نهاية الحوار.. من أجل غرب منغلق! "يعكس النص الهينتنغتوني ظاهرة المنتج الأمريكي التقليدي، أي تقديم الغرب بوصفه ذاتا فصامية يتساكن في لاوعيها الشيطان والملاك.. السوبرمان والمضطهد.. غرب معزول ومنغلق زاد هينتنغتون في إمعان عزلته. وهو في النهاية يرسم ملامح حضارة ممزقة، لا يجمع بينها سوى المصالح". مدخل: يحيلنا المنتج الهوليودي على سيكولوجيا مختلة وفصامية تعكس بفوضاها العارمة مظاهر الذهان الذي يطارد شخصية الفرد الأمريكي في ظل انهمار ثقافة أبيقورية كاسحة. المنتج الهوليودي، هو تعبير عن بؤس جماعي ومعاش يومي يتمظهر على السطح في شكل معاناة شاقة لشغيلة محرومة من عطف الدولة الاجتماعية المستحيلة. كما يتنكر تحت السراديب في صور شتى من التهميش والإحباط لأقوام هيئوا سلفا للجريمة والمخدرات. ففي كلتا الحالتين هو تعبير عن مأزق وجودي سواء أتمظهر على السطح أم تنكر تحت الأقبية يجعل صناعة الجوع والتهميش والجريمة، رائجة بامتياز في دولة القوانين والمجتمع الحر. وبمقدار ما هو تعبير عن ذلك، فهو أيضا منتج يسعى إلى تكريس هذه الوجدانية المأساوية. المنتج الهوليودي هو إذن عامل توازن بنيوي للثقافة الأمريكية. حيث هنالك فقط تتبدى لنا صورة الأمريكي كمضطهد وسوبرمان في الوقت نفسه. ووسط هذا الاختلال الثقافي، تطفو، في نوع من الاحتفالية غير العادية، مشاريع تنحو منحى الأسطرة، يتجلى بعضها في عملية لا تخلو من تدبير، كما تذكرنا أعمال ورباعيات نوستراداموس الشهيرة. لقد تحولت تلك السيناريوهات النوستراداموسية إلى مخدر جديد قوي المفعول لدى شريحة واسعة عشاق النبوءات الفلكية والعرافة في الغرب. وتسعى الإدارة الخفية إلى مزيد من التأويل، كي تصبح الولاياتالمتحدة القوة التي لا تهزم. لكن المنتج الهوليودي احتوى على كادر ذكي، لإعادة بناء النبوءة على منحى آخر. إذا كان نوستراداموس وهو سلسل تجربة ملتبسة بين ما هو إرث ديني وكبالي وما هو خبرة تنجيمية ، يتوقع دمارا للولايات المتحدةالأمريكية يتزعمه الرجل الشريف العربي (a noble man) فإن المتأول الهوليودي، في الوقت الذي يزرع الرعب في الوجدان الغربي لمزيد من التوجس من الآخر يطمئنه بإمكانية الحؤول دون تحقق النبوءة؛ وذلك إمّا بتغيير تغيير السلوك وبالتالي مجرى المستقبل على طريقة كارل بوبر أوخوض الحرب الاستباقية للتحكم في مجريات النبوءة على طريقة أوديب الفاشلة. هذا التنميط المزدوج الذي يجعل الوجدان الغربي مهيأ للتوجس والصدام، هو مادة هوليودية دسمة. وهناك محاولة أخرى لتنميط أفضل، بفضل خطاب أسطوري جديد، يؤسس لصهينة أمريكية، ومن ثمة عالمية. هذه المرة تتجاوز نمطية السوبرمان المضطهد إلى السوبرمان الخالص، الذي تبشر به المتون التوراتية والأهواء التلمودية، يجعل الغرب مجالا حيويا لأبناء يعقوب. يكتب أرمسترانغ، وهو الزعيم السابق لكنيسة الرب بالولاياتالمتحدةالأمريكية ومسؤول تحرير المجلة التبشيرية التهويدية (The plain truth) كتابا تحت عنوان بريطانيا وأمريكا في الكتاب المقدس، خلاصته أن النبوءة التوراتية الحاكية عن تعاظم بني إسرائيل وتنامي قوتهم وتفوقهم هي أشمل من أن تختص بتلك الأقليات الموزعة في الشتات. بل إن بني إسرائيل المعنيين في التوراة، حسب أرمسترانغ، تشمل كل هذه الجماهير المتناسلة في بريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية. إن البنوة لإسرائيل هي أوسع من البنوة ليهودا. فتكون إسرائيل برثنا من براثين العم سام. وهذا تأسيس تلمودي أخطر من التأسيس التقليدي القديم. العالم لم يعد مقسما بين غرب وغيره، بل بين بني إسرائيل والعالميين الأمميين تماما كما تحدث الخاخام كوهين مرة: "يمكن توزيع سكان العالم بين إسرائيل وبين الشعوب الأخرى برمتها. فإن إسرائيل هو الشعب المختار. وهو ركن أساسي من أركان العقيدة" [ كتاب التلمود، ص140]. إن مظاهر عظمة بني إسرائيل اليوم، لا تنحصر في طقوسيات المبكى أو في حكايات التوراة واللغة العبرية... إنها اليوم ممثلة في الثقافة والمنتج الأمريكي نفسه ، حسب هذه القراءة. فلغة بني إسرائيل اليوم تلك اللغة التي كما يؤكد أرمسترانغ بناءا على النبوءة التوراتية، سينساها أبناء إسرائيل ويستبدلونها بلغة جديدة هي اللغة الإنجليزية هي اللغة الأولى في العالم. فالتفوق الذي يتحدث عنه أرمسترانغ لا ينحصر في مشروع استيطان أو احتلال لبضعة كيلومترات في الشرق الأوسط، بل هو مشروع عالمي، يحتل الأذهان والأنماط والأفكار.. فالحداثة إسرائيلية والديمقراطية إسرائيلية والتنمية إسرائيلية.. والسكسونيون أي issac-soons أبناء إسحاق هم أولئك الأسباط الذين تاهوا في اتجاه الغرب وضيعوا دينهم ولغتهم ونسوا حضا مما ذكروا. لكنهم في نهاية الأمر، هم بنو إسرائيل الذين تلاحقهم بشارات التفوق والوعد بالغلبة، مهما نأوا وأنّا كفروا.. فالمشروع الأنجلوساكسوني هو بهذا المعنى، مشروع مبارك ومسدد من (يهودا)! هذا ما يخلص إليه القارئ لمثل هذه المحاولة التبشيرية التي تجنب فيها أرمسترونغ كل حقائق التاريخ والحفريات وعلم الأجناس، لتثبيت حكاية خرافية تحمل من السذاجة والتبسيط ما من شأنه أن يجذب ذوي العقول الدنيا المهيئين للتبشير والتسليم بالحقائق المغشوشة. النار حامية، والجنازة حارة.. والداخل الأمريكي تحول إلى محفل مغلق لكل أشكال الأساطير. هم يقولون أن الحوار مستحيل مع أقوام نحن في طليعتهم مهيئين للعدوان والبربرية، لا يحسنون صناعة أخرى غير إقامة أعراس الدم، وبالتالي وحسب تعبير هينتنغتون "إن للإسلام حدودا دموية"! ومهما لطفوا عباراتهم في المناسبات الديبلوماسية والكرنفالات التي يقيمها أهل السياسة بالسياسة وللسياسة، فإن صناعة الصدام الحضاري، تبدأ غربا، من بؤر التربية والإعلام مرورا بالسياسة والاقتصاد والتسلح. لقد أثار انتباهي موضوع في واحدة من أهم السلسلات التثقيفية والتربوية للأطفال، في عدد من أعدادها التسعينية ، أي ما بعد حرب الخليج الثانية، وهي سلسلة مخضرمة تحكي عن مغامرات الشريف الأمريكي Texte Weiller؛ إنها قصة تخييلية، لكنها مقصودة لتشكيل أذهان النشء تشكيلا سياسيا وثقافيا. قصة مسلية للأطفال بلا شك. إلا أن الخيال هنا ينمو بموازاة مع الصورة النمطية عن العرب والمسلمين. هي قصة مجموعة من المحاربين الطوارق المسلمين عربا ، وتحديدا من شمال أفريقيا ، قادهم أميرهم باسم الله وتحت وقع هتافات (الله أكبر) إلى مكسيكو، ليقتلوا لا ليفتحوا هذه القبائل الهندية الكافرة. وكانوا في طريقهم قد ألقوا القبض على رجال من البيض، سرعان ما حولوهم إلى رقيق أخضعوهم للأعمال الشاقة. يتدخل الشريف (cherif) الرجل الأبيض بذكائه وحنكته القتالية كي يقضي على خطر محدق يتهدد الهنود الحمر. المنتج الأمريكي إذن، يسعى إلى التحرر من وصمة عار تاريخية في عملية إسقاط تعكس الرؤية النمطية عن العرب والمسلمين. فالخطر الذي يتهدد الغرب وأمريكا بكل فئاتها وأقلياتها يكمن ها هنا. فعلى الهندي الأمريكي الأصيل أن ينسى المقاتل والمصارع، ويمحو مواجعه من ذاكرة صلبة كالصخر ورثها كطقس مقدس. وليعلم من الآن بأن خطرا إسلاميا وعربيا على تخوم حضارته، يتهدد تقاليده وطقوسه الوثنية. ليكون الرجل الأبيض سارق الأرض ومبيد الإنسان في الأمريكيتين، هو حامي الملة والدين وحصانة لضحاياه من خطر وهمي.. إنه منتج هوليودي يصطنع الأوهام ويفتعل الضحايا ويولد مفارقاته، الجلاد الرحيم.. والمجرم العادل.. والسوبرمان المضطهد! ذكرت هذه القصة في مناسبات