إن الإنسان جسد ونفس، إنه مخلوق يشبهه الفلاسفة بعملاق انغرزت رجلاه في التراب وتطلعت باصرتاه إلى عل، إلى المثل الأعلى. إنه حيوان يأكل ويشرب ويمارس فاعليات جنسية ويتصف بما يتصف به أي حيوان من حب للبقاء وجهد للحفاظ على هذا البقاء ونزاع مع غيره من الناس والحيوانات من أجل ذلك البقاء. ولكنه في الوقت ذاته يحب ويبغض، يريد ولا يريد، يؤمن ويتعصب، يعطي ويأخذ، يضحي ويستأثر. إن لجسد الإنسان حقوقا ومطالب، وله دوافع وحوافز، تنتج عن حاجات ومتطلبات، ولكن له إلى ذلك نفسا هي عقل، وهي إرادة وهي عاطفة. إنها معرفة وعمل وانفعال، وهي قادرة على السمو بصاحبها إلى آفاق المثل العليا، آفاق الحب والحق، والخير والجمال، كما أنها قادرة على الهبوط بصاحبها إلى درك الحيوانية ومهاوي الشر والأذى. إن الإنسان عاجز عن الإنفلات من جسده والتحرر منه، وهو لذلك ملزم بتلبية حاجات هذا الجسد، والالتفات إلى مطالبه، ولكنه قادر على التسامي بجسده والتنسيق بين مطالبه ومطالب النفس الطيبة بحيث لا يطغى الجسد على النفس ولا تميت النفس الجسد. وقديما قيل : "إن لجسدك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا". والسعيد السعيد من يوفق بين نفسه وجسده، بين روحه وبدنه فلا يضطهد جسده ويميته، ولا يجعل من نفسه عبدا لأهوائه الجسدية وشهواته البدنية. إن جسدا متناغما مع الروح، وإن نفسا متسقة مع الجسد هما غاية الغايات وطريق الإنسان إلى الراحة النفسية والراحة الجسدية وبالتالي إلى السعادة الأبدية. إن جوهر إنسانية الإنسان ضمير حي ذكي واع يأمر وينهى، يسمح ويمنع، يرضى ويغضب، يمدح ويوبخ. ومهما اختلفت آراء الفلاسفة في أصل هذا الضمير وفيما إذا كان وراثيا أم مكتسبا فإنهم متفقون على أن للتربية الصحيحة والممارسة الذكية دخلا كبيرا في تنمية هذا الضمير، وإذكاء شعلته والإبقاء عليها متوهجة. طوبى للذين يملكون ضميرا حيا يحاسبهم حسابا عسيرا، ويشعرهم بالسعادة إذا رضي وبالشفاء إذا غضب، طوبى للذين رؤوسهم على وساداتهم في المساء إلا ويتركوه. طوبى للذين يخافون ضمائرهم وترتعد فرائصهم من حسابها، إنهم جديرون بأن يسلكوا الصراط المستقيم وإذا ما صدف أو خرجوا عنه – لسبب من الأسباب – عادوا إليه تائبين مستغفرين. إن الخلق الحسن صفة الإنسان المميزة وسمته الأعظم ولقد وصف الله عز وجل رسوله الكريم فقال له "إنك لعلى خلق عظيم". [القلم :4] وإذا كان صحيحا أن الأخلاق التطبيقية تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان فإن المبادئ الأخلاقية الصحيحة واحدة في كل زمان ومكان وهي خالدة سرمدية، واضحة وبينة. ويهمني في هذا المجال أن أؤكد أن الأخلاق ليست مبادئ تقال ولا شعارات تطلق وإنما هي سلوك وتصرف يومي. فصاحب الخلق القويم هو صاحب التصرف الأخلاقي الصحيح. وكل محاولة للفصل – في الأخلاق – بين القول والعمل غش صريح ومخادعة بينة. وإذا كان صحيحا أن صاحب الخلق القويم يخطئ ويصيب، كغيره من الناس فإنه صحيح أيضا أن صاحب مثل هذا الخلق يتمتع بضمير يقظ يحاسبه حسابا عسيرا، ويؤنبه تأنيبا شديدا، ويدفعه إلى التوبة والتكفير عن ذنبه. ثم إنه يهمني في هذا المقام أيضا أن أؤكد أنه لا صحة لما يعمد إليه بعض الناس من التفريق بين الأخلاق الخاصة والأخلاق العامة مؤكدين أن الإنسان قد يرتشي – مثلا- ويكون مع ذلك إنسانا صادقا وصاحب ضمير حي. إن هذا التفريق خطأ واضح، بل هو خطأ خطير، ذلك بأن الأخلاق وحدة لا تتجزأ، فإما أن يكون الإنسان أخلاقيا أو لا يكون، ومن كان في تصرفاته العامة غير أخلاقي كان كذلك في تصرفاته الخاصة والعكس على العكس. وليس معنى هذا الذي أقول أن سلوك صاحب الخلق القويم يكون