تمهيد تعيش المنظومة التربوية في المغرب أياما عصيبة يصعب على المرء التكهن بنتائجها، لا سيما وأنها ذات صلة عميقة بكل مظاهر الحياة الاجتماعية والكيان الحضاري للأمة، بل يبقى لها القول الفصل في توجهات المجتمع وتحديد نمط الحياة التي يطمح لها الجميع ، لأنها وأكثر من سواها قادرة على رسم ملامح التنمية التي ننشد ، بما تساهم به في إنتاج العنصر البشري القادر على الفعل إيجابيا أو سلبيا في تحديد مسار المجتمع . ولأن المنظومة التربوية بهذا الحجم من المسئولية ، وهذه القدرة على التأثير ، فقد أصبحت هما مشتركا للأفراد والجماعات ، للمؤسسات والجمعيات ، للأحزاب والنقابات ، لكل قطاعات المجتمع وهياكله ، ولكل التنظيمات الاجتماعية . فأي نوع من التفكير ينصب حولها اليوم ؟ وأية توجهات تستهدفها ؟ وأية آفاق تنتظرها ؟ ووفق أية شروط ؟ أسئلة كثيرة تحاول هذه المقالة/ الموضوع أن تلامسها برغبة الخروج من السلبية التي أصبحت تهيمن على علاقات المواطنين ، وشعورهم بالإحباط تجاه النيابات الوهمية التي أناطوها بالفاعل السياسي ، دون أن يكون دوره في المستوى المفترض والمقدر. تداعيات الخطاب الملكي لعشرين غشت الأخير لا يختلف اثنان حول الدينامية التي خلقها هذا الخطاب ، ليس على مستوى الفعل أو رد الفعل ، ولكن على مستوى التفكير في شأن مشترك ، لا يرتاح لواقعه إلا من له مصلحة في تدمير الوطن . فلقد أجمل الخطاب الملكي باعتبار جسامة مسئوليته أهم مظاهر الأزمة التعليمية ،لأنه يدرك بعمق ما يمكنها أن تتركه من بصمات على وجود الأمة وعلاقاتها ، الشيء الذي يقضي باستنفار كل الطاقات للبحث عن الحل المناسب . ولأن المسئوليات واختلاف مواقعها تستوجب أن تكون الحكومة والمؤسسات الكبرى في المجتمع، هي أول من يتحرك ويحرك الطاقات الكامنة من أجل تشكيل واقع بديل لما هو قائم ، فقد ظل الجميع ينتظر ما يمكن أن يصدر عن هذه الجهات ، غير أن خيبة الأمل بدأت تدب للمجتمع بعد مضي ما لا يقل عن ثلث سنة بأكمله، دون أي فعل يذكر، بل بدا للعيان أن هناك عناد من البعض للمزيد من تعميق الأزمة ، في انتظار ما يمكن أن يحصل . بدأ الموسم الدراسي في شروط لا تقل قتامة عن السابق إن لم تفقها ؛ هدر مدرسي يراه المسئولون فتحا مبينا ، فيقدمون بصدده الأرقام استنادا إلى تقارير تحتاج إلى تحقيق نزيه في الكثير منها ليبرز مصداقيتها أو عدمها ، خصاص في الأطر التربوية والإدارية يتم التصدي لها بإجراءات لن تزيد الوضع إلا تفاقما ، بنيات تحتية تزداد تآكلا ، وإجراءات التخفيف من حدتها لا تكون إلا من خلال تعميق الاكتظاظ، وصرف التلاميذ إلى الشارع لعله يأويهم ، برامج تعليمية أصبحت مملة وتنتج البؤس الفكري ، في زمن اشتدت فيه المنافسة على صعيد المعرفة والقيم المصاحبة لها ، ومع ذلك هناك إصرار على اجترارها ، مدد التكوين تقلصت حتى أصبح عدمها مفيدا ماديا، قياسا إلى ما يمكن أن يجبى منها ، حركية غريبة وعجيبة للأطر لتصريف الأزمة . ولعل أكبر مظهر لذلك ، التدبير اليومي للتكوين كبديل عن التدبير الإستراتيجي ، إذ مراكز التكوين لم تحسم إلى حد الساعة كيف ستدبر مضمون التكوين وزمنه وتقويم التكوين ، وكأني بالجهات المسئولة رغم إخفاقاتها المتكررة لا زالت في عنادها