مختلفة وقبل حوادث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة. كانت أول إشارة بدأت تخييلية لتنتهي إلى حقيقة سياسية ، بأن هؤلاء المتطرفين سيغزون أمريكا ذات يوم في عقر دارها. ليس بدعا أن نلمس في الأطاريح السياسية ما من شأنه تعزيز الآراء المؤسسة لنزوع الغلبة وإرادة التفوق. إن هذا الهذيان المتواصل المسكون برهاب لا نهائي من الآخر، هو مخاض طبيعي في المجتمع الأمريكي. حيث تتناسل مختلف الثقافات وإن بدت محصورة في قالب مبدئي وقانوني موحد التي تحتفظ لنفسها بتكوين خاص في المجتمع الأمريكي. وتتناسل معها اتجاهات وأهواء ونوستالجيات دينية وإثنية وإيديولوجية تعكس قلقا أمريكيا عاما، في الوقت الذي تمثل فيه قلق أقليات يتناقل كالعدوى، ويسكن اللاوعي الجمعي الأمريكي. فالولاياتالمتحدةالأمريكية، وإن كانت تمثل الدولة الأقوى اقتصاديا وعسكريا في العالم، إلا أنها من الناحية الثقافية تتميز بوضع قلق، هو قلق الأقليات التي تمثل نقطة القوة والضعف معا في المجتمع الأمريكي. وهذا كافي كي يجعلنا نميز بين البعد الحضاري والبعد الثقافي في الولاياتالمتحدةالأمريكية. فعلى الرغم من أن هناك مبادئ مشتركة تؤلف الكل الثقافي الأمريكي، إلا أن قوة الحضارة التي تتمتع بها أمريكا كفيلة بأن تغطي عن أزمة التوزيع الثقافي التناقضي. المجتمع الأمريكي وكما يؤكد توفللر كف أن يكون مجتمعا جماهيريا. إنه بالأحرى مجتمع فسيفسائي هو مجال لتنفذ الأقليات الأقوى. وهينتغتون نفسه يلفت انتباهنا إلى أن الخيط المتبقي، الذي يشد الولاياتالمتحدةالأمريكية بالحضارة الغربية، هو جملة المبادئ والمؤسسات التي قام عليها المجتمع الأمريكي. وهو يقصد بالتأكيد اللغة والديمقراطية. والآن الخوف كل الخوف من انفراط عقد السوسيو ثقافة الأمريكية. إنه مجتمع الأقليات، مجتمع مسكون بهاجس الخوف والتوجس من الآخر. الثقافة الأمريكية من وجهة نظر علم نفس الأعماق، هي ثقافة الأقلّي. وهذا في الوقت الذي يمثل سر قوة الولاياتالمتحدةالأمريكية عبقرية الأقلّي (Le génie de la minorité ) يمثل أيضا مدخلا لسيكولوجيا الرهاب. وعليه، ليس غريبا أن تروج في الولاياتالمتحدةالأمريكية خطابات، وإن بدت في ظاهرها محرضة على القوة والهيمنة، فهي تخفي شعورا حادا بالتوجس والضعف. وتحديدا التوجس من المستقبل: رهاب التوقع. الحضارة الغربية إذن وعلى الرغم من هذا التفوق المشهود ، فإنها تعيش حالة من غياب الأمن. وخراب الحضارة الغربية سيأتي من أقوى حلقة غربية ألا وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية. فهذا الآخر أضحى مسكونا بهاجس ورهاب مزمنين. إنه يخاف من كل شيء، من التسرب النووي، ومن الخطر الإيكولوجي ومن الدورة الاقتصادية ومن مصاصي الدماء والإنسان المستذئب ومن المستقبل. إنها حضارة خوف الإنسان. هذه الحضارة هي كتلة من الطاقة تحكمها عقلية مختلفة قيميا. وهذا ما يشكل خطرا على مستقبل البشرية. أقوى من خطر النذرة ونضوب الطاقة والتصحر وما شابه. لأننا ندرك أن كل مشكلات الخوف الأيكولوجي مرتبطة بمنظومة القيم التي كانت ولا زالت سببا رئيسا في تدهور أحوال البيئة وتهديد مستقبل الأرض. نعم، على المستوى الاجتماعي والإنساني لا ننكر وجود إنجازات وتراكمات، في صورة مفاهيم ناهضة على قيم غامضة ودائما هي، على طريقة ماكس ويبر توصف بأنها غامضة أو لا عقلانية مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدني و.. وهي حقا ليست قيما من إبداع الغرب، وإن نضجت في المطبخ الغربي و تراكمت في حضن حضارته وتمأسست في دولته الحديثة. إذن لما نقارن ذلك بالجوانب السلبية والنقيضة لهذه الحضارة، نجدها تمثل أمرا محدودا جدا، بعد أن نكتشف أن الغرب هو المسؤول الأكبر عن دمار الشعوب أو حينما نجد الإنسان في أعتا الدول الديمقراطية يعيش الفزع والخوف والانهيار العصبي والأمراض. فما قيمة الديمقراطية، والمجتمع المدني.. إذا كان الإنسان يسير في اتجاه الانهيار واللاّ توازن، ولا يرى نفسه راضيا عن هذه الحضارة؟! كل هذا مشهود. والشاهد الأكبر على جزء كبير من هذا القلق هو هينتغتون نفسه الذي جاء إعلانه مفعما بهذه التوقعات الرهابية. وكان د.مهدي المنجرة قد كشف عن ذلك في مناسبات متفرقة، عن أن الغرب يخاف من ثالوث خطير: الديموغرافيا وهي هنا منشأ الهجرة إلى الشمال والخطر القادم من الجنوب واليابان، والإسلام. أو التوجس من التحالف الكونفشيوسي الإسلامي. إذن، في ضوء هذه الثقافة التبشيرية التي تجتاح الغرب اليوم، وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، والتي تنتشر كالنار في الهشيم، يؤازرها في ذلك التبشير الهوليودي.. ليس غريبا أن تطالعنا مقالة لهينتنغتون أو فوكوياما. فإذا كانت رباعيات نوسترادا موس تتوعد بخطر محدق ودمار موعود يتجه من الشرق ومن العرب تحديدا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإن أرمسترانغ يبشر وعلى طريقته في إعلان الحقيقة المجردة بمستقبل أعظم لأمريكا حيث تمثل ناصية أمة إسرائيل ومنتهى الوعد التوراتي. فخطاب نوستراداموس خطاب توجس. في حين يمثل خطاب أرمسترانغ خطابا مطمئنا من مكر التاريخ. وإذا كان خطاب النهايات لفرانسيس فوكوياما، حاكيا عن نهاية سعيدة لليبرالية الأمريكية جاعلا منها نهاية التاريخ، وهو بذلك ينحو منحى أرمسترانغ في تفاؤليته اللانهائية تلك التي لم يعكر صفوها التلمودي ماركس نفسه وهو يعلق أملا على أمريكا وبريطانيا في التحويل الرأسمالي الواعد فإن هينتغتون يمثل خطابا أقرب إلى نوستراداموس من حيث توجسه واستيعابه لتحقيق الصدام القادم بروح تشاؤمية. وليس ثمة من جديد في هذا التنويع سوى ما يستجد على مستوى حيثيات وتفاصيل التحليل، مع أن الهواجس تظل جوهريا كامنة في اللاوعي الجمعي الأمريكي، وذلك هو سر النموذج الحضاري الذي يدعم وجهة النظر الهينتغتونية. إن ما أريد التأكيد عليه هنا، هو أن الخطاب الذي تمثله فكرة صدام الحضارات أو نهاية التاريخ، ليست جديدة على الذهنية الأمريكية. وأن لغة الأسطرة والأماني هي هي نفسها التي تنتقل من هذا المستوى إلى ذاك، من المنتج الهوليودي إلى الكاهن إلى الخبير الاستراتيجي.. ومن المبشر المسياني إلى المفكر السياسي. وهذا معناه ثانية أن هينتنغتون وأيضا فوكوياما تحدث كأمريكي، لا كصاحب منظور مستقل. ما يؤكد على صراحة هينتنغتون ووضوحه أحيانا. ذلك الوضوح الذي أتى في لحظته المناسبة، حيث نهاية أسطورة معسكر نقيض وأفول نجم حرب إيديولوجية وسياسية باردة! هينتنغتون.. النموذج الحضاري، أي جديد؟ لازلت أتساءل عن السر وراء الاستنفار الكبير الذي تزعمته نخبنا الثقافية والسياسية على إثر صدور مقالة الكاتب الأمريكي صاموئيل هينتنغتون في مجلة Foreign affairs. هل ما تم الإعلان عنه مثير حقا للدهشة؟ طبعا ليس ثمة غير جواب وحيد عن هذا التساؤل، وهو أن نخبنا المثقفة والسياسية اختارت منحى المعرفة النمطية، وليس إرادة المعرفة. وهي بذلك بالغة الإتقان لفن الانفعال لا لعبة الفعل. لا بل إنها تتقن فن الاقتباس الانفعالي، أي حتى انفعالها مستعار! وهذا أمر غدا واضحا للجميع. فنخبنا أصبحت اليوم أقل شأنا من أن تنفعل بله أن تفعل. لقد فضلت إعادة إنتاج التفاعلات التي تجري على غير مسرحها. فردود الأفعال التي أثارتها مقالة صامويل هينتنغتون في أوروبا وفي أمريكا من قبل أنصار حوار الحضارات، كان لها ما يحركها ويبعثها. فمقولة (الصدام الحضاري) جاءت في سياق تطور قفزي في درجة الأداء السياسي والاقتصادي والتقني الغربي وانهمار الرساميل بفعل انتصار الخيار الرأسمالي وعولمة السوق. وعلى الرغم من أن التداعيات التي أدت إلى انبعاث ما أسماه جورج بوش حينها، بالنظام العالمي الجديد، جرى الشوط الأهم فيها داخل محيطنا الإقليمي، إلا أن انفعالنا بالحدث حيث لم يكن انفعالا واعيا مستوعبا لحقيقة الأزمة نابع من حالة تمثيلية للسجال الذي جرى في أرجاء أوروبا وبعض الأوساط الأمريكية، ورغبة في مواصلة مشوار التمسرح. لقد تراءى لصامويل هينتغتون أن الحروب القادمة هي حضارية حتما. وأكد على أن حرب الخليج لم تكن مستثناة من ذلك. كان هذا الأخير يستند إلى أقوال وآراء وتصريحات، تلقفها بانتقاء شديد من سياسيين وخطباء من مختلف المستويات والأهواء. ليس هناك جديد في أصل الفكرة بل الجديد في أن هنتنغتون اختار هذه الفكرة سندا في منظومة تفسيرية جديدة مقترحة على إثر التحولات الجارية في العلاقات الدولية؛ أي كيف نحلل أوضاع العالم بعد نهاية الحرب الباردة. إن انهيار الحري الباردة هو في الحقيقة ليس غياب قطب فقط من مسرح الأحداث بل هو أيضا غياب لباراديغم أساسي في تفسير الأحداث. وعليه ، فإن مقتضى ملأ الفراغ هو ما دفع بهينتينغتون إلى اقتراح الباراديغم الحضاراتي كنموذج في تفسير حوادث العالم المقبلة. إذن من حقنا أن نتساءل عن الجديد في مقالة (صدام الحضارات). وقد كنا منذ مطلع التسعينات وقبلها نملأ بها مقالاتنا حتى مللنا. وكان د.مهدي المنجرة في معمعة حرب الخليج الثانية قد أصدر كتابه الحرب الحضارية الأولى. بل وفي كل تاريخنا الحديث، كنا ننعت مواجهتنا ضد الغرب على أنها مواجهة حضارية. وإذا كان هينتنغتون قد استمع لهذا الدرس، واستوعبه إلى حد ما، فإن نخبنا التي كانت بالأمس تستهين بهذا الطرح الأنموذجي وتتحدث بنمطية أخرى عن اختزالات أيديولوجية مختلفة، ضلت تصم آذانها وتهزم إرادة المعرفة في حلبة خياراتها ومشهد استعاراتها. ألم يكن ذلك كافيا لاستدراج نخبنا لفتح نقاش واسع حول هذا الموضوع. أم أن الأمر ما كان له أن يواجه أزمة التضخم في انشغالاتنا الفكرية، لولا أن المقالة جاءت من قبل الخبير والمستشار الأمريكي؟! وإذن، رجعنا إلى صدق افتراضنا بأن الدهشة سياسية وليست معرفية! وبغض النظر إن كان هينتنغتون مستوعبا قديرا للدرس التاريخي أم أنه لم يزل قارئا سيئا لأحداثه، فإننا نلاحظ قدرا من الصراحة فيما يعلنه. إن التعليل الذي تقدم به واقع في سياق تهيئ للرأي العام الأمريكي خاصة وللغرب عموما. فهو ليس تحريضا مبنيا على الديماغوجية السهلة وإن كنا لا نعصمه من السقوط فيها بين الفينة والأخرى بل هو رأي مبني على توقع مدروس سعى هينتنغتون من خلاله إلى تقدير ما ستواجهه الولاياتالمتحدةالأمريكية من تحديات قادمة. ثمة توجس كبير ثاو في ثنايا النصوص التي نشرها هينتنغتون. فهو يصف مستقبلا زاخرا بالتناقضات الحضارية، يقدم على أساس ذلك نصحا للولايات المتحدةالغربية بأن لا تغامر في صناعة المستحيل. أي العدول عن سياسة الإدماج القسري. بل إنه يدعو إلى بناء الغرب بناء محكما ضمن حدوده الطبيعية وفي أفق تصور مختلف عن الحضارات. أي بناء غرب فريد لا غرب عالمي. فهي على أية حال رؤية استراتيجية لديه خبرة ودراية بالحجم الحقيقي للغرب، وتحديدا للولايات المتحدةالأمريكية. الحجم الذي يبدو متواضعا إلى حد لا يقوى فيه على رد انبعاث الحضارات من تحت الرميم، ولا من جعل العالم يخضع ل(عمى الألوان) والنموذج الحضاري الأوحد! الموضوعي واللا ّموضوعي في النموذج الحضاري إن مناقشتنا لهينتنغتون لا تستهدف النتائج التي توصل إليها. ذلك لأنها نتائج متوقعة سلفا. لكن ثمة ما يكشف عنه نص (صدام الحضارات)، وينطق بما لم ينطق به الخبير الأمريكي نفسه. إنه نص متوتر يتقارع فيه الموضوعي بالغائي. وتتساكن عنده إرادة الاختلاف بإرادة الاحتواء. ويتهامس داخله هاجس الرهاب مع روح الاطمئنان.. والتشاؤم بالتفاؤل.. النص الهينتنغتوني ليس خلوا من أفكار داعمة لمشروعية الخلاف كما لا يمكننا اعتباره وثيقة للخلاف. إنه لا يقرأ الحضارات من منظور مثالي. ذلك لأنه يحلل من أجل دعم مسلسل تكوين الرأي في السياسة الأمريكية. إنه بهذا الاعتبار نص استراتيجي يقرأ الواقع بعين الممكن المحتمل، لا بعين الواجب (اللّوي) أو الأخلاقي. وفي هكذا أحوال، يكون (الصدام) هو سيد الموقف. إذ الصدام الذي يتحدث عنه هينتنغتون ليس صداما منمطا، بل هو صدام مفتوح. قد يكون العنف والواجهة العسكرية هي إحدى أشكاله الممكنة. فالحضارات التي يتحدث عنها هينتنغتون هي هويات ثقافية، تشكل الدول ديناميتها الأقوى. إن احتدام الصراع هو ضرورة يمليها واقع الدولة باعتبارها اللاعب الرئيسي في العلاقات الدولية والمسؤول عن إرادة الأزمات. إن هينتنغتون يحدثنا عن صور وكليشهات لا عن ديناميات. فهو يستند إلى مظاهر الصراع لا إلى فواعله. فسقوط الاتحاد السوفياتي لا يعني نهاية الصراع السياسي والأدلوجي أو الاقتصادي. فطالما ثمة دولة، هناك مصالح من ذاك القبيل. يقول: "والغرض الذي أقدمه، هو أن المصدر الأساسي للنزاعات في هذا العالم الجديد لن يكون مصدرا إيديولوجيا أو اقتصاديا في المحل الأول. فالانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية. والمصدر المسيطر للنزاع سيكون مصدرا ثقافيا. وستظل الدول/الأمم هي أقوى اللاعبين في الشؤون الدولية. لكن النزاعات الأساسية في السياسات العالمية ستحدث بين أمم ومجموعات كما حضارات مختلفة وسيسيطر الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، ذلك أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل. وسيكون النزاع بين الحضارات هو المرحلة الأخيرة في تطور النزاع في العالم الحديث". الدرس الهينتنغتوني.. أو حينما يشهد شاهد من أهلها: ولعله من باب الإنصاف أن نعترف لهينتنغتون قبل مضينا في نقد أطروحته حول صدام الحضارات بنهجه طريقا واضحا ولغة تتمتع بلياقة نادرة من الصراحة. وهو أسلوب يعري ويلعن عما ظل خافيا في العادة من قبل صناع القرار الأمريكيين الأوروبيين على السواء. وهو بذلك يقدم خدمة جديرة بالتقدير للعالم الثالث كي ينظر في شروط وإمكانات نهوضه. وأيضا للعالم العربي والإسلامي، رؤية فاضحة للسياسة الأمريكية مفيدة في لملمة فصامية الموقف. خصوصا موقف أولئك الذين يتعاملون مع الأحداث من منطلق الدرس السياسي النظري للعلاقات الدولية بصورة آلية تستبعد أبعاد اللعبة، التي لا يجرؤ ولعله لا يملك لذلك مفردة في القاموس المحلي أن يصفها بأنها لعبة إمبريالية محكمة الصنع. وعليه، يمكننا أن نتوقف عند الدرس الهينتنغتوني، وعند ما هو معلن وكاشف في أطروحة صدام الحضارات. إن ثمة حقيقتين تميزان مقالة أو بالأحرى مقالات هينتنغتون بهذا الخصوص. الأولى كونه يعكس وجهة النظر الأمريكية الاستراتيجية، ويعبر عن أهدافها ومصالحها.. الثانية، كونه يترجم هذه الأهداف ويعبر عنها بصورة صريحة ومعلنة. وبتوفر هذا النص على هاتين الحقيقتين، التمثيل الرسمي والصراحة المعلنة، يصلح إذاك وثيقة فاضحة للعقل السياسي الأمريكي. ويمكننا صوغ الوثيقة الهينتنغتونية الفاضحة في المحاور التالية: الدرس الأول وهو يتصل بالتصريف الأمني والقانوني للأهداف والمصالح الإقليمية الغربية. من هنا أقول: لم يكن القانون الدولي يحظ بقداسة حقيقية من قبل الكبار الذين تواضعوا عليه تحت السحب الرمادية لما بعد الحرب، وفوق ركام الخرائط الممزقة على أرضية النفوذ المعاد