، انطلاقا من الصِّنافة التقليدية لأنماط التحدث ( = التحدث الخطابي التحدث التاريخي - الإخباري) وتوضيح علاقته بالزمن النحوي- الخطابي ( زمن التحدث زمن الأحاديث) ز- الأدوار المعجمية والوظائف التركيبية أمثلة أفعال الإيجاه ( توجيه) الأحاديث و التموقف والتثمين والحصول على الموضوع؛ نفترض أن الخطاب فعل كُبار(بالمعنى العام). يتألف من مجموعة أفعال- أنشطة تستهدف إحداث تأثير رئيس بواسطة سلسلة من التأثيرات الفرعية التي تتضافر لتحقيق هدف أو أكثر؛ وأن خاصة اللغة هي التأثير بواسطة الفعل(بمعناه اللفظي -اللسني). وظّفنا عبارة «أفعال الخطاب» بهذا المعنى، تقريبا، لنعني نوعا خاصة من الأنشطة التي يوظف فيها الخطاب أفعالاً كالمُمَثَّل لها فيما يلي؛ --أولاً، أفعال «الإيجاه»: محاولة لعلاج مسائل «أفعال» توجيه وتثمين قضايا الأحاديث( محتوى الأقوال) بعد تحديد مفاهيمها وتحليل الظاهرة ومناقشة مصطلحها الذي يُثير إشكالات عويصة ، مثله في ذلك مثل مسألة «حصر» أهم فئات أفعالها. ثانيا، فعل آخر، تجسده عملية «الحجاج» (سوق المتكلم للحجج بقصد إقناع المخاطب) في الخطاب . حاولنا إيضاح الظاهرة، وبينا كيف أنه -بمختلف مظاهره وأنماط الإقناع بواسطته- مفهوم معقد بقدر ما يوحي بالبساطة والوضوح؛ وأنه عملية تفاعل متعددة المستويات: منها اللساني- الفظي( حجاج اللسانيات) والخطابي (حجاج تحليل الخطاب)والبلاغي ( حجاج البلاغة) والبرهني العقلي الصرف (حجاج المنطق الطبيعي والبرهنة العلمية). لكن الخطاب يبقى التجلي الحقيقي لكل تلك الأنواع من الحجاج. الحجاج ظاهرة خطابية بامتياز. الخطاب السياسي يجسّد ذلك حين يجعل منه وسيلته المفضلة للبلوغ إلى مرامه . ثالثاً، الأفعال الموظَّفة خصيصا في الخطاب لكي يتوصّل بها المتحدّث- بعد الكثير من الأفعال السابقة- إلى «الموضوعات» «الأشياء» التي تتمحور عليها الأحاديث وتتبادلها. وتستهدفها التحدّثات. ويسعى فاعلو الخطاب إلى حيازتها. رابعاً، هذه «الموضوعات- الأشياء» ذاتها نعالجها من حيث كونها هدف عملية التحدّث ومحورها؛ وبوصفها، ثانيا، موضوعات للخطاب ومحاور للكلام (مكانتها المركزية في بنية عملية التحدث). وهي ، في النهاية، مدار اهتمام أنماط تحليل الخطاب. لكن هذه الظواهر، وإن كانت هي الرئيسة في بنية التحدث كما نتصورها ، فنحن لا نلغي أهمية ظواهر أخرى ليست أقل أهمية؛ مثل رواية خطاب الغير، الخطاب المروي؛ الغيرية الصريحة(الظاهرة) والغيرية المدمجة و التناص والحوارية الخ.. ليست بأقل أهمية مما سبق إلا أن الضرورة تلزم بإيلائها مكانة في مستوى ثان.. خلاصة القول، نعتقد أننا قدمنا فيما سبق الصورة العامة لبرنامج التحليل. والبرنامج يلزم باحترام فصوله في التطبيق. وتلك هي المشكلة. قد يُقيَّد لهذا البرنامج من ينسفه كما قد يقيد له من يطوره كامل التطوير. وذلك مناط الأمل. ينطبق ما سبق قوله على «الخطاب» عامة كيفما كان نوعه: أي كصنف(جنس) أعلى ومجرّد. لكن هذا النوع المجرّد يتجسَّد ويتخصّص في مقامات ملموسة. تنشّطها ذوات متكلمة- مخاطبة بعينيها، وتترسخ في زمن ? مكان معينين أيضا، وترِد في «تحدُّثات» مطلقة الخصوصية، ومدارها «موضوعات» محددة تُنجَز من خلال أجناس خطابية تجمعها، وتوظّفها تشكيلات خطابية تقوم على التنوع من جهة وعلى التكرار اللانهائي من جهة ثانية. بعبارة ثانية، ينبغي تلمّس ذلك من خلال خطاب ملموس يُتَّخَذ «موضوعاً» للتطبيق. الرباط في 26 مارس 2010