وتصر على جعل الفشل نجاحا ، رغم ما يؤشر عليه من زلات . أمثلة كثيرة لا يملك المرء إلا الشفقة على نفسه من تذكرها ، حتى لا يصاب بنكسة لا نهوض له منها. تفاعل الجمهور مع الخطاب الملكي لأنه كان لسان حاله ، بيد أن من أوكلت إليهم مصالح الأمة ظلوا ينتظرون سيدنا قدر لينزل ويحل المشكلة / الأزمة ، وهو ما لم يحصل ، ولن يحصل على الإطلاق ، إذ " لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "(قرآن) . هكذا فالمجتمع مستمر في انتظاره ، ودار لقمان على حالها ، بل أسوأ منه في زمن لن يرحم أحدا في ما قد يحصل . الخطاب الملكي فعل آلية المجلس الأعلى وزرع الروح فيها ، لكن ثمارها لن تنفع هذا الجسد إذا لم يتم تداركه ، فالخصاص في الأطر لا يمكن التغاضي عنه ، وقد أبانت ندوات جهوية حول واقع التعليم أن عددا من الذين سيتقاعدون ، لم تتخذ التدابير إلى حد الآن ، ليعوضوا في السنة القادمة ، رغم الحاجة إليهم في هذه السنة ، الخصاص في المدارس والحجرات لا يقبل التسويف ، ولا يملك المسئولون نية أو برنامجا لمواجهته في هذه السنة أو القادمة ، مستوى الانحدار الذي عرفه التحكم في التعلمات الأساسية، والذي كشفت عنه دراسات علمية لم تتخذ إلى حد الآن أية إجراءات لحله أو محاربته . إن التفاعل مع الخطاب الملكي اكتسى صورتين ، إحداهما إيجابية ويمثلها عامة الناس أو الجمهور العريض ، لكنها عاطفية أساسا ، حيث استجاب للانتظارات وأشبع الرغبات ، دون أن يرقى المتفاعلون مع هذه الصورة إلى قوة ضغط تجبر الحاكمين على تفعيل مقتضياته . والثانية سلبية ، ويمثلها المسئولون بما يملكونه من إمكانيات ووسائل للفعل والتفاعل الإيجابي ، لكنهم ينتظرون من ينوب عنهم، فيفعل ما عجزوا عن فعله ، رغم ما يفرضه عليهم الدستور الذي قرن المسئولية بالمحاسبة ، وهو أمر كان ينبغي أن يفعل ،ليلقى من زجوا بتعليمنا في هذا الوضع جزاءهم . وبين الموقفين أو الصورتين معا هناك المتربصون الذين لا يريدون لعجلة التقدم أن تتحرك إلى الأمام ، ما دام ذلك سيضر بمصالحهم . لذلك يصرفون جهودهم من أجل التشويش وإغراق المغاربة في دوامة من الجهل والتفرقة ، راكبين في ذلك كل السبل ، ما دامت الطرق معبدة أمامهم ، وزمن الحساب هم في مأمن منه.وقد ارتأوا محاولة منهم أن يسلوا سكاكينهم كأنهم في مجزرة والتعليم هو البقرة الساقطة . انبرى الكثير منهم للبحث عن جانب معزول من التعليم ليجعله بؤرة الأزمة ، دون أن يملك الوعي الكافي لربط الجزء بالكل، أو المساهمة في الرؤية الشمولية المنتظرة ، وبذلك أصبح الصنيع زرعا للفتنة وليس مساهمة في الحل(الدعوة إلى التدريج نموذجا) . ندوات حول التعليم بين الوعي الهيكلي والتصريف السياسي للوعي الإيديولوجي من باب الإنصاف الإقرار بكون موضوع التعليم شكل على الدوام عصب أنشطة كثير من الجمعيات والمنظمات السياسية والنقابية ، لكن في بعده العام المتعلق بالسياسة المعتمدة فيه ، حيث تتخذه المنظمات والجمعيات الحقوقية مجالا للحكم على نية المسئولين في اعتماد فلسفة يكون فيها الاعتبار للمواطن أو لا يكون ، ولعل نماذج من عناوين الندوات التي استقيناها والجهات المنظمة وخلفياتها ، تؤكد ذلك ، من مثل :" السياسة التعليمية إلى أين ؟" من تنظيم