توزيعه وانتشاره. فاللاعب الأقوى في زمن الحرب لا يجد مناصا من أن يستكمل باقي أشواط اللعبة في أزمنة السلم. وقد ظل الغرب وفي طليعته الولاياتالمتحدةالأمريكية تخاتل سياسيا خلف المنتظم الدولي، ماسكة بناصيته، متحكمة بدواليبه، متفننة في فقه الحيل وتقنية المخارج في المبادئ والأعراف المنظمة للعلاقات الدولية. إن الغرب، وأمريكا ماسكة بناصيته، غير ملزم بقرارات الأممالمتحدة، لأنها ماسكة بعصب الحياة فيها سواء على مستوى مواردها المتوقفة عليها أو بحسب سلطة الفيتو أو المناورة داخل الأممالمتحدة ومجلس الأمن والهيئات والمؤسسات التجارية الدولية. إن قرارات الأممالمتحدة ومجلس الأمن وصندوق النقد الدولي وغيرهما، كلها قرارات تصب في الأهداف والمصالح الغربية، إلا أنها تكتسي طابعا شرعيا. هذا الدرس يكشف عن أن محاولات الجنوب في التنمية والاستقلال السياسي سوف تواجه بوسائل الإعاقة الممكنة والحصار الذي يأخذ صبغة شرعية. إننا في زمن يشهد صناع الرأي والقرار فيه على أن الاستقلال السياسي والتنمية الاقتصادية يلازمها بالضرورة صدام بين الحضارات. يقول صاموئيل هينتنغتون: "إن الغرب حاليا في أوج قوته، مقابلة بالحضارات الأخرى. فقد اختفت الدولة العظمى الخصيمة له من على الخريطة، والنزاع العسكري بين الدول الغربية أمر لا يتصور، والقوى العسكرية للغرب بلا منافس [...] وهو مهيمن على المؤسسات السياسية والأمنية الدولية. وتتم تسوية القضايا السياسية والأمنية العالمية بطريقة فاعلة بواسطة مجلس إدارة مكون من الولاياتالمتحدة وألمانيا واليابان. ولكنها ترتبط بعضها ببعض بعلاقات وثيقة بصورة غير عادية بما يستعبد البلدان الأقل قوة وغير الغربية أساسا. إن القرارات التي يتخذها مجلس الأمن أو صندوق النقد الدولي، والتي تعكس مصالح الغرب، تقدم للعالم باعتبارها قرارات تعكس رغبات المجتمع العالمي، بل إن تعبير (المجتمع العالمي) نفسه أصبح اسما جماعيا ملطفا يحل محل (العالم الحر) لإضفاء مشروعية كونية على الأعمال التي تعكس مصالح الولاياتالمتحدة والدول الغربية الأخرى. ويدعم الغرب من خلال صندوق النقد الدولي والمؤسسات الاقتصادية الدولية الأخرى مصالحه الاقتصادية، ويفرض على الأمم الأخرى سياسات اقتصادية يرى أنها مناسبة [...] والواقع أن الغرب يستغل المؤسسات الدولية، والقوى العسكرية والموارد الاقتصادية لإدارة العالم بطرائق تحافظ على الهيمنة الغربية، وتحمي المصالح الغربية وتدعم القيم السياسية والاقتصادية الغربية". هذا النص قد أوردناه هنا لأهميته لا يقدم شيئا جديدا لدى المحلل الثالثي. فاللعبة باتت مكشوفة أكثر من أي وقت مضى. لكن الدرس الذي يستخلص من هذه الشهادة الهامة، هو أن ثقتنا بالمؤسسات الدولية لا يشفع لنا في مسلسل استحقاقاتنا وتوازناتنا السياسية. الأمر يتعلق بتحسين أدائنا الفعال والمناورة داخل المشهد السياسي الدولي. هذا لا يتم إلا بالممانعة الفعالة. أي الدخول إلى اللعبة السياسية بدربة عالية على المناورة، والانخراط في المنافسة الاقتصادية بعقل الإنتاج وروح الشراكة وحسن التدبير. الأمر الذي يعني، التحول من اقتصاد التبعية والمساعدات.. إلى اقتصاد التضامن الإقليمي والمنافسة والإنتاج والتنمية المستدامة. الدرس الهينتنغتوني يعلمنا أن المؤسسات والمنظمات الدولية، أدوات بيد القوى الغربية. وأن شروط النهضة والإنماء تنبع من داخل هذه البلدان وليست منحة دولية. أي أن للتنمية مسارا شاقا من الكدح والبناء والممانعة والمناورة.. ذلك هو الطريق الصعب لكنه للأسف الطريق الأوحد للحاق بالركب. الدرس الثاني وهو يتعلق ببؤس سياسة التغريب والفصل بين هذه الأخيرة ومطلب التحديث. وهي من أهم الدروس التي يقدمها هينتنغتون، ليس للغرب فحسب، بل وأيضا لعموم العالم غير الغربي، ولنا كعرب ومسلمين تحديدا. يتحدث هينتنغتون عن ظاهرة البلدان الممزقة. وهي تلك التي لا تزال طور البحث عن هويتها الحضارية. وضرب مثلا عن أبرز نموذج للبلدان الممزقة بتركيا والمكسيك. "وعادة ما يرغب زعماؤها في اتباع استراتيجية الانضواء في قافلة العربات، وجعل بلدانهم أعضاء في الغرب، لكن تاريخ هذه البلدان وثقافاتها وتقاليدها ليست غربية. وتركيا هي أبرز وأوضح بلد ممزق". لقد استعرض هينتنغتون في مقالاته دعما لمقولة الصدام أو النموذج الحضاري أهم الخصائص التاريخية والثقافية للحضارة الغربية. وهي خصائص لا يشاركه فيها أحد. لذا كان الغرب فريدا لا عالميا في تصوره. من هنا تتأكد استحالة الاندماج والتخلي عن نموذج حضاري آخر وادعاء الانتماء للغرب. إن الحضارات بما هي هويات ثقافية جذورها أنفذ من أن تقتلع بمجرد إعلان قرار سياسي لنخبة سياسية. يتساءل هينتنغتون حول ما إذا كان من الواجب أن تتخلى المجتمعات غير الغربية عن حضارتها وتتبنى جوهر الحضارة الغربية؟ ف"من حين إلى آخر، يظن بعض زعماء هذه المجتمعات أن ذلك أمر ضروري. وقد صمم بطرس الكبير ومصطفى كمال أتاتورك على أن يجعلا مجتمعيهما حديثين. وكانا مقتنعين أن هذا يعني تبني الحضارة الغربية، حتى إلى حد استبدال غطاء الرأس التقليدي بغطاء الرأس الغربي. ولكنهما خلقا من خلال هذه العملية، بلدين (ممزقين) غير واثقين بهويتهما القومية. كما أن المستوردات الثقافية الغربية لم تساعدهما مساعدة ذات شأن في سعيهما إلى التحديث"! وهذا يعزز رأينا في الفصامية اللائكية المتطرفة، التي ترى في الموروث القيمي والثقافي الغربي طريقا وحيدا ومطلقا للتحديث. إنها الأفكار الفصامية التي لن تؤدي إن هي اكتسبت سلطة وقتية إلا إلى إنتاج ما أسماه هينتنغتون بالبلدان الممزقة. ففي مقابل ذلك، كان هينتنغتون يثمن المواقف والسياسات التي وخلافا لمنحى الدول الممزقة اختارت منحى التحديث لا التغريب. فالدرس الذي يتحفنا به هينتنغتون، هو أن فصاميتنا تبدأ برؤيتنا للتغريب والتحديث بعين الوحدة. والحال أن تماسكنا وانسجامنا يبدأ لما تصبح رؤيتنا لهما بعين الإثنينية. أي إخراج المفهومين من مستوى المعانقة إلى فسحة المفارقة. إن الحداثة طارئة على الغرب. وإذا أردنا أن نرجع إلى الدرس الفيبري، نقول أنها واردة على نحو مفاجئ وغامض أو لاعقلاني. الغرب، وكما يقول هينتنغتون باختصار: "كان غربيا قبل أن يصبح حديثا بزمن طويل"! نعم قد تكون الحضارة الغربية، غربية وحديثة في آن معا.. لكن هذه الحلولية وكما أكدنا سابقا هي حضور أقوى لثقافة منسجمة ومتحدة مع الحداثة التي تنتجها. إن تمثل هذه الحلولية من قبل ثقافات غير غربية أمر مستحيل. لأن الغرب غرب، والحداثة حداثة، واتحادهما هو تاريخي. يبدو أن هينتنغتون ينظر إلى موضوع الحضارات بمنظار باراديغمي على منحى توماس كون. فالحضارة غير قابلة للاستبدال. وكأنه يرى أنها تصنع لمرة واحدة فقط. ويلفت هينتنغتون الانتباه إلى تجارب حضارات غير غربية حاولت أن تكون حديثة من دون أن تكون غربية، لكنها فشلت، باستثناء اليابان. وهذا لا يعني أن الخيار المعاكس هو الأكثر إحرازا، لأن فكرة النموذج الحضاري ترى في التغريب ما يخلف تمزقا وإحباطا وفشلا محتما للتحديث. بل إن هينتنغتون لا يرى اليابان مستثناة في هذا المسعى التحديثي اللاتغريبي، إلا لأنها استطاعت أن تلحق بالغرب وأن تنافسه باقتدار. أما الحداثة فقد تحققت بصور متفاوتة في دول آسيوية وعربية.. هناك فيما يقدمه هينتنغتون إشارات إلى المنحى الأكثر أهمية في مسيرة التنمية والتحديث بالنسبة (للحضارات) غير الغربية. فهو يتوقع أن هذه الدول ستواصل محاولاتها على