يعتبر العديد من المفكرين أن ما يتهدد الكيانات الحضارية لا يكمن، فقط، في الأوبئة ولا في الحروب أو الغزوات العسكرية مهما اشتدت ضراوتها. وقد سبق وأن أوشكت شعوب على الإبادة نتيجة ما أشرنا إليه. ولكنها استطاعت أن تنبعث من جديد. والسر في ذلك يعود إلى أن القيم، التي أقرتها والتي تأسست عليها هذه الأقوام، بقيت حية فيها. ومن تم يدعو هؤلاء المفكرون إلى ضرورة حماية الخصوصيات الحضارية للأمم والشعوب على اعتبار أن التحولَ في القيم هو بالضرورة تحول في الذات الحضارية. وأصبحت في زمننا الحالي مسألة القيم والهوية تطرح نفسها بحدة أكثر أمام زخم التحولات التي يعرفها العالم المعاصر بعد النجاح القهري في عولمة الاقتصاد عن طريق تعميم نمط الإنتاج الرأسمالي في أقصى وأبشع صوره والأزمات التي نجمت عن ذلك. ففي خضم تحديات زمن العولمة هذا تطرح العديد من التساؤلات حول صيغ الانخراط في هذه الظروف الكونية الجديدة. فإذا كان هذا الانخراط أمرا حتميا وشرطَ وجودٍ حضاري كما يقول البعض، فكيف يمكن تدبيره بعقلانيةٍ، وانفتاحٍ حضاري يتسم بالوعي بالذات وبالغير وبالشروط السوسيوتاريخية المحلية والكونية المحددة لهذا الانخراط؟ كيف يمكن تفادي أن يصبح هذا الانخراط عبارةً عن حشرٍ قسري وإكراهي في أتون هذا الزمن العولمي الغاشم بكل توجهاته المعلنة المضمرة منها والحسنة على السواء. هل نملك، بالفعل، من الشروط والمؤهلات ما يجعل من هذا الانخراط انخراطا منتجا وفاعلا بالنسبة لنا..؟ فبديهي أن مواكبة هذا الزمن الجديد والانخراط فيه بوعي وبفاعلية رهين بتوفر شروط امتلاك التأهيل المعرفي والتكنولوجي لدى مواطنينا لبناء «مجتمع الجدارة والاستحقاق: Société de la Méritocratie» القادر على مواجهة تحديات التنافسية والانفتاح الاقتصادي والثقافي والسياسي والحضاري على مكونات النظام الدولي الجديد والتبادل الندي مع أطرافه ومكوناته، ونحن حريصين على الحفاظ على هويتنا وخصوصياتنا. ومن نافلة القول، أيضا، أن أيَّ مشروعٍ اجتماعي هادف يجب أن يقوم، من بين ما يقوم عليه، على مشروع تعليمي وتربوي يشكل أسسه ومحوره المركزي. وهذا معطى موضوعي مستفاد من دروس التاريخ وتجارب الأمم المتقدمة، التي جعلت من مشاريعها التربوية-التكوينية أولوية الأولويات، فكان ذلك أهم عامل في إقلاعها ورقيها وتصدرها الحضاري . وتكفي، في هذا الصدد، الإشارة إلى نموذج البلدان البازغة أو الصاعدة في آسيا، بالخصوص، التي أخذت تركز على التعليم والتكوين واستثمار الرأسمال البشري. ولا يمكن لأحد أن يجادل في كون أن هذا المنحى مثّل ويمثل الركيزة الحاسمة في إقلاعها الاقتصادي والاجتماعي. ولا شك في أن المشروع التربوي التكويني- إذا توفرت له شروط الجودة والنجاعة - هو جسرُ العبور إلى تأسيس مجتمع متقدم، ينبني على الجدارة والمعرفة والإنتاجية والانفتاح الفاعل.. كل هذه العناصر وغيرها تفسر قفزَ إشكالية القيم إلى الواجهة، كما جاء في الورقة التقديمية لمشروع الجامعة الخريفية لبيت الحكمة، وبالتحديد في الفقرة الرابعة منه، والتي تنص على تيسير استجابة المنظومة التربوية المغربية لمشروع التحديث والدمقرطة...وتدقيق مدى ملاءمتها مع قيم المجتمع الديمقراطي... ضمن هذا السياق الإشكالي العام، تحاول هذه المداخلة/المساهمة -التي لا تخلو من جوانب القصور وعدم الإحاطة- تناول هذا السؤال النوعي الهام، سؤال القيم والرهانات التربوية. وأقترح تقسيم هذه المداخلة إلى خمسة أجزاء الجزء الأول : ما هي رهانات مجتمعنا وما هي تحديات المدرسة المغربية ؟ الجزء الثاني: ما هي مرجعياتنا وما هي طبيعة وموقع القيم في هذه المرجعيات؟ الجزء الثالث: ما هو واقع الحال في نظامنا التعليمي؟ الجزء الرابع: ما هي أسباب ومصادر الاختلال؟ الجزء الخامس: ما العمل؟ الجزء الأول رهانات المجتمع وتحديات المدرسة إن غاية أي منظومة تربوية تسعى إلى إقلاع المجتمع، الذي تتفاعل بداخله وتساهم في تنميته وتطوره، هي إنتاجُ مواطنين قادرين على مساءلة أنفسهم ومساءلة العالم من حولهم من أجل تحويله والسير به إلى الأمام. وانطلاقا من هذا التوصيف، وضمن هذا السياق، ثمة ثلاث أسئلة يُفترض أن تكون حاضرة في صلب كل منظومة تربوية تروم النهوض بالإنسان. السؤال الأول: أي تلميذ نريد؟: وهو سؤال إبستيمي، معرفي يحيل إلى المقاربات البيداغوجية والمناهج التي تتبناها هذه المنظومة التربوية أو تلك. السؤال الثاني: أي مواطن نريد؟: وهو سؤال سوسيولوجي يحيل إلى القيم المجتمعية التي يكتسبها المتعلم والمعايير والأنماط التي تؤطر علاقته في النسيج المجتمعي الذي يحيا ويتفاعل فيه. السؤال الثالث: أي إنسان نريد؟: وهو سؤال يحيل على السياق الإنساني لعملية التربية والقيم الكونية التي تُنْتِجها من قبيل: المواطنة وحقوق الإنسان والحداثة واحترام الآخر... ومجتمعنا، على غرار المجتمعات التي أخذت تسعى إلى تحقيق شروط التنمية المستدامة، تواجهه تحديات كبرى يمكن إيجازها فيما يلي: 1. التحدي السياسي المتمثل في تعميق وتعزيز المسير الديمقراطي الذي تنخرط فيه البلاد، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في منظومة القيم التي على أساسها تقوم التنشئة السياسية من أحزاب وجمعيات...؛ 2. التحدي الثقافي القيمي، بالمفهوم الأنتربولوجي، أي التصورات والقيم والمواقف التي تحملها جماعةُ ما. 3. التحدي الاقتصادي في زمن تكسير الحواجز الجمركية وتعميم حرية المبادلات، مما يستوجب تطوير نسيجنا الاقتصادي وإعادة النظر في مؤسساتنا وآليات إنتاجنا حتى تكون في مستوى المنافسة. 4. التحدي العلمي والتكنولوجي الذي أصبح لزاما علينا مواجهته في كل مناحي الحياة؛ 5. التحدي التنموي بالمفهوم الشامل: أي في أبعاده الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، مما يفرض على المدرسة الجديدة دوراً جديدا والمتمثل في إعادة النظر في كيفية انتشار الرأسمال البشري وكيفية توظيفه فيما يساهم في تنمية البلاد. وهذه التحديات والرهانات العامة التي تنم عن اختيار مجتمعي معلن، تسائل نظامنا التعليمي وتطرح طبيعة المهام والرسائل الملقاة على عاتق المدرسة المغربية. فما هي إذن التحديات المتميزة التي يواجهها نظام التعليم والتكوين ببلادنا؟ ويمكن إجمال هذه التحديات في خمسة: 1. تحدي الدمقرطة وتكافؤ الفرص، سيما وأن شعار تعميم التعليم لا يزال لم يعرف بعد طريقه إلى التحقيق الفعلي بالرغم من الجهود المبذولة، حيث ما زالت الفوارق قائمة بين الذكور والإناث، وبين الأرياف والحواضر، وبين الأحياء الراقية والفقيرة، وبين الجهات. 