النقابة الوطنية للتعليم / نقابة مفتشي التعليم ، " أوضاع التعليم بالمغرب " تنسيقية 20 فبراير الدارالبيضاء، " الحق في التعليم بالمغرب" العصبة المغربية لحقوق الإنسان ، " الحق في التعليم ، الالتزامات والحصيلة "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والنقابة المستقلة للتعليم بالمغرب ، " السياسة التعليمية في المغرب واقع وآفاق " الحزب الاشتراكي الموحد، " مشاكل التعليم بالمغرب" التنسيقية الوطنية للأساتذة المجازين ، " حقوق الطفل بالمغرب بين الرهانات والتحديات " الجمعية المغربية لحقوق الطفل . وعلى الرغم من صعوبة تجريد النقاش حول التعليم من الطابع السياسي ، فإن الإغراق فيه يجعل من الصعوبة بمكان تحقيق النظرة الموضوعية ، والخروج باقتراحات عملية تسهم في تحقيق تعليم بمواصفات علمية في الاختيارات والتوجهات ، إذ تتوحد هذه الندوات المشار إليها جميعا في كونها لم تلامس القضايا الجوهرية التي من شأنها بلورة تصور تعليمي شامل ، يمكن الاهتداء به في مختلف الممارسات ، كما أنها تتسم بالنظرة الجزئية لمشكلة التعليم في المغرب ، أو الشكلية التي لا تتجاوز الوصف. وهذا ما يؤكد غياب التشخيص الدقيق والعلمي لواقع التعليم ، والمفضي إلى اختيار المواضيع الجوهرية التي تحتاج للتداول والمعالجة . إن ما يطغى على هذه الندوات هو اختيار موضوعة ما، والبحث في جوانب النقص التي اعترت تناولها في المنظومة بهاجس سياسي أو بدونه . إن إيماننا بأهمية هذه المواضيع وأهمية الخوض فيها ،لا يمكن أن ينسينا أو يبعدنا عن الإشارة إلى ما ينبغي أن يحظى بالأولوية في الشروط الراهنة، باعتباره يسهم في تعبيد طريق الممارسين ، الذين أصبح الكثير منهم يجاري بوعي أو بدونه مظاهر التردي والتخلف التي تطال الفعل التربوي ، لتنعكس سلبا على المجتمع وشروط تنميته . فعلاوة على تمويل التعليم وتجهيزه وحسن تدبيره، ينبغي التفكير بجدية في مناهجه بما تتضمنه من أهداف ومحتويات وطرق ووسائل وتقويم ، وتلك أمور لا ينبغي أن تشكل هاجس الممارسين فقط ، بل أيضا ينبغي أن تصبح في دائرة اهتمام كل من يفكر في السياسة التعليمية . وهذا ما لا يتم الالتفات إليه لحد الآن إلا لدى المتخصصين فقط . إن ما يحتاجه المغرب اليوم هو بناء رؤية هيكلية قائمة على التشخيص الموضوعي والدقيق للتعليم ومشاكله ، واقتراح البدائل الممكنة لإخراجه من مآزقه ، وهو أمر قد يحيل على ضرورة امتلاك الأحزاب لمنظور اجتماعي واضح يحتل فيه التعليم الصدارة ، كما يمكنه أن يحيل على ضرورة وجود تصور إيديولوجي ، تبني عليه كل الخيارات السياسية التي يتم اعتمادها في الاستقطاب، وفي الحملات الانتخابية ، من أجل التأسيس لتداول سياسي يتم الاحتكام فيه للبرامج والممارسات المجسدة لها . وقد بدت الحاجة ماسة لهذا النوع من الخطاب ، بعد انصرام مدة يسيرة على حملات انتخابية جعلت شعارها محاربة الإيديولوجية ، وبنت عليها نجاحها، لتجد نفسها عارية حين عجزت عن تدبير أزمة الواقع . وعلى الرغم من سلبية التوجه الإيديولوجي في معالجة موضوع التعليم ، بالمعنى السلبي لمفهوم الإيديولوجيا التي تروم تزييف الواقع ، فإن وجودها ضروري لرسم ملامح الطريق الذي ينبغي اعتماده ، إذ هي تصور قبلي لما ينبغي