أعيش كما يعيش الكل من أبناء جنسي أَكُلُ أَشربُ أنام أقابل أصدقائي… غير أن سؤالا ما دائما يُهاجمني في خلوتي وعند التفكير في ذاتي، من أنا؟ وكُنت باستمرار أحاول مدافعته بجواب مقنع لي ولغيري: أنا إنسان كما الغير مثلي من بني الإنسان… لكن سرعان ما يعود السؤال: من أنا؟ وزاد الأمر ضغطا عندما وقفت على هذه العبارة التي رددها الفلاسفة القدماء (أول ما يلزم الإنسان معرفته أن يعرف نفسه)[1] فصار الامر جِدٌ في البحث عن سؤال من أنا؟ وذلك: أنني إذا لم أعرف نفسي فكيف لي أن أعرف غيري، فأنا أدرس وأتعلم علوما كثيرة، ومعارف متنوعة عن غيري، فكيف يستقيم أن أعرفها وأنا لا أعرف نفسي، إذ بواسطتها أتعرف على الغير، فنفسي هي بوابة المعرفة لذا وجب أن أعرفها أولا. أنني إذا عرفت ذاتي عرفت حاجياتها الحقيقة فسعيت لتحصيل ما ينفعا وأبعدت عنها ما يضرها في حين لو بقيت جاهلا بنفسي، فربما أوردتها المهالك وأنا أظن نفعها، وأبعدت عنها المصالح وأنا أظن حمايتها. أنني إذا عرفت نفسي عرفت كيف أتحكم فيها، وعرفت كيف أواجه وأوازن بين مطالبها، كما أعرف قُدراتها وأعرف عُيوبها، فأطور قدراتي وأُصلح عيوبي. إذا تقررت شدة الحاجة إلى معرفة من أنا؟ فلابد من النظر إلى الذات، نظرا لا يستدعي التكلف ولا شيئا خارجا عنها ولا القيام بعملية تشريح، وإنما أن تجلس مع ذاتك وتقول لها: من فضلك من أنا؟ ليأتيك الجواب من نفسك سهل العبارة سريع الفهم، يفهمه الذكي ومتوسط الذكاء وعامة الناس، حتى من لم يخط بيده الحروف والكلمات، ولم ينظر أي كتاب يعرف بالإنسان. أولا: أنا أحمل بدنا وهذا البدن مكون من لحم وعظم يكسوهما جلد ويجري فيه دم… ولا يمكن أن يعيش بدون ماء يشربه ولا طعام يأكله (حاجة الطعام والشراب) ولا هواء يتنفسه (حاجة التنفس) هذا البدن يتعرض للتعب فيخلد إلى النوم ولاسترخاء (الحاجة إلى الراحة)، مظهري البدني يتعرض للاتساخ فيحتاج إلى النظافة (الحاجة إلى النظافة والطهارة) لو أوقفت بعض أعضاء بدني عن الحركة لمدة زمنية معينة لتجمد العضو واحتاج إلى الترويض (الحاجة إلى الحركة والرياضة) بدني هذا الذي أحمله ولد من أب وأم (ذكر وأنثى) وبالتالي ما كان ليكون – البدن – لو توقف التوالد الإنساني (الحاجة إلى حفظ بقاء النوع) بدني يمرض ويصح، أحيانا يعالج نفسه بنفسه وأحيانا أعالجه بشيء خارجي من دواء ونحوه (الحاجة إلى العلاج) ثانيا: (الروح) هذا البدن الذي أحمله هناك شيء يُحركه بحيث إذا انفصل عنه ينتقل البدن من الحياة إلى الموت، هذا الشيء هو ما نسميه بالروح: وهو شيء غير مادي، وربما هو الذي يجعلني أحب الخير وأكره الشر، ويدفعني ويدفع غيري للتعبد (فطرية الإيمان) ويجعلني أطرح باستمرار: لماذا نحن هنا؟ (الغاية من الوجود) … المهم عندي في هذا الباب أنني أشعر ضرورة بوجود روح داخلي تحرك لحمي ودمي وأموت بمجرد انفصالها عني. ثالثا: العقل: في داخل هذا الجسم الذي أحمله أحس ضرورة بوجود عمل داخلي هو التعقل، والتفكير، والاستدلال، والاستنباط، والتخيل، هذا العقل لولاه: لما وُجِدَ فرق بيني وبين الغرائز الحيوانية، فهي تشاركني في كل العمليات البدنية من أكل وشرب ونوم… فقد استعملت عقلي عندما كنت صغيرا في المحسوسات في الوصول إلى الأشياء البعيدة، وفي الاستدلال بالأثر على وجود المؤثر، فكنت إذا سُرقت أدواتي المدرسية، علمت أن هناك من سرقها… كما استعملته اليوم في العمليات المعقدة من حساب، وتفكير ونظر واستدلال… إنه العقل: فمن أرادني أن أعيش بدون عقل فليخرجني من دائرة الإنسان