طريق الحصول على التقنية والمهارات وغيرها من عناصر التحديث دون أن تتخلى عن تقاليدها وثقافتها.. وهذا يجعلها تزداد قوة اقتصادية وعسكرية بالنسبة إلى الغرب، "ومن ثمة يتعين على الغرب أن يتراضى بصورة متزايدة مع هذه الحضارات الحديثة غير الغربية التي تقترب قوتها من قوته، وإن كانت قيمها ومصالحها تختلف بصورة كبيرة عن قيمه ومصالحه". فمسار التنمية والتحديث ليس بالضرورة هو مسار التغريب. "التحديث والتنمية الاقتصادية لا يتطلبان التغريب الحضاري، كما إنهما لا ينتجانه". فهينتنغتون، لا يرى التحديث مستقلا عن التغريب فقط، بل إنه يؤكد على أن التحديث في الدول الغربية يعزز من خيارها الحضاري ومن نهضتها الثقافية. فالتحديث ينتج ردة حضارية ويولد التزاما بالموروث الثقافي. بل "وعلى مستوى المجتمع، يعزز التحديث الثروة الاقتصادية والقوة العسكرية للبلد بأسره. ويشجع ثقة الناس بتراثهم، ويؤكد انتماءهم الثقافي". وهنا تتراءى الإحيائية الدينية والعودة إلى الأصول الثقافية أمرا طبيعيا في ضوء النموذج الحضاري. وحتى وإن كان هينتنغتون يلفت إلى أن العودة إلى الأصول، التي عادة ما تأخذ شكلا دينيا، يؤدي عادة إلى مواقف معادية للغرب، إلا أنه لم يخف حقيقة كون هذا الرجوع هو نتيجة للتحديث. فالحداثة قد تكون غربية –كما هو الأمر في الغرب- وقد تكون معادية للغرب –كما هو شأن الحضارات المعادية؛ إن الرجوع إلى الأصول الثقافية والدينية عادة ما ينتج عن التحديث، "إذ أن إحياء الدين في العالم نتيجة مباشرة للتحديث". إن واحدا من الدروس التي تستخلص من النص الهينتنغتوني هو أن التغريب مفهوم أجنبي عن التحديث. وأن التغريب هو قضية براديغمية، وليس قضية متاحة بلا جذور. وإذا ما اعتبر التغريب أمرا ضروريا وملزما، فذلك هو الطريق المعبد للنزعة الإمبريالية. فهو منزع غير أخلاقي. إن الاعتقاد "أن الشعوب غير الغربية يجب أن تعتنق القيم والتقاليد والحضارة الغربية هو، إذا أخذ مأخذ الجد، أمر غير أخلاقي في دلالته"! الدرس الثالث له علاقة شديدة بالدرس الثاني، أي ما يتعلق بكونية النموذج الحضاري الغربي. وقد أوضح هينتنغتون بما فيه الكفاية أن الحضارة الغربية وإن بدت متفردة، فهي ليست عالمية. هو منظور باراديغمي للنموذج الحضاري، منظور بنياني. إن تعميم النموذج الغربي بحجة التحديث هو في نظر المحلل الأمريكي خطر زائف "يقوم على الغطرسة وسوء التقدير". حتى لكأن هذا الأخير يرى في التغريب أمرا مستحيلا من الناحية البنيانية. فمجرد انتقال (الكولا) والأطعمة والألبسة الغربية، لا يعني أن العالم أصبح غريبا. بل إن انتقال هذه المنتجات بين الحضارات قديم قدم التاريخ. وما كان له أن يؤثر على الثقافات المحلية. لا، بل إن اختزال الحضارة الغربية في مجرد منتجات للاستهلاك، هو انتقاص وتتفيه للحضارة الغربية. تلك التي تحتوي على مضامين حضارية أرقى. إنها حضارة (الماجنا كارتا) وليس (الماجنا ماك)! إن هينتنغتون يدرك الحجم الطبيعي للحضارة الغربية. بل ويدعوها إلى إعادة بناء نفسها ضمن حدودها الطبيعية. وأن لا تنزع إلى العالمية. ففضلا عن أن العالمية هي مطلب مستحيل وخطير في آن معا من وجهة نظر النموذج الحضاري، فإن الغرب لم يعد قادرا على تحقيق حلمه الخاطئ ذاك. وإذا تمكن الغرب من نشر بعض من قيمه وثقافته، فذلك راجع إلى انتشار القوة الغربية، (فالحضارة تتبع القوة). وليس ثمة طريق آخر لتحقيق هذا الهدف غير ممارسة الإكراه الوحشي: "إن الإمبريالية هي النتيجة المنطقية الضرورية للنزعة العالمية". ذلك لأن العالمية لا تتحقق إلا بممارسة العنف. وفضلا عن هذه المزاوجة بين العالمية والإمبريالية، فإن الواقع لم يعد يسمح بإحكام السيطرة. إن هينتنغتون يرى إلى القدرة الغربية على تحقيق العالمية بكثير من الازدراء: "وإضافة إلى هذا، لم يعد لدى الغرب باعتباره حضارة ناضجة، القوة الاقتصادية والسكانية الدافعة والمطلوبة لفرض إرادته على مجتمعات أخرى، بل إن محاولة ذلك سوف تكون بمثابة سلوك مناقض للقيم الغربية نفسها فيما يتصل بحق تقرير المصير والديمقراطية". ومن هنا يأتي الدرس الهينتنغتوني للغرب وللعرب، وباقي الحضارات غير الغربية. كون الغرب أمسى عاجزا عن تحقيق عالميته. بل ويتعين عليه أن يستوعب هذا العجز على الاحتواء لصالح نزعة الاختلاف. فالغرب يواجه "الحاجة إلى أن يتكيف مع تدهور قدرته على فرض قيمه على المجتمعات غير الغربية. وهكذا يصبح الكثير من أنحاء العالم حديثا بقدر أكبر، وغربيا بدرجة أقل". وعليه، تغدو العالمية وهما مستحيل التحقق. ويبدو الغرب أعجز بكثير من أن يحقق حلمه وطموحه إلى العالمية. وإذا كانت العالمية حسب هذا المنظور، أمرا مستحيلا وخطيرا، فماذا عن العولمة؟ إنها بكل تأكيد، الصورة القسرية لانهمار الرساميل وزرع الأنماط بالترغيب – الاستثمار – والترهيب – العزلة والحصار – فتكون العولمة ذاتها بهذا المعنى خطرا مضاعفا أكثر من العالمية. إن هينتنغتون أورد أرقاما على انحسار قوة الغرب. وتقلص منسوب تداول اللغة الإنجليزية في العالم. حيث بدا ما هو أهم عند الغرب أقل أهمية لدى الأغيار! الدرس الرابع يتصل بما يتعين علينا فعله في ضوء هذه المعطيات التي أوردها هينتنغتون. حيث بدا الغرب في حدوده الطبيعية أعجز من أن يقتل فينا إرادة التحرر والإنماء. وإن كان ولا يزال يناور ضد إنماء الجنوب ونهوضه، إلا أن العجز بدا ينخر قوى الغرب وقدراته. فثمة معطيات تشكل بؤر ضعف في الكيان الغربي. يذكرنا بها هينتنغتون، وهي غاية في الأهمية. فالحضارة الغربية اليوم، عكس الحضارات الإمبراطورية السابقة، ديمقراطية، مركبة من اتحادات وفيدراليات وكونفدراليات، ونظم ودول.. فالغرب ظل مرتعا لقوميات مختلفة. وعلى الرغم من أن اللاتينية هي الإرث المشترك لدى الغربيين، إلا أن هذه اللغة سرعان ما تفرعت عنها لغات مختلفة ذات خصوصيات شتى. هذه المعطيات هي في الواقع مصدر رهاب مستقبلي في نظر المحلل الغربي. ما يعني أن التحدي الذي يواجه الغرب هو واجب تقوية نفسه وتعزيز حضارته. وذلك بأن يكف عن أوهامه. فلقد "حان الوقت الذي يجب أن يتخلى الغرب فيه عن وهم العالمية وأن يعزز حضارته وتماسكها وحيويتها في العالم من الحضارات [...] ويتوقف مستقبل الغرب إلى حد كبير على وحدته". والخطر اليومي مضاعف بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية. القوة الغربية الأولى المهددة بأن لا تظل غربية، في ظل التنوع الإثني والعرقي المتزايد بصورة مضطرة. "ويقدر مكتب التعداد أنه بحلول عام 2050 سيضم الشعب الأمريكي 23 في المئة من الإسبان و16 في المئة من السود و10 في المئة من الأمريكيين والآسيويين". وربما استطاعت أمريكا احتواء المهاجرين النازحين من مختلف الأقطار الأخرى واندماجهم في الثقافة الأمريكية الأوروبية. لكن السؤال، الذي يطرحه هينتنغتون: "هل سيستمر هذا النمط سائدا عندما يصبح 50 في المئة من السكان من الإسبان أو غير البيض؟ هل يتم استيعاب المهاجرين الجدد في الثقافة الأوروبية التي سيطرت على الولاياتالمتحدة؟ وإن لم يفعلوا ذلك وأصبحت الولاياتالمتحدة متعددة الثقافات حقا وسادتها الصدامات الداخلية بين الحضارات، فهل تستمر باعتبارها ديمقراطية ليبرالية؟ إن الهوية السياسية للولايات المتحدة راسخة بجذورها في المبادئ التي عبرت عنها وثائق تأسيسها. فهل يعني نزع الطابع الغربي عن الولاياتالمتحدة، إن حدث، نزع الطابع الأمريكي عنها أيضا؟ ولو تحقق ذلك وكف الأمريكيون عن الالتزام بإيديولوجيتهم السياسية الديمقراطية ذات الجذور الأوروبية، فإن الولاياتالمتحدة كما نعرفها، تكف عن الوجود وتتبع الدولة العظمى الأخرى التي كانت محددة إيديولوجيا، إلى كومة من رماد التاريخ". ففي ضوء هذه المعطيات التي يتحدث عنها خبير أمريكي، بكثير من التوجس، ندرك أن الغرب المسكون أبدا برهاب الإمحاء من صقع الوجود، يمكننا العودة إلى ضرورة بناء كياننا وتعزيز خيار نهضتنا وإنمائنا. إن ذلك كما يراه هينتنغتون، يتم بصورة تلقائية في ظل الديمقراطية. فهذه الأخيرة، حيثما أصبحت خارج المشهد السياسي الغربي، فإنها تغذي نزعة العودة إلى الجذور، وتنمي جبهة المعارضة للغرب. ونفهم من ذلك وبصورة أخرى، أن الديمقراطية في العالم غير الغربي، هي آلية كفيلة بتقوية الداخل، إذا ما أصبحت ديمقراطية محلية حقيقية. إن هينتنغتون، ينظر إلى التحالفات التي تجري في الضفة الأخرى كخطر يسعى إلى نزع القوة من الغرب. ومن هنا دعوته إلى تعزيز الروابط بين الكيانات الأوروبية والغربية، خصوصا على المستوى الاقتصادي. ويرى هينتنغتون، أن الخلافات التي تحدث بين أوروبا وأمريكا ليست خلافات حول مصالح، بل هي خلافات ناتجة عن سياساتهما (تجاه أطراف ثالثة). وهذا الخلاف هو بالتأكيد غير نافع بالنسبة للغرب. إن الشرخ الحاصل في السياسات الأوروبية تجاه مصالحها في آسيا والشرق الأوسط، هو في نظر هينتنغتون خطر عليها من الناحية الاستراتيجية. خاصة، وأن دولا مثل الصين، استغلت هذا الخلاف، لمزيد من زرع الشقاق بين الدول الغربية. إذن، يمكننا القول، إن الغرب قابل للتصدع، وإن مهمة العالم غير الغربي هي اليوم نهوضه واستيعابه لهذا الدرس، من أجل مزيد من المناورة والضغط، لتفتيت الموقف السياسي الغربي. وطبعا، نحن نتحدث عن غرب سياسي تقليدي وليس الغرب الهينتغتوني النموذجي الذي لو تمت له قائمة، لكف عن سياسة الهيمنة والاحتواء، ولاستوعب الاختلاف الحضاري والثقافي أكثر من أي وقت مضى. إن الأمة العربية والإسلامية تحتوي على الشروط الضرورية لتعزيز كيانها وقوتها، الشروط التي تكاد تنعدم في الغرب الموحد نفسه، وحدة اللسان والجغرافيا والدين والثقافة والتقاليد.. بل إن للأمة من الشروط الديمغرافية والإيكولوجية ما هو كفيل بتعزيز هذه الجبهة لمزيد من المناورة داخل المشهد الدولي. الدرس الهينتنغتوني إذن بالغ الأهمية، إذ أهم ما فيه هو أنه يعزز مصداقية رؤيتها عن النموذج الحضاري وأهميته المعيارية. وهي دروس رافقتها أفكار وآراء غاية في الخطورة أيضا. فالنص الهينتغتوني، هو وثيقة ثمينة شاهدة على علاقة متوترة بين كيانين ثقافيين. وسوف يكون الآتي مناقشة للوجه الآخر لأطروحة صدام الحضارات، لكي نستوعب الدرس مرتين! تناقضات هينتنغتونية في تقديرنا أن المأزق الذي وقع فيه التحليل الهينتنغتوني ذو شعبتين: الأولى: كونه يخلط خلطا مفهوميا بين الثقافة والحضارة. وهذا الخلط وإن كان تقليدا أمريكيا، إلا أنه يؤدي إلى حالة من التناقض. فمطالب الكيانات الثقافية ليست بالضرورة مطالب حضارية. وأن الممانعة الثقافية لا تعني بالضرورة الممانعة ضد المنتج الحضاري. هذا فضلا عن أن خلطا كهذا بين الثقافة والحضارة قاصر عن توفير الرؤية الجوهرية عن حقيقة الحضارات! الثانية: أن هينتنغتون يرى الحضارة كموضوع هلامي، أو كفكرة في الأذهان لا تأسيسا في الواقع. وهو لذلك يميز بين الصراعات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، وبين الصراعات ذات المنشأ الحضاري. وكأن الصراع يدور بمعزل عن الأبعاد السياسية والاقتصادية والأيدلوجية. وبلا شك، فإن رؤية كهذه لا تستطيع النفوذ أكثر في صلب الإشكالية. لأن الصراع الحضاري دائما وأبدا، كان يتمظهر في تقاطع المصالح السياسية والاقتصادية. وأن الحضارات، كانت تتدافع خلف واجهات أيدلوجية. ومع ذلك نقول، بأن الحروب والنزاعات الأيدلوجية والسياسية والاقتصادية تضاعفت واستفحلت عشية انهيار المعسكر الشرقي. وإن سقوط الأيديولوجا الاشتراكية، لا يعني نهائيا أن العالم مجبور على ترك الأيديولوجا رأسا. إن هذه الأخيرة ليست خيارا ممكنا، بل هي حتمية في الوجود وفي الصراع. سواء أكان صراعا سياسيا أو اقتصاديا، أو كان صراعا حضاريا. على أن صراعا كهذا، لا يتم إلا على أرضية المصالح السياسية-الاقتصادية، وبلغة أدلوجية. فما يتحدث عنه هينتنغتون، هو ضرب من الانتقال من المصاديق إلى الكليات. وكأن الحضارات بالونات من هواء تتدافع فيما بينها، أو مواجهات بين طواحين الهواء. إن محرك الحضارات، هو المطلب الحيوي. وما السياسة إلا فن في إدارة هذا المطلب. لا بل إن السياسة نفسها لا تتصرف إلا في صورة أيديولوجية! الخلط الذي وقع فيه هينتنغتون له صور شتى.. فبخلطه بين الحضارة والثقافة، خلط أيضا بين النزاعات العرقية والإثنية والدينية وبين النزاعات الحضارية. مع أن هذه النزاعات قد تستفحل داخل المنظومة الحضارية الواحدة. كما أدى به ذلك إلى التفريق بين الكلي الحضاري ومصاديقه السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. ويخلط هينتنغتون أيضا بين الخلاف والصدام مع أنه يلتفت إلى ذلك بين الفينة والأخرى وهو الخلط الذي يؤدي إلى حتمية الصدام. بل إن نهج الخلط يمتد إلى ما بين التاريخ والجغرافيا. فهينتنغتون ينظر إلى العالم الإسلامي كوحدة خالصة وكذلك هي نظرته للإسلام. فلا يفرق بين التصريح العالم والتصريح العامي.. ولا يميز بين الإسلام الأفغاني والإسلام التركي أو الإسلام العربي من ناحية التأثير الإثني والقومي.. فهل ما يجري في أفغانستان ممكن تفسيره بغير الرجوع إلى العامل العرقي أو الإثني والطائفي. فهينتنغتون يحلل أوضاعا بصورة يغلب عليها الطابع السياسي والاستراتيجي حتى وهو يمعن في هذا الاستبدال الحضاري. وبالتأكيد لا ننتظر من المحلل الأمريكي أن يقرأ الأوضاع من وجهة النظر المخالفة، حيث يراها وجهات نظر نقيضة، لكيانات ثقافية معادية لغرب فريد. وهذا الموقف يستند إلى منظور الدولة الأمة، لا الحضارة بوصفها الكلي الذي يتجاوز الحدود والمسافات الإقليمية. فالتحليل السياسي للعلاقات بين الدول يرى في صراع الدول حول المصالح أمرا طبيعيا، وهينتنغتون الذي ينقل المفهوم نفسه إلى مستوى العلاقة بين الحضارات، يشير إلى أن الصراع لا يعني بالضرورة العنف أو الحرب، وكأنه يتحدث عن تحول في الممثلين الدوليين، بحيث تصبح الحضارة هي باعث الصراع لا الدول. وفي هذه الجزئية تبرز إحدى تناقضات هينتنغتون، باعتباره يصر على أن الدول ستظل لاعبا رئيسيا في العلاقات الدولية. ما يدل على أن المحلل يخفق في أن يجد الخيط الناظم ما بين منزع الحضارات ومنزع الدول. وكيف يمكننا استيعاب منزعين مختلفين، إذ النزوع الحضاري قد يكون عبر دولي في حين قد يكون النزوع الدولي نقيضا للنزوع الحضاري. هنا فقط قد نصادف القراءة السيئة للأحداث والمنظور التناقضي لعلاقة الدول بالحضارة. إن هذا التناقض واضح في مقالات هينتنغتون. إذ يقول: "إن الغرب حاليا في أوج قوته مقابلة بالحضارات الأخرى، فقد اختفت الدولة العظمى الخصيمة له من على الخريطة، والنزاع العسكري بين الدول الغربية أمر لا يتصور، والقوة العسكرية للغرب بلا منافس.." وهي عبارات يشتم منها استدماجا لمفهوم الدولة في سياق الحديث عن الحضارة. ولا خلاف في كون العامل الحضاري ذا أهمية بالغة في علاقات الشعوب والأمم. وهينتنغتون وهو يركز على البعد الحضاري، يسعى إلى جعل الباعث الحضاري للحروب مقابل الباعث