إنجازه، وللخط الذي ينبغي السير عليه، وبدونها يكون المصير فقدان البوصلة ، مثلما نحن عليه اليوم . صحيح هناك بعض المبادرات الصادرة عن جهات قليلة يستوجب الوضع انتباه الحكومة إليها ، بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة ، من مثل ما أقدم عليه الاتحاد الاشتراكي ، حين جمع ثلة من الأكاديميين والفاعلين النقابيين لمدارسة مشكل التعليم في إطار ندوة علمية اختار لها كعنوان : "إصلاح منظومة التربية والتكوين أي تعليم لمغرب المستقبل" أو ما أقدمت عليه منظمة التجديد الطلابي بتنسيق مع مركز الأبحاث والدراسات الإنسانية في ندوتهما المعنونة ب " التعليم المغربي بين التجريب والمشروع المجتمعي" ، أو بعض مؤسسات التعليم العالي التي يدخل موضوع التعليم ضمن مجال اهتماماتها الأكاديمية مثل ما فعلت جامعة بن زهر بتنسيق مع منظمة اليونسكو حين اختارتا كموضوع لندوتهما : " تفعيل التعلم العالي في خدمة الأمة" . وهي جميعها مواضيع تسمح بالتفكير في الجوانب التي يقتضيها النهوض بالتعليم ومواجهة تحدياته . إن المغرب محتاج في النهاية إلى ندوات ومطارحات علمية تشرح واقع التعليم، لتنظر في جوانب الضعف والقوة فيه ، بغاية رسم سياسة تعليمية قوامها الإنسان ، القادر على المساهمة في التنمية الشاملة التي يحتاجها الوطن ، ليضمن استمراريته بين الأوطان . ولهذه الغاية ينبغي أن لا تحكم المتصدين لهذه المهمة بغض النظر عن مواقعهم وقائع ظرفية أو أحداث عابرة ، بل ينبغي أن يبنوا مواقفهم على فهم واضح وعميق لمتطلبات العصر وعلى وعي بالإمكانيات والحاجات ، ومن ثم رسم السبل المؤدية إلى النجاح في ذلك ، بعيدا عن الحسابات السياسية التي لن تزيد التعليم المغربي إلا تأزما وتعقيدا . وعلى المسئولين أن يفتحوا على وجه السرعة أوراشا لصناعة وتشكيل التصور، تشكل فيها الآليات الدستورية القاطرة ، دون أن تكون لها وحدها الكلمة الفصل ، ودون أن تقرر جهة ما نيابة عن باقي مكونات الأمة ،مادام التعليم شأنا عاما لكل المغاربة . حقيقة الجهل وتجاهل الحقيقة تتضارب الآراء حول القيمة المضافة التي جاء به وزير التربية الوطنية المنتهية مهمته على رأس الوزارة والمطرود من حزبه ، إذ استلذ البعض وأعجب بنشر السكنيات المحتلة ، على الرغم من أن الكثير من المعنيين بها ينتمون إلى التحالف الحاكم ، وبعضهم لا زال يمارس مهام في تدبير الشأن العام ، وكثير منهم ممن تحملوا مسئوليات جسام لم تسعفهم رواتبهم لاقتناء "قبر الحياة" ،وبعضهم اهتدى بجشعه إلى الاحتلال طمعا في التمليك، اقتداء بتجارب حصلت في مناسبات سابقة . على أن من ضعفاء هؤلاء من تعرض لعقوبات التوقيف عن العمل ، وتعطيل الأجرة وقطع الرزق عن الأسرة ، دون المحاسبة الحقيقية للمسئولين عن الأخطاء الإدارية التي أنتجت الظاهرة ، كما أعجب آخرون بنشر لوائح المنقطعين عن العمل بمبررات مختلفة، تتحمل الدولة مسئوليتها فيها وليس الأشخاص ، دون أن يحصل من ذلك للتعليم فائدة . فكأن لذة التشهير قائمة في الإجراءات ،أما الفعل الردعي أو العلاجي فلا أثر له يذكر. ورغبة في المساهمة في تقييم موضوعي لتدبير الوزير وما قام به من إجراءات ، نستعرض جملة من الإجراءات والمواقف الصادرة عنه ، لنقيسها على