أولا. رابعا: الانفعال: هذه الجسم الذي فيه (روح وعقل وبدن) يتعرض لانفعالات متعددة أحس بها داخليا وإن كان مصدرها في الغالب خارجيا: مثل الخوف والغضب والحب والكراهة والاطمئنان والقلق والحزن والفرح… إن الذات التي أحملها ذات منفعلة تخاف وتأمن، تحب وتكره، تفرح وتحزن… وهذه الانفعالات شيء زائذ على العقل، إذا قد يُوقف بعضها العقل عن العمل فمن يعش حالة انفعال الخوف أو القلق: يتوقف تفكيره عن العمل… ولو طلبت مني أن أربطها لك بجزء من البدن لقلت لعل محلها القلب، ودليلي على ذلك رجفة القلب عند الخوف والقلق، وسكونه عند الحب والفرح. هذا الذي أعرفه أنا كما تعرفه أنت من الذات التي نحملها، أنها بدن وروح وعقل وانفعال. وبناء على الذي تقدم من الفهم الجيد لهذه الذات يمكن الخروج بالنتائج الآتية: أنه لا يمكن أن يعيش الإنسان حياته الحقيقية إذا تنكر لواحد من هذه المكونات، فمن أراد أن يهمل الروح من الاعتبار، عاش قَلقا نفسيا، واضطرابا داخليا، فهي لا تسكن إلا بطعم الإيمان، ومن أعلى شأن العقل والروح وأهمل البدن عاش عذابا أليما في حياته. أن إنسانية الإنسان تتحقق بخلق التوازن بين مطالب مكوناته، بين مطالب الروح والعقل والبدن ومطالب العاطفة (الانفعال) أن كل فكرة أو منهج حياة، أو تصور فلسفي أو ديني لا يحقق مطالب الذات ولا يخلق التوازن بينها فلا يستحق أن يعاش على منهجه، لأنه سوف يفقد الإنسان إنسانيته. وهنا سوف اكشف لك لماذا اخترت الإسلام عقيدة لأنه يخلق توازننا كليا بين مطالب الذات كلها (وسوف يأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى) أن إنسانية الإنسان إذ انفصلت عن الفطرة البشرية خرجت بالإنسان عن إنسانيته: خذ على سبيل المثال: وجود الذكر والأنثى لحفظ النوع الإنساني، فإذا وجدت دعوة تدعوا الناس إلى ترك التوالد فاعلم أنها باطلة وأنها تريد هدم الإنسان وإفناء وجوده. أن هذا الإنسان يعيش حرا في جانب مسيرا في جانب آخر، فهو لم يختر زمان خلقه ولا مكانه، ولا والديه، كما لم يختر جنسه ولونه.. في حين هو مخير في قضايا التفكير والاختيار والانتماء، وقضايا الإيمان، ولا شك أن هذه الحرية تستلزم المسؤولية بخلاف الأولى: فنحن نسأل الإنسان عن تصرفه ونحاسبه عليه ولا نسأله أبدا لماذا كان أبن أبيه؟ ولا نسأله لماذا هو ذكر وليس أنثى؟ أن الإنسان عادة لا يعيش وحده، بل لابد من جماعة بشرية يعيش بينها، يتأثر بها، وربما يكون مؤثرا فيها، وهذا التأثير: قد يكون فيه خير وقد يكون فيه شر، والعاقل والمتوازن مع ذاته يختار الخير على الشر. أن تخصيص الإنسان بخاصية العقل، والعقل وسيلة لتمييز الخطأ من الصواب، والحق من الباطل، فالواجب على الإنسان أن يكون سعيه لمعرفة الحق والعمل به، فمن لم يكن همة الوصول إلى الحق، فوجود العقل عنده بلا معنى. أن الإنسان يجب عليه أن يعامل غيره، على اساس الذات الواحدة: فإذا كان الناس متشابهون في الذات، فالوجب أن نعالمهم كما نحب لأنفسنا، ومن محاسن عقيدتي الإسلامية: في جانب السلوك ما رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»[2] أن هذه الذات ذات متعلمة قابلة للتعليم والمعرفة من جهة المهارات والمفاهيم والمعرفة والحساب وكل ما هو قابل للتعلم… لكن وصول ذات التعلم لا يكون إلا من خلال بوابات المعرفة (مصادر المعرفة) وهذا ما سوف نقف عليه في المقالة القادمة إن شاء الله. [1] الراغب الأصبهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل النشأتين، دار النفائس، 33. [2] صحيح البخاري.