2. تحدي الوصول إلى جودة حقيقية في نظامنا التعليمي، حيث تُجمع التقارير التقييمية والتشخيصات على تردي المنتوج التربوي، 3. تحدي توفر منظومة تدبيريه تجعل في صلب اهتماماتها وفي صدارتها الفصل الدراسي والمتعلم، 4. تحدي الانصهار مع المحيط، بحيث أن نظامنا التعليمي مطالب بالانفتاح على بيئته المجتمعية والتكافؤ معها، وإقرار سلطة الكفاءة والاستحقاق؛ 5. تحدي المواكبة الحضارية والتوجه نحو المستقبل، بمعنى ضرورة مواكبة العولمة الجارفة مع الوعي بما تنطوي عليه من انعكاسات بل ومخاطر. فما هي الأسس التي تحدد التوجهات التربوية الكبرى والغايات المراد بلوغها في مجال التعليم والتكوين؟ هذا ما سنحاول تناوله في الجزء الثاني من هذه المساهمة الذي سيركز على مرجعياتنا. الجزء الثاني مرجعياتنا إن الوثائق والنصوص القانونية والتربوية المؤسسة للاختيارات والتوجهات التعليمية ببلادنا هي على وجه الخصوص، دستور البلاد والميثاق الوطني للتربية الذي أشرفت على إعداده اللجنة الخاصة للتربية والتكوين بإشراك واسع لمختلف الكفاءات والفعاليات الوطنية؛ والكتاب الأبيض الذي حدد المضامين العامة والكفايات التي تضطلع ببنائها المدرسة المغربية. فبالرجوع إلى مقتضيات الميثاق الوطني، نلاحظ أنه جعل في توجيهه التوافقي (الذي أوضح حدوده وسلبياته الأستاذ محمد الصغير جنجار) من منظومة القيم مرتكزات ثابتة، وحصرها في أربع: قيم العقيدة؛ قيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية؛ قيم المواطنة؛ قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية. فنظام التربية والتكوين للمملكة المغربية يهتدي إذن بمبادئ العقيدة وقيمها الرامية إلى تكوين المواطن الصالح المستقيم، والمتصف بالاعتدال والتسامح، والشغوف بطلب العلم والمعرفة في أوسع آفاقهما، والمتوقد للاطلاع والإبداع، والمطبوع بروح المبادرة الإيجابية والإنتاج النافع. كما يهدف النظام التربوي من خلال مقتضيات الميثاق إلى الالتحام بكيان البلاد العريق القائم على الثوابت والمقدسات، وإلى تربية مواطنين متشبعين بالرغبة في المشاركة الإيجابية في الشأن العمومي وهم وَاعُون أتم الوعي بواجباتهم وحقوقهم، مواطنين متمكنين من التواصل بلغتهم الأم، أكانت عربية أم أمازيغية، متفتحين على اللغات الأكثر انتشارا في العالم، ومتشبعين بروح الحوار، وقبول الاختلاف، مثلما يتأصل النظام التربوي في التراث الحضاري والثقافي للبلاد، بتنوع روافده الثقافية والجهوية المتفاعلة والمتكاملة، ويرمي إلى حفظ هذا التراث مع تجديده وتطويره وضمان إشعاعه، لما يحمله من قيم خلقية وثقافية. كما ينطلق إصلاح نظام التربية والتكوين، حسب مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، من جعل المتعلم في صلب العملية التربوية التكوينية. وذلك بتوفير الشروط وفتح السبل أمام أطفال المغرب ليصقلوا مهاراتهم، ويصبحوا مؤهلين وقادرين على التعلم مدى الحياة. ولن يصلوا إلى هذا المستوى دون التأكيد على انفتاحهم ودون أن تكون المدرسة مدرسة الحريات والإبداع. ويقتضي بلوغ هذه المرامي - حسب الميثاق الوطني للتربية والتكوين- الوعي بمنتظرات الأطفال وحاجاتهم البدنية والوجدانيةوالنفسية والمعرفية والاجتماعية، كما يتطلب، في الوقت نفسه، نهجَ السلوك التربوي المنسجم مع هذا الوعي، من الوسط العائلي إلى الحياة العملية مرورا بالمدرسة. ومن تم، يقف المربون والمجتمع برمته تجاه المتعلمين موقفًا قوامه التفهم والإرشاد والمساعدة على التقوية التدريجية لسيرورتهم الفكرية والعملية، وتنشئتهم على الاندماج الاجتماعي، واستيعاب القيم الوطنية والمجتمعية. وبناء على ذلك ينبغي لنظام التربية والتكوين أن ينهض بوظائفه كاملة تجاه الأفراد