سلم القيم التي يفترض أن تكون المعيارالحقيقي لمن يريد تدبير الشأن العام والتربية الوطنية على وجه الخصوص . ومن هذه الإجراءات ما يلي : - منعه للصحافة من حضور المجالس الإدارية للأكاديميات خوفا من كشف المستور، أو تعبيرا عن موقف عدائي منها ومن كل من يملك القدرة على الجهر بالحق ونشر العيوب ، علما بأن الصحافة مهما مس جسمها من انحرافات معزولة فهي تضم بين ظهرانيها أقلاما نظيفة تؤمن بقدسية الخبر وحرية تلقيه . ولئن كان بعضها قد يتجاوز أحيانا أو يقدم معطيات عارية من الحقيقة ، فإن الشح في الحصول على المعلومة يساهم في ذلك ، ويساعد على انتشار الكذب والتمادي في التأويل . وقد تأكد أن الحصار الذي ضرب على الإعلام ساهم في انتشار الكذب والزيف ، وجعل نساء ورجال التعليم عرضة للتضليل ، ومعهم كل المعنيين بالشأن التعليمي . - تصرفه المزاجي وعدم صدوره عن وعي وتدبر ، أو بناء على استشارات علمية وازنة أو تقدير للأمور حين ألغى بيداغوجيا الإدماج التي لم تكن اختيارا فرديا لوزير ، بل تم الاهتداء إليها بناء على وعي تربوي ومعرفة في المجال ، علاوة على ما أحدثته من رجة في الممارسة البيداغوجية التي أصبحت محكومة بالوعي في كل خطواتها ، وفتحت أعين الممارسين على جوانب ظلت مغيبة أو بعيدة عن النقد والتمحيص ، فكان الإلغاء بمثابة دحرجة للفاعلين المباشرين في العملية التعليمية بعد صعودهم وتسلحهم بالنظرية ، مما خلق ارتباكا وفوضى في الممارسة . - الوعي المغلوط وما أنتجه من انفراد في القرار، بحيث يبدو التصرف معاكسا للحقيقة، ومنتجا للزيف وعدم تقدير الأمور، مثلما حدث حين ألغى المراقبة المستمرة في تقويم أعمال الأساتذة المتدربين بالمركز الجهوية للتربية والتكوين ، خلافا للمتعارف عليه في كل أسلاك التعليم ، وخلافا لمقتضيات التكوين بنظام المجزوءات ، مما ولد سخطا عارما لدى المكونين والمتدربين على حد سواء ، وفتح الباب على مصراعيه للتسيب الذي يمكن أن يحصل مستقبلا ، بل أنتج ظلما غير مقدر حين اعتمد مقياسا فاقدا لكل شروط العلمية والموضوعية في ترتيب المتخرجين . - التصرف غير العلمي وغير المجاري للأعراف المعتمدة في كل بلاد الدنيا ، بل حتى في المؤسسات الوطنية . إذ ما هو المسوغ الديمقراطي الذي يسمح لجميع المعاهد والمؤسسات العليا أن تعتمد الانتقاء الأولي قبل المباراة ،ويرفض ذلك في المراكز الجهوية لمهن التربية بحجة الإنصاف ، وقد كانت النتيجة عكس ما كان متوقعا بحيث بات الجميع متيقنا بأن شعار الديمقراطية الذي رفع، انقلب إلى ديماغوجيا أنتجت خلطا في الأوراق وعمقت الفساد في أجواء الترشيح والمباراة ونتائجها . - إقصاء العاملين بالمراكز الجهوية من الإشراف على امتحان التخرج وعلى مباراة الدخول إلى المراكز، بخلفية تحقيق النزاهة ظاهريا ،وبالتشكيك في صدقية ممارساتهم جوهريا ، وما خلفه ذلك من مشاعر الألم والإحباط لديهم ، بالرغم مما ساهموا به في إرساء قيم النبل وشرف المهنة ، فكأن الإجراء طعن في تاريخهم وواقعهم مهما كانت ذرائع الوزير. لكن ما ذا كانت النتيجة ؟ وكيف كان الإشراف ؟ - تعطيل كثير من القرارات والمراسيم ، بل وحتى المذكرات بعد إصدارها ( مرسوم إحداث المراكز والمذكرات التنظيمية والقرارات ، مقرر تنظيم الدراسة ، تاريخ إجراء الامتحانات ..) - الإقدام على إشهار المنقطعين عن العمل بحجة التفرغ أو الوضع رهن الإشارة دون القيام بمراجعة قبلية وإحصاء دقيق، بحيث ترتب على ذلك خلط كبير أضر بمصلحة كثير من الذين غيروا إطاراتهم أو أماكن عملهم، ليبدوا وكأنهم موظفون أشباح ، بل منهم من انقطعت أجرته وظل يرابط بالرباط من أجل تصحيح وضعية لم يكن هو سبب اضطرابها ، لتظل المشكلة الحقيقية قائمة . - توقيف أحد المدراء المركزيين المخالفين لرأي الوزير بالرغم مما يشهد له به من جدية ونزاهة وفعالية . - مواجهة العديد من الأفراد من أسرة التعليم بسلوكات تفتقد شروط اللياقة المطلوبة في المسئول الذي ينبغي أن يكون عارفا بمبادئ التواصل ، وهذا ما أدى إلى عدم الاحترام والمواجهة بالامتعاض والازدراء اللذين لا يليقان بوزير ( قصته مع تلميذ شيشاوة ومعلمة العرائش..). هذه نماذج من التدابير التي قام بها الوزير فأي موقع لها ضمن سلم القيم المعروف في شروط اختيار المسؤول ؟ v ما دام سيادته في ما أقدم عليه لم يكن يستند إلى حقائق أو مرجعيات علمية أو فكرية فهو يشتغل وفق هواه ؛ v وما دام يرى علمه هو العلم، ودونه باطل فهو يخطئ من يخالفه ؛ v وما دام يغضب من كل شيء لا يوافقه، فهو يتخذ فهمه معيارا؛ v وما دام يستهين بغيره ولا يرى الحق إلا في ما يعتقد فهو يعبر عن كبرياء وخيلاء ؛ v وما دام قد اتخذ إجراءات ضررها أكبر من نفعها فهو لا يقدر الأمور؛ v وما دام قد أساء للآخرين دون قصد فهو عاجز عن التمييز بين القبيح والجيد وفاقد للتحكم في سلوكه. v وما دام قد ألغى نهجا بيداغوجيا لم يفهمه فهو عدو ما يجهل ؛ v وما دام لم يحسم في كثير من الملفات التي فتحها ، ووقف عاجزا أمام الأمور التي تتطلب تدخلا فإن الإصلاح الذي نادى به مخالف لحقيقة الواقع . وهذه سمات لا يتصف بها العقلاء ، بل تدخل في باب الجهل بالقطاع ومتطلباته، وحقيقة الجهل أنه مطية الفتنة ومصدرها . ولهذا ترك السيد الوزير قطاع التربية في فتنة نسأل الله الخروج منها بسلام ، وهي قيمة لا نريد إضافتها لرصيدنا من التخلف في سلم الترتيب العالمي . أما تجاهل الحقيقة فهو ما يمارسه كل الذين يبحثون عن تفسير لأزمة التعليم خارج دائرة تدبيره ، فيتعامون عن الحقيقة أو يتمادون في إنكارها ، معتقدين أنهم وحدهم من يملكها ، فلا يتركون فرصة لغيرهم للمشاركة ولو بالرأي، ليستمر الوضع على ما هو عليه أو أسوأ . وهذا ما يوجد عليه حال التعليم ببلادنا، بين مطرقة الجهل وتجاهل الحقيقة، وهو محتاج إذن لمن يخرجه من هذا النفق . فمن المؤهل لذلك في ظل الشروط الصعبة التي يعيشها التدبير. آفاق منذرة بكل الأخطار سببها الإصلاح المستحيل تذهب العديد من الدراسات والأبحاث والمناظرات إلى أن المغرب يملك فيضا من التشخيص لواقع التعليم يبلغ حد التخمة ، وهذا أمر فيه نسبة من الصواب بالرغم من كون التشخيص لا يتسم بالسكونية والمطلقية ، بل يظل قابلا للتحيين كلما جد جديد على المستوى الوطني أو الدولي ، حيث الأنظمة التعليمية لا تعيش عزلة أو انقطاعا عن بعضها ، بل تتأثر تبعا لعلاقات المجتمع الداخلية والخارجية. ولذلك ما ينقص إصلاح التعليم بالمغرب هو الإرادة الصادقة التي تغلب مصلحة الوطن على