أخلاقيا دوما، فالكمال لله وحده، ولكن معناه أن صاحب الخلق القويم إن أخطأ ندم وتاب وعاد عن خطئه مستغفرا، وحريصا على أن لا يعود إلى الخطأ أبدا. ويتصل بهذا الذي أقوله السلوك في السر والسلوك في العلن، إن صاحب الخلق القويم لا يفعل في السر ما يستحيي منه في العلن. إن سلوكه واحد في الخفاء والعلن، وأن رقيبه واحد الا وهو ضميره الحي اليقظان الذي لا يتسامح في شاردة أو واردة. والإنسان الحقيقي الذي يستحق صفة "الإنسانية" إنسان مثالي. إنه يؤمن بالمثل الأعلى ويعيش للمثل الأعلى ويتصرف بوحي من المثل الأعلى. وها هنا أمر لابد من الوقوف عنده وقفة قصيرة. ألا وهو الالتباس في أذهان العامة بين المثالية والخيالية. إن الخيالية تعني – بمعناها البسيط – البعد عن الواقعية، والابتعاد عن العملي الممكن. أما المثالية فشيء مختلف تماما. إنها تقوم على فهم ووعي عميقين كما تقوم على إيمان شديد وإرادة حديدية. أما الوعي والفهم فللمثل العليا : مثل الحق والخير والعدل والجمال وغيرها من المثل. إن الذي لا يفهم هذه المثل ويعيها وعيا عميقا لا يستطيع أن يؤمن بها. فالإيمان لا يقوم إلا على أساس من الفهم والوعي. ثم إن الإيمان معناه تقبل المثل الأعلى وتوحيده مع الذات بحيث يصبح جزءا منها لا يتجزأ. والإيمان بالمثل الأعلى بعد ذلك قمين بأن يدفع المؤمن إلى البذل والتضحية والإندفاع في سبيل المثل الأعلى. المثالية قمة الإنسانية وزينتها، ولا يستطيع إنسان أن يكون إنسانا بالمعنى الصحيح إذا لم يكن مثاليا: يتفهم المثل العليا، ويؤمن بها ويعيش من أجلها. وما البطل إلا الإنسان الذي آمن بمثل أعلى، وعاش له، وضحى في سبيله، حتى حقق مثله الأعلى أو استشهد دونه. ثم إن المثالية هي الصفة الوحيدة التي تميز الإنسان عن الحيوان، ذلك بأن الحيوان يستطيع أن يكون كل شيء يكونه الإنسان، ولكنه يعجز عن أن يكون مثاليا. كون الإنسان مثاليا معناه كونه غيريا ولذلك فأنا إذ أفضل مفهوم الغيرية إنما أشرح منحى من مناحي كون الإنسان مثاليا. يقول بعض العلماء إن الإنسان أناني بطبعه وهو قول على شيء كثير من الصحة، ولكنه ليس صحيحا كل الصحة، ذلك بأن الإنسان مضطر لأن يكون أنانيا لكي يحفظ بقاءه ويبقى على ذاته، وحفظ البقاء هو أقوى الدوافع الإنسانية إن لم يكن أقواها على الإطلاق وهو بطبيعة الحال ميل أصيل (حتى لقد قال بعض العلماء أنه غريزة) لا يمكن أن تستمر الحياة بدونه. ولكن هذا جميعه لا يمنع أن الغيرية أيضا ميل قوي ودافع أصيل من دوافع الإنسان ويرى علماء النفس أن الغيرية موجودة أصلا في ميل الأم للحفاظ على مواليدها ميل الأب إلى مثل هذا الحفاظ وإن كان بدرجة أقل. ولقد دلت دراسات علمية فاضلت بين الدوافع عند الحيوان – ولاسيما الأنثى منه – على أن ميل الأم للإتصال بمواليدها والحفاظ عليها هو أقوى الميول بل إنه أقوى من الطعام والشراب وهما أداتان من أدوات الحفاظ على البقاء أساسيتان. وإذن فإن الغيرية ليست ميلا طارئا على النفس ولا دخيلا عليها، بل إن الإنسان غيري بطبعه تماما كما هو أناني بطبعه. ولكن بعض الناس يغلبون أنانيتهم على غيرتهم لدرجة تفقدهم مثاليتهم وبالتالي إنسانيتهم. إن الإنسان الحق إنسان غيري، كما هو إنسان أناني، إنه على الأصح إنسان يوازن بين أنانيته وغيرته فلا يغلب أنانيته على غيرته ولا يجعل من نفسه محورا للعالم يدور حوله وحده. ويتصل بهذه الغيرية مفهوم اجتماعي هام، هو مفهوم التعاون والتكافل والتراحم بدلا من التنافس والتضارب والتزاحم إن الإنسان الحق إنسان يتمتع بروح رياضية، لا يزاحم غيره إلا مزاحمة شريفة عادلة ويتعاون مع غيره كلما كان ذلك ممكنا. والله الموفق 18/11/2013