والمجتمع وذلك بمنح الأجيال الصاعدة فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلها للاندماج في الحياة العملية بل والمساهمة في تجديد العالم والتحلي بما سماه الأستاذ أفايا بأخلاق المسؤولية. لذلك تسعى المدرسة المغربية الوطنية الجديدة كما يريدها الميثاق إلى أن تكون مُفعمةً بالحياة، ومفتوحة على محيطها بفضل نهج تربوي نشيط، يتجاوز التلقي السلبي، نهجٌ قوامه استحضار المجتمع في قلب المدرسة، مما يتطلب نسج علاقات جديدة بين المدرسة وفضائها البيئي والمجتمعي والثقافي والاقتصادي. ونتيجةً لذلك لم تعد التربية حكرا على المدرسة وحدها، بل اعتُبرت الأسرة المؤسسةَ التربوية الأولى التي تؤثر في تنشئة الأطفال وإعدادهم للتمدرس الناجح. فما هو يا ترى واقع الحال في نظامنا التعليمي؟ الجزء الثالث واقع الحال رغم أن العقد المخصص لإصلاح منظومة التربية والتكوين في بلادنا قد ولى وانتهى، وعلى الرغم من الطابع الطموح للتوجهات التي نص عليها الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وبالرغم من القيم المثلى والمبادئ الفضلى التي تدعو إليها المدرسة المغربية من خلال مضامين البرامج الدراسية ومن خلال الكتب المدرسية التي تنادي بالانفتاح واحترام الغير وتبني قيم الحداثة وقيم الحق والواجب، فإن كل الدراسات والتقارير التشخيصية التي أنجزتها مؤسسات وطنية ودولية مختصة تجمع على أن منظومتنا التربوية تعاني من اختلالات كبرى لا يتسع حيز هذه المداخلة لسردها كلها. سنكتفي بالجانب المتعلق بالقيم، التي من المفروض أن يتم استبطانها من لدن المتعلمين بالنظر للجهود المبذولة. يواجه الفاعلون في الحقل التربوي، وبصفة خاصة القائمون بمهام التدريس والإدارة التربوية، أنماطا من السلوكات الغريبة والمرفوضة التي تفشت في صفوف المتمدرسين بالتعليم الثانوي، التأهيلي بوجه خاص، والتي تقوض الغايات والمثل العليا المشار إليها، وتتعارض معها؛ والتي تصدر عن مواقف واتجاهات سلبية لدى هؤلاء المتعلمين إزاء المدرسة والحياة المدرسية. فما هي أبرز تجليات ومظاهر هذه السلوكات السلبية؟ وما هي المواقف والاتجاهات التي تحركها؟ فكثيرا ما يجد الفاعلون في الحقل التربوي في التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي أنفسهم أمام متعلمين إما لا مبالين أو مسايرين ممتثلين سلبيين أو، عكس ذلك، متمردين على القيم والأعراف المدرسية، وعن أعراف المجتمع وقيمه، بل إن من بينهم من اختار الظواهر الانحرافية من قبيل الغش في الامتحانات وعدم الحفاظ على المرافق المدرسية والتعاطي للمخدرات وأحيانا حتى ارتكاب الجنح والجرائم.... ويمكن رصد هذه السلوكات المرفوضة فيما يلي: - التغيبات غير المبررة عن الدراسة؛ عدم إنجاز الفروض والواجبات المنزلية؛ الالتحاق المتأخر بالدراسة في بداية الموسم الدراسي؛ الانقطاع المبكر عن الدراسة قبيل كل عطلة مدرسية وعند انقضاء الموسم الدراسي، إتلاف مرافق المؤسسة وممتلكاتها، عدم احترام باقي الشركاء في الحياة المدرسية من تلاميذ ومربين، اللجوء إلى العنف في حل المشكلات التي تعترض المتعلم داخل المؤسسة التعليمية، اللجوء إلى الغش في الفروض والامتحانات... إن وجود مثل هذه السلوكات المرفوضة في الوسط المدرسي يؤكد أن هناك خللا ما ويحثنا على التساؤل حول الأسباب الكامنة وراءها. - لماذا لم يتمكن تلامذتنا من استبطان المنظومة القيمية التي تبنتها المدرسة المغربية؟ - لماذا يجمع المتتبعون للشأن التربوي والمتدخلون فيه أن هناك قطيعةً بين ما نحدده من قيم وأهداف وبين ردود فعل المتعلمين والمنتوج التربوي إجمالا؟ - لماذا لم نتمكن بعدُ من وضع النظام التربوي على سكة الإصلاح الحقيقي؟ - هل لا تزال مكونات المجتمع المغربي تعتبر المدرسة أداة للترقي الاجتماعي؟ - هل تمكنا من جعل التعليم والتحصيل مدخلا للحياة الكريمة؟ وقبل محاولة الجواب على هذه التساؤلات، لا مناص من التأكيد على أن هناك عدم تناغم بين القيم «التقليدية» التي تعودنا عليها وقيم الأجيال الشابة. ومهما كان من أمر فهذا برهان إضافي على أن القيم هي منظومة تتسم بصلابة كبيرة لكنها رغم ذلك هي في تحول مستمر. الجزء الرابع أسباب ومصادر الخلل يلاحظ أن جل الخطابات التربوية بل حتى معظم محاولات الإصلاح تقدم الاختلالات وكأنها اختلالات وظيفية وتعثرات مردها أسباب مادية وتقنية من قبيل مسألة التمويل، وضعف البنيات التحتية، ونقص في الأطر والموارد البشرية، وضعف التدبير والحكامة، وإكراهات النمو الديموغرافي مقابل ضعف القدرة الاستيعابية.... فإذا كَنا نقر بالدور السلبي لهذه العوامل كلها في «فرملة» الإصلاح، فإننا نعتقد أن محاولة حصر الاختلالات في هذه الجوانب التقنية هو اختزال متعسف، بالنظر إلى محاولات الإصلاح المتعددة والتي لم تفلح لحد الآن في إخراج نظامنا التعليمي من وضعه المأزوم. ويتعذر الإمساك بهذه الاختلالات إذا لم يتم ربطها بتاريخيتها وبجذور منطلقها، منذ فترة ما بعد الاستعمار بالخصوص. لقد أدى الإرث السوسيوتاريخي والسياسي لمرحلة ما بعد الاستقلال، إلى اختلالات كبيرة في تدبير الشأن العمومي. كما أن غيابَ توزيعٍ عادل للخيرات المادية والرمزية، وللمهام والمناصب والمواقع والأدوار وللسلطة بكل أشكالها السياسية والاجتماعية.. أدى، بالتدريج، إلى بروز نسق قيمي جديد يكرس «ثقافة اجتماعية» جديدة، قائمةَ على استعظام قيم المال والوجاهة الاجتماعية والسلطة وجاذبية المكانة والمنصب.. وعلى اعتماد أساليب لا عقلانية منافية لقيم الحداثة والديمقراطية، مثل الرشوة والمحسوبية والزبونية وعلاقات القرابة والولاءات المختلفة.. وغيرها من التصرفات والقيم المنحطة، الأمر الذي ضرب في الصميم مجملَ عمليات ومشاريع الإنماء التربوي والاقتصادي والاجتماعي الشامل، وخلق انفصالا حقيقيا بين ما تسعى المدرسة تلقينه من قيم سامية ومن نمط تفكير وبين الظواهر المشار إليها آنفا والتي تفشت في المجتمع، لدرجة لم تعد فيها المدرسة جسرا واقيا ولا سيما رافعة للترقي الاجتماعي ولم تعد المعرفة، بالضرورة، مفتاحا لتأهيل الإنسان. ونتيجة لضعف المردودية الخارجية للنظام التربوي، والمتجلية في عدم قدرته على الاستجابة لمتطلبات محيطه السوسيو-اقتصادي، فقد استفحلت في العقدين الأخيرين بطالة أخذت تهم أعدادا كبيرةً من الشباب المتعلم والمالك لمؤهلات مهنية وتعليمية وتكوينية مختلفة، فتنامت ظاهرة الهجرة بمختلف أشكالها، ولا سيما وسط كفاءات شابة، والتي نحن أحوج ما نكون إليها الآن في تعزيز وتقوية مسلسل التقدم والنمو. وهكذا أصبح ينظر إلى مؤسسات التعليم والتكوين وكأنها بنايات لإنتاج وتفريخ العاطلين المهمشين، وإلى الحقل التربوي وكأنه مجال استهلاكي تفوق كلفته أداءَه ومنتوجَه. في ظل هذه الشروط، تدهورت صورة ومكانة المؤسسة التربوية، وافتقدت دورها ورسالتها في تأمين الحراك السوسيو-اقتصادي والصعود المَراتِبي بالنسبة لشرائح اجتماعية هامة من المواطنين. ولهذا الوضع نتائج سلبية على مستويات متعددة، نجمل أهمها فيما يلي: 1. فقدان المتعلمين لمقدراتهم ولحوافزهم السيكوسوسيولوجية على التحصيل والتعلم نتيجة انتشار مناخ مشحون بالتضايق في المؤسسات التربوية. 