المصالح الشخصية ، والتي لا تستهين بالطاقات المحلية والإمكانيات الذاتية ، فتباذر دون إحساس بالدونية باتخاذ القرارات الحاسمة ولو كانت موجعة . غير أن تجارب الإصلاح التي مرت على المغرب يظل الثابت فيها دائما هو الإصرار على لعب دور أو أدوار مخالفة لما مضى من طرف نفس الأشخاص الذين كانوا عاملا من عوامل الفساد . فهم متشبثون بمواقعهم ولا يتنازلون عنها قيد أنملة . وهذا ما يجعل الإصلاح مستحيلا ، ومن ثم التشخيص غير ذي قيمة . لم يبلغ تعليمنا في تقدمه ما بلغه النظام التعليمي في الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة1983 في انحداره حين أصدر الرئيس رونالد ريغان أمرا بإصلاح التعليم من خلال تقرير عنونه ب: "أمة في خطر: أمر إلزامي بإصلاح التعليم" وتشكلت على إثره لجنة تكلفت بالمهمة واقفة عند عوامل الضعف التي تحدق بالمجتمع الأمريكي والتي تجعله فاقدا لريادته العالمية ، وقد أعقبت هذا التقرير قرارات جريئة أعادت للنظام التربوي الأمريكي بريقه وإشعاعه ، بحيث ظل منذ ذلك الحين يتربع كرسي الريادة . فهل لنا أن نستفيد من منهج الإصلاح الذي اعتمده هذا النظام ، لندرأ عنا عناصر العجز التي استقرت وصعب محوها؟ لقد اعتمد تقرير" أمة في خطر " نتائج الدراسات التي كشفت عن تدني التحصيل الأكاديمي في اللغة والرياضيات والكتابة والتحرير ، مستندا إلى قياس مستوى الأمريكيين بمستوى زملائهم من الدول الصناعية ، وما كشف عنه من تدن وتراجع ، وهو ما أوحى للجنة الوطنية للتميز التي أنيطت بها مهمة الإصلاح أن ترفع توصيات للأخذ بها ، وتهم إعادة النظر في بنية التعليم ، والمحتوى والمعايير ، وزمن التعلم ، والقيادة والتوقعات ، واحترام الخصوصيات وتطوير البحث ، ومراعاة الحقوق ، والدعم المالي، وأن تبدي ملاحظات حول العنصر السياسي الذي يغلب المصالح ويتسم بالجمود ، لأنه يفتقر إلى القيادات النشيطة . ولم يمض زمن طويل حتى عاد النظام التربوي إلى مستواه اللائق . وبالتأمل في النموذج الأمريكي لنا أن نسائل مختلف العناصر التي يطالها التغيير في كل إصلاح عرفه النظام التربوي المغربي، إذ لا نكاد نعثر على تغيير يذكر بخصوص القيادة ، ونفس الأمر بالنسبة لاحترام الخصوصيات ومراعاة الحقوق وتطوير البحث، أما باقي العناصر فما يمسها من تغيير يظل شكليا بسبب طغيان العنصر السياسي الذي يغلب المصالح ويرفض التجديد ، معتمدا قيادات غير نشيطة . وهذا ما يجعل الإصلاح مستحيلا أو شبيها بذلك ، لتظل أمتنا في خطر دائم . وإذا كان الخطر عند الأمريكيين يتجسد في فقدان الريادة ، فإنه لدينا يتجسد في فقدان الهوية وطمس معالم الحضارة ، جهل بالتاريخ الوطني لا يشجع على بناء المستقبل ، عجز عن التحكم في اللغة يهدد بقطع الصلة مع التراث ، ضعف في الرياضيات يمنع من استغلال القدرات العقلية ويهدد الفكر، ترد في التعبير يحجب الحقيقة ويمنع كل إمكانيات التواصل مع النفس ومع الغير. إنها أخطار متعددة، تهدد النسيج الاجتماعي للأمة ، وتضرب بعمق في أوصالها ، فهلا تداركناها قبل فوات الآوان . هي مسئولية جسيمة تنتظر الوزير الحالي وتنتظر الحكومة فهل الجميع في مستواها، أم ينتظرون تدمير ما بقي ، نتمنى أن يصحو الجميع ويبادروا قبل فوات الآوان .