السياسي والاقتصادي والأدلوجي. وهنا مكمن الخطأ، لأن الحروب الحضارية، وكما أكدنا سابقا، تتم من خلال كل تلك المصاديق. وإذا كان الاتحاد السوفياتي سابقا قد وجد في المنظومة الشيوعية بديلا عن أدلوجته الحضارية المحلية، فذلك لاعتباره الشيوعية نقيضا حتميا لليبرالية الغربية. والشيوعية السوفياتية أو المسفيتة خضعت لتحوير محلي، ووجدت لها رموزها في الموروث الروسي، في الشعر والأدب والتاريخ السياسي.. فالأيديولوجا الشيوعية السوفياتية لم تكن تحارب الغرب حربا أيديولوجية محض، بل سرعان ما تجسدت في انبعاث ثقافي وحضاري. إنها بالأحرى حرب حضارية بواجهة أيديولوجية. وفضلا عن ذلك، نقول إن الاتحاد السوفياتي واجه الغرب أيديولوجيا لا سياسيا فحسب. وكانت الشيوعية فضلا عن أن لها أنصارها ومنظورها داخل المجتمعات الغربية، هي النقيض الذي نشأ وترعرع في أحضان الحضارة الغربية. وما كان ماركس وحاشيته يعلقون أمل التحويل الاشتراكي على غير البلاد الغربية، وتحديدا بريطانيا. لقد كانت الشيوعية التي صدرها الغرب إلى العالم منتجا أوروبيا جاء ليعزز من مسار الحداثة الغربية وليغير مجرى النظم التي كانت ولازالت تمثل في نظره الوجه البشع للحضارة الغربية. لم تكن الشيوعية نقيضا حضاريا للغرب، بل هي نقيض لخيار غربي، أي الليبرالية والرأسمالية. وإذن ما حدث كان مخاضا بين غرب وغرب، وإن كان الضحية هو العالم غير الغربي الذي دفع فاتورة الصراعات الأيديولوجية الغربية. ومع أن هينتنغتون في النهاية يتحدث عن حتمية الخلاف بين الحضارات، منبها إلى أن أي محاولة لاحتواء الخلاف، فاشلة بالضرورة، إلا أنه يرى إلى الخلاف بتشاؤمية فيما يتصل بالأمن القومي الأمريكي والغربي عموما. الخلاف واقع لكنه خطر في آن معا. خصوصا إذا ظلت الحضارات غير مستوعبة لحقيقة التعايش والتكيف مع عالم متعدد الحضارات، وقد يكون هينتنغتون، رغم توجسه ليس ضد الحوار. بل إن الخلاف هو شرط الحوار، إذ الحوار لا يتم بين الأشباه والنظائر. يتحدث هينتنغتون عن ضرورة انسحاب الغرب إلى حدوده الطبيعية وبناء كيانه الحضاري الفريد دون إقحام الأنف في النزاعات الخارجية. أي جعل الحضارة الغربية حضارة منغلقة، حضارة اصطفائية لكنها منطوية، ورسالتها داخلية محلية. فهينتنغتون يؤسس لنموذج حضاري معزول وإلى غرب مغلق. وكان أجدر بالمحلل الأمريكي أن يكسر هذه التشاؤمية أكثر ليعلن إمكانية حوار حضاري ضمن آفاق مختلفة. إننا نعتقد أن الحوار ممكن والثقافات تتحاور باستمرار وفي كل الأحوال. فحتى في ظل الصراع يتم الحوار، لكنه حوار متنكر، يجعل الأعداء يتقابسون بشكل عميق. فقد يزداد المتخلف كراهية لتخلفه، كما يزداد المتغطرس كراهية لاستكباره.. هو حوار بطيء ومتنكر، لكنه يتم بثمن غال؛ حروب ودمار! الحوار ليس بين حضارات بوصفها هويات ثقافية، بل هو حوار بين ثقافات بوصفها حضارات ممكنة. أي ما نريد توضيحه الآن، هو أن الحوار ممكن حينما يتم في مشهده الحقيقي، حوار بين الحضارة والثقافات الأخرى.. بين الحضارة الموجودة والحضارة الممكنة.. حوار بين الفعل والقوة.. بين الواجب والممكن.. أي بين الوجود والسلب! الآخر في نظر هينتنغتون منازع بالضرورة. وتماما كما هو المنظور السياسي في العلاقات الدولية، يرى الحضارات الأخرى خصوما وأعداء ومنافسين. الأمر الذي يؤكد على حضور مكثف لروح التوجس. وفيما يظهر أن المحلل يقرأ الأوضاع ويحلل الوقائع السياسية والتاريخية بمنظور كلاسيكي جدا، لا يكاد يلتفت إلى ما هو أكثر فاعلية وظهورا من انسياب الحضارات أي الثقافات فهو يرى بأن "إحياء الدين أو ثأر الإله" مثلما وصفه جيل كيبل "يوفر أساسا للهوية والالتزام، يتجاوز الحدود الوطنية ويوحد الحضارات". الواقع، أن الهويات توجد اليوم في موقف ممانعة ليس أكثر. بل إن ما يوفر هذه القدرة على التجاوز عبر الحدود، هو ذلك البعد الذي حاول هينتنغتون إخفاءه، أعني انهمار الرساميل، ولو شئنا القول "ثأر الاستثمارات" الذي يعبر الحدود الوطنية ويحتوي العالم. فما يلفت أنظارنا، هو أن هينتنغتون يقلل من أهمية العولمة الاقتصادية وعودة الدين الأبيقوري وثأر الرساميل. فالمسافة التي يقطعها النقد اليوم تقدر بالسرعة الضوئية. وما يقطعه الرأسمال لا تقطعه الأديان. وما يوحد الاستثمار والمصالح لا توحده الأفكار. والغرب المتوحد اليوم على خرائط ممزقة وقوميات ولغات مختلفة، وحدت بين أقطابه المصالح، لا المبادئ. فقد كان الغرب غربا يوم اجتاحته الحروب والنزاعات. وهذا ينقض بالضرورة أن الغرب توحده المبادئ المشتركة. إن اختيار معيار النموذج الحضاري جعل هينتنغتون يستهين بالإنجازات الاقتصادية التي أصبحت جوهر عالمية الغرب وليس أفكاره. ويرى أن جوهر الحضارة الغربية يتجلى في (الماغنا كارتا) لا (الماغنا ماك). والحال نقول إن انتشار الحضارة الغربية راجع إلى الماغنا ماك.. فلو ظل الغرب غربا من دون ضميمة الإنتاج، لن يكون بالتأكيد عالميا. وما كان (للماغنا كارتا) وهج مختلف عن أي اتفاقية أو شريعة. فالماغنا كارتا لا تغطي على شريعة حمورابي أو شريعة الإسلام ومواثيقه، أو تعاليم كونفوشيوس.. ثمة إلى جانب ذلك وعي متنامي داخل المجتمعات غير الغربية، وهو ما لفت انتباه هينتنغتون. يتعلق الأمر بظاهرتين تناقضيتين شهدتهما البلدان غير الغربية. ففي الحقبة السابقة، كان التغريب محصورا في نخب تلقت تكوينها في الجامعات الغربية، في حين كان الالتزام بالتقاليد الأصلية من شأن الجماهير وعامة الناس. لكن سرعان ما انقلبت الصورة، فأصبحت هذه النخب هي الأكثر معارضة للغرب، ففي حين أصبحت الجماهير والعامة في وضع أكثر تقبلا للتقاليد الغربية. وهذا إنما يعكس انقلابا في مسار التحول الاجتماعي والتربوي في البلاد غير الغربية. ومن المؤكد هنا أن هينتنغتون قدم وصفا عاما ولفت الانتباه إلى ظاهرة دون أن يمعن في تحليلها. ما يعني أن قراءة كهذه لا تقوم على فهم عميق للأحداث والتفاعلات والتطورات التي حصلت في مسار العلاقة المتوترة بين الغرب وأغياره. ولا يحاول المحلل الكشف عمن هو المسؤول عن هذا الانقلاب في الموقف، وكيف زال مفعول الدهشة عن النخب، وكيف تم نزع الرواسب التقليدية عن الجماهير، وهل معنى ذلك أن الجماهير أصبحت أكثر وعيا من النخبة أم أن الأمر يدعونا إلى مزيد من التحقيق. لا أريد هنا أن أطيل في إحصاء كبرى التناقضات الهينتنغتونية، لكن يمكننا الوقوف عند تلك المفارقة العجيبة. ألم ينعى هينتنغتون تتفيهنا للحضارة الغربية، حينما اعتبر أن جوهرها يكمن في الماغنا كارتا –وما يناظرها- وليس في الماغنا ماك والأطعمة الدسمة؟ فكيف به يعود ليؤكد أن الجماهير في المراحل اللاحقة أصبحت أكثر تقبلا للتقاليد أو الثقافة الغربية.. وهل انفتاح الجماهير كان على الماغنا كارتا أم على الماغنا ماك..؟ أليس هو تقبل تمليه ثقافة الاستهلاك للمنتج الغربي في الأطعمة والأشربة والملبس والمركب..؟ أليس هذا تتفيه للانفتاح على الغرب؟ لا، بل أليس هذا مناقضا للنموذج الحضاري؟ النص الهينتنغتوني، نص متخم بالتناقضات، وللأسف. إن هذه التناقضات إذا تأملناها من منظور استراتيجي أمريكي، فهي ليست تناقضات حقيقية. إنها تناقضات من وجهة نظرنا نحن ليس إلا. وهينتنغتون واع تماما بذلك اللوم الذي يصدر عن العرب والمسلمين تجاه المواقف المزدوجة للسياسة الخارجية الأمريكية، وخاصة بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي. إنه يرى في سياسة الكيل بمكيالين أمرا طبيعيا جدا، في أفق الصدام الطبيعي بين الحضارات. حتى أنه يرى بأن لا نجاح أو مردودية للتكتلات الإقليمية الاقتصادية إلا إذا راعت جانب الاشتراك الثقافي بين هذه القوى الإقليمية، "إلا أن النزعة الإقليمية الاقتصادية من الناحية الأخرى، قد تنتج فقط عندما تضرب بجذورها في حضارة مشتركة. فالجماعة الأوروبية تقوم على الأساس المشترك للثقافة الأوروبية والمسيحية الغربية. ويتوقف نجاح منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية على الالتقاء الذي يجري حاليا بين الثقافات المكسيكية والكندية والأمريكية". وبمقدار ما كان هينتنغتون يمعن في تقديم الشواهد والأدلة على فشل أي مشروع إقليمي تكتلي إذا لم يكن له قاعدة ثقافية مشتركة، كان يناقض موقفه من طبيعة سياسية الكيل بمكيالين تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي. فهي من ناحية سياسة طبيعية، لأنها قائمة على مفهوم الأحلاف. ومن ناحية أخرى هي سياسة خاطئة لأنها تراهن على المستحيل! لقد كشف هينتنغتون من خلال تناقضه هذا عن كبرى الأخطاء في السياسة الخارجية الأمريكية. بل إن الرؤية الهينتنغتونية تكشف عن تهافت مشروع (الشرق أوسطية) الذي بشر به الفصيل الأكثر غربية وتحالفا حزب العمل في الكيان الصهيوني. وهو الفصيل الذي يمثل خيار الحوار والتفاوض. الأمر الذي يؤكد على تهافت مشروع جسم ثقافي غريب زرعه الغرب وأنشأه كما يؤكد ذلك هينتنغتون في مجال إقليمي مختلف ومعادي. وإن استمرار وجود كيان حضاري غريب في قلب الوطن العربي سوف يكون حتما باعثا لأخطر أشكال الصدام والحروب في المستقبل. إن هينتنغتون لا يقدم درسا لنا كعرب أو مسلمين ولا للغرب باعتباره مجاله الإقليمي.. بل يقدم الدرس لإسرائيل بوعي منه أو بلا وعي: وهو أن الغرب الذي أنشأها يبدو اليوم أعجز من أن يواصل احتواءه للعالم. بل وحان الوقت لكي يتراجع إلى حدوده الطبيعية ويكف عن إقحام أنفه في النزاعات الإقليمية الخارجية. كما أن وجود كيان يتيم في قلب محيط حضاري معادي، كل هذا يعزز من بؤس الكيان الإسرائيلي وغموض مستقبله. فهينتنغتون يقوض مقومين أساسيين لا تقوم بغيرهما إسرائيل: 1 – إمكانية اندماجها في المنطقة، وهذا مستحيل بمنظور النموذج الحضاري.. 2 – الدعم الغربي، والأمريكي تحديدا، وهذا في طريقه إلى الزوال.. وإن كان هينتنغتون لا يقول ذلك صراحة أو حتى تلميحا، فإن مقالاته تنطق بما لم يقصد قوله. وهذا إنما يؤكد على أنه كلما كان التحليل أمريكيا خالصا، إلا ورأى في الدعم الأمريكي لإسرائيل عبثا استراتيجيا. فهل تستوعب إسرائيل الدرس؟! وإذا كان هينتنغتون نفسه يؤكد بالتحليل والأرقام، أن الغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية عاجزة اليوم عن ممارسة الاحتواء، فهل يا ترى إسرائيل تضمن استمرار قدرتها على الاحتواء؟! إن الحرب الحضارية التي يخوضها العالم العربي والإسلامي ضد إسرائيل تعزز من مواجهته للغرب. باعتبار إسرائيل مشروعا غربيا يتراءى لهينتنغتون، حيث يؤكد على ذلك: "ووقعت حروب عدة بين العرب وإسرائيل التي أنشأها الغرب". إن درسا أهم من ذلك يقدمه هينتنغتون لإسرائيل. وهو أن بناء الغرب يتطلب قدرا من رأب المواقف الأوروبية التي باتت تمثل منفذا للاختراق. وعلى الرغم من أن هينتنغتون وهو يمثل المنزع الأمريكي يستهين بالسياسات الأوروبية الناشزة، حيث يراها سياسات غير استراتيجية، لا لشيء إلا لأنها أحيانا تغرد خارج السرب. فالموقف الأمريكي هو موقف استراتيجي دائما، غافلا عن أن روح الهيمنة الأمريكية باتت تزعج الكيانات الأوروبية وتلغي خصوصياتها المحلية. فالفرنسيون يتحدثون اليوم عن الأمة الفرنسية، كذلك الألمان. إلا أن هينتنغتون يرى بأن التناوب بين الأوروبيين والأمريكان على تزعم الحضارة الغربية أمر تاريخي. بل إنه يدعو إلى صيغة أوروبية أمريكية لتعزيز الغرب. وهو بذلك يتوجس من كيانات أخرى مثل الصين التي تستغل هذه الخلافات وتزيد في زرع الشقاق بين الأوروبيين والأمريكان أو بين الأوروبيين أنفسهم. إذا كان هينتنغتون يؤكد على أن استمرار قوة الغرب رهين بتعزيز وحدته الداخلية، وذلك بنهج مزيد من التضامن، فكيف سيكون الأمر يا ترى بالنسبة لإسرائيل؟ خصوصا وإن هينتنغتون يرى أن جوهر الخلاف بين أوروبا وأمريكا ليس في المصالح بل عادة ما يكون بسبب النزاعات الخارجية أو الكيانات الأخرى. فهل الغرب سيظل قابلا بهذا التمزق ليحمي إسرائيل إلى الأبد؟ من جهة أخرى نقول، إن إسرائيل فضلا عن أنها كيان غريب على المجال الإقليمي، فهي دولة فسيفسائية معقدة ومتناقضة. وكان على العرب أن يستفيدوا من هذا الشرخ، ليزيدوا من تمزيق الخريطة الوهمية للكيان الصهيوني. وهذا ما يعني مواصلة المناورة. إن المجتمع الإسرائيلي كيان لقطائي يحتضن ثقافات متناقضة. وبالمنظور الهينتنغتوني نفسه نجدنا أمام كيان ممزق بين ثقافات. فاليهودي الشرقي قاطن في مجال حضاري لا يمكنه التعايش فيه سلميا مع اليهودي الروسي أو الأمريكي. وهذا ما يفسر صراع الهويات، الحاد، داخل إسرائيل، الصراع الذي ليس له سوى مآل واحد، انفراط عقد الكيان الإسرائيلي. فاليهودي الشرقي الذي عاش في أحضان الثقافة العربية الإسلامية كان أكثر اندماجا منه في كيان تجميعي ترعاه الإدارة الصهيونية ذات الأصول الغربية. وبالنتيجة يمكننا القول، إن فكرة النموذج الحضاري لهينتنغتون تعزز بصورة موضوعية –ومن دون وعي منه- الخيار الإسرائيلي الصعب، لكنه الخيار الأخير؛ على إسرائيل أن ترحل! العودة إلى المدارات الحزينة: على الغرب أن يتراجع عن مهمته الرسولية، فهو كيان فريد مغلق على خصوصياته. والديمقراطية هي واحدة من الخصوصيات الحضارية للغرب. ومن هنا، فإن الخطاب الهينتنغتوني يرفض التبشير بالديمقراطية، ليس فقط لأنها خاصية غربية، بل لأن وجود الديمقراطية في الخارج هي خطر على الغرب. فالديمقراطية الغربية تفضل أن تحاور الاستبداد. إنها من مفارقات الديمقراطية، كما يصفها هينتنغتون نفسه. فتفادي العدوان ضد الغرب يتطلب تعزيز الكيانات الديكتاتورية والتنكر للديمقراطية –الغربية- خارج حدود الغرب. وهو ما يعني أن الغرب أول مجهض لكونية الديمقراطية. ففي كل الأحوال، "يعتبر التفاعل بين الإسلام والغرب صدام حضارات". وتلك هي واحدة من المفارقات الهينتنغتونية، والتي هي بالأحرى تعبير أيضا عن منظور استراتيجي للولايات المتحدة. فالغرب كف –قبل هينتنغتون- عن أن يكون رسولا للمبادئ الديمقراطية. وهذا في حد ذاته دليل على أن صراع المصالح هو الحاكم، وأن ما يصفه هينتنغتون بصراع الحضارات يكشف عن أن الوجه الحضاري هو هذه الميكيافيلية السياسية التي ترى في حق الآخر في الانبعاث والإنماء خطرا محدقا على الأمن القومي الأمريكي. فإنماء العرب وإنماء الجنوب، هو قضية أمنية في حسابات الاستراتيجية الأمريكية. إن النص الهينتنغتوني يعكس ظاهرة المنتج الأمريكي التقليدي، أي تقديم الغرب بوصفه ذاتا فصامية يتساكن في لاوعيها الشيطان والملاك.. السوبرمان والمضطهد.. غرب معزول ومنغلق زاد هينتنغتون في إمعان عزلته. وهو في النهاية يرسم ملامح حضارة ممزقة، لا يجمع بينها سوى (المصالح). وزمان العولمة الذي أطل علينا بعلامات جديدة، يؤكد على أن المستقبل هو لحضارات تنزع إلى ما فوق الهويات، أي حضارة تحمي الخلاف وتتعالى على موضوعاته. فهل يمكننا القول إن فكرة النموذج الحضاري لهينتنغتون تناقض مسارات التحول إلى العولمة، باعتبارها مشروعا لحضارة بلا هويات؟؟ [email protected]