2. تراجع حماس ومعنويات الفاعلين التربويين على كل المستويات في المدرسة. انحدار قيم وأخلاقيات الممارسة التربوية وانتشار ثقافة اليأس جراء هذه العوامل مجتمعة. الجزء الخامس ما العمل؟ إذن لي اليقين من أن إشكالية القيم والرهانات التربوية توجد في صلب مشروع إصلاح التعليم الذي تريد بلادنا أن تنخرط فيه. هذا المشروع الذي يفرض علينا جميعا السعي إلى إنجاحه عبر ما نتقدم به من مقاربات ومقترحات أوجزها في تسع: (وهنا أترك قبعة الأكاديمي لوضع قبعة الملتزم السياسي فوق راسي) 1. إنه ينبغي، في اعتقادي، التوجهُ بالأساس إلى مشكلة القطيعة –التي أشرنا إليها آنفا- بين ما يتلقاه تلامذتُنا داخل أسوار المدرسة وبين ما يجري في الواقع المعيش، في محيطنا المجتمعي. فلا فائدةَ من قيم، مهما سمت وفضلت لا تجد لها امتدادا في الوسط الاجتماعي بل، أحيانا، هي نقيض ما يجده المتعلم بمجرد مغادرته لفضاء المؤسسة التربوية أو التكوينية. فكما قال «لوي باستور» La morale s'éprouve أي أنها تخضع إلى محك الممارسة للبرهان على وجدوها وهذا هو مربط الفرس؛ وهذا ما ينبغي أن يكون موضوع تعبئة شاملة لمجموع المجتمع أفرادا، ومؤسسات تمثيلية ومدنية، لأجل رفع التحديات المشار إليها سلفا. 2. كما أن إقرار المدرسة كممر إجباري passage obligé لمزاولة وظيفة أو نشاط مهني ما، أصبح أمرا حتميا لأجل القضاء على كل مظاهر الأمية والجهل وإعادة الثقة إلى المتعلمين بأن التعليم هو السبيل الوحيد للعيش الكريم ولتحقيق تنمية شاملة ومستدامة، مما يستوجب تقوية العديد من القيم كقيمة التنمية الشاملة والمستديمة، وقيمة المواطنة الحق، وقيمة الانفتاح على الآخر واحترامه وقبول آرائه مهما اختلفت، وقيمة الجدارة والاستحقاق... 3. كما أنه أصبح من الضروري اعتماد نظرة شمولية لا تجزيئية أوظرفية للإصلاح مما يفرض اعتبار الإصلاح التربوي جزء لا يتجزأ من مشروع إصلاح شمولي ومندمج يتكامل فيه السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. 4. كما ينبغي بناءُ أي مشروع إصلاحي، تربوي أو اجتماعي معين، على المعرفة الموضوعية الدقيقة بالواقع المستهدف. وهذا ما يستوجب اعتماد البحوث العلمية الموفرة لهذه المعرفة المطلوبة، مثل بحوث ودراسات الاستكشاف والتشخيص، وبحوث ودراسات التدخل والتطوير، ثم بحوث ودراسات المتابعة والتقويم. 5. مثلما ينبغي الإقرارُ بحتمية توفر الرؤية المتكاملة، الواضحة والهادفة ل»الإنسان/المواطن» الذي نريد تكوينَه عبر أنظمة التربية والتعليم والتكوين، وجعل الإنسان هو الغاية وهو الفاعل المحوري للتنمية وضامنُ تواصلها واستدامتها. مما يؤدي إلى ضرورة جعل المشروع التربوي أس المشروع الاجتماعي ومحورَه المركزي. 6. في نفس السياق، لا بد من جعل سؤال الإصلاح متمحورا حول استشراف المستقبل وتلبية الحاجات الآنية والمستقبلية مع النظر إلى أي مشروع إصلاحي باعتباره سيرورةً متواصلة وليس مجرد عمليات تنجز دفعة واحدة، لا سيما وأن الحقل التربوي يعرف تغيرات لا متناهية، 7. لا مناص من الانخراط في شراكة، ديمقراطية عند وضع السياسات والخطط والمشاريع والبرامج، سواء كانت تربوية أو اجتماعية عامة. وفي هذا السياق بالذات برز مفهوم «التخطيط التشاركي». 8. نهج سياسة قائمة على اللامركزية واللاتمركز، سيما وأن هذه السياسة أضحت، في السياق الكوني المعاصر، من بين أهم الأولويات العقلانية والديمقراطية في صنع وتصريف القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مختلف أنماطه ومستوياته من جهة، وعلى اعتبار أن بعض الخصوصيات الجهوية، في المغرب، تتطلب – في الحقل التربوي على سبيل المثال- مقاربةً نوعية وخاصة للمسألة التربوية بكل أبعادها ومشكلاتها ومكوناتها، 9. الاستعمال الممنهج والهادف للأساليب والتقنيات الحديثة المتطورة في عمليات برمجة وتنفيذ الخطط والمشاريع.. مثل: برامج المعلوميات، ووسائل الإعلام والاتصال والتواصل، وتقنيات التدقيق والمراقبة، ومنهجيات دراسة الجدوى والمشاريع، ونماذج التقييم المؤسساتي.. بغية تحديث القطاعات والمؤسسات الإنتاجية والاجتماعية – ومنها المؤسسات التربوية المختلفة-. وهذا يطرح بدوره مسؤوليات المدرسين الذين عليهم أن يكونوا دوما قدوة حسنة لتلامذتهم. إنما هذا موضوع آخر واسع لا تسمح لنا الظروف بالتطرق إليه في هذه الورقة. يبقى أن إشكال جدلية القيم والمدرسة يندرج في إطار واسع متصل بنوعية الحلول التي سيختارها أصحاب القرار وكذلك التي سنختارها نحن كمواطنين ومواطنات، للرد على التحديات التي وردت في الجزء الأول من هذا التدخل؛ أي إلى أي حد سنذهب بدمقرطة وطننا على جميع مستويات الحياة وإرساء قواعد دولة الحق والقانون والمؤسسات، تلكم الدولة التي أخذت تتعرض في الآونة الأخيرة إلى تهديدات خطيرة. إن ما يحدث حاليا بمغربنا الكبير وبمصر، لمن شأنه حث مسؤولينا في قطاعات التربية والتكوين على إعطاء دفعة أقوى لعملهم الرامي إلى التوفيق بين منح تكوين ناجح وذي مستوى رفيع لأبناء الوطن من جهة، وضرورة مسايرة قيم المجتمع التي تعرف هي بدورها تطورا سريعا وعميقا مؤداه المطالبة بالمساواة وتكافؤ الفرص وتقوية روح المبادرة والابتكار لدى المتعلمين مع جعلهم في آن واحد يرفضون كل الآراء الجاهزة المعتمدة على تبريرات سلطوية arguments d'autorité ويحترمون آراء الآخر، ويقبلون الاختلاف غير متوهمين أن امتلاك الحقيقة واحتكارها شيء ممكن. هكذا سنكون قد اقتربنا من إضفاء طابع الإيجابية على جدلية العلاقات بين قيم المجتمع والمدرسة. وما يحصل في بلدان شقيقة حاليا يجب أن يحفزنا على صيانة المكتسبات بتبصر وإصرار. هذه بعض الأفكار التي أبسطها على سديد رأيكم، وأنا على يقين من أنها لم تُحط بإشكالية القيم والرهانات التربوية بشكل شامل. ولاشك، وأنتم العارفون بخبايا التربية والتعليم، أنكم ستغنونها بملاحظاتكم وآرائكم، إن كانت تستحق ذلك. إلا أنني أود القولَ، قبل أن أختم، أنه استنادا على ما لقنتنا إياه بعضُ دروس التاريخ، فالتغيير، كأداء ملموس، لا تحسم فيه المواثيق والمشاريع والبرامج والتوجهات الإصلاحية والتحديثية لوحدها، مهما صدقت نواياها. إن التغيير إشكالية سوسيولوجية وسياسية متعددة الأبعاد والجوانب، تتجاوز مقاربتها ما رسم لهذه المداخلة من أهداف وحدود. نترك معالجتها بشكل أكثر عمقا إلى محاولة قادمة. * نص المداخلة التي ألقاها الأستاذ إسماعيل العلوي رئيس مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية كمساهمة في الدورة الأولى لجامعة بيت الحكم بالرباط بتاريخ 29 يناير 2011